وانتقلت عينا الأبله الآن تطوف في نومه الهاذي حول سطح بالغ العلو. كان أهل السيرك قد خلفوه وحيدا ضائعا في بناية تقوم على شفا هوة سحيقة خضراء داكنة. وكانت المقاعد تتدلى من ستائر جانبية كأنها جسور معلقة، وقسس الاعتراف يصعدون ويهبطون من الأرض إلى السماء كأنما هم مصاعد للأرواح يقوم عليها الملاك ذو الكرة الذهبية والشيطان ذو الأحد عشر ألف قرن. وخرجت عذراء الكرمة من جدثها كالضوء الذي يمر من خلال الزجاج، كيما تسأله عما يريد، وعمن يبحث. وتوقف يتجاذب أطراف الحديث في انشراح معها، صاحبة هذا. البيت، أكثر الملائكة عذوبة، وجوهر وجود القديسين، وحلوى الفقراء البائسين. وكانت هذه السيدة العظيمة لا تكاد تبلغ المتر الواحد طولا، بيد أنها حين تتكلم تعطي انطباعا بأنها تفهم في كل شيء كالناس الكبار. وحكى لها الأبله بالإشارات كيف أنه يحب أن يمضغ الشمع، فقالت له بين جد وهزل إنه يستطيع أن يأخذ إحدى الشموع المضاءة في مذبح كنيستها. وبعد ذلك لملمت أطراف عباءتها الفضية الفضفاضة وقادته من يده إلى حوض للأسماك الملونة وأعطته قوس قزح يمتصه كأنما هو حلوى سكر النبات. إنها السعادة الكاملة! كان يشعر بالسعادة تغمره من طرف لسانه إلى طرف قدمه. لقد كان شيئا لم ينله طوال حياته: قطعة شمع يمضغها كاللدائن، وسكر نبات نعناعي، وحوض سمك ملون، وأم تدلك ساقه الجريحة وتغني له: «إشف سريعا، إشف سريعا يا صغيري». كان كل ذلك ملك يمينه إذ هو ينام على أكوام القمامة.
بيد أن السعادة لا تدوم إلا كما تدوم زخة المطر مع طلوع الشمس. فمن خلال أرض بلون اللبن. ظهر حطاب يتبعه كلبه بعد أن ضل طريقه إلى مستودع القمامة ذاك. كان يحمل حزمة من الحطب على ظهره، ورداؤه ملفوف على الحزمة، بينما يحمل منجله بين ذراعيه كما يحمل الأب طفله. ولم تكن الوهدة سحيقة، بيد أن الغروب المنسدل جعلها تبدو عميقة مليئة بالظلال التي أحاطت بالقمامة المكومة في قاعها من الفضلات التي تثير الخوف إذا ما حل الليل. والتفت الحطاب وراءه: كان بوسعه أن يقسم أن ثمة شخصا يتتبعه. وبعد هنيهة أخرى، توقف مرة ثانية. كان يشعر بوجود امرئ، ما يختفي هناك. ونبح الكلب وانتصب شعره كأنما يرى الشيطان أمامه. وأطارت دوامة ريح أوراقا قذرة ملطخة إما بدماء امرأة أو بماء البنجر. وكانت السماء تتبدى على البعد ، زرقاء ناصعة، كأنها قبة قبر عال، مرصعة بنسور حوامة غافية. وبعد برهة ، جرى الكلب ناحية المكان الذي كان الأبله يرقد فيه. وارتجف الحطاب من قشعريرة الخوف، واقترب خطوة خطوة وراء الكلب ليرى من هو الميت. كان يتهدده خطر إصابة قدميه بالجراح من قطع الزجاج أو أكعاب الزجاجات أو علب السردين الصفيحية؛ وكان عليه أن يقفز فوق الروث النتن وعبر الوهاد المظلمة. وكانت ثمة فجوات مليئة بالمياه تبدت كالموانئ وسط أكوام القمامة.
