علو الهمة [١]
علو الهمة شرف عظيم، لا يبلغه إلا عظماء الرجال وأساطينهم، وقد بلغ سلف الأمة إلى ذروة العزة والمجد؛ وما ذاك إلا بإيمانهم وعلو همتهم، فيجب على كل مسلم أن يكون عالي الهمة، مترفعًا عن سفاسف الأمور، عزيزًا بدينه لا يقبل فيه المساومة.
1 / 1
أهمية اجتماع القوة العلمية والقوة العملية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نستجلب بها نعمه، ونستدفع بها نقمه، وندخرها عدة لنا: ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء:٨٨ - ٨٩].
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله نجوم المهتدين، ورجوم المعتدين، ورضي الله عن صحابته الأبرار الذين قاموا بحق صحبته، وحفظ شريعته، وتبليغ دينه إلى سائر أمته، فكانوا خير أمة أخرجت للناس.
أما بعد: ففي قرن وبعض قرن وثب المسلمون وثبة ملئوا بها الأرض قوة وبأسًا، وحكمة وعلمًا، ونورًا وهداية، فحكموا الأمم، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا وهامات أفريقيا وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشرعتهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم الأنموذج الفريد والمثال الأعلى للبشرية؛ باعتبارهم خير أمة أخرجت للناس، بعد أن كانوا طرائق قددًا لا نظام ولا قوام، ولا علم ولا شريعة، فقطع المسلمون تلك المرحلة التي سهم لها الدهر، ووجم لروعتها التاريخ، وهم يعرفون معالم طريق المجد، ونهج السعادة في الدارين، وأمعنوا بكل ثقة في هذا السبيل مدفوعين بطاقة صارخة وقوة دافعة.
وكانوا يدركون بكل دقة معالم الطريق، وكأن معهم خارطة مفصلة أودعوها قوتهم العلمية، وكان الوقود الذي يتزودون به هو القوة العملية، فهذان هما سر عظمة المسلمين، وخيريتهم وتفوقهم على الأمم: العلم والإرادة، أو القوة العلمية والقوة العملية.
أما العلم فحسبنا أنه الحاكم على الممالك والسياسات والأموال والأقلام، فملك لا يتأيد بعلم لا يقوم، وسيف بلا علم مخراق لاعب، وقلب بلا علم حركة عابث، والعلم مسلط حاكم على ذلك كله، ولا يحكم شيء من ذلك على العلم.
ولن نعرض في هذه السلسلة التي نشرع فيها -بإذن الله- إلى ذكر فضائل العلم، فما أكثر ما تحدث المتحدثون عن العلم! وكم صنف المتقدم والمتأخر في شرفه والحث عليه! لكن المقصود الآن التنبيه على الشق الثاني من مكامن القوة في هذه الأمة، والذي بدونه لن تنهض من كبوتها، سواء على مستوى الجماعات أو الأفراد، ألا وهو قسيم العلم وشريكه في صناعة المجد وإحياء الأمة، ألا وهو القوة العلمية أو الإرادة أو الهمة، فما هي الهمة التي نعبر بها عن القوة العلمية التي نحن في أمس الحاجة إليها في هذا الزمان في كل أحوالنا، سواء كانت أحوال الدين أو أحوال الدنيا، أحوال الأمة أو أحوال الأفراد.
1 / 2
تعريف الهمة
فالهمة مأخوذة من الهم، والهم هو ما هُمَّ به من أمر ليفعل، والهمة هي الباعث على الفعل، وتوصف بعلو أو سفول، فتكون همة عالية وهمة سافلة، وفي المصباح: الهمة بالكسر هي: أول العزم، وقد تطلق على العزم القوي، فيقال: له همة عالية.
وقيل: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، يعني: أن الهمة العالية هي عبارة عن نشدان الكمال الممكن، فالإنسان لا يرضى إلا بأعلى المراتب في كل شيء، ولا يصبو إلا إلى ما أمكنه أن يصل إليه من الكمالات في كل الأحوال، وينظر إلى كل ما دون هذا الكمال نظرة استصغار.
فإذًا: علو الهمة هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، وقيل: خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل.
وهذا التعريف الأخير ذكره الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى، وقال في شرح معناه: ينبغي لمن له أنفة أن يأنف من التقصير الممكن دفعه عن النفس، فلو كانت النبوة -مثلًا- تأتي بكسب لم يجز له أن يقنع بالولاية.
يعني: أن صاحب الهمة العالية يصبو إلى كل ما أمكنه من الكمالات، فيأنف ويستنكف أن يكون في حالة من أحوال التقصير مادام هذا التقصير يمكن دفعه عن النفس.
والنبوة ليست كسبية، بل النبوة وهبية، يعني: أن الله ﷾ يصطفي من رسله من يشاء، لكن يقول: لو فرضنا أن النبوة تنال بالكسب لم يجز لعالي الهمة أن يقنع بالولاية، أي: لم يجز لعالي الهمة أن يرضى بأن يكون وليًا دون أن يرقى إلى مرتبة النبوة، يقول: أو تصور أن يكون -مثلًا- خليفة لم يقتنع بإمارة، ولو صح له أن يكون ملكًا -يعني: من الملائكة- لم يصلح له أن يرضى أن يكون بشرًا.
والمقصود من علو الهمة: أن ينتهي بالنفس إلى كمالها الممكن في العلم والعمل.
إذًا: نشدان الكمال الممكن يدخل في باقته الوصول إلى الكمال واستصغار كلما دون ذلك.
ويقول الجرجاني في التعريفات: الهم هو عقد القلب على فعل شيء قبل أن يفعل من خير أو شر، سواءً كان هذا الهم همًا بخير أم همًا بشر.
أما الهمة فهي: توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق؛ لحصول الكمال له أو لغيره.
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في مدارج السالكين: والهمة: فعلة من الهم، والهم هو: مبدأ الإرادة.
أي: أن بداية الإرادة هم، ولكنه خص الهمة بنهاية الإرادة، فالهمة هي: التعبير عن نهاية وقمة وأعلى الإرادة، فأولها الهم، وآخرها وأعلاها الهمة، فالهم مبدؤها والهمة نهايتها.
يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول في بعض الآثار الإلهية: قول الله تعالى: إني لا أنظر إلى كلام الحكيم، وإنما أنظر إلى همته، قال: والعامة تقول: قيمة كل امرئ ما يحسن، والخاصة تقول: قيمة كل امرئ ما يطلب.
فعوام الناس مقاييسهم أن قيمة الإنسان هي ما يحسنه، أما الخواص فإنهم يقولون: قيمة الإنسان ما يصبو إليه، وما يطمح إليه، وما يطلبه، فقيمة المرء همته ومطلبه.
وقال صاحب المنازل: الهمة: ما يملك الانبعاث للمقصود صرفًا لا يتمالك صاحبها ولا يلتفت عنها، يعني: ينبعث قلبه نحو المقصود ونحو الطلب الذي يطلبه، ويستولي عليه كاستيلاء المالك على المملوك؛ بحيث لا يستطيع أن يتخلص من هذا النزوع إلى طلب الكمال.
والمراد أن همة العبد إذا تعلقت بالحق ﵎ طلبًا صادقًا خالصًا محضًا، فتلك هي الهمة العالية التي لا يقدر صاحبها على المهلة، ولا يستطيع أن يؤجل أو أن يرضى بما هو دون ذلك، ولا يتمالك صبره لغلبة سلطانه عليه، وشدة إلزامها إياه بطلب المقصود، ولا يلتفت عنها إلى ما سوى أحكامها، وصاحب هذه الهمة سريع وصوله وظفره بمطلوبه، ما لم تعقه العوائق، وتقطعه العلائق.
والله تعالى أعلم.
وقال أيضًا: علو الهمة ألا تقف دون الله، ولا تتعوض عنه بشيء سواه، ولا ترضى بغيره بدلًا منه، ولا تبيع حظها من الله وقربه والأنس به والفرح والسرور والابتهاج به بشيء من الحظوظ الفانية.
فالهمة العالية على الهمم كالطائر العالي على الطيور لا يرضى بمساقطهم، ولا تصل إليه الآفات التي تصل إليهم، فإن الهمة كلما علت بعدت عن وصول الآفات إليها، وكلما نزلت قصدتها الآفات من كل مكان؛ فإن الآفات قواطع وجواذب، وهي لا تعلو إلى المكان العالي فتجتذب منه، وإنما تجتذب من المكان السافل، فعلو همة المرء عنوان فلاحه، وسفول همته عنوان حرمانه.
انتهى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى.
1 / 3
فائدة الهمة ونتائجها
والهمة طليعة الأعمال ومقدمتها، قال أحد الصالحين: همتك تحفظها؛ فإن الهمة مقدمة الأشياء، فمن صلحت له همته وصدق فيها صلح له ما وراء ذلك من الأعمال.
وعن عبيد الله بن زياد بن ضبيان قال: كان لي خال من كلب كان يقول لي: يا عبيد! هم؛ فإن الهمة نصف المروءة.
وقد بين الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى أن الهمة مولودة مع الآدمي يقول ﵀: وما تقف همة إلا لخساستها، يعني: المفترض في الهمة أنها تظل تطلب طلبًا معينًا، فتحققه، ثم تصبو إلى ما هو أعلى، فإذا أنجزته تصبو إلى ما هو أعلى، وهكذا.
فالهمة لا تعرف السكون أبدًا، بل تتطلع إلى ما هو أعلى وأسمى، فإذا وقفت فهذه علامة خساستها وخبث طبع صاحبها.
يقول: وما تقف همة إلا لخساستها، وإلا فمتى علت الهمة فلا تقنع بالدون، وقد عرف بالدليل أن الهمة مولودة مع الآدمي، وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، فإذا حثت سارت، ومتى رأيت في نفسك عجزًا فاسأل المنعم، أو كسلًا فاسأل الموفق؛ فلن تنال خيرًا إلا بطاعته، فمن الذي أقبل عليه ولم ير كل مراد؟ ومن الذي أعرض عنه ثم مضى بفائدة، أو حظي بغرض من أغراضه؟ وقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: وإنما تقصر بعض الهمم في بعض الأوقات، بسبب عجز أو كسل أو ركون إلى وسوسة الشيطان والهوى، وتسويل النفس الأمارة بالسوء، فهنا تحتاج الهمة إلى إيقاظ وتنبيه وتذكير، بأن يذكرها ويسألها: رضا من تطلب؟ وفي أي نعيم ترغب؟ ومن أي عقاب ترهب؟ كما فعل ذلك البطل الذي لا نعرف اسمه، لكن حسبه أن الله ﷾ يعلمه، وهو وحده الذي يثيبه، فعن عبد الله بن قيس أبي أمية الغفاري قال: كنا في غزاة لنا، فحضر العدو، فصيح في الناس -يعني: نودي بالجهاد- فوثبوا إلى مصافهم، وكان هناك رجل أمامي، رأس فرسي عند عجز فرسه.
وكان هذا الرجل واقفًا، ولا يشعر بأن هذا يقف ويسمعه، وكان يخاطب نفسه ويقول: ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ ألم أشهد مشهد كذا وكذا، فقلت لي: أهلك وعيالك، فأطعتك ورجعت؟ والله لأعرضنك اليوم على الله، أخذك أو تركك.
فقلت: لأرمقنه اليوم -أي: سأراقب هذا الرجل إلى ما ينتهي أمره- قال: فرمقته، فحمل الناس على عدوهم، فكان في أوائلهم، ثم إن العدو حمل على الناس فانكشفوا -يعني: انهزموا- فكان في حماتهم، أي كان مع الطائفة التي تحميهم وتدافع عنهم، ثم إن الناس حملوا مرة ثانية، فكان في أوائلهم، ثم حمل العدو وانكشف الناس، فكان في حماتهم، قال: فوالله ما زال ذلك دأبه حتى رأيته صريعًا، فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة.
