لئن يكونوا قد أنشئوا المجلات، أو جمعوا الأموال، أو أشغلوا عاليات المناصب، أو تمتعوا بالشهرة الواسعة، فنحن في هذا أعلى منهم شأنا؛ ذلك لأننا نملك الأحلام التي تذهب الأماني، وتزين لنا المستقبل المجهول. إنشاء مجلة؟! ذلك أمر تافه. دع المتخرج الجديد يختلي بنفسه دقيقة واحدة فينشئ لك في لحظة مجلة تفوق المقتطف والهلال، ويجمع لها الاشتراكات في ثانية. الأموال أمر بسيط! حدثوا أيا منا نحن المطلين على الحياة عن مقادير الأموال التي سيفوز بها تسمعوا العجب العجاب من صناديق ملؤها الذهب الوهاج، وأوتوموبيلات للخدم والحشم والأتباع والأنصار وحدائق تجري من تحتها الأنهار، حتى إذا فرغ من وصف غناه وأدار يداه في جيبه لم يجد فيها من الأموال إلا «محرمة » ممزقة يمسح بها عرق جبينه.
أما عن فخم القصور والعروس التي لا تدانيها في جمالها الست بدور، فتلك أمور شرحها يطول. الأحلام هي التي تملأ رأس المتخرج الجديد، وهي التي تجعله في مقام أسمى من زميله القديم. الأحلام هي للواحد منا كتلك العصا لذلك الأعرابي الذي حين سئل عما في يده أجاب: هذه عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأعتمد عليها في مشيتي، أقرع بها الأبواب، وألقى بها عقور الكلاب، تنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف في مجالدة الأقران. ورثتها عن أبي، وسأورثها ابني من بعدي، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى!
على أن أحلام الخريج الجديد وإن تكن كعصا ذلك الأعرابي، فليست منيلته كل الغايات، فإن كلمة «الخريج» أو «المتخرج» قد اختلف الناس في تعريفها، والبعض يقول إن «الخريج» هو الذي «خرج» من عالم الدروس والتنقيب إلى عالم الكد والتجريب.
والبعض يقول إن المتخرج هو الذي أصبح يكسب المال ولم تعد جيبه «متخرجة»، غير أن أبلغ تحديد هو الذي جادت به قريحة خطيبنا شحادة أفندي شحادة؛ فقد حدده بقوله: الخريج هو من دفع خراجا سنويا لوقفية المتخرجين، فإذا آمنا بهذا التحديد، فنحن - بني بكر المتخرجين الجدد - خاسرون؛ إذ إن الأحلام لو دفعت لوقفية المتخرجين لحار سكرتيرها بما يفعل بها؛ لأنها لا تدخل تحت باب «من» ولا تحت باب «إلى».
يروى أن رجلا فاضلا من أتقياء الإسكندرية أخذ على نفسه أن يشيد معبدا، فكان يجمع الإحسانات من الناس، فالتقى ذات يوم فتى يسأل عن الطريق إلى حمام سنجاب. قال الرجل الفاضل أنا أدلك، ثم مشى وإياه، ولكن بدلا من أن يدله على حمام سنجاب اقتاده إلى بيته ثم قال: لا أدلك على الحمام ما لم تدفع إعانة لبناية معبد الإسكندرية، قال الفتى: فتش جيوبي، فليس فيها فلس، قال: هذا لا يعنيني، فما أنت بخارج من هذا المكان من غير أن تدفع الإعانة. فخاف الفتى فقال: حسنا، خذ طربوشي وارهنه، وخذ نصف قيمة رهنه إعانة للمعبد . فلما أن خرج الرجل من البيت ليرهن الطربوش خف الفتى إلى الصندوق؛ حيث أودعت الإعانات، فاحتملها وفر بها هاربا. رجع الرجل إلى البيت فما وجد الفتى ولا الإعانات، فأخذ يطوف المدينة صائحا:
يا من رأى رجلا قد كان يسألني
كيف السبيل إلى حمام سنجاب
فلما أعياه التطواف ولم يجبه أحد أطل فتى من شرفة منزله وصاح:
قل للذي أخذ الطربوش يرهنه
ما ضره لو يضع قفلا على الباب
صفحة غير معروفة