لعل شغفي به كان من بعض أسبابه أنه شرد عن العادة الشرقية التي تعنكب من الوقار حجابا بين الابن والأب أو العم وابن أخيه. لقد كان عمي عشيري بعد أن شببت. أذكر يوم مررنا بعين زحلتا وجلسنا عند نبع الصفا فعرفني إلى فتاة في مثل عمري: الثامنة عشرة. وبعد أن أحكمت طربوشي ولمست شاربي، رحت أتحدث إلى الفتاة منفردين عن سائر الجمع. ونهض عمي أمين ونهضت بعد ساعتين، فلما ركبنا السيارة سألني: بماذا تحدثتما؟ أجبت بسذاجتي القروية: تحدثنا عن الصحافة. فضحك مؤنبا : «فتاة في الثامنة عشرة، والدنيا صيف، ونبع الصفا، وتحدثها عن الصحافة؟ اخس اخس.»
وعلى ذكر هاتين اللفظتين، فقد كان يبوح عن رأيه في الأدب بألفاظ ثلاثة يكررها، فهو إن قرأ مقالا أو قصيدة صاح: اخس اخس، أو كلام فارغ، أو الله الله! وكان أكثر ما يصيح «الله الله!» لكتابي كليلة ودمنة ومقدمة ابن خلدون في الأدب القديم، ولشعر صديقيه شوقي وخليل مطران، ونثر صديقه الآخر ولي الدين يكن في الأدب المعاصر.
وكان يحب اللغة العربية صافية لا توحل، عفوية لا تتصنع. ولا يطيق أن تتسرب إليها ركاكة. وفي ذات يوم فيما كنت أسطر رسالة إلى صديق قال لي: «اقرأ ما أنت تكتب.» فبدأت: عزيزي فلان، بعد السلام أطمنك عني. فقاطعتني صفعة من يد عمي وصرخة: «كم مرة قلت لك أطمنك عني غلط! قل أطمنك إلي. أكتب بالعربي أو فاكتب بالفرنجي، ولكن لا تكتب بالعربي الفرنجي.»
لم أعرف رجلا عشق وطنا مثلما أحب أمين تقي الدين لبنان، ما غالى ولا بالغ حين نظم الشعر فيه. ومن شعره قوله:
إذا قيل لبنان قل موطني
إلهي وصل له واسجد
لقد صلى للبنان وسجد وتغنى به، ولكن صلواته لم يتخللها شتائم تصوب لغير لبنان، ولا دعاية لبغضاء، ولا تجارة بالأحقاد.
لقد أحب الناس جميعهم؛ وضيعهم وسريهم، فتاهم وشيخهم. كان يحس بعاطفة البنوة نحو من تقدمه في العمر مثل إسكندر عمون، ومحمد الجسر، وبعاطفة الأبوة نحو من يصغره؛ مثل: إبراهيم طوقان، وإلياس أبي شبكة، وتوفيق وهبة، والدكتور جورج حداد. لا أعرف أحدا من الناس ظفر بأخوة الناس مثل أمين تقي الدين. لا أعرف شارعا في بيروت ولا حيا ليس له فيه صديق حميم. من بيت عمر بيهم في حرج بيروت إلى مكتب أولاد خليل عبد العال على المرفأ، ومن بيب حبيب ربيز في رأس بيروت إلى بيت فيليب الزهار على الجميزة. في كل حي، في كل شارع، صادق وأحب وآخى لغير سبب ذاتي أو منفعة، بل لأنه فطر على الصداقة والحب والإخاء.
غير أنه لم يكن من طبعه أن يقصر علاقاته وصداقاته على أصحاب الأسماء اللامعة، مثل ميشال زكور، وأسعد عقل، وأنطون الجميل، وموسى تمور، وفؤاد أرسلان، وخليل مطران، وجبرائيل نصار، بل كان من أقرب الناس إلى قلبه بعض البقالين والحوذيين والأكارين وباعة الجرائد. في سنة 1922 أو سنة 1923 رشح نفسه للنيابة، وكان الانتخاب على درجتين؛ إذ يقترع المندوبون الثانويون للنائب. واقترب يوم الانتخاب وعمنا لم يتحرك من مكانه. وأخيرا اقتنع بأنه من الضروري أن يطوف في الشوف داعيا لنفسه، فركبنا السيارة، ولما بلغنا صحراء الشويفات وقفنا هنيهة نتطلع إلى الزيتون تتطاير منه السمان، فنزلنا وقضينا النهار في الصيد. كل حملته الانتخابية كانت يوم صيد في الشويفات، في حين أنفق خصمه الإقطاعي 800 ليرة ذهبية.
وجاء يوم الانتخاب، وكان على الظافر أن ينال أكثرية 65 صوتا نال منها أمين تقي الدين 54. وغادرنا بعيدا وهو منفعل يبكي، فاستغربت هذا منه يقينا مني أنه كان لا ينتظر أكثر من عشرة أصوات، فلماذا الانفعال؟ سألته فراح يردد: مسكين بشارة، مسكين بشارة! ذلك أن صديقه الشاعر بشارة الخوري كان مرشحا للنيابة وفشل.
صفحة غير معروفة