وقال الغريب: «إذن فزوجتك تريد أجنحة أيام الآحاد؟ أجنحة! حتى لو كان لها أجنحة فلن تكون بذات فائدة لها.» - هذا صحيح، إنها تقول إنها تريد الأجنحة حتى تخرج للنزهة بها. وحين تتشاجر معي تطلب دائما الأجنحة من الرياح.
وتوقف الحطاب كيما يمسح العرق الذي تناثر على جبهته بطرف كمه، وقال متعجبا: «إنه ليس بالخفيف الوزن !»
وقال الوافد الغريب: «يكفيها ساقاها إن هي أرادت الذهاب؛ حتى لو كانت لديها أجنحة فإنها لن ترحل. - «كلا، إنها لن ترحل، ولكن ليس كرما منها، بل لأن النساء طيور لا تستطيع العيش دون أقفاصها، ولأنني لا أحمل معي إلى البيت سوى قطع قليلة من الحطب لا أستطيع أن أكسرها فوق ظهرها.» وتذكر عند ذلك أنه يتحدث إلى ملاك فاستدرك سريعا قائلا: «وذلك لصالحها، طبعا.» ومضى الحطاب يقول مغيرا الحديث لشعوره بالحرج مما قاله توا: «من يا ترى ضرب هذا الشاب المسكين؟» - هناك الكثيرون ... - «أجل، كثير من الناس بوسعهم عمل أي شيء، ولكن هذا الشاب يبدو كما لو ... كما لو أنهم لم يشعروا بأي رحمة نحوه. طعنة بالسكين في شفتيه ... ثم إلقاؤه هكذا في مستودع القمامة!» - ربما كانت جراح أخرى كذلك. - يبدو لي أن جرح شفتيه من جراء طعنة موسى. ثم إنهم حملوه هنا بعيدا حتى لا يكتشف جريمتهم أحد، هه! - ويا له من مكان بائس! - هذا ما كنت على وشك أن أقوله.
وكانت الأشجار تغص بالنسور التي توشك على مغادرة مستودع القمامة. وكان خوف الأبله يطغى على آلامه، فبقي صامتا، وانكمش على نفسه كالقنفذ في سكون مميت.
وسرت الريح في خفة وسط السهل، تهب من المدينة تجاه الحقول، خفيفة لطيفة، أنيسة.
وتطلع الغريب إلى ساعته، ثم سار بعيدا بعد أن وضع بعض النقود في جيب الرجل الجريح وودع الحطاب بتحية ودية.
كانت السماء صافية رائعة. وكانت البيوت التي تقع في طرف المدينة تطل على الحقول؛ وأنوارها الكهربائية تتوهج كأعواد الثقاب في سرح مظلم. وبدأت تظهر وسط الظلمة طرقات متعرجة، تقوم الأشجار على جانبيها، بالقرب من أول صف من البيوت: أكواخ طينية تفوح منها رائحة القش، وأعشاش خشبية تفوح منها رائحة الهنود، بيوت ضخمة ذات فناء أمامي نتنة الرائحة كالإسطبلات، وخانات فيها المعتاد من العلف الذي يباع للحيوانات والخادمة التي تطارح حبيبها الغرام في الثكنات، وجماعة من البغالين يتحادثون في الظلمة.
وترك الحطاب الرجل الجريح عند وصولهما إلى أول البيوت بعد أن شرح له كيف يتوجه إلى المستشفى. وفتح الأبله جفنيه باحثا عن الراحة، وعن شيء يخلصه من الفواق، بيد أن نظرته المحتضرة، الثابتة كالشوكة، دقت رجاءه على الأبواب الموصدة في الشارع المهجور. وترامى على البعد صوت أبواق تنادي القوم الرحل، وأجراس تدق ثلاثا على أرواح الموتى المسيحيين: ال ... رح ... مة، ال ... رح ... مة، ال ... رح ... مة.
وشعر بالرعب من نسر يجر نفسه وسط الظلال. كان جناحه مكسورا، ورن نواحه في أذن الأبله كالوعيد. وتحرك بعيدا في بطء، خطوة خطوة، مستندا إلى الجدران، إلى ارتعاشات الجدران الثابتة، مطلقا أنة وراء أخرى، دون أن يدري أيان يذهب، والرياح تصك وجهه، الرياح التي بدت كما لو كانت قد امتصت ثلجا قبل أن تهب في الليل. وكان الفواق يهد كيانه.
وألقى الحطاب رزمة الحطب في فناء كوخه كالعادة. وكان كلبه قد وصل قبله إلى البيت واستقبله في حفاوة بالغة. وأزاحه بعيدا عنه؛ قبل أن يخلع عنه قبعته، فك أزرار سترته فتدلت على كتفيه كأنها جناحا وطواط، ثم توجه إلى النيران الموقدة في ركن الحجرة، حيث كانت زوجته تطهو بعض الكعك، وقص عليها ما حدث. - «لقد قابلت ملاكا عند مستودع القمامة.»
صفحة غير معروفة