رحمه الله تعالى.
فلابد لكل من يسلك الطريق إلى الله ﷾ من هذين الجناحين؛ ليطير بهما، ولا يستقيم حال المرء إذا اقتصر على واحد منهما.
فالمرء لابد له من همة تحمله، وعلم يبصره ويهديه، فالقوة العلمية مع القوة العملية لا بد منهما، فمثلًا: من يريد أن يسافر إلى بلد معين لا شك أنه يحتاج إلى خريطة بالموقع والمكان الذي يريد أن يقصده، وفي نفس الوقت يحتاج إلى دابة أو سيارة، وهذه السيارة لابد لها من وقود، فالخريطة هي القوة العلمية التي تدله لكي يصل إلى هذا المكان، والوقود هذا هو القوة العملية، أو قوة الإرادة التي تمكنه من الحركة والانبعاث؛ لتحصيل هذا المقصود.
1 / 4
أهمية العلم والإرادة للإنسان
قال الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: إن الله ﷾ لما اقتضت حكمته ورحمته إخراج آدم وذريته من الجنة أعاضهم أفضل منها، وهو ما أعطاهم من عهده الذي جعله سببًا موصلًا لهم إليه، وطريقًا واضحًا بين الدلالة عليه، من تمسك به فاز واهتدى، ومن أعرض عنه شقي وغوى، ولما كان هذا العهد الكريم والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه أبدًا إلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصول إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه.
هذا تشبيه آخر للعلم والإرادة، فالإرادة هي الباب، ومفتاح الباب هو العلم، يعني: لابد من الاثنين معًا، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: همة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه، فإن مراتب السعادة والفلاح إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين، ولا يخيب إنسان ولا تفوته السعادة إلا بتقصير في جانب من هذين الجانبين، أو من أحدهما؛ إما ألا يكون له علم بها، كأن يجهل مراتب الآخرة والغايات العليا، فإذا كان يجهل هذه الفضائل فكيف سيتحرك إليها؟ وكيف سينبعث قلبه في طلبها؟ فإن كل إنسان إما ألا يكون له علم بها فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالمًا بها، لكن لا تنهض همته إليها، فلا يزال في حضيض طبعه محبوسًا، وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدودًا منكوسًا، قد أسام نفسه مع الأنعام، راعيًا مع الهمل، واستطاب لقيعات الراحة والبطالة، واستلان فراش العجز والكسل، لا كمن رفع له علم فشمر إليه، وبورك له في تفرده في طريق طلبه فلزمه واستقام عليه، قد أبت غلبات شوقه إلا الهجرة إلى الله ورسوله، ومقتت نفسه الرفقاء إلا ابن سبيل يرافقه في سبيله.
قال: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها، وشرف العلم تابعًا لشرف معلومه، وهذه قاعدة معروفة، يعني: أن شرف العلم حسب شرف المعلوم، فليست دراسة علم الحشرات مثل دراسة الطب البشري، لأن صحة البشر أهم من الحشرات؛ وهكذا مراتب العلوم تتفاوت بحسب المعلوم، وشرف العلم بشرف المعلوم، ولذلك كانت أشرف العلوم على الإطلاق هي علوم الدين، فهي أشرف من علوم الدنيا بلا شك، وعلوم الدنيا أشرفها علم الطب؛ لأن الطب هو أشرف مطالب الدنيا، ورأس مال الإنسان في الدنيا هو صحته وعافيته، لكن علوم الدين أشرف من كل علوم الدنيا، ثم علوم الدين تتفاضل فيما بينها بحسب العلم الذي تؤدي إليه، فهناك علوم هي عبارة عن وسائل فقط، كالنحو والتجويد والمصطلح وأصول الفقه ونحوها، فهذه علوم خادمة لعلوم الدين.
ثم هناك علوم أشرف، وهي العلوم المخدومة كالتوحيد، والتفسير، والفقه، ثم أشرف هذه العلوم المخدومة على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأنه هو العلم الذي يعرفنا بالله، ويعلمنا صفات الله ﷾ وحق الله علينا، فبالتالي كان أشرف العلوم على الإطلاق هو علم التوحيد؛ لأن شرف العلم بشرف المعلوم، ولا معلوم أشرف من معرفة الله ﷾.
يقول: ولما كان كمال الإرادة بحسب كمال مرادها وشرف العلم تابعًا لشرف معلومه كانت نهاية سعادة العبد الذي لا سعادة له بدونها ولا حياة له إلا بها، أن تكون إرادته متعلقة بالمراد الذي لا يبلى ولا يفوت، وعزمات همته مسافرة إلى حضرة الحي الذي لا يموت، ولا سبيل له إلى هذا المطلب الأسمى والحظ الأوفى إلا بالعلم الموروث عن عبده ورسوله وخليله وحبيبه الذي بعثه لذلك داعيًا، وأقامه على هذا الطريق هاديًا، وجعله واسطة بينه وبين الأنام، وداعيًا لهم بإذنه إلى دار السلام، وأبى سبحانه أن يفتح لأحد منهم إلا على يديه، أو يقبل من أحد منهم سعيًا إلا أن يكون مبتدئًا منه، ومنتهيًا إليه ﷺ.
ثم تكلم الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على أقسام الناس من حيث القوتين: العلمية والعملية، فالناس يتفاوتون، ولا يخرج أحد من هذا التفصيل، يقول ﵀: وكمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، فالمعرفة قوة علمية، والإيثار قوة عملية، ولذلك جاء في الأثر: (اللهم أرني الحق حقًا وارزقني اتباعه)؛ لأن الإنسان قد يرى الحق حقًا لكن لا يتبعه، كاليهود الذين كانوا يعرفون الرسول ﵊ كما يعرفون أبناءهم، ويعرفون صفاته، ويجزمون بأنه رسول الله، لكنهم لم يرزقوا ولم يلهموا ولم يوفقوا إلى اتباعه والانقياد لشريعته.
فإذًا: الأمر الأول: معرفة الحق.
الأمر الثاني: اتباع الحق وإيثاره على ما عداه؛ لأن الإنسان قد يعرف الحق، ولكن يؤثر عليه ما عداه، كما في هذا الأثر، وهو ينسب إلى أبي بكر: (اللهم أرني الحق حقًا، وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلًا وارزقني اجتنابه)؛ لأنه ممكن أن الإنسان يزين له سوء عمله، فيرى الباطل في صور مزينة، ويحسب أنه على شيء، كعامة ملاحدة هذا الزمان من الإعلاميين والصحفيين الذين اغتروا بكثرتهم وصوتهم العالي، وكيف أنهم يتكلمون وكأنهم أصحاب حق، وكلهم جزمًا مبطلون وأهل ضلال ومعاداة لدين الله ﷾، فهذا من تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم.
فهؤلاء يرون الباطل حقًا، وتراهم مستعدين أن يقاتلوا في سبيل هذا الباطل، وأن يبذلوا النفس والنفيس، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فمن أراه الله الحق حقًا ثم رزقه اتباعه وإيثاره، وأراه الباطل باطلًا ورزقه اجتنابه، فهؤلاء هم الذين رزقوا علمًا، وأعينوا بقوة العزيمة على العمل، وهؤلاء هم الموصوفون في القرآن الكريم بقوله تعالى: (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ).
فكونهم آمنوا هذا من التصديق، وهذه قوة علمية، وكونهم عملوا الصالحات هذه هي القوة العملية، وقال ﷿: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ [الأنعام:١٢٢]، ولا يخرج منها لأنه مقتنع بها، ويرى أنها هي الحق.
فحياة القلب تنال بالعزيمة، وبالنور يرزق الفرقان بين الحق والباطل.
1 / 5
أقسام الناس في العلم والإرادة
يقول شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله تعالى: كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار الحق على الباطل، وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين، وهما اللذان أثنى الله ﷾ على أنبيائه عليهم الصلاة والسلام بهما في قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ﴾ [ص:٤٥].
فالأيدي هي القوة في تنفيذ الحق، والأبصار هي البصائر في الدين، فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه، وانقسم الناس في هذا المقام أربعة أقسام.
وأشرف الأقسام هو القسم الذي ذكرناه آنفًا، أي: الذين مدحهم الله بقوله: «أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ».
فهؤلاء أشرف الأقسام من الخلق وأكرمهم على الله ﷾.
القسم الثاني: عكس هؤلاء، فلا بصيرة، ولا همة، ولا علم ولا عمل، فعكس الفريق الأول هم من لا بصيرة لهم في الدين، ولا قوة على تنفيذ الحق، وهم أكثر الخلق، وهم الذين رؤيتهم قذى العيون، وحمى الأرواح، وسقم القلوب، يضيقون الديار، ويغلون الأسعار، ولا يستفاد من صحبتهم إلا العار الشنار.
القسم الثالث: من له بصيرة في الهدى ومعرفة به، ولكنه ضعيف لا قوة له على تنفيذه، ولا الدعوة إليه، وهذا حال المؤمن الضعيف، لكن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من هذا المؤمن الضعيف.
القسم الرابع: عكس هذا، له قوة وعزيمة وهمة، لكنه ضعيف البصيرة في الدين، لا يكاد يميز أولياء الرحمن من أولياء الشيطان، بل يحسب كل سوداء ثمرة، وكل بيضاء شحمة، ويحسب الورم شحمًا، والدواء النافع سمًا؛ لأنه ليس عنده علم وبصيرة في الدين.
وليس في هذه الثلاثة الأقسام من يصلح للإمامة في الدين، ولا هو موضع لها سوى القسم الأول، فهذا فقط هو الذي يصلح أن يكون إمامًا في دين الله ﷾، يقول الله ﷿: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة:٢٤].
فأخبر ﷾ أنهم بالصبر واليقين بآيات الله نالوا الإمامة في الدين، وهؤلاء هم الذين استثناهم الله ﷾ من جملة الخاسرين.
قال ﷿: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾ [العصر:١ - ٢].
أي: إن كل إنسان لفي خسر ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر:٣].
فوصفوا بالقوة العلمية والقوة العملية، بالعلم والهمة أو الإرادة.
فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها، وأعلامها وعوارضها ومعاشرها، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفًا في القوة العملية، يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المسالك والمخاوف والمعاقب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف، وفارقهم في العلم، كما يقول الشاعر: فليس يزيح الكفر رأي مسدد إذا هو لم يؤنف برمي مسدد يقول: وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله.
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية، وتكون أغلب القوتين عليه، وتقتضي هذه القوة السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة، والجد والتشمير في العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد.
يعني: أننا نجد عند رجل الهمة في الحركة والعمل، وعنده همة من الناحية العملية، لكن ليس عنده بصيرة، فبالتالي نجده إذا تعرض لبدعة أو شبهة لا يستطيع أن يرد جوابًا، ويتبلبل، وربما يهتز إيمانه، ويخر صريعًا لهذه الشبهات بسبب غياب القوة العلمية.
فمثلًا: نجد إنسانًا يعمل في الربا وفي البنوك، وهو مقتنع، وعنده القوة العلمية، ويفهم جيدًا جدًا أن الربا محرم، وأن هذا الكسب حرام، وأن الوعيد فيه كذا وكذا إلى آخر هذا الكلام، لكن لا تجد عنده القوة العملية التي تجعله يحاول أن يتخلص ويخرج من هذا الوحل، فعنده قوة علمية، لكن ليس عنده الهمة.
وهكذا الذي يتحدث عن مضار التدخين، ويحاضر محاضرات طويلة، وإذا فتحت معه الكلام في التدخين، تجده يقول: المضرة في كذا وكذا وكذا، لكن هل عنده الهمة في أن يقلع عن هذه العادة السيئة؟! فأغلب الناس تجد عنده البصر بالضرر، لكن ليس عنده القوة العملية.
