وساد بينهما سكون عميق ذهل كل منهما فيه عن نفسه، ثم أخذت روكسان تستفيق شيئا فشيئا، وتقول بينها وبين نفسها: آه، ماذا أرى؟! إن الأمر هائل جدا إن النغمة التي أسمعها منه الآن هي بعينها النغمة التي كانت ترن في أذني ليلة الشرفة منذ خمسة عشر عاما! لا بد أن يكون هو صاحبها! آه ما أعظم شقائي! لقد فهمت الآن كل شيء، وليتني ما فهمت شيئا! ثم وقفت أمام سيرانو صامتة مطرقة حتى استفاق من غشيته، فتقدمت نحوه، وأخذت بيده وقالت له: لا تخف عني شيئا يا صديقي، فقد علمت الحقيقة المؤلمة التي لا ريب فيها، لقد كنت أنت الذي ناجاني ليلة الشرفة، وحدثني عن الحب، وكشف لي عن خبايا القلب الإنساني !
فقاطعها وهو يرتجف ويرتعد، وقال: لا، لا، لم أكن أنا. قالت: وكان الظلام في تلك الليلة حالكا جدا فلم أستطع أن أتبينك لأعلم أنك أنت الذي يحدثني ويناجيني! فصاح: لا، وأقسم لك. قالت: وكانت تلك الكلمات العذبة الجميلة التي سحرتني وملكت علي شعوري ووجداني كلماتك! فصرخ: لا، بل كلماته. قالت: وذلك الصوت الموسيقي الذي كان يرن في أذني رنين القيثارة الإلهية في آذان سكان السماء، كان صوتك! قال: لا. قالت: وتلك الرسائل البليغة المؤثرة التي جشمتني مشقة السفر من باريس إلى أراس، كانت رسائلك! قال: لا. قالت: وذلك الكتاب الذي قرأته الآن بتلك النغمة العذبة الجميلة، كان كتابك! قال: لا تصدقي ذلك يا سيدتي، فما أذكر أنني أحببتك في حياتي قط! قالت: أحببتني ولا تزال تحبني حتى الساعة! قال: ذلك مستحيل؛ لأن مثلي لا يجرؤ على أن يحب مثلك! قالت: ذلك ما حملك على كتمان أمرك وتمثيل هذا الدور المحزن الأليم! قال وقد بدأ صوته يضعف ويتهدج: إنك واهمة يا روكسان. قالت: ما أنا بواهمة ولا مخدوعة، ولم كتمت أمرك عني هذه السنين الطوال ما دمت تحبني، وما دام هذا الكتاب كتابك وهذه الدمعة دمعتك؟ قال: ولكن الدم دمه. قالت: قد اعترفت من حيث لا تدري، فوا رحمتاه لك أيها البائس المسكين!
وأطرقت برأسها إطراقا طويلا لا يعلم إلا الله ماذا كانت تحدثها نفسها فيه، وإنهما لكذلك إذ دخل لبريه وراجنو وهما يصيحان ويولولان حتى دنوا من سيرانو. فقال لبريه: ماذا صنعت بنفسك أيها المسكين؟ ولماذا جئت إلى هنا وقد أوصاك الطبيب بملازمة فراشك لا تبرحه لحظة واحدة؟ فصاحت روكسان: الطبيب! ولماذا؟ قال لبريه: ألا تعلمين ما حل به يا سيدتي حتى الآن؟ قالت: لا أعلم شيئا، فأراد أن يقص عليها القصة، فقاطعه سيرانو وقال له: أتدري يا لبريه لم جئت إلى هنا برغم أوامر الطبيب؟ قال: لا. قال: لأتلو على روكسان الجريدة الأسبوعية التي اعتدت أن أتلوها عليها يوم السبت من كل أسبوع، ولا أستطيع أن أخلف وعدي لها ! ثم التفت إلى روكسان، وقال لها: إنني لم أتمم لك جريدتي الأسبوعية، فاسمحي لي بإتمامها، ثم أنشأ يقول: وفي يوم السبت الثالث والعشرين من شهر مايو سنة 1655، قتل المسيو سيرانو دي بيرجراك!
