المكاشفة
دخل كرستيان على سيرانو في خيمته شاحب اللون، مكفهر الجبين. فقال له سيرانو: ماذا بك يا صديقي؟ قال: إنها حدثتني الآن حديثا طويلا علمت منه أنها لا تحبني، بل ما أحبتني قط في يوم من أيام حياتها! قال: ماذا تريد أن تقول؟ قال: وأقول أيضا إنها تحبك أنت، ولا تحب في الدنيا أحدا سواك.
فانتفض سيرانو انتفاضة شديدة كادت تتطاير لها أجزاء نفسه، وقال: أنا؟ قال: نعم؛ لأنها اعترفت لي بأنها لا تحب مني إلا نفسي، وأنت نفسي التي تكمن بين أضالعي، فهي تحبك حب العابد معبوده، وما جاءت هنا إلا من أجلك، وما أشك في أنك تضمر لها في قلبك من الحب مثل ما تضمر لك.
فصرخ سيرانو وقال: لا، وأقسم ...
فقاطعه كرستيان وقال: لا تفعل، فلقد نمت عليك تلك الدمعة التي رأيتها بعيني في كتاب الوداع الذي كتبته إليها، وما هي بدمعة الشعر كما تقول، بل دمعة الحب، وما كنت تكتب إليها عن لساني كما تزعم، بل عن لسانك أنت، فاعترف بأنك تحبها.
فأطرق سيرانو هنيهة ذهبت نفسه فيها كل مذهب، ثم رفع رأسه وقال: نعم يا كرستيان، أعترف لك بأني أحبها، وأقسم لك أنني ما طمعت فيها قط. قال: نعم، أعلم ذلك، فوا رحمتاه لك ولتلك الآلام الطوال التي قاسيتها في ماضي حياتك، أما الآن ففي استطاعتك أن تطمع فيها كما تشاء، ولا يوجد في العالم شيء يحول بينك وبينها. قال: لا أستطيع، فإن من يحمل وجها مثل وجهي لا يطمع في حياة الحب والغرام. قال: إنها أقسمت لي أنني لو كنت بشع الخلقة، دميم الوجه لما نقص حبها إياي ذرة واحدة، فانتعش سيرانو وقال: أوقالت لك ذلك؟ قال: نعم، ما زالت تقوله لي حتى أملتني وأضجرتني! قال: لا تحفل بقولها، فهي فتاة شعرية الأفكار والتصورات، تقول بلسانها غير الذي تضمره في أعماق نفسها، فابق محبوبها الجميل كما كنت، ولأبق أنا لسانك الناطق بين يديها حتى يقضي الله فينا جميعا بقضائه! قال: ذلك مستحيل بعد الآن، فإني أشعر في أعماق نفسي بخجل ما أحسب إلا أنه سيقضي على حياتي قبل أن تقضي عليها القذيفة التي تنتظرني في ساحة القتال، فاذهب إليها واعترف لها بكل شيء، وقل لها: إن الرجل الذي أحببته من أجل ذكائه وفطنته وذلاقة لسانه وقوة بيانه كاذب، عاش ينتحل مواهب الناس وفضائلهم لنفسه، وليس له فيها من الحظ شيء! قال: ذلك فوق الاحتمال يا كرستيان. قال: لا بد من ذلك، فليس من العدل أن أقتل هناءك من أجل أن الطبيعة جملتني بهذه الحلية البسيطة من الجمال. قال: وليس من العدل أن أفجعك في سعادتك؛ لأن الطبيعة منحتني شيئا من القدرة على التعبير عن عواطفي. قال: لا بد أن تفاتحها في موضوع حبك، فأنت محبوبها الحقيقي، أما أنا فخلعتك الجميلة التي تلبسها وتتجمل بها، فانزعها عنك، وتقدم إليها بأي ثوب تريده، فهي لا تبالي بجمال الأثواب وزخرفها، إنني ضقت ذرعا بهذه النفس الغريبة التي أحملها دائما بين جوانحي، حتى أعييت بأمرها إعياء شديدا، ولا راحة لي إلا في الخلاص منها! قال: إنك تريد شقائي يا صديقي: قال: لا، بل سعادتك، فاذهب إليها وقص عليها القصة من مبدئها إلى منتهاها، واترك لها الخيار في أمرها، فإن اختارتك فقد أنصفتك، ولقد كان عقد الزواج الذي جرى بيننا عقدا سريا لا تحفل به الكنيسة، ولا يعبأ به الناس، فما أسهل التخلص منه، وإن اختارتني لا أكون غاشا لها ولا خادعا. قال: ستختارك أنت بلا شك. قال: أرجو أن يكون كذلك، وها هي ذي مقبلة فاشرح لها كل شيء، أما أنا فذاهب إلى نهاية الخط لشأن من الشئون لا بد لي من قضائه، وربما عدت إليك بعد قليل.
فارتاب سيرانو في أمره، وأمسك بيده وقال له: إنني أقرأ على جبينك آية اليأس يا كرستيان، فهل تقسم لي أنك لا تقتل نفسك؟ قال: أقسم لك ألا أقتل نفسي، ثم التفت فرأى روكسان على مقربة منه. فقال لها: سيحدثك سيرانو حديثا خطيرا فاذهبي إليه.
ثم وضع يده على مقبض سيفه فجرده من غمده، وهرع إلى ساحة القتال وهو يقول: الوداع يا نور السماء!
الفاجعة
فدنت روكسان من سيرانو وقالت: ما باله؟ إني أعجب لأمره كثيرا، ولا أدري ما الذي دهاه، فما هو ذلك الحديث الخطير الذي تريد أن تحدثنيه؟ قال: لا شيء، إنه يهتم بأصغر الأمور وأبسطها، فلقد كان يروي لي تلك المحادثة التي دارت بينك وبينه منذ هنيهة. قالت: نعم، ويخيل إلي أنه لم يفهم غرضي، أو أنه في شك مما أفضيت به إليه؛ وأؤكد لك يا صديقي أنني ما قلت له إلا الحقيقة التي أعتقدها، فإنني أصبحت - بعد اطلاعي على تلك الرسائل البليغة التي كان يرسلها إلي كل يوم من ميدان الحرب - مفتتنة بعقله وذكائه أكثر من افتتاني بحسنه وجماله، حتى لو استحالت صورته إلى صورة أخرى غيرها، أو ذهب بجماله حادث من حوادث الدهر فأصبح ... ثم سكتت حياء وخجلا. فقال: دميما؟ قالت: نعم، ولو أصبح كذلك. قال: وبشع الصورة؟ قالت: نعم. قال: ومشوه الوجه؟ قالت: نعم. قال: وضحكة الناس وسخريتهم؟ قالت: إن من كان له مثل عقله ولسانه لا يكون ضحكة الناس وسخريتهم.
صفحة غير معروفة