أسرار البلاغة - ت محمود شاكر
الناشر
مطبعة المدني بالقاهرة
مكان النشر
دار المدني بجدة
تصانيف
فصل
اعلم أن الاستعارة كما علمت تعتمد التشبيهَ أبدًا، وقد قلت: إنّ طُرُقه تختلف، ووعدتُك الكلام فيه، وهذا الفصل يعطي بعضَ القول في ذلك بإذن الله تعالى، وأنا أريد أن أُدرِّجها من الضَّعف إلى القوة، وأبدأ في تنزيلها بالأدنى، ثم بما يزيد في الارتفاع، لأن التقسيم إذا أُريغَ في خارج من الأصل، فالواجب أن يُبدَأ بما كان أقلَّ خروجًا منه، وأدنى مدًى في مفارقته، وإذا كان الأمر كذلك، فالذي يستحِقُّ بحكم هذه الجملة أن يكون أوّلًا من ضروب الاستعارة، أن يُرَى معنى الكلمة المستعارة موجودًا في المستعار له من حيث عموم جنسه على الحقيقة، إلا أنّ لذلك الجنس خصائص ومراتبَ في الفضيلة والنقص والقوّة والضعف، فأنت تستعير لفظ الأفضل لما هو دونه، ومثاله استعارةُ الطيران لغير ذي الجناح، إذا أردت السرعة، وانقضاض الكواكب للفرس إذا أسرع في حركته من علوّ، والسباحة له إذا عدَا عدوًا كان حاله فيه شبيهًا بحالة السابح في الماء، ومعلومٌ أن الطيران والانقضاضَ والسباحةَ والعدوَ كلها جنس واحد من حيث الحركة على الإطلاق، إلا أنهم نظروا إلى خصائص الأجسام في حركتها، فأفردوا حركةَ كل نوع منها باسم، ثم إنهم إذا وجدوا في الشيء في بعض الأحوال شبهًا من حركةِ غير جنسه، استعاروا له العبارة من ذلك الجنس، فقالوا في غير ذي الجناح
1 / 55