فهذه أمثلة لتوضيح الموضوع، فالقسم الثاني هذا يكون عنده همة وحركة وسعي ودأب، لكن ليس عنده بصيرة في الدين، فيكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد، والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات، كما أن الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداء هذا من جهله، وداء الأول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف، السالكين على غير طريق العلم، حيث نلاحظ في الصوفية -إلا من شاء الله- أن هذه الصفة تكاد تكون صفة سائدة، فأحدهم شديد الجهل بالعلم الشرعي، وعنده الهمة العالية في التعبد أو في الحركة والسعي والدأب والأذكار والأوراد وغير ذلك، لكن لا على بصيرة، وبالتالي يسهل أن يقع صريعًا للبدع والشبهات والضلالات.
يقول: على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مطلوبه، لا يدري من يعبد، ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، من لبس معين، وكشف رأس، أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التي وضعها بعض المتحذلقين، وليس لها أصل في الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائنًا ما كان، وهناك طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، وكلها ناشئة عن ضعف البصيرة في الدين، مع وجود الهمة العملية.
يقول شيخ الإسلام ابن القيم: فهؤلاء كلهم عمي عن ربهم، وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يقبل من أحد دينًا سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التي تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله، ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة لهم بالرب، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ﷾، ورجي له النفوذ، وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإن القواطع كثيرة، شأنها شديد، لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد.
ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، يعني: أن الطريق إلى النجاة وإلى الله ﷾ فيها كثير من القواطع، ولولا القواطع لكان هذا الطريق مزدحمًا بالسالكين الذين يقصدونه، لكن فيه كثيرًا من القواطع، سواء كانت قواطع من داخل النفس، أو قواطع من قطاع الطريق الذين ينبثون على جنبات الطريق إلى الله ﷾، ويقطعون الطريق على خلق الله، ويصدونهم عن السير إلى الله ﷾.
يقول: ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت -كما قيل- سيف، فإن قطعته وإلا قطعك، فإذا كان السير ضعيفًا، والهمة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنه جهد البلاء، ودرك الشقاء، وشماتة الأعداء، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب، فيأخذ بيده، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولي التوفيق.
1 / 6
محل الهمة ومكانها
بعد ذلك نتكلم عن الهمة باعتبار محلها، فالهمة عمل قلبي، منبعها ومصدرها ومحلها القلب، فبما أن الهمة محلها القلب، وبما أن القلب لا سلطان لأحد عليه غير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق طليقة من القيود التي تكبل الأجسام.
يعني: لو كان إنسان مكبلًا بأشد أنواع القيود، فهل معنى ذلك أنه إذا كبل جسده يمكن أن تكبل همته إذا كان هو في الأصل عالي الهمة؟
الجواب
لا؛ فحتى لو كبل جسده فهمته تنصرف إلى أعلى المقامات، فالهمة لا يستطيع أحد تقييدها، حتى ولو كبل الجسد كله عضوًا عضوًا، فهي تحلق حتى ولو كان صاحبها في هذه القيود، يقول الشاعر: إن يسلب القوم العدا ملكي وتسلمني الجموع فالقلب بين ضلوعه لم تسلم القلب الضلوع ونقل ابن قتيبة عن بعض كتب الحكمة يقول: ذو الهمة إن حط فنفسه تأبى إلا علوًا، كالشعلة من النار يصوبها صاحبها وتأبى إلا ارتفاعًا.
أي: لو أن إنسانًا يحمل شعلة من النار، ويحاول أن يجعل هذا اللهب يمضي إلى أسفل، فهل يستطيع ذلك؟ الجواب: لا.
فكذلك صاحب الهمة، يمكن أن تقع الضغوط على بدنه وعلى جوارحه، أما قلبه فلا يمكن، بل يسمو إلى أعلى المقامات.
1 / 7
ارتفاع الهمة على العمل
وهناك أمر آخر من خواص الهمة، وهو أن همة المؤمن أبلغ من عمله؛ فالإنسان يحصل بالهمة أمورًا عظيمة جدًا لا يستطيع أن يحصلها بعمله، يقول النبي ﵌: (من هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة).
فهذا ثواب الهمة وقال ﷺ: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه)، أي: ينال منازل الشهداء وإن مات على فراشه بصدق الهمة.
وقال ﷺ فيمن تجهز للجهاد ثم أدركه الموت: (قد أوقع الله أجره على قدر نيته).
وقال ﷺ في حق المتخلفين عن غزوة تبوك من الحريصين على الخروج معه: (إن بالمدينة لرجالًا ما سرتم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم؛ حبسهم العذر).
فهؤلاء همتهم موجودة، لكن وجد عائق أعاقهم عن الخروج؛ وذلك لأن الرسول ﵊ لم يكن عنده ما يحملهم عليه، فبالهمة نالوا الثواب، وشركوهم في الأجر.
وقال ﷺ: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه).
قوله: (ما من امرئ تكون له صلاة بليل)، يعني: أن عادته أن يقوم الليل، وقوله: (فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته، وكان نومه صدقة عليه)، أي: أنه أثيب بهمته وبنيته، فليس الشأن فيمن يقوم الليل، إنما الشأن فيمن ينام على فراشه ثم يصبح وقد سبق الركب بعلو همته وطهارة قلبه وقوة يقينه وشدة إخلاصه، وفي ذلك قيل: من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدًا وتجي في الأول وما أحسن قول الشاعر مخاطبًا الحجيج وقد انطلقوا للحج: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسومًا وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر ومن أقام على عذر فقد راحا فالمؤمن ما دامت عنده الهمة فهو يطمع في أن ينال نفس الثواب، وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية، كما بين ذلك الصادق المصدوق ﷺ في قوله: (سبق درهم ألف درهم).
يعني: أن رجلًا تصدق بدرهم، ورجلًا آخر تصدق بألف درهم، فالذي تصدق بدرهم نال ثوابًا أعظم من ثواب الذي تصدق بألف درهم، فما الذي أوجد هذا الفرق بينهما؟ إنها الهمة، ولذا: (قالوا: يا رسول الله! كيف يسبق درهم ألف درهم؟ قال: رجل كان له درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به، وآخر له مال كثير فأخذ من عرضه ألف درهم)، يعني: أن الرجل الأول عنده درهمان، فاستبقى لنفسه درهمًا واحدًا، وأنفق شطر ما يملك، ولا شك أن هذه همة عالية، وأما الآخر فعنده مال كثير جدًا، فأخذ من جانب الثروة الطائلة كمية، فتصدق بها، فالتفاوت الذي حصل بينهما إنما كان بسبب الهمة.
1 / 8
قوة المؤمن في قلبه وهمته
أيضًا بما أن الهمة في القلب فقوة المؤمن تكون في قلبة بصفه أساسية، يقول الإمام المحقق ابن القيم رحمه الله تعالى: اعلم أن العبد إنما يقطع منازل السير إلى الله بقلبه وهمته لا ببدنه، والتقوى في الحقيقة تقوى القلوب، لا تقوى الجوارح، قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:٣٢].
وقال تعالى: ﴿لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج:٣٧].
وقال النبي ﷺ: (التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره).
فالكيس يقطع من المسافة بصحة العزيمة وعلو الهمة وتجريد القصد وصحة النية مع العمل القليل أضعاف أضعاف ما يقطعه الفارغ من ذلك مع التعب الكثير، والسفر الشاق؛ فإن العزيمة والمحبة تذهب المشقة، وتطيب السير والتقدم، والسبق إلى الله ﷾ إنما هو بالهمم، وصدق الرغبة والعزيمة، فيتقدم صاحب الهمة مع سكونه صاحب العمل الكثير بمراحل، فإن ساواه في همته تقدم عليه بعمله، وهذا موضع يحتاج إلى تفصيل، يوافق فيه الإسلام الإحسان، فأكمل الهدي هدي رسول الله ﷺ، وكان موفيًا لكل واحد منهما حقه، فكان مع كماله وإرادته وأحواله مع الله يقوم حتى تتورم قدماه، ويصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد في سبيل الله، ويخالط أصحابه، ولا يحتجب عنهم، ولا يترك شيئًا من النوافل والأوراد لتلك الواردات التي تعجز عن حملها قوى البشر.
والرسول ﵊ بلا شك هو المثل الأعلى للبشرية كلها، ولم يطأ الحصى ولم يوجد على ظهر الأرض من هو أكمل من رسول الله ﵊ في أي خصلة من خصاله ﵌، فهو النموذج الأكمل للبشر أجمعين، بما فيهم الأنبياء والرسل عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، فالرسول ﵊ جمع إلى كمال القوة العلمية كمال القوة العملية، فمع علمه ﷺ بالله على أكمل الأحوال كان أكمل الناس إرادة، فكان يصوم حتى يقال لا يفطر، ويجاهد، ويخالط الناس، ثم هو متزوج، ومات عن تسع نسوة، فكان يدير هذه البيوت ويقودها، ويدير أمة ويبني رسالة، ويبلغ العالمين، ولم يقصر ﷺ بترك أي وارد من هذه الواردات، فصلى الله عليه وآله وسلم.
إن ضعف الإرادة والطلب من ضعف حياة القلب، وكلما كان القلب أتم حياة كانت همته أعلى، وإرادته ومحبته أقوى، فإن الإرادة والمحبة تتبع الشعور بالمراد المحبوب، وسلامة القلب من الآفة التي تحول بينه وبين صلاته وإرادته، فضعف الطلب وفتور الهمة لا يأتي إلا من نقصان الشعور والإحساس، أو من وجود الآفة المضعفة للحياة، فقوة الشعور وقوة الإرادة دليل على قوة الحياة، وضعفها دليل على ضعفها، وكما أن علو الهمة وصدق الإرادة والطلب من كمال الحياة، فهو سبب إلى حصول أكمل الحياة وأطيبها؛ فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية والمحبة الصادقة، والإرادة الخالصة، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة، وأخس الناس حياة أخسهم همة، وأضعفهم محبة وطلبًا، وحياة البهائم خير من حياتهم، كما قيل: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم الردى: أي الهلاك.
وتكدح فيما سوف تذكر غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم غبه: عاقبته.
تسر بما يفنى وتفرح بالمنى كما غر باللذات في النوم حالم
1 / 9
ذم دنو الهمة وبيان سببه
وهنا نناقش موضوعًا مهمًا، وهو أن كثيرًا من الناس يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، فما السبب في أن كثيرًا من الناس يطلبون الأدنى والأخس من الأمور؟ السبب الذي يجعل كثيرًا من الناس يطلبون الأدنى من الأمور ويقصدون ما لا يملك لهم ضرًا ولا نفعًا: فساد العلم، وكثرة الجهل، وضعف الهمة، فكلما صح العلم وانتفى الجهل وصحت العزيمة وعظمت الهمة، طلب الإنسان معالي الأمور، فبعض الناس همه لقمة يسد بها جوعته، وشربة روية تذهب ظمأه، ولباس يواري سوأته، وهذا هو المذهب الرديء، بل هذا مذهب كان منتقصًا حتى بين أهل الجاهلية؛ فأهل الجاهلية أنفسهم كانوا يذمون من يعيش من أجل هذه المقاصد.
وفي مثل هؤلاء يقول حاتم الطائي -وقد أدرك الإسلام ولم يسلم- ومع ذلك يقول في ذم هذا الذي يعيش من أجل هذه المقاصد السفلية-: لحا الله صعلوكًا مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوسًا ومطعما يرى الخمص تعذيبًا وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهما قوله: (لحا الله صعلوكًا) يعني: قبح الله صعلوكًا، والمقصود به هنا الفقير.
وقوله: (مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوسًا ومطعمًا)، يعني: لا يعيش إلا من أجل الملابس ومن أجل الطعام.
وقوله: (يرى الخمص تعذيبًا) يعني: يرى خلو البطن تعذيبًا.
وقوله: (وإن يلق شبعة يبت قلبه من قلة الهم مبهمًا)، يعني ينام قرير العين؛ لأنه نائم وهو شبعان، وقوله: (مبهمًا) يعني: خاليًا.
