الجزء الأول: 2 و22 و23 أبريل
1 - في «رواق الرب»
2 - موت «الذبابة»
3 - فرار الأبله
4 - ذو الوجه الملائكي
5 - ذلك الحيوان!
6 - رأس جنرال
7 - غفران كبير الأساقفة
8 - أراجوز الرواق
9 - عين زجاجية
10 - أمراء الجيش
11 - الاختطاف
الجزء الثاني: 24 و25 و26 و27 أبريل
12 - كميلة
13 - اعتقالات
14 - فليغن العالم جميعه!
15 - الأعمام والعمات
16 - في سجن «كاسا نويفا»
17 - أحابيل الغرام
18 - طرقات على الباب
19 - الحسابات والشيكولاتة
20 - ذئاب من نفس النوع
21 - حلقة مفرغة
22 - القبر الحي
23 - تقرير عن الرسائل الموجهة إلى السيد الرئيس
24 - دار الدعارة
25 - حاجز الموت
26 - زوبعة
27 - في طريق المنفى
الجزء الثالث: أسابيع، وشهور، وسنوات ...
28 - حديث في الظلام
29 - مجلس عسكري
30 - زواج في ظلال الموت
31 - حراس من جليد
32 - السيد الرئيس
33 - النقاط فوق الحروف
34 - نور للعميان
35 - نشيد الأنشاد
36 - الثورة
37 - رقصة «توهيل»1
38 - الرحلة
39 - الميناء
40 - دجاجة عمياء
41 - كل شيء على ما يرام
خاتمة
الجزء الأول: 2 و22 و23 أبريل
1 - في «رواق الرب»
2 - موت «الذبابة»
3 - فرار الأبله
4 - ذو الوجه الملائكي
5 - ذلك الحيوان!
6 - رأس جنرال
7 - غفران كبير الأساقفة
8 - أراجوز الرواق
9 - عين زجاجية
10 - أمراء الجيش
11 - الاختطاف
الجزء الثاني: 24 و25 و26 و27 أبريل
12 - كميلة
13 - اعتقالات
14 - فليغن العالم جميعه!
15 - الأعمام والعمات
16 - في سجن «كاسا نويفا»
17 - أحابيل الغرام
18 - طرقات على الباب
19 - الحسابات والشيكولاتة
20 - ذئاب من نفس النوع
21 - حلقة مفرغة
22 - القبر الحي
23 - تقرير عن الرسائل الموجهة إلى السيد الرئيس
24 - دار الدعارة
25 - حاجز الموت
26 - زوبعة
27 - في طريق المنفى
الجزء الثالث: أسابيع، وشهور، وسنوات ...
28 - حديث في الظلام
29 - مجلس عسكري
30 - زواج في ظلال الموت
31 - حراس من جليد
32 - السيد الرئيس
33 - النقاط فوق الحروف
34 - نور للعميان
35 - نشيد الأنشاد
36 - الثورة
37 - رقصة «توهيل»1
38 - الرحلة
39 - الميناء
40 - دجاجة عمياء
41 - كل شيء على ما يرام
خاتمة
السيد الرئيس
السيد الرئيس
تأليف
ميغل أنخل أستورياس
ترجمة
ماهر البطوطي
الجزء الأول
2 و22 و23 أبريل
الفصل الأول
في «رواق الرب»
دنغ دانغ دونغ، دنغ دانغ دونغ!
ترددت رنات أجراس الكتدرائية كالأزيز في الأذن، تدعو الناس إلى الصلاة، كالارتداد القلق من الضياء إلى الظلمة ومن الظلمة إلى الضياء. دنغ دانغ دونغ، دنغ دانغ دونغ دانونغ، دانونغ دونغ دانغ دانغ، دنغ دانونغ ... دنغ دونغ دانغ ... دانونغ.
وجر الشحاذون أرجلهم وسط المطاعم الشعبية الصغيرة في السوق، ضائعين في ظلال الكتدرائية المتجمدة، في طريقهم إلى «ميدان السلاح»، على طول شوارع رحبة كأنها البحار، تاركين وراءهم المدينة منعزلة وحيدة.
