ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي
المعنى قديم مطروق يا أبا محمد، ولكنك أحسنت صياغته، فإيه بالله عليك أبا محمد ... ادن مني قليلا ... ما لي أراك مستوحشا؟! ... انفض عنك هذه الرهبة، وحدثني كما تحدث الناس، فقد سمعت أنك حلو الحديث، عذب المحاضرة والمفاكهة ... اسمع يا عمارة: أتريد أن نكون أصدقاء؟؟ - تلك منزلة لو رأيتها في المنام يا مولاتي ما صدقتها. وأين الثريا من يد المتناول. - لا، صدقها ونحن في اليقظة لا في المنام، وأمامك سيدة القصور بنت الخلائف، وملكة مصر.
فأكب عمارة على يديها، فتركتهما له، فاستمر طويلا يغمرهما تقبيلا ولثما، وقد أحس كهرباهما تسري إلى جسمه، فتملؤه نشوة وانتعاشا ، ثم قال: أنا عبد مولاتي وخادمها، وإن قلمي، ولساني، وسيفي - إن شاءت - ملك يمينها. - لا ... أنت صديقي، ولكننا قبل أن نبني هذه الصداقة، يجب أن نجعل أساسها ميثاقا مقدسا، وعهدا أكيدا. - ألف عهد وألف ميثاق أبذلها تحت قدميك، وأنثرها أمام هذا الجلال الرائع ... ولولا رهبة الملك لقلت أمام هذا الجمال الفاتن ... فابتسمت الأميرة وقالت: لم تطق أن تصبر لحظة عن شاعريتك فحننت إلى الغزل، كما يحن الطائر إلى التغريد عند سفور الصباح! - يا مولاتي أنا شاعر، والشاعر ليس إلا مرجلا يغلي بضروب الإحساس والوجدان، فإذا لم يجد متنفسا انفجر وتحطم، إننا معاشر الشعراء نرى الصور بعيون من الفن لا يبصر بها سوانا ... نرى الجمال فنذهب بخيالنا في روضاته، فيتكشف لنا عن بدائع لا تراها العيون ... نحن نعيش في دنيا غير دنيا الناس، ونفهم من أسرار الحسن غير ما يفهم الناس، إن الحسن أحيانا قد يتحدى الشعر، وقد يعجز الخيال، وقد يبهر العين كما بهرني، ولكنا لا نلقي أمامه السلاح أول مرة، ولا نستسلم خاضعين، بل نأخذ في إطلاق الشعر حوله رصينا أو غير رصين، مبينا أو غير مبين، ثم نصيح كما يصيح المحموم، حتى نخفف من ثورة قلوبنا، وإلا قتلنا الحب، ورحنا شهداء النظرات الفاتكة، والبسمات الفاتنة. - قصيدة منثورة يا أبا محمد!! إن لبيانك سحرا عجيبا!! ثم تهانفت وقالت: نسينا العهد والميثاق. - صوغي العهد يا سيدتي كما تشائين، ولا تبقي شيئا من الأيمان المحرجة، فإني أكرر بعدك كل ما تقولين. - إن عهود الفاطميين ليست هينة يا عمارة، فهي شديدة قاسية، ووراء كل كلمة منها إسماعيلي فدائي، يغمد سكينه في قلب كل من نكث بها. - إن دمي لك يا مولاتي، وهل أقول قلبي؟؟ - قل ما تشاء. - دمي، وقلبي، وحياتي لك يا مولاتي، فهاتي العهد، وتشددي ووثقي كيف شئت كما يوثق كتاب العقود. - ولكني قبل العهد أريد أن أتحدث معك قليلا: أتعلم أن أهل مصر تحولوا جميعا إلى المذهب الفاطمي، وأصبحوا من أشد الناس غيرة على نشره، والمحافظة على تعاليمه ومراسمه ... إنهم قوم يحبون البهجة ومظاهر السرور، وحفلات الأنس والطرب، وضجيج المواسم، وقد أكثرنا من ذلك لهم ... أتعلم أن مواسم الفاطميين تزيد في السنة على ثلاثين موسما؟! هذا إلى ما يعمل في رمضان والعيدين من الحفلات الشائقة، وضروب البذخ والإسراف، أتعلم أننا جعلنا سيف المعز وذهبه شعارا لدولتنا؟! أسمعت بقصة جدي المعز في أول اجتماع عام له بالقاهرة، حينما طالبه ابن طباطبا نقيب الطالبيين في مصر بما يثبت نسبه وحسبه؟ فنثر جدي الذهب على الناس، وقال: هذا نسبي!! ثم جرد سيفه من غمده وصاح: وهذا حسبي!! ومن ذلك الحين أصبحت دولتنا تقوم على هاتين الكلمتين: الذهب لمن أطاع وأصلح، والسيف لمن عصى وأفسد. - هذا يا مولاتي هو العز الباذخ، والملك الشامخ، فبأبناء فاطمة تتيه مصر، ويسعد أهلها.
