قال: وهل يمكنني أن أعرف من هي تلك التي تحبها؟ فإنك لم تحدثني عنها قبل اليوم. قال: أي فائدة لي من ذكرها وهي لا تحبني؟ قال: وكيف عرفت ذلك، هل فاتحتها في شيء؟ قال: وكيف يمكنني أن أفاتحها وأنا أعلم أن هذا الأنف البشع القبيح الذي أحمله يتقدمني حيثما ذهبت، وأنى سلكت، فلا يسمح لي بالطمع في قلب امرأة قبيحة شوهاء فضلا عن جميلة حسناء. قال: ألا يمكنني أن أعرف من هي؟ قال: إذا عرفت أن سيرانو لا يمكن أن يحب إلا أجمل امرأة في العالم أمكنك أن تعرف من هي؟ فصمت لبريه هنيهة وهو يفكر حتى عجز، فقال: لم أستطع أن أفهم شيئا، فهل لك أن تصفها لي؟
قال: أما هذه فنعم، هي الخطر العظيم الذي يحيط بالمرء من جميع نواحيه فلا يعرف له سبيلا إلى الخلاص منه، هي المغناطيس الجذاب الذي يستهوي قلب الناظر إليه وعقله، وجميع حواسه ومشاعره، هي الوردة النضرة الناعمة التي تكمن حية الحب السامة بين أوراقها، من رأى ابتساماتها رأى الكمال الإنساني كله، ومن رأى نظراتها رأى الدعة واللطف والرقة والعذوبة، وجميع معاني الحياة الطيبة اللذيذة في كل حركة من حركاتها، وإشارة من إشاراتها، ولفتة من لفتاتها، إنها شمس تضيء الكون وتنير ظلماته، ليس في استطاعة «الزهرة» ربة الجمال، وهي جالسة فوق علياء عرشها العظيم أن تضارعها في بهائها وجلالها، ولا في استطاعة «ديانا» إلهة الحب حين تسير بخفة ورشاقة وسط الرياض الناضرة أن تحاكيها في مشيتها، وهي سائرة على قدميها الصغيرتين في مماشي بستانها. فقال لبريه: حسبك يا سيرانو، فإنك تحب ابنة عمك روكسان، ولكن لا أدري لم لا تفضي إليها بذات نفسك ما دمت تمت إليها بصلة القربى التي بينك وبينها؟ قال: ذلك ما أعجز عنه يا صديقي، فإنني رجل بائس مسكين، قضى الله علي أن أعيش في هذا العالم بلا أمل ولا رجاء، تأمل في وجهي قليلا، وانظر: هل يستطيع صاحب مثل هذا الوجهه البشع الدميم أن يحيا في العالم حياة الحب والغرام؟ أو أن يكون له أمل في اختلاب الأفئدة واجتذاب القلوب؟ لقد تمر بي في بعض أيامي ساعات أشعر فيها بحاجة قلبي إلى تلك الحياة الحلوة اللذيذة التي يحياها الناس جميعا، حياة الحب والغرام، فأدخل إحدى الحدائق العامة، وأمشي بين رياضها وأزهارها، وأتنسم روائحها وأنفاسها، فأنسى نفسي، ويخيل إلي أني أسبح في جو رائق صاف من العواطف والوجدانات، فإذا رأيت في ضوء أشعة القمر الفضية امرأة جميلة تمشي وحدها خيل إلي أني أستطيع أن أكون رفيقها الآخذ بذراعها، وإذا رأيت فتى وفتاة سائرين على مهل يتهامسان ويتناجيان، وتتموج أنوار الحب بينهما خيل إلي أن بجانبي رفيقة حسناء ترفرف علي وعليها هذه الأجنحة البيضاء التي ترفرف عليهما، ثم أستسلم لهذا التصورات والأفكار، وأستغرق فيها ساعة طويلة، حتى إذا وقع نظري فجأة على خيال وجهي في حائط الحديقة في ضوء القمر، عدت إلى صوابي وأفقت من غيبوبتي، ورجعت أدراجي إلى منزلي وبي من الحزن ما الله به عليم!
