106

السيد الرئيس

تصانيف

في طريق المنفى

تعثر بغل الجنرال «كاناليس» في ضوء الغسق الخافت، وقد أسكره التعب الذي يرزح فيه تحت الثقل المصمت للراكب الذي يتعلق في حافة السرج الأمامية. كانت الأطيار تحلق فوق الغابات، والسحب تعبر فوق الجبال، صاعدة هنا، هابطة هناك؛ هابطة هنا، صاعدة هناك، تماما كما كان الراكب يصعد ويهبط (قبل أن يتغلب عليه النوم والإجهاد) فوق تلال لا معابر فيها، وعبر أنهار فسيحة مليئة بالصخور أنعشت مياهها المتدفقة بغله، عبر منحدرات يبرقشها الطين وتنزلق عليها الحجارة فتتفتت نثارا على الوهاد، عبر أجمات مليئة بالعوسج، وعلى طول ممرات الماعز التي تعيد إلى الذهن ذكرى الساحرات وقطاع الطرق.

كان لسان الليل متدليا. عصبة من أرض المستنقعات. ثم برز شكل طيفي، ورفع الراكب من على بغله، وقاده إلى كوخ مهجور ثم رحل في صمت. بيد أنه عاد على الفور. لا بد أنه كان قد خرج بين طيور «الزيز» التي تغني: كوكوكوكو، كوكوكوكو، كوكوكوكوكو! وبقي برهة قصيرة في الكوخ ثم اختفى كالدخان. ثم عاد ثانية. وظل يدخل ويخرج، يدخل ويخرج. كان الأمر يبدو كما لو أنه يخرج ليعلن ما وجده، ثم يعود كيما يتأكد من وجوده. وبدت الطبيعة كأنما تتابع دخلاته وخرجاته التي تشبه دخلات السحلية وخرجاتها، كالكلب الأمين، يهز ذيلا من الأصوات «كوكوكوكو، كوكوكوكو، كوكوكوكو» في صمت الليل.

وفي النهاية، عاد إلى الكوخ ولم يرحل. كانت الريح تقفز وسط أفنان الأشجار. وكان النهار يطلع على المدرسة الليلية التي تتعلم فيها الضفادع مطالعة النجوم. جو من الهضم السعيد. حواس الضوء الخمس. وأخذت الأشياء تتخذ شكلا أمام عيني الرجل الذي كان يجلس القرفصاء على الباب، رجل طيب وجل، سكت إجلالا لطلعة الفجر وتنفس الراكب النائم البريء. في الليلة الماضية لم يكن إلا طيفا، وهو الآن رجل من لحم ودم، إنه هو الذي قاد بغل الراكب. وحين بزغ الضوء أشعل نارا، واضعا أحجار الموقد الداخنة غير المتساوية على هيئة الصليب، كاشطا الرماد المحترق بقطعة من الخشب، وجامعا ركية من الأغصان الجافة والخشب الطري. والخشب الطري لا يحترق في هدوء، إنما يتكلم كالببغاء، ويشتم، ويتقلص، ويضحك، ويبكي. واستيقظ الراكب وقد تجمد خوفا مما يراه، ولم يكن قد استجمع وعيه بعد. وقفز قفزة واحدة إلى الباب ومسدسه في يده، عازما على أن يدافع عن نفسه حتى النهاية. ولم يفزع الرجل الآخر من فوهة المسدس المصوب نحوه، بل أشار في صمت إلى إناء القهوة الذي يجيس بالغليان إلى جوار النار. ولكن الراكب لم يأبه له، وتقدم ببطء تجاه الباب - فقد ظن أن الكوخ لا بد محاصر بالجنود - ولم ير أمامه إلا سهلا فسيحا يستحم في ضوء الفجر الوردي. بعيدا. كالجلد الأزرق. أشجار. سحب. دغدغة زقزقة العصافير. وكان بغله غافيا تحت شجرة تين. ووقف يصغي دون أن تطرف عيناه كيما يختبر ما يراه أمامه، ولم يسمع شيئا على الإطلاق إلا الكونسير المتناغم للطيور والسريان البطيء لجدول رقراق، تركت مياهه الوفيرة هسيسا لا يكاد يسمع في الهواء النقي، كالسكر المسحوق الذي يسقط في قدح من القهوة الساخنة.

قال الرجل الذي قاد بغله، وهو يكوم وراءه أربعين أو خمسين كوز ذرة في حرص: إنك لست من رجال الحكومة؟

ورفع الراكب عينيه ونظر إلى رفيقه، ثم هز رأسه من جانب إلى آخر دون أن يحرك فمه عن قدح القهوة.

فغمغم الآخر بسيماء ماكرة، وهو يسرح الطرف في أرجاء الحجرة كعيني كلب ضال: تاتيتا!

1 - «إنني هارب ...»

وتوقف الآخر عن إخفاء أكواز الذرة وذهب يصب مزيدا من القهوة لرفيقه. لم يكن بوسع «كاناليس» الحديث عما وقع له من مصائب. - إنك مثلي يا سيدي! إنني هارب بسبب ما استولي عليه من أكواز الذرة. ولكني لست لصا. لقد كانت هذه الأرض أرضي إلى أن استولوا عليها مني، وبغالي أيضا ...

واهتم الجنرال كاناليس بما كان يقوله الهندي، وأراد أن يسمع تفسيره كيف يسرق المرء ثم لا يعد لصا. - «سوف أخبرك يا «تاتيتا» كيف أسرق رغم أنني لست لصا محترفا. لقد كنت قبل هذا مالكا لقطعة أرض صغيرة بالقرب من هنا، وثمانية بغال. كان لدي منزلي، وزوجتي وأولادي، وكنت شريفا مثلك تماما ...» - أجل، ثم ماذا حدث؟ - «منذ ثلاثة أعوام، جاء إلى هنا المندوب السياسي وأخبرني أن أقوم بنقل حمل من أخشاب الصنوبر على بغالي للاحتفال بعيد ميلاد السيد الرئيس. فأخذتها يا سيدي، وماذا كان بوسعي أن أفعل غير هذا؟ وحين وصل وشاهد بغالي، وضعني في السجن في زنزانة انفرادية، ثم اقتسم مع العمدة - وهو خلاسي - حيواناتي. وحين طالبت بما أستحق من نقود لديهما على عملي، قال لي المندوب إنني حيوان وإنني إذا لم أطبق فمي فورا فسوف يضعني في السجن مرة أخرى. فقلت له: «حسنا جدا يا سيدي المندوب، افعل معي ما تريد، ولكن البغال ملكي.» ولم أستطع أن أنطق حرفا أكثر من ذلك يا تاتيتا؛ لأنه ضربني ضربة عنيفة على رأسي بزناره حتى إنه كاد أن يقتلني.»

صفحة غير معروفة