صعدت السفينة، وكان الوقت خريفا، والجو إلى البرودة أميل، وكانوا كلما وصلوا إلى قرية أو مدينة رست السفينة، وخرج الخدم فابتاعوا ما يريدون من طعام، وشراب، وفاكهة، وعاش ابن دخان وباسمة في السفينة شهرا أو بعض شهر، في أنس ونعيم وطرب، حتى لقد قال لها ابن دخان يوما - وقد رأى الشمس غاربة، وقد نفذت أشعتها إلى سحب خفيفة حولها، فأرسلت ألوانا يحار اللغوي في تسميتها والرسام في تكوينها، ثم رآها تسقط رويدا بين النخيل المتكاثفة، فتظهر من خلالها صافية براقة، كأنها سبيكة من نضار: يا باسمتي ... حرام أن نقضي حياتنا في هذا اللغو، وأن نعمى عن التمتع بجمال الكون، وبهجة الحياة، إن عندي من الأموال ما يكفل لنا العيش الناعم المترف، فلماذا نكدر هذا العيش بالغم والحزن والكيد لفلان، والحقد على فلان؟! انظري إلى الشمس!! - إنك أبله!! - صدقت يا حبيبتي!! أنني أصاب بالبله عند كل مغيب شمس.
فابتسمت «باسمة»، وقالت: لو وقف جوهر القائد وقفتك هذه، وتغزل في الشمس وجمالها كما تتغزل، لتفرقت جيوشه وما فتح مصر، وإني لم أقرأ في التاريخ عن أمير أديب أو شاعر إلا جاءته نكبته من أدبه، وإغراقه في حب الجمال، إن الله خلق في الإنسان وجدانا وفكرا وإرادة، ولكي يكون الإنسان كاملا يجب أن تتوازن فيه هذه وتتعادل؛ لأن من يتحكم فيه وجدانه كان بعد شهواته، ومن يتحكم فيه فكره بقي حزينا عاجزا، أما من تتحكم فيه إرادته فمجنون معربد ... أفهمت يا زوجي المفتون بالجمال؟! - فهمت درسا يعجز عنه كل الشيوخ الذين يدرسون بدار الحكمة.
وصلت السفينة إلى قوص، وذهبت «باسمة» وابن دخان قاصدين قصر شاور، فما إن دخلا وأخبرت «باسمة» الخدم باسمها، حتى أرسل إليها شاور، وبذل في تحيتهما وإكرامهما خير ما يبذل العربي الكريم، ثم سأل «باسمة» عن القاهرة وأحوالها، وعن مجد الإسلام رزيك ووزارته، فأجابته بعبارات مبهمة، وكان يظهر على شاور الغيظ من رزيك، والألم من بعده عن تقلب الأمور بالقاهرة، حتى لكأنه أسد شرس حبيس. وبعد أيام اختلى شاور بباسمة وابن دخان طويلا، فقال شاور لباسمة: كنت أظنك لا تزالين بالقصر!! - سئمت يا سيدي مكايد الفاطميين ودسائسهم، واستبداد سيدة القصور بأمور الدولة، وسئمت تحكم الأستاذين، والجنود السودان في أشراف العرب. - وبم تشيرين علي الآن؟؟ - إن رزيك الآن أضعف من ثمامة، وهو لعبة في يد سيدة القصور، فإذا لم تقتنص الفرصة لدخول القاهرة، والجلوس على عرش الخلافة، ضاعت منك إلى الأبد. - أعتقد أن العامة يحبون الفاطميين، ويحبون أموالهم حبا جما، وأنهم يدافعون بأرواحهم عن خلافتهم. - إذا نثرت أموالك على جيوشهم ألقوا السلاح ليلتقطوا الدراهم ... - ثم هناك الجنود السود، وهؤلاء وحوش، إذا سمعوا قعقعة سلاح طارت رؤوسهم، وقذفوا بأنفسهم كالفراش المتهافت على النار ... لا يا باسمة، إن الأمر ليس بهين، وإن الوقت لم يحن بعد لهدم الخلافة الفاطمية، ورأيي: أن نصل إلى الغاية في مرحلتين لا في مرحلة واحدة: نهجم على القاهرة أولا مدعين أننا جئنا لنصرة الخلافة، واستنقاذها من أيدي الأجانب، حتى إذا قضينا على آل رزيك وأنصارهم، واسترحنا قليلا اختلقنا أسبابا لاستئصال الخلافة، بعد أن نكون قد أعددنا العدة. - لا يا سيدي، إن سيدة القصور لن تتركك تستريح، والثعبان إذا قطع ذنبه زادت ضرواته. - إن نصف التوفيق توفيق. - ونصف الكمال نقص. - وما تقولين في أن ثلاثة أرباع جيشي الذي سأدخل به القاهره فاطمي النزعة والعقيدة!! وأنني لا أستطيع بحال أن أوجهه إلى هدم الخلافة، ولو أشرت إليه ما أطاعني، دعي لي تدبير هذا الأمر يا باسمة، وسترين أننا بعد شهر أو شهرين من استقرارنا بالقاهرة سينادى بخلافتنا، وستؤخذ لنا البيعة في القصر الكبير، وستكونين سيدة وصائف القصر. - ليكن ما تريد يا سيدي ... ومتى يزحف الجيش من هنا؟ - بعد خمسة أيام.