ومن الناس من يكون مطلبه التمتع بمتاع الحياة الدنيا، كحال طرفة بن العبد، فقد قيل له: ما أطيب عيش الدنيا؟ فقال: مطعم شهي، وملبس دفيء، ومركب وطيء.
يعني: سهل.
وقال طرفة أيضًا مبينًا غايته من الحياة: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي الجد هنا: الحظ والبخت، أي أنه يحلف بالحظ.
وقوله: (لم أحفل) يعني: لم أهتم، (متى قام عودي) جمع عائد، من العيادة.
فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد العاذلات جمع عاذلة، والعذل هو الملامة، وكميت: اسم من أسماء الخمر، يعني: أنه شرب خمرة فيها حمرة وسواد.
والزبد: الرغوة التي تكون فوق الخمر.
وكري إذا نادى المضاف محنبًا كسيد الغضا نبهته المتورد الكر هو: العطف، وقوله: (إذا نادى المضاف محنبًا)، يعني: الذي في يده انحناء.
وقوله: (كسيد الغضا)، الكسيد هو: الذئب، والغضا: الشجر.
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد فهذه الأبيات لهذا الشاعر تبين همته.
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبقي العاذلات بشربة كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكري إذا نادى المضاف محنبًا كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء المعمد وقوله: (تقصير يوم الدجن)، الدجن هو: الغيم حين يملأ آفاق السماء، وتقصيره يعني: جعل هذا اليوم قصيرًا، أي: أنه يشعر أن اليوم قصير، كيف يقصره؟ بأن يقضيه مع امرأة حسناء.
وقوله: (ببهكنة) هي: المرأة الحسنة الخلق السمينة.
وقوله: (تحت الخباء المعمد)، يعني: تحت الخيمة التي رفعت بالأعمدة.
فكثير من الناس همه من دنياه هم هذا الشاعر المسكين، فهمته شرب الخمر، والتمتع بامرأة حسناء، وقليل من الناس من تنهض همته إلى الدفاع عن الخائف والمستجير.
وبهذا الشاعر اقتدى أبو نواس؛ فـ أبو نواس يتحدث عن غايته من الحياة فيقول: إنما العيش سماع ومدام وندام فإذا فاتك هذا فعلى العيش السلام هذا الذي يعيش من أجله، وهذه هي غايته في الحياة.
فقوله: (إنما العيش سماع)، يعني: موسيقى وألحان.
وقوله: (ومدام وندام)، المدام هو: شرب الخمر، والندام: جلسات المنادمة، والندامى هم الذين يجلسون ويسهرون في الخمر.
وهذا جميل بثينة شاعر قصر همته على ملاحقة النساء، يذكره أحدهم ويأمره بأن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله فيجيبه قائلًا: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد لكل حديث بينهن بشاشة وكل قتيل عندهن شهيد فهذه نماذج من همم بعض الناس وغاياتهم في الحياة؛ حيث إن همتهم هي في النساء، والمناصب، والأموال، والغنى، وقد يكون لبعض الناس مسعى ومطلب يعده من علو الهمة، كحال امرئ القيس عندما أفاق من سكره وعبثه على زوال ملك أبيه، فانطلق جادًا طالبًا إعادة هذا الملك، وطبعًا نحن لا نقول: إن هذا من علو الهمة، لكن نحن نبين حال هذا الصنف، وهذا بالنسبة لما مضى يعتبر أعلى، لكن ليس هذا هو علو الهمة المراد، فلا يكون الإنسان عالي الهمة إلا إذا رجا الآخرة، وهذا سنفصله إن شاء الله.
فـ امرؤ القيس لما أفاق من السكر والعبث فوجد ملك أبيه قد ضاع، أنفق عمره في البحث عن استرداد ملك أبيه الضائع، وجعل يقول: فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ولم أطلب قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي وطال استطلابه للملك حتى قضى نحبه في طلبه، وهو القائل: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عيناك إنما نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا فضيع حياته أولًا في المتع والشهوات، وقضى شطر عمره الثاني في طلب الملك الضائع، وانتهت حياته، ولم يحصل مطلوبه، ومات كما مات المتنبي من بعده طلبًا للملك والإمارة، فأعياهما الطلب، وما أكثر الذين طلبوا الملك والرئاسة وألحوا في طلبها، فحامت حول الملك همتهم، وطافت به عزيمتهم.
كان الأديوردي -وهو من الشخصيات النادرة في التاريخ الإسلامي، وهو من الأمويين- يدعو عقب كل صلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها.
يعني: كانت هذه همته، وله في ذلك الأشعار الفائقة التي تكشف عن شخصية ونفسية شديدة الشبه بشخصية المتنبي.
وقيل لـ يزيد بن المهلب: ألا تبني دارًا؟ فقال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
أي: أنه لم يكن متخذًا منزلًا ولا دارًا، فلما قال له رجل: ألا تبني دارًا؟ قال: منزلي إما دار الإمارة، وإما الحبس.
يعني: أن هذا هو الهدف الذي يعيش من أجله.
وقال آخر: وعش ملكًا أو مت كريمًا وإن تمت وسيفك مشهور بكفك تعذر
1 / 10
تفاوت الهمم بين الحيوانات
ننتقل إلى نقطة أخرى وهي: أن الهمم لا تتفاوت بين بني البشر فقط، لكنها تتفاوت حتى بين الحيوانات والبهائم، فالهمم تتفاوت في جميع الحيوانات، ويذكر بعض العلماء أمثلة في هذا فيقول: العنكبوت من حين يولد ينسج لنفسه بيتًا، ولا يقبل منة الأم.
والحقيقة أن التعبير بالأنثى هنا يكون من الناحية العلمية أدق، ونحن سعداء بأننا نتناقل كلام العلماء السابقين، وقد نقف على الأخطاء، فلا نتكلم على الميت بعدما يموت.
فمثل هذا التعبير قد يستغرب، فأنثى العنكبوت هي التي تنسج؛ وهذا من إعجاز القرآن الكريم؛ حيث يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت:٤١]، وقد اكتشف حديثًا أن الذي ينسج البيت هو أنثى العنكبوت وليس الذكر، ولذلك قال تعالى: (كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ) بتاء التأنيث؛ لأن الأنثى هي التي تنسج بيت العنكبوت، فهذا من آيات الله ﷾.
يقول: فالعنكبوت من حين تولد تنسج لنفسها بيتًا، ولا تقبل منة الأم.
وهذا أيضًا من علو الهمة، والحية تطلب ما حفر غيرها؛ إذ طبعها الظلم، والغراب يتبع الجيف، والصقر لا يقع إلا على الحي، والأسد لا يأكل البايت، أي: أن الأسد لعلو همته لا يأكل الطعام البايت، والفيل يتملق حتى يأكل، والخنفساء تطرد فتعود.
قال المتلمس: إن الهوان حمار البيت يألفه والحر ينكره والفيل والأسد ولا يقيم بدار الذل يألفها إلا الذليلان عير الحي والوتد هذا على الخسف مربوط برمته وذا يشج فما يرثي له أحد يعني: ما يرق له أحد.
1 / 11
تفاوت الناس في علو الهمة
والناس يتفاوتون تفاوتًا عظيمًا؛ حسب حظهم من الهمة، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل:٤]، فالهمة هي رزق من الله ﷿، فـ ﴿اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الرعد:٢٦]، ومن حكمته ﷾ أن فاضل بين خلقه في قواهم العملية، كما فاضل بينهم في قواهم العلمية، يقول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم اجتمع عبد الله بن عمر وعروة بن الزبير ومصعب بن الزبير وعبد الملك بن مروان بفناء الكعبة، فقال لهم مصعب: تمنوا، فقالوا: ابدأ أنت، فقال مصعب بن الزبير: أتمنى ولاية العراق، وتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة بن عبيد الله.
فنال ذلك، وأصدق كل واحدة خمسمائة ألف درهم، وجهزها بمثلها، وتمنى عروة بن الزبير الفقه -أي: أنه سأل الله ﷾ أن يرزقه الفقه- وأن يحمل عنه الحديث.
فنال ذلك، وتمنى عبد الملك الخلافة فنالها، وتمنى عبد الله بن عمر الجنة رضي الله تعالى عنه وعن أبيه.
فانظر إلى الهمة كيف تتفاوت، ولعلها كانت -والله أعلم- ساعة إجابة، فكل من تمنى نال ما تمنى، فـ مصعب طلب الإمارة والزوجتين، مع صعوبة تحصيل زواج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة، كما هو معروف، لكن مع ذلك نالهما، وعروة طلب الفقه والحديث، فآتاه الله ذلك، وعبد الملك طلب الخلافة فنالها، وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه طلب الجنة، ولعله قد نالها.
فهذا يدل على تفاوت الهمم في الناس؛ فمن الناس من ينشط للسهر في سماع سمر، حتى لو كان سمرًا حلالًا؛ ليتحدث مع أصدقائه ومجالسيه، وينشط لهذا، وتأتيه همة، وما يشتكي التثاؤب ولا النوم ولا غير ذلك، وبعض الناس عنده قوة وتصميم في الشر، فيسهر إلى الواحدة أو الثالثة صباحًا أمام الأفلام والفيديو والمسرحيات وهذه الأشياء، فانظر كيف واقع الناس يصدق قوله تعالى: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل:٤].
ومنهم من يحفظ بعض القرآن، ثم يتوقف، ولا يستمر إلى التمام، ومنهم من يعرف الفقه، ومنهم قنوع بصلاة ركعتين في الليل، ومنهم من يطلب معالي الأمور دون أن تكون له إرادة وسعي في تحقيقها، ومن كان هذا حاله فهو مغتر بالأماني الكاذبة، قال الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابًا وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابًا ولو علت بهم الهمم لجدت في تحصيل كل الفضائل، ونبت عن النقص، فاستخدمت البدن، كما قال الشاعر: ولكل جسم في النحول بلية وبلاء جسمي من تفاوت همتي أي: أنه كان نحيلًا، فيعلل سر هذا النحول فيقول: ولكل جسم في النحول بلية أي: ممكن أن الإنسان يكون هزيلًا بسبب مرض أو بسبب سوء تغذية أو غير ذلك من الأسباب، ويمكن أن يكون بسبب همته العالية التي تستخدم بدنه وترهقه في سبيل تحصيل مطالبه، ولذا قال: وبلاء جسمي من تفاوت همتي يعني: من علو همتي.
وقال المتنبي: وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام وآخر يقول: وقائلة لم غيرتك الهموم وأمرك ممتثل في الأمم؟ فقلت ذريني على غصتي فإن الهموم بقدر الهمم ولما ولي أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى الخلافة خيَّر امرأته فاطمة بين أن تقيم معه على شرط أنه لا فراغ له إليها، وبين أن تلحق بأهلها، فبكت وبكت جواريها لبكائها، فسمعت ضجة في داره من شدة البكاء، ثم اختارت رحمها الله تعالى مقامها معه على كل حال.
وقال رجل لـ عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى لما ولي الخلافة: تفرغ لنا يا أمير المؤمنين! فأجابه قائلًا: قد جاء شغل شاغل وعدلت عن طرق السلامه ذهب الفراغ فلا فرا غ لنا إلى يوم القيامه وهذا الإمام ابن دقيق العيد ﵀ يقول: الجسم تذيبه حقوق الخدمة والقلب عذابه علو الهمة والعمر بذاك ينقضي في تعب والراحة ماتت فعليها الرحمة
1 / 12
بعض خصائص عالي الهمة
من خصائص كبير الهمة: أنه يعلم تمامًا أنه بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى، يعني: أن ثمن الهدف العالي الذي يصبو إليه أن يكون هناك جهد جهيد يبذله؛ كي يصل إلى هذا الهدف، فلا يغرق في أحلام اليقظة والأماني الكاذبة، ولا يغتر بالأماني وهو لا يسعى في تحصيلها؛ فلابد لكل سلعة من ثمن يليق بها، فعالي الهمة يجود بالنفس والنفيس في سبيل تحصيل غايته، وتحقيق بغيته؛ لأنه يعلم أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن المصالح والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر عليها إلا على جسر من التعب، كما يقول الشاعر: بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب ويقول آخر: فقل لمريد معالي الأمور بغير اجتهاد رجوت المحالا ويقول آخر: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتال ويقول آخر: والذي يركب بحرًا فيرى قحم الأهوال من بعد قحم أي: قد تروم هذه الغاية.