فمالت إليه الأميرة باسمة، وقالت بصوت عذب النبرات: بعد هذا، وبعدما سمعت منك أبا محمد عن سماحة الفاطمية، وجودها، وعدالة حكمها أحب أن تكون فاطميا. - أنا فاطمي يا مولاتي ... أحب فاطمة الزهراء، وأحب عليا - كرم الله وجهه - وأحب أولادهما، وأعتقد أن حبهم قربي إلى الله وشفاعة. - لا يا عمارة ... لا تغالطني بحقك ... أنت تعلم ما أريده، ولكنك تروغ روغان الثعلب، ولولا ميل أحسه نحوك ما طاولتك هذه المطاولة، ثم ظهرت في وجهها شراسة النمرة فقالت: إن لمثلك عندنا إحدى خلتين: إما أن تعتنق مذهبنا، وإما أن تسيل نفسه على سيوفنا ... أتريدنا الآن يا يمني على أن نعود إلى الانحلال، والتجاوز المميت؟! لا ... لا ... لا بد من إحداهما، إما أن تكون فاطميا، وإما ألا توجد.
فارتعدت فرائص عمارة، وقال في تلعثم: فهمت من مولاتي أنها لا تريد من الحياة إلا إعلاء المذهب الفاطمي، وتثبت أركانه، وفهمت أنها لهذه الغاية نفسها تدعوني إلى اعتناق المذهب، فما رأيك يا مولاتي في أننا متفقان في الغاية؟! ... متفقان تمام الاتفاق!! ... سأكون خير عدة في نشر المذهب الفاطمي ... سأكون له لسانا ناطقا، وقلبا خافقا ... سيكون شعري أغنيته التي يطرب لها كل سمع، ويتفتح لها كل قلب ... سيحسدني داعي دعاة المذهب على حسن ما أبليت في إنهاض الفاطمية، وإعلاء لوائها ... سيرى النقباء الاثنا عشر أنهم لم يعملوا شيئا بجانبي ... سيردد الأطفال في الحارات أناشيد الفاطمية، وستغرد النساء في بيوتهن بمجد الفاطمية، وسيرى الأدباء والعلماء في شعري صورا ساحرة لجمال الفاطمية وسماحتها ... سأعمل كل هذا لأنني أحب مولاتي، ولأنني رأيت من كريم وفادتكم، وجزيل عطائكم، وعميم إحسانكم إلى الناس ما بهرني، وملأ قلبي حبا لكم، ولكل ما يتصل بكم. أما عقيدتي أنا ... التي تنطوي عليها جوانحي، فدعيها لي يا سيدتي ... دعيها بالله فإنها بقية ما يصلني بأهلي الذين فقدتهم ... دعيها فإنها إرث الماضي البعيد ... دعيها فإنها جزء من نفسي، ثم وثب قائما وفي وجهه شهامة العربي الكريم، وقال: لن أغير عقيدتي، ولو طلبت ذلك أجمل امرأة أظلتها السماء، وهي سيدة القصور. - اهدأ أبا محمد. - يا مولاتي، إني أعتقد أنني لو غيرت عقيدتي أول ما تطلبين مني لهزئت بي وسخرت مني، وقلت في نفسك: تعسا له من رجل سقيم الإرادة، هزيل العزيمة!! ثم هبيني كنت رجلا إمعا لا خلق له، ولا عزم، ولا دين، أتظنين أن ذلك يقربك من غايتك؟! لا. سيضحك الناس مني في أكمامهم إذا ناديت فيهم بفضل الفاطمية، ويقولون: يا له من شقي أفاق مأجور!! اشترت منه الخلافة عقيدته بدراهم معدودة، فجاء يدعونا إلى الحرص على مذهبها! وربما همس أحدهم في أذني بخبث وشماتة قائلا: إن رجلا يفرط في مذهبه أولى به أن يتوارى عن الناس، وألا يحثهم على التمسك بمذهبهم، ثم إن الوفاء أظهر خلائقي، وأقوى شيمي، فإذا لم أف لعقيدتي فأجدر بي ألا أفي لمخلوق ... سأعيش للوفاء، وسأموت للوفاء، ولن يقول إنسان: إن ابن علي خان عهدا، أو أخفر ذمة.
