فلما جاء الغد أسرع أبو الحسن بن سعيد إلى دار المتنبي، فلم يجده ورأى ابنه محسدا فقال له: قل لأبيك يا محسد: إن الأمير يبلغه تحيته ورضاه، ويود أن يقابله في قاعة الرسل في صبيحة غد؛ ليستمع لإنشاد القصيدة الجديدة، وقل له: إن الجمع سيكون حاشدا، عم مساء يا محسد. ثم بلغه عني ألا ينسى قوله:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى
عدوا له ما من صداقته بد
صراع
عاد المتنبي إلى داره حزينا مثقلا بالهموم والأوجال، يهز رأسه صامتا مطرقا، فابتدره محسد وألقى عليه رسالة أبي الحسن لم يخرم منها حرفا. فالتفت إليه أبوه في تثاقل، وقال: إذا سيكون الموعد غدا؟ - نعم يا أبي، وهو يقول: إن الجمع سيكون حاشدا. - إنه يوم الفصل يا محسد، وسيعلمون غدا من السباق المبرز.
تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أمات الموت، أم ذعر الذعر؟
وأقبل مسعود فقال: إن العشاء قد أعد يا سيدي.
ليس لي في الطعام من أرب الليلة يا مسعود. أوقد الشموع في حجرة نومي، وأعد بجانبها شموعا أخرى، فقد يطول بي السهاد في هذه الليلة الليلاء، وأحضر أقلاما وأوراقا ودواة بجانب سريري. أسرع يا مسعود، فإن مجد سيدك الليلة في ميزان القدر. فأسرع العبد ينجز ما أمر به، وتخفف المتنبي من بعض أثوابه، وهو يتمتم: غدا سيرون! غدا سيكون لي معهم ومع أميرهم شأن أي شأن! غدا يعلمون أني كالحجاج بن يوسف لا يقعقع لي بالشنان، ولا يغمز جانبي كتغماز التين، وغدا يستيقنون أن الشعر إذا تنفست به نفس جريئة، كان ملكا على الملوك، وأميرا على الأمراء. من هؤلاء ليت شعري ومن آباؤهم؟ كان آباؤهم زعماء طائفة من فتاكي العرب، أغاروا على أطراف الخلافة، وهي تترنح للسقوط، فمزقوا أشلاءها، واقتطعوا لأنفسهم منها طرفا، وأصبحوا في طرفة عين ملوكا لهم عرش وصولجان، وجند وسلطان، ولم لا أوطد ملكا كما وطدوا؟ وأشيد مجدا مغتصبا كما شيدوا، ما دام الأمر للقوة، والحكم لأطراف الأسنة؟ ثم أطرق حزينا وهز رأسه في ألم وحسرة، وقال: ولكن هؤلاء لهم عشيرة وعصبة، ولهم أعوان وأحلاف في القبائل، ولهم في الرياسة مجد قديم، أما أنا فقد:
أظمتني الدنيا فلما جئتها
صفحة غير معروفة