ويقول آخر: الذل في دعة النفوس ولا أرى عز المعيشة دون أن يشقى لها كان أبو موسى الأشعري ﵁ يصوم حتى يعود كالخلال، أي: حتى يصبح نحيفًا كالأعواد التي يخلل بها الأسنان، فقيل له: لو أجممت نفسك؟ يعني: أرح نفسك، فقال: (هيهات؛ إنما يسبق من الخيل المضمرة)، فالفرس الذي يسبق لا يكون فرسًا سمينًا مليئًا بالشحوم، لكن كلما كان هزيلًا ورشيقًا كان أقوى على أن يسبق.
وقد قيل: من طلب الراحة ترك الراحة.
وقيل: فيا وصل الحبيب أما إليه بغير مشقة أبدًا طريق يقول الإمام المحقق ابن القيم ﵀: تعالى: وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلًا استراح طويلًا، ومن تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله! يعني: أن كل ما فيه أهل الجنة هو عبارة عن أنهم صبروا في الدنيا ساعات، كما قال ﷿ حاكيًا عن المجرمين: ﴿قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [المؤمنون:١١٣].
وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل، كما قال المتنبي: وإذا كانت النفوس كبارًا تبعت في مرادها الأجسام وقال ابن الرومي: قلب يظل على أفكاره وئد تمضي الأمور ونفس لهوها التعب وقال مسلم في صحيحه: قال يحيى بن أبي كثير: لا ينال العلم براحة البدن.
ولا ريب عند كل عاقل أن كمال الراحة بحسب التعب، وكمال النعيم بحسب تحمل المشاق في طريقه، وإنما تخلص الراحة واللذة والنعيم في دار السلام، أما في هذه الدار فكلا، ولا يمكن أبدًا؛ فمن أراد الراحة والنعيم واللذة فلن ينالها هاهنا في الدنيا؛ لأن الدنيا لابد أن تنغص بالمشاق والكدور والآلام والعناء، ولا يمكن أن تكون دار راحة ونعيم ولذة، وآية ذلك أن الأنبياء الذين هم أكرم الخلق على الله منهم من قتل، ومنهم من عانى المرض كأيوب ﵇، ومنهم من عانى الفقر، ومنهم من لقي الأذى، فجميع الأنبياء بلا شك عانوا وبذلوا وتعبوا في هذه الدنيا، وأوذوا فيها؛ لهوانها على الله ﷾، فليست هي دار إكرام عباد الله ﷾.
وهنا يذكر الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى كلامًا في غاية الجودة والإفادة في هذه النقطة بالذات، يقول ﵀: كبير الهمة دومًا في عناء، وهو أبدًا في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولن تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن.
ثم يرى أن المراد من العلم العمل، وهو يتكلم هنا عن عذاب عالي الهمة، وبنفس الوقت تجد أن هذا عذاب له لذة، وله هذا الطعم الحسن.
يقول: ثم يرى أن المراد العمل؛ فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، فهو محتاج أيضًا من المال والنفقة إلى ما لابد منه لقوام عيشه، ويحب الإيثار، أي: أن من أخلاق عالي الهمة الإيثار، فحتى لو كان معه مال فسيؤثر غيره، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرم البذل، فصفة الكرم تدعوه إلى البذل، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم.
1 / 13
تعب وعناء صاحب الهمة العالية
يقول ﵀: كبير الهمة دومًا في عناء، وهو أبدًا في نصب لا ينقضي، وتعب لا يفرغ؛ لأن من علت همته وكبرت طلب العلوم كلها، ولم تقتصر همته على بعضها، وطلب من كل علم نهايته، وهذا لا يحتمله البدن، ثم يرى أن المراد العمل، فيجتهد في قيام الليل، وصيام النهار، والجمع بين ذلك وبين العلم صعب، ثم يرى ترك الدنيا، ويحتاج إلى ما لابد منه، ويحب الإيثار، ولا يقدر على البخل، ويتقاضاه الكرمُ البذلَ، وتمنعه عزة النفس من الكسب من وجوه التبذل، فإن هو جرى على طبعه من الكرم احتاج وافتقر، وتأثر بدنه وعائلته، وإن أمسك فطبعه يأبى ذلك، ولكن تعب عالي الهمة راحة في المعنى، وراحة قصير الهمة تعب وشين إن كان ثمة فهم، ومصداقه في قول عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر: أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي فنفسي لا تطاوعني ببخل ومالي لا يبلغني فعالي وقيل لـ ربيع بن خثيم لاجتهاده في العبادة: لو أرحت نفسك؟ فقال: راحتها أريد.
ربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سببًا ما مثله سبب، يعني: أن هذا الشيء المكروه قد يكون هو أعظم سبب يوصله إلى المحبوب.
وقال أحمد بن داود أبو سعيد الواسطي: دخلت على أحمد الحبس قبل الضرب، فقلت له في بعض كلامي: يا أبا عبد الله! عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور؛ كأني أسهل عليه الإجابة، فقال لي أحمد بن حنبل: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد! فقد استرحت.
لكن هل هذه الراحة ممدوحة؟
الجواب
لا، بل الهمل أو السفل من الناس.
وتأملوا هذه العبارة من الإمام أحمد؛ حيث يقول: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد! فقد استرحت.
يعني: كراحة هؤلاء الذين سفلت همتهم.
وقد قيل للإمام أحمد: متى يجد العبد طعم الراحة؟ فقال: عند أول قدم في الجنة.
ويقول الشاعر: أحزان قلبي لا تزول حتى أبشر بالقبول وأرى كتابي باليمين وتسر عيني بالرسول ﷺ.
وقال الأمير شمس المعالي قابوس: اقتناء المناقب باحتمال المتاعب، وإحراز الذكر الجميل بالسعي في الخطب الجليل.
وعالي الهمة لا يعرف التوسط، يعني: إما يصل إلى غايته، وإما أن يموت، كما يقول الشاعر: ونحن أناس لا توسط عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر تهون علينا في المعالي نفوسنا ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر وأحدهم لما عوتب لشدة اجتهاده قال لمن عاتبه: إن الدنيا كانت ولم أكن فيها، وستكون ولا أكون فيها، ولا أحب أن أغبن أيامي.
يقول الشاعر: انفضوا النوم وهبوا للعلا فالعلا وقف على من لم ينم فالصلاة خير من النوم، والتجلد خير من التبلد، والمنية خير من الدنية، ومن عز بز.
فثب وثبة فيها المنايا أو المنى فكل محب للحياة ذليل فترى عالي الهمة منطلقًا بثقة وقوة وإقدام نحو غايته التي حددها على بصيرة وعلم، فيقتحم الأهوال، ويستهين بالصعاب، قال عمرو بن العاص ﵁: (عليكم بكل أمر مزلقة مهلكة)، يعني: لا تلقي نفسك بنفسك، ولكن عليك بجسام الأمور دون سفاسفها، وعليكم بالمخاطرة والجرأة والإقدام.
وقال أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه: (من طلب عظيمًا خاطر بعظيمته)، يعني: بروحه.
وقال كعب بن زهير: وليس لمن لم يركب الهول بغية وليس لرحل حطه الله حامل وقال آخر: ذريني أنل ما لا ينال من العلى فصعب العلى في الصعب والسهل في السهل تريدين إدراك المعالي رخيصة ولابد دون الشهد من إبر النحل وقال الشريف الرضي: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل أبدًا يمانع عاشقًا معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل ضجرًا دواء الفارك التطليق والفرك هو بغض أحد الزوجين للآخر، وفي الحديث: (لا يفرك مؤمن مؤمنة؛ إن كره منها خلقًا رضي منها آخر).
فهنا يقول: (رمت المعالي فامتنعن)، يعني: امتنعنت علي؛ لأنه عشق المعالي فامتنعت منه فظل يصارعها ويطلبها، كدأب العاشق والمعشوق.
وقوله: (ولم أقل ضجرًا: دواء الفارك التطليق)، أي: لم أقل: إن الذي يفرك يضرب زوجته ويطلقها، ولم أطلق المعالي، لكنني صبرت حتى نلتها.
وعالي الهمة دائم الترحال في طلب مبتغاه حيث لاح له، كما قال الشاعر: همم تقاذفت الخطوب بها فهرعن من بلد إلى بلد ويقول آخر: إذا لم أجد في بلدة ما أريده فعندي لأخرى عزمة وركاب وقال: مالك بن الريب: وفي الأرض عن دار المذلة مذهب وكل بلاد أوطنت كبلادي
1 / 14
قوة عزيمة عالي الهمة وبذله وتضحيته
وعالي الهمة لا يزال يطير إلى المعالي بجناح الهمة، لا يلوي على شيء، ولا يستفزه لوم اللائمين، ولا تخبيط القاعدين، يعني: أن من خصائص عالي الهمة أنه مع تفرده في الطريق، والوحشة التي هو فيها لا يقوى أحد أبدًا على أن ينقص من عزيمته، كما قال الشاعر: سبقت العالمين إلى المعالي بصائب فكرة وعلو همة ولاح بحكمتي نور الهدى في ليالي الضلالة مدلهمة يريد الجاهلون ليطفئوه ويأبى الله إلا أن يتمه وقال الشماخ بن ضرار يمدح عرابة الأوسي: رأيت عرابة الأوسي يسمو إلى الخيرات منقطع القرين إذا ما راية رفعت لنجد تلقاها عرابة باليمين وقال أبو القاسم السعدي: أعاذلتي على إتعاب نفسي ورعيي في الدجى روض السهاد إذا شام الفتى برق المعالي فأهون فائت طيب الرقاد ومن أراد الجنة سلعة الله الغالية لن يلتفت إلى فلوم لائم، ولا عذل عاذل، ومضى يكدح في السعي لها، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء:١٩].
وقال ﷺ: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل؛ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة).
والسلعة الغالية لابد أن تدفع لها ثمنًا غاليًا.
وقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، فمن الذي يشتري أرواح المؤمنين؟ ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة:١١١]، فقدر السلعة يعرف بقدر مشتريها، ويعرف أيضًا بقدر الثمن المبذول فيها، والمنادي عليها، فإذا كان المشتري عظيمًا والثمن خطيرًا والمنادي جليلًا كانت السلعة نفيسة، قال ﷿: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ [التوبة:١١١].
يقول الشاعر: أنت يا مفتون ما تبرح في بحر المنام فدع السهو وبادر مثل فعل المستهام واسكب الدمع على ما أسلفته وابك لا تلو على عذل الملام أيها اللائم دعني لست أفضي للملام إنني أطلب ملكًا نيله صعب المرام في جنان الخلد والفر دوس في دار السلام وعروسًا فاقت الشم س مع بدر التمام طرفها يشرق بالخ ط مضيًا بالسهام ولها قضو على خ د كنون تحت لام أحسن الأتراب قدًا في اعتدال وقوام مهرها من قام ليلًا وهو يبكي في الظلام وقد لا يتسنى له إدراك بغيته مع علو همته وشدة سعيه، لكنه يقول: عليَّ أن أسعى وليس عليّ إدراك النجاح فقد لا يتسنى للمرء إدراك بغيته وتحقيق غايته؛ لأمور خارجة عن إرادته، فلا يفعل ذلك من عزيمته، ولا يحط من همته، بل يعزي نفسه أنه أدى ما عليه، وأعذر إلى نفسه، ومبلغ نفس عذرها مثل منجح.
