فإني قبل أن ألقي الخطاب أتحرى أبدا أن أزور المكان أو القاعة حيث دعيت إلى الكلام، فما أبقى غريبا ترعشني الرهبة في يوم الحفلة. وللمكان علاقة بالخطاب خفية لا أقدر أن أصفها، ولكنها موجودة.
وأجهد ألا أجلس على المنبر مواجها الجمهور قبل إلقاء الخطاب. هكذا يبقى في النظارة تشوق للمفاجأة الجسدية التي تمحى إذا ما استعرضوا الخطباء على المنبر قبل أن يتناوبوا الكلام.
وينبغي أن يحترم الفن المسرحي؛ فأنا بدين طويل، إذن فإني أبدا أحرص على أن يكون أمامي طاولة تحجب ضخامة جسدي حتى لا يشرف على الجمهور إلا الرأس والصدر، ولو أني قصير لرقيت ما يجعلني أطل على الجمهور فارعا.
وإن أكثر حفلاتنا تزدحم بالخطباء؛ فزملاؤك على المنبر يخلقون جوا يلائمك أو يزعجك. فإني قبل أن أقبل دعوة أبدا أتثبت من رفقائي من هم. وليس من رفيق أشد خطرا على الخطيب من الخطيب الشاعر ، فموسيقاه أبدا تطمس نثر الكلام، فاجهد ألا تعتلي منبرا عليه شاعر.
أما الموضوع الذي يجب أن تطرقه، فهنالك آفاق لا تحد. إنها تجارب الحياة، وصفو الدراسات، وخلجات القلب، ونداءات المجتمع، وكياسة المناسبات؛ كلها تفرض وتوحي.
وأما صياغة الكلام فيجب أن تتوافق مع المعاني وتتموسق مع الأنفاس. أنا قصير النفس، فعباراتي بحكم الطبع قصيرة. هذا ما لا ينتبه إليه الكثيرون؛ إذ هم يدبجون خطبهم، لا فرق بين تركيبها وبين صياغة مكتوب تعزية أو مقال في جريدة.
وأهم ما في صياغة الخطاب وضوحه وتبلور معانيه في كلمات نافذة؛ حتى ليفهمه كشاش الحمام، ويستهوي أساتذة الجامعة. ويجب أن يكون وحدة ليمسي رسالة. ومن المباح، بل من المستحب أن تلجأ إلى صناعة التجميل وحيل البيان، فلا بأس من سجعة بعد سجعة. ومن المحتم أن تشرئب اللغة بنهوض الفكرة، وتعصف الكلمات حين استثارة العاطفة. والترجيع - سر أكثر فنون الأدب - يجب استعماله في الخطابة، فإنما الخطابة هي أحد فروع المسرحية.
والإلقاء كيف يجب أن يكون؟ قراءة، أم بعد حفظ؟
يقول لي الأستاذ إنعام رعد - وهو، في رأيي، اليوم قيدوم الخطباء في لبنان: إنه إن دون خطابه أعياه إلقاؤه. فهو يرتجل أفصح مما يقرأ؛ لذلك أعتقد أنه من الصعب أن نطلق قاعدة تنطبق على كل الخطباء. وبعد، فالخطابة فن لا قدرة لنا على أن نقيده أو نقوننه. للنابغ - إنعام رعد مثلا - أن يقف على قدميه ويطلق لسانه بالفصيح والمقنع والطريف، ولكن سائرنا ما أعطوا هذه المواهب. والمعترف به أن أفعل أنواع الإلقاء هو ورقة تقرأ منها ولا تقرؤها. وأنت تقرأ منها إذا استظهرت بعضها لا كلها، فلا مفر من التمرن على الإلقاء طويلا قبل الصعود إلى المنبر. ولكن أن يتملك الخطيب كلماته ويسيطر عليها بحيث يبغبغها، فلا إجادة حينئذ في الإلقاء؛ إذ يصعب على الكلمات إن لم تفعل في نفس القائل أن تفعل في نفس السامع.
والنكتة؟
صفحة غير معروفة