فانبسطت أسارير سيدة القصور وقالت: أحسنت أبا محمد، إن هذا البيان وهذا الفكر الواسع لا تستغنى عنهما الفاطمية. - اطمئني يا مولاتي، فسأكون لك عونا، ولمذهبك سيفا ودرعا، وسأكون فاطميا بلساني، سنيا بقلبي، فماذا تريدين مني فوق هذا؟؟ - اكتفيت أبا محمد، فإن لروعة منطقك، إلى وسامة طلعتك، إلى كريم خلقك ، وكمال رجولتك سحرا وفتنة: أيرضيك هذا الإطراء أبا محمد من امرأة كانت تظن أن الأرض أقفرت من الرجال حتى رأتك؟؟
فوثب عمارة على يديها يقبلهما، ويرتفع بفيه قليلا قليلا حتى يصل إلى معصميها، ثم قال: يرضيني يا مولاتي؟! أنا لا أدري: أأنا فوق الأرض، أم سابح فوق السحاب؟! - لا ... لا تعد إلى شاعريتك، أنت معي هنا في قصر الزمرد ... هلم إلى العهد، فتنهد عمارة وقال: هاتي يا سيدتي، هاتي ... فأخرجت سيدة القصور ورقة من منديلها، وأخذت تتلو وهو يعيد: «أقسم وأحلف بالله المنتقم القاهر، وبرسوله الكريم، وبوصيه ووليه، وببنته الزهراء سيدة نساء أهل الجنة، وبكريم نسلها وشريف عترتها على أن أكون للفاطمية عونا ولها ناصرا، ولدولتها مؤيدا، وعلى أن أعاضد أولياءها، وأحارب أعداءها، وأتخذ كل وسيلة، وكل أداة، وكل ذريعة لرفع شأنها، وإماطة الضر عنها، وعلى أن يكون دمي، وشرفي، ومالي هدرا مباحا إن خنت لها عهدا، أو نكثت بوعد، أو توانيت عن وفاء».
وبعد حلف اليمين كان جبين عمارة يتصبب عرقا، فرفع عينيه وقال: بقيت مسألة يا سيدتي، وهي أني شاعر، وقد أمدح قوما تضمرين لهم سوءا، فهل ذلك ضائري عندك؟؟ - لا يا عمارة، أيد بمدحك من تشاء منا، واخدع بمدحك من تشاء من غيرنا، ولا تخش شرا فأنت موضع ثقتي ... هلم إلى الطعام والشراب.
ثم قامت سيدة القصور إلى بهو آخر، أعدت فيه مائدة ملكية يحير وصفها الألباب، وبعد الطعام تقدمته الأميرة إلى بهو الأغاني، وقد كانت الجواري أعددن آلات الطرب، فجلست الأميرة، وجلس عمارة بعيدا، وجلست إلى جانب الأميرة جاريتها «باسمة»، وهي جارية جركسية بارعة الحسن، رائعة الطلعة، تفور فيها الأنوثة، وتصطخب في نفسها ثورات الشباب، لمحت عمارة، فرأت فيه محيا عربيا، ووجها صبيحا، وقامة فارعة، فاضطرب له فؤادها، وأخذت تخالسه النظر، وتتحين الفرصة لمحادثته واجتذابه، واستمر الطرب إلى الهزيع الأخير من الليل، حينئذ وقفت الأميرة وسلمت على عمارة، وهمست في أذنه: سأرسل إليك راجحا في كل ثلاثاء. ثم أمرت «باسمة» أن تسير معه إلى الباب الكبير ، وأن تأمر راجحا أن يصحبه إلى داره.
صفحة غير معروفة