يقول الطائي: وركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها والليل تسطو غياهبه لأمر عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم عواقبه وقال آخر: سأضرب في طول البلاد وعرضها أنال مرادي أو أموت غريبا فإن تلفت نفسي فلله درها وإن سلمت كان الرجوع قريبا ويقول آخر: عجبت لهم قالوا تماديت في المنى وفي المثل العليا وفي المرتقى الصعب فأقصر ولا تجهد يراعك إنما ستبذر حبًا في ثرى ليس بالخصب فقلت لهم مهلًا فما اليأس شيمتي سأبذر حبي والثمار من الرب إذا أنا أبلغت الرسالة جاهدًا ولم أجد السمع المجيب فما ذنبي يعني: مادمت أنا لم أقصر في إقامة الحجة على الخلق، وهم لم يستجيبوا، فما ذنبي أنا؟ فالداعية عالي الهمة يتمثل دائمًا قول الصالحين قبله: معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون، فإذا لم تتحقق كل غاياتهم فحسبهم أنهم كانوا كما قال سيد قطب رحمه الله تعالى: كانوا أجراء عند الله، أينما وحيثما وكيفما أرادهم أن يعملوا عملوا، وقبضوا الأجر المعلوم.
فأنت أجير تعمل وتقبض الأجر من الله ﷾، وليس لهم ولا عليهم أن تتجه الدعوة إلى أي مصير؛ فذلك شأن صاحب الأمر لا شأن الأجير.
وحسبهم أن النبي قد يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان والثلاثة، وقد يأتي نبي وليس معه أحد؛ لأنه لم يستجب له أحد، وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ﴾ [الشورى:٤٨]، وقال تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ﴾ [البقرة:٢٧٢].
والله أعلم.
1 / 15
علو الهمة [٢]
لعالي الهمة خصائص يعرف بها، كما أن لخسيس الهمة صفات يوصف بها، فعالي الهمة روحه في العلياء وجسده في الأرض، بينما خسيس الهمة روحه في السفل والدنو، لذا ينبغي على المسلم أن يعرف خصائص عالي الهمة حتى يقتدي بها؛ ليكون إنسانًا مؤثرًا في مجتمعه وبيئته، فإن أصحاب الهمة العالية يغيرون مجرى التاريخ ومسار حياة الناس بإذن الله ﷿.
2 / 1
عالي الهمة لا ينقض عزمه ولا يتردد
كنا قد شرعنا في مدارسة هذا البحث المتعلق بعلو الهمة، وذكرنا ماهية الهمة، وذكرنا أن الهمة مولودة مع الآدمي، وقلنا: إنه لابد للسالك إلى الله ﷾ من همة تسيره وترقيه، وعلم يبصره ويهديه، وذكرنا أقسام الناس من حيث القوتان: العلمية والعملية، فهناك قوة علمية وقوة عملية، أو علم وإرادة أو علم وهمة، فبعض الناس يجتمع له الأمران: قوة علمية وقوة عملية، وبعض الناس ينعدم فيه الأمران؛ فلا علم ولا إرادة، وبعضهم يوجد عنده الإرادة دون العلم، وبعضهم يوجد عنده العلم دون الإرادة.
وذكرنا أن الهمة وظيفة قلبية محلها القلب، ومن ثم لا سلطان لأحد على الهمة حتى ولو كان له سلطان على الجسد؛ لأن الهمة عمل القلب والقلب لا سلطان عليه إلا لله ﷾، وقلنا: إن قوة المؤمن كامنة في قلبه وإن القلب يحيا بالعلم والهمة، وناقشنا لماذا يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير، وتكلمنا عن تفاوت الهمم حتى بين الحيوانات، وكيف يتفاضل الناس بتفاوت هممهم، وذكرنا أن عالي الهمة بقدر ما يتعنى ينال ما يتمنى.
ومن خصائص عالي الهمة أنه لا ينقض عزمه، قال ﷿: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آل عمران:١٥٩]، فهو لا يعرف التردد، بل متى ما حدد غايته يمضي إليها ولا يلوي على شيء، ولا يلتفت إلى لوم اللائمين ولا عذل العاذلين، وهذا هو الأدب الذي أدب الله ﷾ به نبيه ﷺ بقوله: «فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ»، وامتدح الله ﷾ الصالحين بقوله: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ﴾ [الرعد:٢٠]، وقال تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب:٢٣].
ولما أشار بعض الصحابة على رسول الله ﷺ قبل غزوة أحد بالخروج إلى المشركين ومقاتلتهم خارج المدينة، نزل ﷺ على رأيهم، مع أنه كان يرى خلاف ذلك، لكنه نزل على رأيهم وأخذ بمشورتهم، وبعد أن صلى النبي ﷺ بالمسلمين دخل إلى منزله فتدجج بسلاحه وظاهر بين درعيه ثم خرج على قومه بكامل عدته الحربية، وأذن فيهم بالخروج إلى العدو، وكان ذوو الرأي من الأنصار أو هؤلاء الذين أشاروا قد ندموا حين شعروا أنهم قد استكرهوا رسول الله ﷺ على اتباع خطة معينة لمقاتلة العدو كان هو يفضل غيرها، فندموا على ما أشاروا به وأنهم خالفوا مشورته، وقالوا: ما كان لنا أن نخالفك ولا نستكرهك على الخروج فاصنع ما شئت، وامكث داخل المدينة كما أمرتنا، فلم يرض أن ينقض همته؛ لأنه عزم ومضى وحدد فلا يتردد، وقال لهم مصممًا على الخروج: (ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين وبين عدوه)، يعني: لا ينبغي لنبي إذا لبس كامل سلاحه الذي يخرج فيه للقتال أن يضعه، بل مادام قد عزم فلا يتردد، ولا ينقض ما هم به وما عزم عليه.
وبعد وفاة النبي ﷺ أرسلت الأنصار عمر إلى أبي بكر ليحبس الجيش أو ليولي عليهم رجلًا أقدم سنًا من أسامة، حيث كان النبي ﷺ قد هيأ أسامة للخروج لمحاربة الروم، وكان أسامة حديث السن جدًا في ذلك الوقت، فالأنصار بعد وفاة النبي ﷺ أرسلت عمر إلى أبي بكر أنه إما أن يحبس الجيش ولا يرسله وإما أن يغير الأمير ويعين شخصًا أكبر سنًا من أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنهما.
فقال أبو بكر: (والله! لو علمت أن السباع تجر برجلي إن لم أرده ما رددته، ولا حللت لواءً عقده رسول الله ﷺ، فقال عمر: إن الأنصار أمروني أن أبلغك وهم يطلبون إليَّ أن تولي أمرهم رجلًا أقدم سنًا من أسامة، فوثب أبو بكر وكان جالسًا، فأخذ بلحية عمر فقال: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله ﷺ وتأمرني أن أنزعه؟!) يعني: هل أنقض أنا أمرًا عزم عليه الرسول ﵊؟ فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: (ما صنعت؟ فقال: امضوا ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله).
وحين جاءه عمر في حروب الردة يقول له: (تألف الناس وارفق بهم.
فقال أبو بكر: رجوت نصرتك وجئتني بخذلانك! أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوينقص الدين وأنا حي؟! قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق).
والشاهد من الواقعتين: أن أبا بكر ﵁ الذي هو أفضل البشر بعد الأنبياء، تعلم هذا الأدب من رسول الله ﷺ، فإذا مضى وعزم لا يتردد ولا يشتت همته ولا ينقض عزمه.
قال جعفر الخلدي البغدادي: ما عقدت لله على نفسي عقدًا فنكثته.
فإذًا: الشخص الذي تعلو همته وتكبر همته إذا حدد غايته ومنهاجه في الحياة فإنه لا يتردد فيه ولا يتلعثم ولا ينقض العزم الذي عزم عليه، فإذا نوى التوبة يستقيم على التوبة، وإذا نوى الإقلاع عن فعل معين وعاهد الله على ذلك يوفي بعهده ولا ينقض هذا الميثاق.
وقال صالح بن أحمد: عزم أبي -أي: الإمام أحمد - على الخروج إلى مكة ورافق يحيى بن معين، فقال أبي: نحج ونمضي إلى صنعاء إلى الإمام عبد الرزاق، يعني: بعدما يحجان يسافران إلى اليمن ليلقيا الإمام عبد الرزاق الصنعاني حتى يحدثهم حديث رسول الله ﷺ، قال: فمضينا حتى دخلنا مكة، فإذا عبد الرزاق في الطواف، يعني: أنهما خرجا على أساس أنهما بعد الحج يذهبان إلى اليمن، ففوجئا بالإمام عبد الرزاق بن همام الصنعاني في الطواف، وكان يحيى يعرفه، فطفنا ثم جئنا إلى عبد الرزاق فسلم عليه يحيى وقال: هذا أخوك أحمد بن حنبل فقال: حياه الله، إنه ليبلغني عنه كل ما أسر به ثبته الله على ذلك، ثم قام لينصرف، فقال يحيى: ألا نأخذ عليه الموعد، يعني: نأخذ عليه موعدًا في مكة كي يحدثنا بدلًا من أن نسافر إلى اليمن، فأبى أحمد وقال: لم أغير النية في رحلتي إليه.
فأبى الإمام أحمد أن ينقض عزمه أو أن يهدم نيته السابقة في السفر إلى اليمن في طلب العلم، ولذا قال له: لم أغير النية في رحلتي إليه، أو كما قال، ثم سافر إلى اليمن لأجله، وسمع منه الكتب وأكثر عنه.
وقال الحافظ أبو إسحاق الحبال: كنت يومًا عند أبي نصر السجزي فدُق الباب فقمت ففتحته، فدخلت امرأة وأخرجت كيسًا فيه ألف دينار فوضعته بين يدي الشيخ، وقالت: أنفقها كما ترى.
يعني: أنفق هذا المال كما ترى، قال: ما المقصود؟ يعني: ماذا تقصدين بهذا؟ قالت: تتزوجني، ولا حاجة لي في الزواج، ولكن لأخدمك، يعني: أنها كانت امرأة صالحة تريد أن تتقرب إلى الله ﷾ بأن تخدمه؛ لتعينه على ما هو فيه من نشر العلم، فأمرها بأخذ الكيس وأن تنصرف، فلما انصرفت قال الإمام: خرجت من سجستان بنية طلب العلم، ومتى تزوجت سقط عني هذا الاسم، وما أوثر على ثواب طلب العلم شيئًا، يعني: أنه لم يخرج بنية الزواج ولا غيره، فهو لا يريد أن ينقض نيته في الخروج إلى طلب العلم بأي أمر آخر.
ومن ذلك أيضًا ما يذكره بعض القصاص من أن رجلًا خطب امرأة ذات منصب وجمال فأبت الزواج به لفقره ولقلة حسبه، وقالت له: أنت فقير وما تصلح، ففكر بأي الأمرين ينالها أبالمال أم بالحسب، فاختار الحسب، يعني: أنها أخذت عليه أنه فقير وأنه ليس ذا حسب، فقال: أعالج عندي هاتين الصفتين فإما أن أنال الحسب أو أنال المال، فاختار أن ينال الحسب، فطلب العلم من أجل أن يكون له شهرة وصيت ويكون له حسب وشهرة بالعلم، ومعنى هذا: أنه كان يقصد من طلب العلم التأهل لزواج هذه المرأة، فطلب العلم حتى أصبح ذا مكانة، وحينئذٍ بعثت إليه المرأة تعرض نفسها، فقال: لا أوثر على العلم شيئًا، يعني: أنه لما طلب العلم أرشده إلى تصحيح النية وإلى الأعمال الصالحة فدخل في عداد قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر:٢٨]، فتورع بترك امرأة كان طلب العلم لأجلها إعلانًا بصدق قصده وسلامة مأربه.