الفصل العاشر
زحف شاور بجيشه إلى القاهرة، ومعه ابناه: «طي»، و«شجاع»، وكان الجيش لهاما خضما، خطب فيه شاور خطبة ضافية مثيرة، ودعاه إلى إنقاذ الخلافة الفاطمية من أيدي الأرمن الغاصبين، وبعد فترة طويلة أشرف على أرباض القاهرة.
علمت سيدة القصور بتحرك جيش شاور من قوص، ونقل إليها أصحاب الأخبار مقدار قوته، وعدد رجاله، فلم تحرك ساكنا؛ لأنها رأت أن في اختلاف اللصوص نجاة القافلة، ورأت في شاور أنه - على الرغم من جفوته، ويبس أخلاقه، وشرهه في حب المال - لا يزال عربيا. وعرضت الأمر على عمارة - وكان محبا لرزيك، صديقا لشاور - فروى في الحكم، وغم عليه وجه الصواب. فقالت له سيدة القصور: إني لا أوثر أحدهما على صاحبه، فكلاهما غاصب للدولة معتد على سلطتها، وأرى أن في معاضدة أحدهما زوالا للخلافة، وأن الأمر لا يخلو من إحدى اثنتين: إما أن ينتصر من ساعدناه بجيوشنا، وإما أن ينهزم، فإن انتصر فلن يصل إلى النصر إلا بعد أن تكون جيوش القصر قد ضعفت، وقل عددها، وحينئذ نراه بعد أيام قد انقلب علينا واستلب عرشنا؛ لما يعلم من عجزنا عن مقاومته، وإما أن ينهزم وينتصر خصمه، وتلك الكارثة العظمى؛ لأن الخصم المنتصر لا يكتفي بهزيمة عدوه، بل يدفعه الانتقام إلى استلاب ملك مناصريه.
لا يا عمارة ... يجب أن نقف من هذين الخصمين وقفة المشاهد، ولا نميل بجانب إلى واحد منهما، وأن نقول كما يقول العرب: الكلاب على البقر!! فاقتنع عمارة، وما هي إلا أيام حتى دخل شاور القاهرة، وفر رزيك إلى إطفيح، وتمكن منه شاور وقتله، ثم أعمل سيفه في آل رزيك، واستولى على أموالهم، ودخل على سيدة القصور فقابلته بخير ما يقابل به الفاتح العظيم، ونثرت فوقه ألقاب الشرف والبطولة، ودعت عمارة إلى مدحه، وولاه الخليفة العاضد شئون الوزارة، واجتمع حفل عظيم بقاعة الذهب عند توليته أنشد فيه عمارة قصيدة رائعة.
استمر شاور في الوزارة، وكان جشعا خبيثا سفاكا للدماء، فأغضب العامة والخاصة، وطالما نصحت له «باسمة» - التي أصبحت ولها أكبر مكانة في قصره - بالرفق، وصرف الناس عن التعلق بالخلافة بما يبذل من مال، وما ينشر من عدل، ولكنه لم يلق لها سمعا؛ لأنه كان بطبعه جافا شريرا سيئ التدبير، وكان أخوه «نجم» مسيطرا عليه، فزاد حكمه فسادا على فساد.
ضج أهل القاهرة من ظلم شاور وعسفه، فاجتمعت جموعهم، وتلاقت حشودهم عند باب زويلة، وكان زعيم الجمع ورئيسه الشيخ عبد الحكم الغفاري المدرس بجامع الحاكم، وكان جهير الصوت، قوي التأثير، فأخذ يرسل فيهم صوته بمخازي شاور، وإرهاقه الأمة بأنواع العسف والقوة الجائرة؛ حتى هاج كوامن أحقادهم، ثم دعاهم إلى السير إلى القصر الكبير، فساروا كالبحر المائج، وكان صياحهم: يا شاور ظلمت!! ... يا شاور طغيت!! ... الله الله فينا! ... بالخليفة نستنجد!! وكانت النساء تطل من النوافذ يحيين الجموع بالأغاريد والدعاء، ولما قربوا من القصر أمرت سيدة القصور عمارة أن يخرج إليهم، ويهدئهم، ويكلمهم كلاما عائما، ويعدهم ويمنيهم، وقد تم كل هذا، وأظهر عمارة براعة في اجتذاب الجموع إليه، وفي تسكين غيظهم من غير أن تند منه كلمة تغضب صاحب الحكم، أو تغضب الثائرين، وما زال بهم حتى تفرقوا مطمئنين مغتبطين.
وبعد يومين عقدت سيدة القصور مجلسا بالقصر، حضره الأستاذون، ومؤتمن الخلافة، وضرغام بن عامر اللخمي صاحب الباب، ورئيس الجنود البرقية، وتداول من بالمجلس فيما صارت إليه الأمور في عهد شاور من الفساد والعفن، ورأوا أنه لا بد من استئصال شأفته، وتطهير البلاد من شره.
صفحة غير معروفة