105

السيد الرئيس

تصانيف

عيناها الخضراوان ... لماذا يلوح السائقون بقفازاتهم البيضاء في الظلمة؟ ... ووراء موكب الجنازة، يغني هيكل عظمي مليء بعظام أفخاذ الأطفال: «أيها القمر، أيها القمر، خذ برقوقتك، وألق الحجر في البحيرة!» - وكل عظمة صغيرة رقيقة تغني هذه الأغنية: «أيها القمر، أيها القمر، خذ برقوقتك، وألق الحجر في البحيرة!» وعظام الحوض بعيون مستطيلة كالعراوي: «أيها القمر، أيها القمر، خذ برقوقتك، وألق الحجر في البحيرة! ... لماذا يتعين على الحياة اليومية أن تستمر؟ ... لماذا يستمر الترام يسير؟ ... لماذا لا يموت كل الناس؟ ... بعد جنازة «كميلة» لا يمكن أن تكون الأشياء على حالتها السابقة، كل شيء تافه، زائف، لا وجود له ... من الأفضل لو استطاع الضحك ... البرج ينحني من فرط الضحك ... وهم يفتشون جيوبها بحثا عن تذكارات ... التراب الذي خلفته أيام «كميلة» ... لا قيمة له ... خيط ... ينبغي أن تكون «كميلة» هنا الآن ... خيط ... بطاقة قذرة ... أوه، ووجنة ذلك الدبلوماسي الذي يأتي بالنبيذ والبضائع المعلبة دون رسوم جمركية ثم يبيعها لحانوت يملكه نمساوي من أرض «التيرول» ... دع العالم كله يغني ... حطام سفينة ... أطواق النجاة كالتيجان البيضاء ... دع العالم كله يغني ... كميلة، ساكنة بين ذراعيه ... مقابلة ... يد قارع الجرس ... إنهم يقلبون نواصي الطريق رأسا على عقب ... شاحبة من الانفعال ... تتميز غيظا، صامتة، متفسخة ... لماذا لا يقدمون لها ذراعهم؟ ... وتترك نفسها تهبط بنسيج حاسة اللمس لديها، تستند على الذراع التي تنقصها؛ وهي لا تمسك إلا بردن السترة الفارغ ... في أسلاك البرق ... لقد أضاع وقته ينظر إلى أسلاك البرق، ومن منزل ضخم في «حارة اليهود» يخرج خمسة رجال مجبولين من الزجاج المعتم، يعترضون طريقه، كل واحد منهم ينز من صدغه سيل من الدماء ... ويحارب يائسا ليصل إلى المكان الذي تنتظره فيه كميلة، يعبق برائحة صمغ طوابع البريد ... وبعيدا يرى جبل الكرمل.

ويحاول ذو الوجه الملائكي في حلمه المتقطع أن يشق طريقه إلى الخارج. إنه أعمى ... إنه يبكي ... ويحاول أن يعض خيط الظلمة الرفيع الذي يفصله عن حجر النمل البشري الذي يقام تحت تندات من القش على التل الصغير لبيع اللعب والفاكهة والحلوى ... ويشرع مخالبه ... وينتصب شعره ... وينجح في عبور جسر صغير ويجري لمقابلة كميلة، ولكن الرجال الخمسة المجبولين من الزجاج المعتم يعترضون طريقه ثانية. إنهم يقسمونها شرائح صغيرة لعيد القربان المقدس! ويصيح فيهم: «دعوني أمر قبل أن يدمروها كلية. إنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها لأنها ميتة! ألا ترون؟ انظروا، انظروا! كل ظل له ثمرة فاكهة وثمة شذرة من «كميلة». مبثوثة في كل ثمرة!» كيف يصدق المرء عينيه؟ لقد رأيتها مدفونة وكنت على ثقة من أنها ليست هي، إنها هنا في عيد القربان المقدس، في هذه المقبرة، تعبق برائحة السفرجل والمانجو الكمثرى والخوخ؛ وصنعوا من جسدها حمائم صغيرة بيضاء، عشرات ... مئات من الحمائم القطنية البيضاء الصغيرة مربوطة بشرائط ملونة مطرز عليها عبارات مثل «اذكريني» «حب خالد» «أنت في بالي دائما» «حبني إلى الأبد» «لا تنسني». ويغرق صوته في صوت الأبواق الصبيانية الحاد، والطبول المصنوعة من أمعاء السنوات العجاف والخبز العفن؛ وفي جمهرة الناس (آباء يصعدون بخطى متثاقلة، وأطفال يطاردون بعضهم بعضا)؛ وفي صلصلة الأجراس في أبراج الكنائس، وفي حمأة الشمس، وفي دفء الشموع العمياء في الظهيرة، في وعاء القربان المقدس المتلألئ ... ويندمج الرجال الخمسة المجبولون من الزجاج المعتم في رجل واحد، شكل مجبول من دخان غاف ... ومن بعيد، لا يبدو لهم مظهر ملموس ... إنهم يشربون مياها غازية ... راية من المياه الغازية مرفوعة في الأيدي ترفرف كالصرخات ... متزلجون على الجليد ... «كميلة» تنزلق بين متزلجين خفيين، عبر مرآة عامة تعكس الخير والشر بلا محاباة . وشنفت الآذان برنة صوتها المعطر وهي تحاول أن تدافع عن نفسها بقولها: «كلا، كلا، ليس هنا !» «ولكن، لم لا هنا؟» «لأنني ميتة» «وماذا يهم ذلك؟» «ذلك ...» «ماذا؟ قولي ماذا؟» ومر بين الاثنين تيار من الهواء البارد من السماء الرحيبة وطابور من الرجال يرتدون بناطيل حمراء. وخرجت «كميلة» وراءهم. وبدافع المفاجأة يندفع هو وراءها ... ويقف الطابور فجأة مع آخر دقة من الطبول ... ويتقدم السيد الرئيس ... هيئته موشاة بالذهب ... «تانتارارا!» ويتقهقر الجمهور مرتعدا ... ويلعب الرجال ذوو البناطيل الحمراء برءوسهم.