فمن كل هذا نخلص إلى أن الإنسان إذا اختار له طريقًا فلا يتردد ولا ينقض عزمه ولا همته ولا نيته.
2 / 2
ندامة عالي الهمة
من خصائص الإنسان الكبير الهمة أنه ليس كالناس أو ليس كسائر الناس فيما هم فيه في كل أحواله حتى في ندمه، فننظر الآن علامَ يندم كبير الهمة؟ وما هي الأشياء التي تجعل كبير الهمة يندم؟ فكبير الهمة كائن متميز في كل خصائصه حتى في ندمه، فبينما يندم خسيس الهمة لفوات لذاته، أو يتحسر لفراق شهواته فإن لكبير الهمة شأنًا آخر حتى وهو يندم، كما تنبئ عنه المواقف التالية: فهو يتحسر على ساعة مرت به في الدنيا، لا لأنه عصى الله فيها وإنما لأنه لم يعمرها بذكر الله ﷿.
هذا أول شيء من الأشياء التي يتحسر عليها كبير الهمة إذ لا يندم على ذهاب شيء من أعراض الدنيا، وإنما يندم أكثر ما يندم على ساعة مرت به لم يذكر فيها الله ﷿، قال رسول الله ﷺ: (ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله ﷿ فيها) هذا هو الشيء الوحيد الذي يتندمون عليه، مع أن الجنة لا نصب فيها ولا حسرة ولا ندم ما عدا على هذه فقط، فأهل الجنة فقط يذوقون الحسرة على ساعة مرت بهم في الدنيا لم يذكروا فيها الله ﷿.
كان عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يصلي على الجنازة ثم ينصرف، فلما بلغه قول رسول الله ﷺ: (من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا حتى يصلى عليها فله قيراط، ومن شهدها حتى تدفن، وفي رواية: حتى يفرغ منها، فله قيراطان من الأجر.
قيل: يا رسول الله! وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين، وفي رواية قال: كل قيراط مثل أحد)، وكان ابن عمر قد أخذ قبضة من حصى المسجد يقلبها في يده وهو جالس فلما بلغه أن رسول الله ﷺ قال هذا الحديث ضرب بالحصى الذي كان في يده الأرض تعبيرًا عن الندم ثم قال: (لقد فرطنا في قراريط كثيرة)، فندم على ما مضى حيث إنه كان أحيانًا إما أنه لا يحضر الجنازة وإما أنه يحضر فقط ولا يبقى حتى تدفن فحرم من هذه القراريط.
وهذا سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه يتحسر لموته على فراشه، فقد قال لما حضرته الوفاة: (لقد شهدت كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي موضع إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح أو رمية سهم، ثم هأناذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء).
فتصور كيف يندم على أنه طلب الشهادة في كل مظانها وخاض الحروب والجهاد في سبيل الله رجاء أن ينال الشهادة في سبيل الله ولكن الله ﷾ كتب له أن يموت على فراشه، فهو يندم على ذلك ويشبه موته بموت البعير الذي يموت حتف أنفه، ثم يقول: (فلا نامت أعين الجبناء) يعني: أنه يدعو على الجبناء الذين يخافون أن يخرجوا للجهاد خشية الموت، فيقول: إنني خضت كل هذه المعارك ومع هذا لا أموت إلا على فراشي.
وكان أبو محجن الثقفي مولعًا بالشراب مشتهرًا به، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قد حبسه بسبب شربه الخمر، فلما كان يوم القادسية وبلغه ما يفعل المشركون بالمسلمين وهو عند أم ولد لـ سعد، قال هذا الشعر: كفى حزنًا أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدودًا علي وثاقيا أي: أنه يندم على أنه كان متخلفًا عن الجهاد والمسلمون يلاقون عدوهم في القادسية، ولذا قال: كفى حزنًا أن تطعن الخيل بالقنا وأترك مشدودًا علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مغاليق من دوني تصم المناديا وقد كنت ذا أهل كثير وإخوة فقد تركوني واحدًا لا أخا ليا أريني سلاحي لا أبا لك إنني أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا فقالت له أم ولد سعد، وكانت تقريبًا هي القائمة على حراسته، قالت له: أتجعل لي إن أطلقتك أن ترجع حتى أعيدك في الوثاق؟ أي: تعدني أني إذا أطلقتك الآن وأخرجتك كي تشارك في الجهاد تذهب فإذا فرغت من الجهاد تعود إلى القيد ثانية وإلى الحبس، فقال: نعم.
فانظر كيف حرصه على الجهاد، عاهدها على أنه إذا فرغ من الجهاد يعود للمحبس كما كان، فأطلقته، وركب فرسًا لـ سعد بلقاء من خيول سعد الخاصة، وحمل على المشركين، فجعل سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه يراه وهو يقاتل فيقول: لولا أن أبا محجن في الوثاق لظننت أنه أبو محجن وأنها فرسي، وانكشف المشركون -أي: انهزموا- وجاء أبو محجن بعد أن فرغ من الجهاد فأعادته في الوثاق وأتت سعدًا فأخبرته بما كان من أبي محجن، فأرسل سعد إلى أبي محجن فأطلقه وقال: (والله! لا حبستك فيها أبدًا) يعني: مكافأة له على جهاده وحسن بلائه، فقال أبو محجن: (وأنا والله! لا أشربها بعد اليوم أبدًا).
وعن قتادة أن عامر بن قيس لما أتاه الموت جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي جزعًا من الموت ولا حرصًا على الدنيا، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر وعلى قيام ليالي الشتاء، أي: أنه ندم على أنه سيفارق الدنيا ولم يتمكن لا من صيام الأيام الحارة ولا من قيام الليالي الباردة في الشتاء، فهذا هو الذي يندم عليه كبير الهمة.
وذكروا لـ شعبة حديثًا لم يسمعه فجعل يقول: واحزناه! واحزناه! ويتحسر على أنه لم يسمع هذا الحديث.
وكان شعبة ﵀ يقول: إني لأذكر الحديث فيفوتني فأمرض.
يعني: أنه كان يحاول أن يتذكر الحديث فلا يقوى على استرجاعه، فيصيبه المرض حزنًا على أن هذا الحديث قد فاته.
يقول الشاعر: كم فرصة ذهبت فعادت غصة تشجي بطول تلهف وتندم وقال القاسم بن سلام: دخلت البصرة لأسمع من حماد بن زيد فإذا هو ميت -يعني: وجده قد مات- فشكوت ذلك إلى ابن مهدي فقال لي: مهما سبقت فلا تسبقن بتقوى الله.
قال هذا يواسيه ويعزيه: مهما سبقت وفاتك من العلم أو من الحديث فمازال باب التقوى والعبادة مفتوحًا فلا يسبقك أحد في طاعة الله ﷾.
ولما حج أبو بكر السمعاني والسلفي ظفرا بـ أبي مكتوم عيسى بن أبي ذر فتهاونا في أن يسمعا عليه الأحاديث، فسارع في النفر الأول، يعني: تعجل في يومين وذلك بأن نفر من الحج في ثالث أيام التشريق ورجع إلى موطنه سراة بني شيبان وفاتهما، فحزن تاج الإسلام أبو بكر فأخذ السلفي يسليه على شدة ندمه لما فاتهما ويقول: ما كان معه سوى صحيح البخاري وأنت في إسناده مثله.
واقتنى الشيخ جمال الدين بن القفطي نسخة جميلة من كتاب الأنساب للسمعاني حررت بيد المؤلف، إلا أن فيها نقصًا، وبعد العناء الطويل حصل على الأوراق الناقصة من النسخة إلا على أوراق بلغه أن قلانسيًا قد استعملها في شغله، يعني: أن رجلًا كان يصنع القلانس جعلها قوالب للقلانس فضاعت، فتأسف غاية الأسف على هذا الضياع، وكيف أن هذه الأوراق ضاعت بهذه الطريقة، وندم ندمًا شديدًا حتى كاد يمرض وامتنع أيامًا عن الخروج إلى الأمير في قصره، وصار عدة من الأفاضل والأعيان يزورونه تعزية له وكأنه قد مات أحد أقاربه المحبوبين من شدة تألمه لفوات هذه الأوراق.
فمن صفات عالي الهمة أنه لا يندم على أي شيء ولا يبالي بما فاته من الدنيا، وإنما يحزن مثل هذا الحزن إذا فاته شيء من مقاصد الآخرة.
2 / 3
تحري عالي الهمة للفضائل ومعالي الأمور
كبير الهمة هو الشخص الذي يتحرى الفضائل ومعالي الأمور على الإطلاق لا للذة ولا لثروة ولا لاستشعار نخوة ولا لغرض الاستعلاء على البرية وعلى خلق الله، لكنه يتحرى مصالح العباد شاكرًا بذلك نعمة الله وطالبًا به مرضاته غير مكترث بقلة مصاحبيه، فإنه إذا عظم المطلوب قل المساعد، وطرق العلى قليلة الإيناس، فإذا عظم المطلوب وكان الهدف والغاية عالية وشريفة كلما قل من يساعدك ويستمر معك في المسير إليه، فلذلك طرق العلى قليلة الإيناس، يعني: أنها تكون موحشة لقلة السالكين.
يقول الشاعر: أهم بشيء والليالي كأنها تطاردني عن كونها وأطارد فريد عن الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد عن ابن جدعان قال: (سمع عمر رجلًا يقول: اللهم اجعلني من الأقلين.
فقال: يا عبد الله! وما الأقلون؟ قال: سمعت الله يقول: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود:٤٠]، ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ [سبأ:١٣]، وذكر آيات أخر، فقال عمر: كل أحد أفقه من عمر).
وقال سفيان بن عيينة: اسلكوا سبل الحق ولا تستوحشوا من قلة أهلها.
وقال الفضيل بن عياض ﵀: الزم طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين.
وقال سليمان الداراني: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، أي: لو كل من على ظهر الأرض شكوا في الحق ولم يؤمنوا به أو لم يعملوا له ما شككت فيه وحدي، ولبثت أنا وحدي على هذا الحق.
وقال بعض الصالحين: انفرادك في طريق طلبك دليل على صدق الطلب.
فعالي الهمة يترقى في مدارج الكمال بحيث يصير لا يأبه بقلة السالكين ووحشة الطريق؛ لأنه يحصل مع كل مرتبة يرتقي إليها من الأنس بالله ما يزيل هذه الوحشة، وإلا انقطع به السبيل.
والسالك إلى الله ﷾ كلما ارتفع درجة يحصل له أمران: الأمر الأول: أنه يشعر بالمزيد من الوحشة؛ لأن رواد الطريق يقلون؛ فكلما كان الهدف أقرب والهمة أعلى والهدف أسمى يقل الناس؛ لأن الناس معظمهم يشتغلون بسفاسف الأمور وبالدنيا، أما هو فكلما ارتقى في مطلبه كلما وجد وحشة، ولكن هذه الوحشة تزول؛ لأنه كلما ترقى في الإيمان كلما يناله من الأنس بالله ما يلاشي هذه الوحشة.
ويوضح هذا معرفة مراتب الدين الثلاثة، كما جاء في حديث جبريل حينما سأل الرسول ﷺ عن الإسلام والإيمان والإحسان، فالإسلام أخص من الإيمان من حيث المعنى، لكنه أعم من حيث الأفراد، والإيمان أخص من الإحسان من حيث المعنى لكنه أعم من حيث المعنى، بمعنى أن كل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم، ولكن ليس كل مسلم مؤمنًا ولا كل مؤمن محسنًا.