وهنا حسر قبعته عن رأسه فظهرت الأربطة والضمائد المحيطة به مضرجة بالدم: فذعرت روكسان وحنت عليه، وقالت: ماذا صنعوا بك يا صديقي؟
قال: كنت أتمنى طول حياتي أن أموت في ميدان حرب بضربة سيف من يد بطل، فقضى الله أن أموت في زقاق ضيق بجذع شجرة من يد خادم، لأكون قد حرمت من كل شيء في حياتي، حتى الميتة التي أحبها!
وأطرق برأسه ثانية، وظل على ذلك ساعة وقد ساد من حولة سكون عميق لا تسمع فيه إلا معمعة الأحشاء المتقدة في قلوب الجاثين حوله.
ثم استفاق قليلا، فرفع رأسه وفتح عينيه، فرأى راجنو جاثيا تحت قدميه يبكي وينتحب، فقال له: لا تبك يا راجنو، وقل لي ما مهنتك اليوم، فإن لك في كل يوم مهنة جديدة؟ قال: أنا الآن خادم عند «موليير»، ولكني سأترك خدمته منذ الغد. قال: لماذا؟ قال: لأنه لص من لصوص الأدب، وهم عندي أقبح اللصوص وأسفلهم! قال وهو يبتسم: هل سرق من شعرك شيئا؟ قال: لا، بل من شعرك أنت، فقد سطا على روايتك «أجريبين»، وأخذ منها موقفا كاملا وضمنه روايته الجديدة «إسكابين» التي مثلت ليلة أمس. قال: لقد أحسن فيما فعل، وماذا كان وقع ذلك الموقف في نفوس الجماهير؟ قال: ما زالوا يضحكون حتى رحموا أنفسهم. قال: ذلك كل ما يهمني، فلقد قدر لي طول عمري أن يكون دوري في رواية الحياة دور الملقن، الذي لا يعده الجمهور شيئا وهو كل شيء!
ثم التفت إلى روكسان وقال لها: أتذكرين تلك الليلة التي كنت أحدثك فيها بلسان كرستيان؟ قالت: نعم، أذكرها ولا أذكر شيئا سواها. قال: إنها رمز حياتي من أولها إلى آخرها، صعد كرستيان منذ خمسة عشر عاما إلى شرفتك؛ ليتناول القبلة التي سمحت له بها مكافأة له على تلك الكلمات البليغة المؤثرة التي أنا صاحبها ومبتكرها، واليوم يتمتع «موليير» بهتاف الجماهير، وتهليلهم إعجابا بتلك القطعة الهزلية البديعة التي خطها قلمي، وما أنا بآسف على ذلك ولا واجد، فكرستيان فتى جميل، فيجب أن ينال هو القبلة، وموليير شاعر شهير، فيجب أن يكون هو صاحب القطعة!
والتفت حوله فرأى الراهبات داخلات إلى الكنيسة في ملابسهن البيضاء، وهن يرتلن صلواتهن على نغمات «الأرغن»، فأصغى إلى أصواتهن ساعة ثم تأوه طويلا وقال: آه، ما كنت أعبأ بالحياة، ولا آسف على شيء فيها لولا الموسيقي وروكسان؛ ولئن كان صحيحا ما يقولون من أن في السماء موسيقي كما في الأرض، وأن الصديقين اللذين يفترقان في هذه الدار يلتقيان في الدار الأخرى غدا، فليس ورائي ما آسف على فراقه!
فصاحت روكسان: ابق في الحياة يا سيرانو فإنني أحبك! قال: ذلك مستحيل، إلا إذا استطاعت كلمتك هذه أن تمحو قبحي ودمامتي، كما رووا في بعض الأساطير أن أميرا دميم الخلقة سمع مرة من يقول له: إني أحبك، فتلاشى قبحه بتأثير تلك الكلمة، وأصبح جميلا وضيئا، ولو أنني عشت بعد اليوم ألف سنة ما نقص ثقل أنفي قيراطا واحدا!
صفحة غير معروفة