لما يشق على السادات فعال
كفاتك ودخول الكاف منقصة
كالشمس قلت وما للشمس أمثال
فزفر كافور وقال: هذا الشاعر كاد يضيق به صدري، وكلما أرخيت له العنان زاد عربدة وجنونا. دعه الآن يا ابن صالح فإن يومه لم يأت بعد. خبرني، ألا يزال يذكر الولايات، ويتغزل في الإمارات؟ - لا يا مولانا، إنه عدل عن هذا، وعلم أن الله حق. فقهقه كافور، وقال: إني أجازي خيال هؤلاء الشعراء بخيال مثله. راقبه يا أبا بكر. فإني أخشى أن ينتهي أمره إلى شر غاية، وبينما هما في الحديث؛ إذ ثارت جلبة في القصر، وتعالت أصوات الهتاف، ودخل الحاجب وهو يقول: إن شبيبا العقيلي مات بدمشق يا مولانا! فوقف كافور اهتماما بالخبر، ورفع يديه إلى السماء في تعبد وخشية، وهو يتمتم: الحمد لله! الحمد لله! اللهم إني عبدك المسكين، فانصر عبدك على أعدائه الأقوياء. ثم مال إلى أبي بكر وهمس في أذنه: لقد شرب السم إذا. الحمد لله! الحمد لله! - من الذي بعثته إليه بالسم؟ - بعثت إليه الحارث التميمي، وهو شاب مجازف، وقد وعدته بخمسمائة دينار. - إنه يستحق. كيف توصل هذا الشاب إلى هذا الأسد الهصور يا ترى؟ وكيف استطاع أن يدس له السم؟ - لقد أخبرني قبل رحيله. بما اعتزم فعله، فقد كان ينوي أن ينضم إلى جيش شبيب، ويظهر من الحماسة في الحرب ما يقربه إلى قلب العقيلي، حتى إذا وثق من منزلته عنده، وسنحت له الفرصة، مزج له السم في الطعام. - هذا توفيق من الله. فكم من دماء حقنتها هذه القطرات القليلة من السم! وكم من أرواح أنقذتها! ونفوس ردت إليها هدوءها وسكينتها! لقد كان العقيلي شجاعا يا ابن صالح. - أما وقد مات، فقد كان رجلا لم تلد الأمهات مثله في الشجاعة والبطولة والكرم، ولقد كدنا نعيا بأمره؛ لأننا كلما أرسلنا إليه جيشا هزمه وفرق جموعه، حتى حاصر دمشق ودخلها دون أن يستطيع أحد أن يقف في طريقه، ولولا تلك الحيلة التي ابتكرها مولانا لذهبت منا الشام، وربما ذهبت بعدها ولايات أخرى. - إنه خارج علينا يا أبا بكر. لقد وليناه أول الأمر عمان والبلقاء، فلم يكتف بهما، ولم تقف به مطامعه عند حد، فاستهان بقوتنا، وأدل علينا بكثرة خيله ورجله. ثم ابتسم، كما يفغر الثعبان فاه، وقال: إن الله جنودا لم تروها، منها السم الزعاف.
سرت البشرى في أنحاء المدينة، وعين يوم في القصر للاحتفاء بهذا النصر المبين، وجاء هذا اليوم فتوافد على القصر الوزراء والعلماء والقواد والأدباء وسراة المدينة، وأعد المتنبي قصيدة؛ لينشدها في هذا الجمع الحاشد، وكان حاقدا على كافور، بعد أن حطم آماله، وقطع أوتاره، فجاءت القصيدة ثورة محموم، وتنفس غيظ مكظوم، وكان أولها:
عدوك مذموم بكل لسان
ولو كان من أعدائك القمران
ولما أنشدها وانفض الجمع، قابله ابن رشدين وهو يقول: الشعر بديع يا أبا الطيب، ولكني في الحق لم أدر، وأنت تنشدها أكنت ترثي شبيبا أم تمدح كافورا؟ - كنت أرثي شبيبا ، وأعتقد أن هؤلاء الأوغاد غدروا به، ودسوا له السم. - وأنا أعتقد كما تعتقد، ولكني إذا طلب إلي كافور أن أقول قصيدة في ظفره بعدوه لا أقول ما قلت. - وماذا كنت تقول؟ - كنت آتي بأعذب الشعر وأكذبه. ثم جذب منه الورقة، وقال اسمع:
برغم شبيب فارق السيف كفه
وكانا على العلات يصطحبان
صفحة غير معروفة