ثم نكس رأسه مليا وصمت صمتا عميقا كأنما يعالج في نفسه ألما ممضا، فحنا عليه لبريه وقال له: رحمة بنفسك يا صديقي! فرفع رأسه وقال: نعم، إن آلامي عظيمة جدا لا يحتملها بشر، فليت الله إذ خلقني على هذه الصورة الدميمة البشعة لم يخلق لي قلبا خفاقا، أو ليته إذ خلق لي هذا القلب الخفاق خلق له أجنحة يستطيع أن يطير بها في جو الحب كما تطير القلوب الخوافق، أما الآن فإنني أشعر أني وحيد في هذه الدنيا، لا سند لي فيها ولا عضد، ولا أنيس ولا عشير، ولا زوجة ولا ولد!
ثم عاد إلى إطراقه مرة أخرى، وأخذ يبكي ويذرف دموعا غزارا في صمت وسكون، فانزعج لبريه وأخذ بيده وقال له: أتبكي يا سيرانو؟ فانتفض ورفع رأسه وقال: لا يا لبريه، إن البكاء قبيح بمثلي، ولا يوجد في العالم منظر أقبح ولا أسمج من منظر الدمعة الجميلة، وهي سائلة على مثل هذا الأنف الضخم الطويل، لا شيء في العالم أبدع ولا أرق ولا أجمل من الدموع، وإني أضن بها أن أهينها، وأكدر صفوها وأشوه جمالها. فتأثر لبريه لمنظره تأثرا شديدا، وكاد يبكي لبكائه، ولكنه تجلد واستمسك وقال له: لا تحزن يا صديقي ولا تستسلم لهذه الأوهام، فما الحب في الدنيا إلا حظوظ وجدود، وقد يأتيك عفوا ما تظن أنه أبعد الأشياء منالا منك. قال: لا، أنت مخطئ يا لبريه، فإنه لا يجوز لي أن أطمع في حب «كليوباترة» إلا إذا كنت «قيصر»، ولا في حب «بيرنيس» إلا إذا كنت، «تيتوس».
وقال: إن الله قد وهبك من العقل والذكاء والصفات الكريمة النادرة ما يقوم لك مقام الجمال، ألم تر تلك الفتاة بائعة الحلوى، وهي تنظر إليك نظرات الحب والشغف على أثر تلك المبارزة الغريبة، التي انتصرت فيها على الفيكونت الليلة؟ كذلك كان شأن روكسان، فقد شاهدتها وهي تتبع حركاتك أثناء المبارزة باهتمام عظيم، وقلقها عليك ظاهر في اضطراب أعضائها، واكفهرار وجهها، حتى إذا انتصرت على خصمك كانت هي أعظم الناس سرورا بانتصارك، فانتعش سيرانو وهدأت نفسه قليلا، وقال: أصحيح ما تقول يا لبريه؟ قال: نعم، ولا بد أن تكون تلك الحادثة قد تركت في قلبها أثرا عظيما، فانتهز هذه الفرصة وفاتحها في شأن حبك. قال: أخاف أن تسخر مني، وهو الأمر الذي أخشاه أكثر من كل شيء في العالم.