فهذه المراتب درجات ودرجات، وكلما ارتفع السالك درجة شعر بقلة في السالكين، فإذا لم يكن قد حصل مع ارتفاع كل درجة من الأنس بالله بقدر شعوره بقلة السالكين في هذه الدرجة فإنه يستولي عليه الشعور بالوحشة، فأحسن أحواله حينئذٍ أن ينقطع عن الرقي أو يمله، وهو بذلك مغبون، وإما أن يعود القهقرى، لكن إذا لم ييأس وعاود السير فإنه يربح فلا يخسر أبدًا، فإن أول ثمرات العزة الإيمانية التي يحسها بها المؤمن إدراكه ما في الإسلام من قوة الحقيقة التي يكفي لكي تعلن عن نفسها أن تتمثل في فرد واحد، فإن الحق لا يعرف بكثرة العدد كما قال الشاعر: تعيرنا أنا قليل عديدنا فقلت لها: إن الكرام قليل وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل فالكثرة هنا في ميزان الحق لا قيمة لها ولا وزن لها، فحقيقة الإسلام حقيقة عظمى في هذا الوجود يكفي كي تعلن عن نفسها بصورة صادقة أن تتمثل ولو في شخص واحد فقط، يقول تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل:١٢٠] فيكفي لهذه الحقيقة القوية أن تعلن عن نفسها حتى في شخص وفي فرد واحد، وليست مثل الآراء الجاهلية المخالفة المكونة من زيف الباطل واحتياجها إلى سواد كثير وعدد كبير من الأفراد، فإننا نجد في المناهج الباطلة المعادية للإسلام العدد الكبير والصوت العالي والضجيج وتكاتف عدد كبير جدًا من الأفراد والهيئات وغير ذلك، وأي شخص ساذج يأسره هذا المنظر وهذا البهاء وهذا الصدى العالي، تأسره الكثرة وتأسره البهرجة وهذه الأشياء فيغتر وينطلي زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، فهذه المظهرية هي مقياس الحق والباطل عندهم، فمن كان معه القوة والعدد الأكثر والصوت العالي فهو المحق عندهم، ومن ثم نجد كثيرًا من المنهزمين من أبناء المسلمين الآن ينبهرون تمامًا بما عليه الكفار في الغرب أو في الشرق بما يسمونه بحضارة وعمران وتقدم وكذا وكذا، بل قد لا يكتفي بالانبهار بما تفوقوا فيه من الحضارة المادية، وإنما قد ينتكس في إيمانه وفي دينه فينظر إليهم على أنهم أهدى من الذين آمنوا سبيلًا، وأن كل شيء عند هؤلاء القوم ينبغي أن نأخذه وأن نتبعهم فيه دون تمحيص، فهو غره هذا البهرج وهذا الزخرف وهذه المناظر، وانطلى زيف الباطل عليه دون أن يدرك ما هم فيه من الضلال، لكن الحق لا يحتاج إلى هذا، فممكن أن شخصًا واحدًا يتمثل فيه الحق بصورة كاملة وحقيقية، فمن هنا رأينا الأمة الإسلامية تمثلت أكثر من مرة بمؤمن واحد فقط، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ [النحل:١٢٠].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أي: كان مؤمنًا وحده وكان الناس كفارًا جميعًا.
وفي صحيح البخاري أنه عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قال لزوجته سارة: (يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك).
ثم تمثلت هذه الدعوة دعوة الإسلام أيضًا برسول الله ﷺ وحده، حيث كان هو الوحيد على وجه الأرض الذي يتمثل فيه دعوة الحق كاملة في أولى مراحل هذه الدعوة.
فعن أنس ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: (لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، وأخفت في الله وما يخاف أحد -يعني: أنه لم يكن ثم مسلم غيره- ولقد أتت علي ثلاثون من بين يوم وليلة وما لي ولـ بلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال).
فإذا كان المؤمن الحق كبير الهمة فإنه يتحدى العالم كله ويتحدى كل من على ظهر الأرض بإيمانه ولا يتزعزع، كما قال ذلك العالم الجليل: لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي، فمن ثم تبنى الأمم بهمم هؤلاء الرجال، فممكن أن أمة بكاملها ينقذها شخص واحد، وممكن أن أمة بكاملها مهما أصابها من التدهور والانحطاط يحيي دينها ودعوتها مجدد واحد كما أخبر النبي ﵌، لذلك إذا امتن الله على هذه الأمة بهؤلاء الأفراد الأفذاذ فإن الطريق يختصر جدًا وتصلح بصلاحهم أمم من الناس، فمن ثم ينسد باب شعور المؤمن بالغربة، فالمؤمن الحقيقي لا يعاني من هذه الغربة الإيمانية؛ لأنه يمثل الإيمان والحقيقة، ولذا يشعر بأن الناس جميعًا وهم في ضلالهم هم الغرباء التائهون، ولذلك لما توهم واهم فوصف عبد الوهاب عزام الشاعر الشهير بالغربة كان جوابه سريعًا حيث قال: قال لي صاحب: أراك غريبًا بين هذا الأنام دون خليل قلت: كلا بل الأنام غريب أنا في عالمي وهذي سبيلي يعني: لست أنا الغريب بل هم الغرباء حتى ولو كانوا كثرة؛ لأن الغربة الحقيقية هي الغربة عن الحق.
2 / 4
واقع الأمة الإسلامية في هذا العصر
وأما غربة الغرباء التي ذكرت في قول النبي ﵌: (طوبى للغرباء) فالمقصود بها: الغربة بالنسبة للواقع من حولهم؛ لأن الغريب هو الشخص الذي يعيش في بلد ليس له فيها أهل، أو أهله فيها قليلون، هذه هي الغربة، فقوله ﵊: (إن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود كما بدأ غريبًا) يعني: ندرة الحق في وسط أمواج الضلال، فهم نادرون وقلة بين غثاء ضال، أما في عالم الضمير والشعور فإن للمؤمن الفرد من إيمانه أنيسًا ورفيقًا وخليلًا يبعد هذا الشعور بالاغتراب في الناحية الوجدانية والقلبية ولا يجد الغربة، لكنه من حيث العدد هو غريب، لكن من حيث تمسكه واستيثاقه من الحق الذي بين جنبيه ليس غريبًا بل يأنس بالله ﷾.
والمسلمون الآن ليسوا آحادًا ولا عشرات ولا مئات حتى ولا آلافًا، بل المسلمون على وجه الأرض عدد كبير، بل كثير ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكنهم كغثاء السيل إلا ما رحم الله، ومع كثرتنا نحن ننهزم أمام الباطل ونتأثر بالحملات الملحدة على دين الله ﷾، ولو أننا حققنا هذا المعنى واستصحبنا هذه المفاهيم لما عانينا هذا العناء الذي نبالغ في الانفعال والتأثر به بصورة لا تليق بنا، فبعض الإخوة ينزعجون من ذلك، وأذكر أن بعض الإخوة كانوا قد جاءوا إلي كل على حدة بمجموعة من الصفحات من جريدة الضرار ولسان حال الملاحدة جريدة روز اليوسف، كلها طعن وشتم في الإسلام صراحة، وطعن مباشر في دين الله وسخرية من الدين، فقلت لهم: ما بالكم تنشغلون بهذا الباطل؟ وهل نحن كلما جاء أحدهم يقول نكتة ويقول: أنا أتيت بلعبة فيها لحية لابني يلعب بها أو يسخر من المنقبات أو يطعن في شريعة الله نقوم ونرد عليه؟ فهذا ليس شغلنا، فلدينا ما هو أهم، والله ﷾ قال: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:١٩٩] وإن لم يكن هؤلاء هم الجاهلون فمن الجاهلون؟! فليس معقولًا أن كل من يلقي إلينا بصخرة نقف معه ونرد عليه ونناقش باطله، فأقوى ما يرد به على هؤلاء أن يعرض عنهم.
وقد سمعت أن هناك تمثيلية جديدة أيضًا كمسلسل العائلة من قبل فيها نفس الشيء من السخرية بالدين؛ وهذه هي أساليب الباطل، ويكفي أن الباطل يعلن عن نفسه بهذه الطريقة، فهذا هو أسلوبه وهذا هو منهجه وهذا هو ضعفه؛ لأن كل هذه تصرفات الضعفاء، فهم يتصرفون تصرفات الشتائم والقدح والقذف والألفاظ البذيئة والماجنة والكذب والتلفيق والدجل، فيكفي أن الباطل يفضح نفسه ويكشف سوآته بهذه الأساليب، فينبغي أن نتسامى عن أن ننزل إلى هذا المستوى، وليس كل واحد يعمل شيئًا نرد عليه؛ لأنهم لا يستحقون ذلك، كما قال رجل طيار مرة -طيار ليس مصريًا-: تعلمت في الطيران أنني إذا خرجت أطلب هدفًا معينًا فمهما حصل من المقاومة الأرضية لا أرد عليها؛ لأنه إذا كان أي واحد يلقي بقذيفة ينشغل بالرد عليه سيتخلف عن هدفه الأسمى الذي يقصده، فإذا حددت لك هدفًا: الدعوة، التربية، التعلم، العبادة، الجهاد، أي هدف من هذه المقاصد، فامض في طريقك ولا تتلفت إلى الصبية الصغار الذين يقذفونك بالحجارة، وإلا لأصبح الأمر كما قال الشاعر: لو كل كلب عوى ألقمته حجرًا لأصبح الصخر مثقالًا بدينار فالشاهد: أنه ينبغي ألا ننشغل بهؤلاء، فهؤلاء هم الذين قال فيهم: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [النجم:٢٩]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾ [طه:١٥ - ١٦]، وقال تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة:٢٢١]، وهؤلاء هم الذين وصفهم الرسول ﷺ بقوله: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها)، ويكفي أن هؤلاء الملاحدة، ملاحدة روز اليوسف، يأكلون على كل الموائد، فهم فيما مضى كانوا مع الاشتراكية ومع الشيوعية ويمشون مع أي مذهب، المهم أن تكون جبهة مضادة للإسلام، هذه هي رسالتهم في الحياة، فهم أحقر وأذل وأصغر من أن نتكلف الرد عليهم ونأتي بكلامهم البذيء ونتعقبه؛ لأن ذلك في الحقيقة إسفاف وهبوط إلى مستوى يليق بالباطل، أما الحق فلا يتنزل إلى هذا الانحطاط وهذا المستوى الدنيء، ولذا لا ينبغي أن نضيع وقتنا معه، ولنعرض عنهم كما قال ﷿: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف:١٩٩] فهؤلاء هم الجاهلون، وهؤلاء هم الذين قال الله فيهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ [المطففين:٢٩] فرب العزة ﷾ لما يصف قومًا بأنهم مجرمين ماذا تريد أنت بعد ذلك؟! وستصبح كل هذه الابتلاءات ذكريات، فالزمن يمضي ويمر والعمر يمضي سريعًا وينقضي كل ما على وجه الأرض، ثم يصبح كل شيء مجرد ذكرى، قال ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ * فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ [المطففين:٢٩ - ٣٦].
وقال ﵎: ﴿قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [المؤمنون:١٠٨ - ١١١]، وهذا بما صبروا فلابد من الصبر، قال ﷿: ﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كثيرًا﴾ [آل عمران:١٨٦] فمن عزم الأمور أن نصبر وأن نتقي، ومن الصبر ألا نضيع أوقاتنا في تتبع هذه الأشياء، وأنا أصلًا أسأل: لماذا الأخ يشتري مجلة روز اليوسف؟! هل هذه المجلة الملحدة الماجنة تدخل بيت مسلم؟! ألا تستحضر أنك ستسأل عن المال الذي تشتري به هذه المجلة وعن الصور القبيحة التي فيها؟! فيكفي الباطل أنه لا يحتاج إلى تعرية؛ لأنه عارٍ بادية سوآته، ولا يحتاج إلى من يسقطه أو يفضحه، فينبغي ألا ننشغل به وأن نمضي في طريقنا ولا نبالي بهذه المناهضة لدين الله ﷾.
2 / 5