ودون أن يطرح عنه حمله _ إذ كان خوفه أشد ثقلا عليه أمسك بإحدى قدمي الجثة المزعومة، وشد ما كانت دهشته أن وجد أنه إنسان لا تزال الحياة تدب فيه، وامتزجت أنفاسه اللاهثة بصراخه بعواء الكلب، ليخلق كل ذلك صورة حية لمحنته، كالرياح التي تختلط أحيانا بوابل المطر. وزاد من اضطراب الحطاب صوت خطوات شخص يمشي خلال أجمة صغيرة قريبة من شجر الصنوبر وأشجار الجوافة العتيقة. فماذا يحدث لو أنها خطوات رجل شرطة! آه حقا، إن ذلك سيكون القشة التي تقصم ظهر البعير! وهتف بالكلب: «صمتا!» ولما استمر في نباحه، وجه إليه رفسة قائلا: «اسكت أيها البهيم، اسكت!»
وفكر في الهرب ... بيد أن الهرب هو اعتراف بالجرم ... وسيزيد الطين بلة لو كان القادم من رجال الشرطة. وتحول إلى الرجل الجريح وهتف به: «هيا، أسرع سأساعدك على النهوض! يا إلهي، لقد كادوا أن يقتلوك! هيا لا تخف، لا تصرخ فإني لا أريد بك سوءا ... لقد كنت مارا من هنا فرأيتك راقدا ...»
وقاطعه صوت من خلفه: «لقد رأيتك تنفض عنه أكوام القمامة، فعدت إليك لأنني فكرت أنه قد يكون شخصا أعرفه؛ فلنخرجه من هنا.»
وأدار الحطاب رأسه ليرد وقد كاد أن يغمى عليه من الخوف. وانقطعت أنفاسه، ولم يهرب إلا لأنه كان يمسك بالجريح الذي لا يكاد يقوى على الوقوف. وجال في خاطره أن من تحدث إليه لا بد أن يكون ملاكا: بشرة من مرمر ذهبي وشعر أشقر، وفم دقيق، وطلعة أنثوية تتناقض مع سواد عينيه الرجولي. كانت ملابسه رمادية اللون، وكان يبدو في ضوء الغسق كالسحاب. وكان يحمل في يديه الرقيقتين عصا نحيلة من الخيزران وقبعة ذات حافة عريضة بدت كالحمامة.
ورد الحطاب الذي لم يستطع أن يبعد عينيه عنه: «ملاك، إنه ملاك. ملاك!»
وقال الغريب: «يبدو من ملابسه أنه من الفقراء. لشد ما هو محزن أن يكون المرء فقيرا!» - الأمر متوقف على الظروف. كل شيء في هذه الدنيا يتوقف على شيء آخر. انظر لي مثلا، إني فقير جدا، ولكن عندي عملي، وزوجتي، وكوخي، ولا أظن أن وضعي مثير للشفقة. قال الحطاب ذلك متلعثما كرجل يتحدث في منامه. وكان يأمل في أن يفوز بحظوة لدى هذا الملاك الذي قد يكافئه على قناعته المسيحية بأن يحوله من حطاب إلى ملك بمجرد رغبته في ذلك. ورأى نفسه لحظات مشتملا بالذهب وعليه عباءة حمراء، وعلى رأسه تاج وفي يده صولجان مرصع بالجواهر. وتراءى له مستودع القمامة بعيدا بعيدا.
وقال الغريب ملاحظا وهو يرفع صوته فوق نواح الأبله: «هذا غريب!» - غريب؟ لماذا؟ على أية حال، إننا معشر الفقراء أكثر قناعة من الآخرين. وما بوسعنا أن نفعل، على كل حال؛ الحقيقة أنه مع وجود المدارس فإن من يتعلم القراءة يقع تحت تأثير أشياء يستحيل عليه تنفيذها. وحتى زوجتي ينتابها الحزن أحيانا وتقول إنها تتمنى لو كان لها أجنحة أيام الآحاد.
وأغمي على الجريح مرتين أو ثلاث مرات حين كانا يهبطان به أشد الجهات انحدارا. وكانت الأشجار ترتفع وتنخفض أمام عينيه المحتضرتين كأنما هي أصابع الراقصين في الرقصات الصينية. وتماوج في أذنيه حديث الرجلين اللذين يكادان يحملانه كلية كأنما هما رجلان سكرانان فوق أرض زلقة. كانت ثمة بقعة سوداء كبيرة تمسك بخناقه، وارتعاشات باردة مفاجئة تمر عبر جسده فتشعل من جديد رماد خيالاته المحترقة.
صفحة غير معروفة