رضاك عن الدنيا بما فعلت معي؟
ملكت عنان النصر ثم خذلتني
وحالي بمرأى من علاك ومسمع
فلم أتلق منه إلى هذه الساعة جوابا، وقابلني البيساني فهز رأسه في خبث، وقال: لم أر أعجب من قصيدتك للناصر، لقد غلبت فيها مدحك للفاطمين على مدحه. - استمر في هذه الطريقة أبا محمد، ولا تيأس من اجتذاب هذا المهر الشموس صلاح الدين، وأن هذه الخائنة تخبره بأسرارنا، وبما تعرف من مخابئ القصر وذخائره. - نعم قابلني ابن دخان منذ يومين، وفي عينيه نظرات الشامت، وعلمت منه أن زوجه لا تقيم عنده إلا قليلا، وأنها دائبة العمل مع رجال صلاح الدين. - ويل لها مني!! اسمع يا عمارة ... لم يبق في كنانتي إلا سهم واحد للخلاص من صلاح الدين. - ما هو؟؟ - ستعرفه الآن ... يا «تغريد» ... مري مؤتمن الخلافة أن يقابلني.
فيقبل مؤتمن الخلافة حزينا، فتقول له سيدة القصور: كم عندك من الجنود السودانية؟ - عشرون ألفا يا سيدتي أو يزيدون. - هل تستطيع أن تهجم بهم مفاجأة على جنود الغز، وتطهر البلاد منهم؟؟ - ذلك ممكن يا مولاتي إذا استمر الخلاف الذي أراه بين قوادهم. - أعد العدة، واهجم عليه متى شئت وأين شئت، والله معنا، فقال عمارة: إذا هزمنا هذه المرة يا مولاتي، ذهب منا كل شيء!! - ليكن ما يكون، فإن آخر الدواء الكي، خلياني وحدي.
انفض المجلس، وخرج عمارة من القصر، وبينما هو في الطريق قابله المهذب الأسواني ومعه شيخ غريب عليه سيما الصلاح والزهد لا يفتأ لسانه متمتما بالتسبيح والأدعية، فسأله عمارة عنه، فقال: إنه زين الدين بن نجا، وهو رجل تقي يعظ جنود الغز، ثم مال على أذن عمارة وهمس: ويبغضهم أشد البغض، فحياه عمارة ودعاهما إلى داره، ورأى من حديث زين الدين وسوء عقيدته في الغز، ما حببه إلى نفسه، وقربه إلى قلبه، ووثق عرا الصداقة بينهما، وبعد أيام ثار السود على الغز، واشتد القتال بينهم، وطال أمد المعركة، وكادت صفحة التاريخ تتغير لولا أن تآلف قواد صلاح الدين، وصدقوا في الحملة، ولولا أو وثب صلاح الدين وأخوه توران شاه على القصر، وقبضا على مؤتمن الخلافة وقتلاه، فسقط في أيدي السودان، وانطفأت حميتهم.
بعد ذلك؛ زاد تمكن صلاح الدين في مصر، وتحكمه في الخليفة، فأغار على ذخائر القصر وكنوزه، ولها من القيمة فوق ما يقدره الخيال، واستولى على قصور الخلافة، وأخرج أبناء الخلفاء وبناتهم منها، وأسكن كل فريق في دار على حدة تحت حراسة قراقوش، وتصرف في العبيد والخدم، ومنع الخليفة من مغادرة القصر، ووهب إقطاعات المصريين إلى أصحابه وجنوده، وعزل قضاة الشيعة، واستناب قضاة الشافعية، وأزال شعار الدولة الفاطمية، وأبطل من الأذان «حي على خير العمل»، ومنع أن يدعى للعاضد على المنابر.
قدف صلاح الدين بهذه السهام دفعة واحدة، فصعقت سيدة القصور لهول هذه المصائب المتتالية، ورأت ملكها ومذهبها يذهبان طعمة للقوة والدهاء، فبكت كما تبكي النساء، وعادت إليها غرائز الضعف والأنوثة. أما العاضد، فقد دهمه الغم وأحرقته الحمى، فألح في أن يراه طبيبه عبد الله بن السديد، ولكن الطبيب أبى أن يذهب إليه، فمات حزينا بائسا منبوذا.
سرى خبر موته في القاهرة، فشاع الحزن عليه في كل مكان، وزاد في بكاء القاهريين عليه ما أصاب الخلافة من نكبات، بعد أن عاشوا في ظل جناحها في أمن، ودعة، ومواسم، وأعياد، كانت بهجة الدنيا وزينة الدهور، ومر عمارة على القصر فإذا هو طلل دارس، بعد مجد طاول الفرقدين، وعز ملأ الخافقين. فقال:
لي بالديار غداة البين وقفات
صفحة غير معروفة