وبعد أن انصرف القوم، دعا الأمير بالمنجمين ليروا طالع المولد، فاجتمعوا والرعب يملأ قلوبهم، فقد كانوا يعلمون أنهم دعوا لأمر جد خطير، وكان بينهم أبو مسلم الحضرمي الإشبيلي.
وبعد أن نظروا في أسطر لاباتهم وقلبوا في كتبهم، أقبل بعضهم على بعض يهمسون: ماذا نقول للأمير؟ فقال أحدهم: إن الطالع سيئ، وهز آخر رأسه في أسف قائلا: إن ما تقوله حق أبا الحسين ... ولكننا عاهدنا صناعتنا ألا نقول الحق إلا إذا كان سارا، أو تضمن شرا يمكن اتقاؤه.
فقال أبو مسلم: إن رءوسكم لا تكفي لإسكات غضب الأمير لو جبهتموه بسوء طالع ابنه ، ثم إن قتلكم لن يغير مما كتب في صفحة القدر حرفا، ولن يقول الناس إن تغيبوا في القبور: برد الله مثواهم، لأنهم كانوا شجعانا لا يبالون في الحق صولة أمير جبار ... وهبوهم قالوا شيئا من هذا، فماذا يفيدكم قولهم وأنتم تراب؟! رحم الله ذلك الأعرابي الذي قيل له حين فر من القتال: ألا تخشى العار؟ فقال: لأن يقولوا: فر لعنه الله خير عندي من أن يقولوا: مات رحمه الله!
فقال أبو الحسين: وماذا ترى أبا مسلم؟ قال: أرى أننا خوفنا الأمير منذ سنتين من خطر يدهمه، من قوم يطرءون على الجزيرة من غير سكانها، فيجب أن نستمسك بهذا، وأن نظهر البشر والابتسام وحسن التفاءل، ونبلغه بأن الطالع سعيد، غير أننا لا نزال نلح في اتقاء خطر الطارئين.
فخرجوا على هذا الرأي، ولما ألقوا كلمتهم للأمير أطرق مرددا: يفعل الله ما يشاء ... الطارئون ... الطارئون ... دائما الطارئون!!
ثم دعا بصاحب البريد، وطلب إليه أن يسير توا إلى إشبيلية لينقل الخبر إلى أبيه.
وما كاد حمدون اللخمي يتلقى أمر مولاه، حتى أسرع إلى خيل البريد فاختار أكرمهم سلالة، وأسبقها عدوا، وأقواها جلدا.
ومضى به يسابق الريح بين غياض فيح، وحدائق نضر، وأشجار فينانة مختلفة الثمار، حتى أدركه الصباح عند «لبلة» وظهرت له أسوارها المنيعة القديمة، وما يحيط بها من أشجار الزيتون ومروج القرنفل والعصفر، فاجتاز القنطرة التي فوق النهر، ودخل المدينة تعبا ساغبا منهوك القوى، فأخذ سمته إلى فندق في سوق التجار، وما كاد الطعام يقدم إليه حتى طفق يلتهمه التهاما، وكان بالفندق فتاة إسبانية تنظر في شئون المسافرين، امتزجت فيها الصحة بالجمال، فكونت منها إنسانة حسانة فاتنة عربيدة، تعرض عمن يهيم بها، وتدعو المعرض عنها يهيم بها، حتى إذا اقتنصته أرته الدلال كيف يكون.
فلما رأت حمدونا لا يرفع عينيه من وعائه، يضع اللقمة في فمه ويعد أخرى، وينظر إلى الثالثة ... قالت له في رشاقة تتخللها ضحكة خفيفة: يظهر أن الطعام صرفك حسن طهوه عن جميع الناس!!
فرفع عينيه إليها في بله أو تباله وقال: ماذا تقولين يا فتاة؟؟ - أقول: إن طعام «لبلة» أو طعام فندقنا خاصة، يستهوي البطون ويحظى بغزلها وصبابتها.
صفحة غير معروفة