وهنا ظهرت وصيفة روكسان داخلة من الباب الكبير، ولم تزل سائرة حتى وقفت أمام سيرانو، فدهش لرؤيتها دهشة عظيمة، وخفق قلبه خفقا متداركا، وقال: آه يا إلهي! إنها وصيفتها! وظل يرتعد ويضطرب، فانحنت الوصيفة بين يديه محيية وقالت له: إن سيدتي روكسان تسأل ابن عمها البطل الشجاع سيرانو دي بيرجراك: متى يمكنها أن تراه غدا على انفراد؛ لتحادثه في بعض الشئون؟ وأين يكون مكان الاجتماع؟ فازداد اضطرابه وارتعاده، وقال: تراني أنا؟ قالت: نعم، في المكان الذي تريده، وفي الساعة التي تراها. قال: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدق ذلك؟ قالت: إنها ستذهب غدا عند تفتح زهرات الصباح لسماع خطبة الوعظ في كنيسة «سان روك»، ففي أي مكان تحب أن تقابلها بعد خروجها من الكنيسة؟ فأرتج عليه وظل يهمهم ويتمتم، وانتشر عليه رأيه فلم يعرف ماذا يقول. فقالت له: ما لي أراك مضطربا هكذا؟ أسرع بالجواب فإنها تنتظرني. فقال بصوت خافت متقطع: إني أنتظرها في الساعة السابعة من صباح الغد في مطعم راجنو. قالت: وأين مكان هذا المطعم؟ قال: في رأس شارع سان أنريه. قالت: سأبلغها ذلك، وانحنت ثانية بين يديه وانصرفت، فظل شاخصا ببصره إلى السماء كالذاهل المشدوه، وهو يردد بينه وبين نفسه: آه يا إلهي! كيف يمكنني أن أصدق ذلك؟ إنها أرسلت إلي وصيفتها تسألني أن أقابلها على انفراد، فليت شعري ماذا تريد أن تقول لي؟ فقال له لبريه: تريد أن تقول لك: إنها تحبك، ما في ذلك ريب، ولقد تنبأت لك بذلك من قبل فلم تصدقني. قال: كيفما كان الأمر فحسبي منها أني خطرت ببالها، وأنها تعلم أن في العالم إنسانا اسمه سيرانو! قال: ما أحسبك إلا راضيا عن نفسك الآن، ولا بد أن تكون قد هدأت تلك الثورة التي كانت قائمة في نفسك. قال: لا، ما هدأت ولا فترت، بل أصبحت ثائرا جدا، وأشعر أن قوتي قد ازدادت أضعافا مضاعفة، فلو لقيت الآن جيشا كامل العدة والعدد لقهرته وحدي، ويخيل إلي أن بين جنبي عشرة قلوب، وأن في منطقتي عشرة سيوف أستطيع أن أقاتل بها جميعا في آن واحد، ولا يكفيني أن أحارب الأقزام والضاوين والجبناء، كذلك المسخ الذي حاربته الليلة، بل لا بد لي من جبابرة وعمالقة أفخر بقتالهم والفلج عليهم.
باب نيل
وكان يتكلم بصوت عال رنان، ويصرخ صرخات هائلة مزعجة تدوي بها أرجاء القاعة، كأنما خيل إليه أنه في ميدان حرب، وأنه يقاتل أولئك العمالقة والجبابرة الذين ذكرهم.
وكان الممثلون قد عادوا من نزهتهم، وأخذوا يهيئون على المسرح الرواية المقبلة، فأزعجهم صوت سيرانو وهو يصرخ، فصاح به أحدهم: ألا تزال باقيا هنا حتى الآن يا سيرانو؟ لقد أزعجتنا بضوضائك وصخبك، فاهدأ قليلا لنستطيع أن نأخذ في عملنا، فابتسم سيرانو وقال: عفوا يا سادتي، فسأترك لكم المكان مسرورا مغتبطا، وهم بالخروج، فما راعه إلا جماعة من الجنود والضباط قد دخلوا الحانة يحيطون برجل يترنح سكرا، فتأمله فإذا هو لينيير، فهرع إليه مذعورا وقال: ما بك يا صديقي؟ قال بلهجة متثاقلة: خذ هذه الورقة واقرأها، فإنها تنذرني بأن مائة رجل يكمنون لي الليلة في طريقي إلى منزلي عند «باب نيل»؛ ليقتلوني بسبب تلك القصيدة التي تعلمها، فأذن لي بالذهاب إلى منزلك لأنام فيه الليلة، فأطرق سيرانو هنيهة، وهو يهمهم قائلا: مائة رجل على رجل واحد؟ ما أجبنهم وأسفل نفوسهم! ثم رفع رأسه، وألقى على لينيير نظرة عالية مترفعة، وقال له بهدوء وسكون: لينيير! إنك ستنام الليلة في بيتك! فلم يفهم غرضه، وقال له وهو يترنح ويتمطق: ولكنك تعلم يا سيدي أنني رجل ضعيف مسكين، لا أقوى على مقاتلة هر، فمن لي بلقاء مائة رجل وحدي؟ قال: إنني أنا الذي سألقاهم وأنا الذي سأقاتلهم، فخذ المصباح من يد البواب وسر أمامي، وأقسم لك أنك ستنام الليلة في بيتك، وأنني سأمهد لك فراشك بيدي، لقد كنت أتمنى منذ هنيهة أن أقاتل جيشا كامل العدة والعدد، وها هو ذا الجيش الذي كنت أتمناه قد وافاني وحده، إنني في هذه الليلة بل في هذه الساعة على الأخص، لا يجمل بي أن أقاتل أقل من هذا العدد! فتقدم نحوه لبريه، ووضع يده على كتفه وأسر في أذنه: ألا يستطيع هذا الرجل أن ينام الليلة في غير بيته؟ وهل ترى من اللازم الحتم أن تخاطر بنفسك دفاعا عن مثل هذا الأبله المأفون!
وكان الممثلون قد نزلوا من المسرح، وأقبلوا يشاهدون الحادثة، فوضع سيرانو يده على كتف لبريه، وقال له وهو يبتسم ابتساما هادئا لطيفا: إن هذا السكير الذي لا يفيق، بل الزق الذي لا ينفد، هو أرق الناس قلبا، وأجملهم حسا، وأشرفهم شعورا، رأيته مرة وقد خرج من الكنيسة يوم الأحد، فرأى المرأة التي يحبها تتناول بيدها اللطيفة قليلا من الماء المقدس، فظل يرقبها حتى انصرفت، فهجم على الحوض الذي وضعت يدها فيه - وما على وجه الأرض شيء أبغض إليه من الماء القراح - فما زال يكرع منه حتى أتى عليه، فصاحت إحدى الممثلات: ما أجمل هذه الحادثة، وما أرق هذا الشعور! فالتفت إليها سيرانو وقال لها: أليس كذلك أيتها الفتاة؟ قالت: وا رحمتاه لهذا الرجل المسكين! كيف يسمح مائة رجل لأنفسهم أن يتفقوا عليه؟ ألا تعلم ما السبب في ذلك يا سيدي؟ فلم يجبها سيرانو، والتفت إلى جماعة الجند الذين دخلوا مع لينيير، وقال لهم: هأنذا ذاهب إلى المعركة الليلية، فإن شئتم أن تكونوا معي فأنتم وشأنكم، غير أن لي عليكم شرطا واحدا فقط، هو أنكم مهما رأيتم من الخطر المحدق بي فلا يتقدم أحد منكم لمساعدتي، وليكن مكانكم مني مكان مراسلي الصحف ومندوبيها في المعارك: يشاهدونها ولا يقربونها. فقالت الممثلة: هل تأذن لي يا سيدي أن أذهب معكم حيث تذهبون؟ قال: نعم آذن لك، ولكل من أراد الذهاب منكم، فصاح الممثلون والموسيقيون جميعا: كلنا نذهب معك، فابتهج سيرانو وتهلل وجهه، وقال: يا له من موكب شائق بديع! ثم جرد سيفه من غمده وضرب به الهواء، وصاح صيحة القائد في جنده: ليتقدم الضباط، ثم الجند، ثم الممثلون، ثم الممثلات، ثم الموسيقيون وهم يعزفون بألحانهم الحماسية، وليأخذ كل منكم في يده شمعة أو مصباحا، أما أنا فإني قائدكم العام، وها هي ذي الريشة التي ناولتني إياها يد المجد والفخار ترفرف فوق قبعتي!
صفحة غير معروفة