على الأرض ينسى ذكره عند ذكره
ولا تجعلوا مقصودكم طلب الغنى
فتجنوا على مجد المقام وفخره
ولكن سلوا منه العلا تظفروا بها
فكل امرئ يرجى على قدر قدره
فأرسل إليه ابن رزيك رسولا يخبره بأن المقابلة يوم الاثنين بالقصر الكبير، فأعمل عمارة خياله، ودعا إليه شيطان شعره، وكتب قصيدة طويلة أعدها للإنشاد أمام الخليفة.
فلما جاء الموعد استأجر بغلة أوصلته إلى القصر الكبير، فرأى من عظمته، وضخامة بنائه، وإبداع نقوشه، ما أدهشة وأطار لبه، وقصور الفاطميين وما كان لها من سموق بنيان، وبراعة نقوش، وجمال أثاث، وحسن تنسيق - يكل القلم دون وصفها، ويعجز البيان أمام سناها وسنائها - فليس في طوق الخيال أن يلم بما كانت توحي به من عظمة ملك، وقوة سلطان، وضخامة ثروة، وسطوة دولة، وإسراف في الترف، وإغراق في النعيم.
لا يستطيع القلم أن ينقش، ولا البيان أن يرسم، ولا الخيال أن يصور، فخير لنا أن نلقي القلم، ونسكت البيان، ونحبس الخيال، ونترك للقارئ أن يتخيل ما يشاء ويرسم من صور العز والملك والسلطان ما يريد.
وصل عمارة إلى القصر الكبير، فاستقبله الأستاذون المحنكون، وعلى رأسهم مؤتمن الخلافة، يتسلمه أستاذ ليوصله إلى آخر حتى انتهى إلى قاعة الذهب، وكأنها بنيت من الذهب حقا؛ لكثرة النقوش الذهبية التي تملأ حيطانها وسقفها، وهي قاعة العرش التي يستقبل فيها الخليفة رجال دولته في أيام المحافل والأعياد والمواسم.
دخل عمارة خاشعا مطرقا، وكلما حاول أن يرفع من طرفه قليلا رأى مهابة وجلالة، وملكا يبهر العيون، ويهول النفوس. رأى الخليفة الفائز على العرش في أثواب كلها ذهب وديباج، رآه صغيرا لا يتجاوز السادسة، نحيل الجسم، مصفر الوجه، له عينان واسعتان كعيني النمر كلهما بريق والتماع، ورأى الأستاذين المحنكين حوله في رهبة وخضوع، كأنهم يحرسون سرا سماويا مقدسا، ورأى وزيره الصالح بن زريك واقفا إلى يمينه في خشية وقنوت، كأنه في معبد صلاة وتبتل، وإلى يساره داعي الدعاة، وقاضي القضاة، والأمراء، وكبار الرؤساء والقواد، وفيهم الأوحد بن تميم، وشاور بن مجير، وضرغام اللخمي، ومجد الإسلام بن صالح، ونقباء المعلمين.
صفحة غير معروفة