برافو ... برافو! أعيدوا مرة ثانية! مرة أخرى، أحسنتم! ولكن الرجال ذو البناطيل الحمراء لا يطيعون أوامر رؤسائهم بل يطيعون صوت الجمهور ويستمرون في اللعب برءوسهم ... ثلاث مرات ... واحد: ارفع الرأس عاليا ... اثنان: اقذفها عاليا كيما تمشط بين النجوم ... ثلاثة: التقطها بين يديك وأعدها إلى مكانها ... برافو، برافو! أعيدوا مرة ثانية! مرة ثانية! أحسنتم! مرة ثانية! إن ذلك يقشعر البدن ... وتموت الأصوات تدريجيا ... وتسمع الطبول ... ويرى كل شخص شيئا لا يريد أن يراه. ويخلع الرجال ذوو البناطيل الحمراء رءوسهم ويقذفون بها في الهواء، ولكنهم لا يلتقطونها حين تهبط. وتتهشم الجماجم على الأرض أمام صفي الأشخاص الجامدين وأيديهم مقيدة وراء ظهورهم.

وأيقظت ذا الوجه الملائكي دقتان عاليتان على الباب. يا له من كابوس مريع! شكرا لله على أن الحقيقة مختلفة تماما. إن اليقظة من كابوس يخلف في النفس ذات الشعور الذي تخلفه العودة من جنازة. وجرى ليرى من يدق الباب. أهي أنباء عن الجنرال أو استدعاء عاجل من السيد الرئيس؟ - صباح الخير.

ووجد ذو الوجه الملائكي شخصا أطول منه، وردي الوجه، يحني رأسه لينظر إليه خلال عويناته السميكة. ورد ذو الوجه الملائكي: صباح الخير. - «معذرة. ربما يمكنك أن تخبرني ما إذا كانت السيدة التي تطبخ الطعام للموسيقيين تعيش هنا. إنها سيدة ترتدي السواد ...»

وأغلق ذو الوجه الملائكي الباب في وجهه. وكان الرجل قصير النظر لا يزال يتطلع حواليه باحثا عنه. ولما رأى أنه ليس هناك، دق على الباب التالي. - «وداعا «نينيا توماسيتا» حظا سعيدا!» - إني ذاهبة إلى الميدان الصغير.

كان الصوتان قد تكلما في نفس الوقت. وحين ذهب ذو الوجه الملائكي كي يفتح الباب، كانت «لامسكواتا» قد وصلت بالفعل.

وسأل ذو الوجه الملائكي «لامسكواتا» التي عادت لتوها من زيارة السجن: كيف الحال؟ - نفس الشيء. - ماذا قالوا؟ - لا شيء. - هل رأيت «فاسكيز»؟ - هل رأيته؟ لا أظن. لقد أخذوا سلة إفطاره ثم أعادوها ثانية، وهذا كل شيء. - إذن فهو ليس في السجن؟ - لقد كدت أصعق حين أعادوا السلة كما هي، بيد أن سيدا أخبرني أنه قد عاد لعمله. - مأمور السجن؟ - كلا. لقد وجهت إلى ذلك المتوحش ما فيه الكفاية. لقد كان يريد أن يخدعني. - كيف تظنين حال كميلة؟ - إن المرض يأخذ مجراه. أجل، إن المرض يأخذ مجراه! - إن حالتها في غاية السوء، أليس كذلك؟ - إنها محظوظة. ما أحسن أن يمضي المرء قبل أن يعرف ماهية الحياة! إني أشعر بالحزن لأجلك أنت. إن عليك أن تذهب وتصلي ليسوع في كنيسة «لامرسيد». من يدري، ربما يأتي بمعجزة من أجلك. هذا الصباح، قبل أن أذهب إلى السجن، أشعلت شمعة هناك وقلت له: اسمع يا صغيري الأسود، ها أنا آتية إليك، لأنك أبونا ويجب أن تصغي إلينا: إن بوسعك أن تنقذ حياة هذه الفتاة، لقد رجوت العذراء أن تنقذها قبل أن أنهض اليوم وها أنا أضايقك الآن لنفس السبب؛ سوف أترك لك هذه الشمعة وأذهب وأنا واثقة من قدرتك، ولكني سوف أعود سريعا كيما أذكرك برجائي!

وتذكر ذو الوجه الملائكي حلمه وهو لا يزال شبه نائم. ومن بين الرجال ذوي البناطيل الحمراء، كان المدعي العسكري العام - بوجه بومة - يتبارز مع رجل مجهول، ويقبله، ويلعقه، ويأكله، ويتبرزه، ثم يأكله مرة أخرى ...

الفصل السابع والعشرون

صفحة غير معروفة