كان الليل يجمع بينهم كما هي الحال مع نجوم السماء، فيتلاقون ليناموا معا في «رواق الرب» القريب من الكتدرائية، من غير ثمة رابط بينهم سوى الشقاء؛ يتبادلون الشتائم، وينهالون بألوان السباب بعضهم على بعض؛ ينبشون خصومات قديمة، ويتشاجرون بإلقاء الأتربة وبالبصق والعض أحيانا في سورة الغضب. ولم تعرف الوسائد ولا الثقة طريقها أبدا نحو تلك الأسرة من أقارب الدرك الأسفل. كانوا يرقدون بعيدا بعضهم عن بعض، دون أن يبدلوا ملابسهم. وينامون كاللصوص، رأسهم فوق كل رأس مالهم: قطع من اللحم، أحذية بالية، أعقاب شموع، حفنات من الأرز المطبوخ ملفوفة في أوراق صحف قديمة، حبات برتقال عطنة وأصابع موز معطوبة. تراهم على السلم المفضي إلى الرواق، وجوههم نحو الحائط. يحصون نقودهم، يعضون بنواجذهم على العملات المعدنية ليروا ما إذا كانت مزيفة؛ يحادثون أنفسهم، ويتعرضون خزينهم من الطعام ومن السلاح، فهم يتسلحون في تجوالاتهم اليومية بقط من الحجارة وصور من التعاويذ، ويلتهمون في الخفاء قطعا من الخبز المقدد. ولم يعرف عن أحدهم أنه أغاث رفيقا له في محنة واجهها، يعطيهم البخل فيما لديهم من فتات، وهم في ذلك مثل غيرهم من الشحاذين، يفضلون إلقاءه إلى الكلاب على أن يقدموه إلى أحد الرفاق ممن يشاطرهم الشقاء.
وبعد أن يشبعوا نهم بطونهم، ويضعوا نقودهم في منديل يعقدونه سبع مرات ويربطونه على سررهم، يلقون بأجسادهم على الأرض ويستغرقون في أحلام مضطربة حزينة، وكوابيس يرون فيها قطعان الخنازير الجائعة تمر أمام أعينهم، ونسوة عجافا، وكلابا ممزقة، وعجلات مركبات، وجنازة تتكون من أطياف قسس يدلفون إلى الكتدرائية تتقدمهم شظية من القمر مصلوبة على عظمة ساق متجمدة. وأحيانا ما يستيقظون من نومهم فزعين على صرخة مجنون ضل طريقه في «ميدان السلاح»، أو على نشيج عمياء تحلم بأن الذباب يغطيها بينما هي معلقة من مسمار كبير كاللحم في حوانيت الجزارين، أو على خطوات دورية شرطة تجرجر مسجونا سياسيا وتضربه، ووراء الموكب نسوة يمسحن آثار الدماء التي يخلفها الجريح بمناديلهن المغموسة بالعويل، أو على شخير مريض ينخر فيه الجرب، أو زفير شحاذة صماء بكماء حبلى تبكي من الخوف لأنها تشعر بطفل يتحرك داخل أحشائها. ولكن صرخة الأبله كانت أكثر الأشياء إثارة للحزن. إنها صرخة تشق عنان السماء. صرخة طويلة تكشف الأسرار وتخلو من أي نبرة إنسانية.
وفي أيام الآحاد، كان يهبط على هذه الجماعة الغريبة سكير دأب في منامه على أن ينادي أمه وهو يبكي كالطفل الصغير. وكان الأبله عندما يسمع كلمة «أماه» التي تصدر عن شفتي السكير على هيئة نواح وسباب، ينتصب في مكانه ويلتفت متطلعا إلى جميع الأنحاء أمامه في الرواق؛ وبعد أن يكتمل استيقاظه ويوقظ رفاقه بصيحاته، يبكي من الخوف ويشارك السكير نواحه.
الكلاب تنبح، وأصوات غريبة تسمع. وينهض المشاكسون من نومهم يزيدون من الضجيج إذ هم يطالبون بالصمت، فإذا لم يسد الصمت فسوف تأتي؟ ولكن الشرطة لم تكن لتهتم أي اهتمام بالشحاذين، فلم يكن أي منهم بقادر على دفع قيمة الغرامة. ويهتف «ذو القدم المسطوحة»: «تحيا فرنسا»، وسط صياح الأبله وحركاته المضحكة، الذي أصبح في نهاية الأمر مثار سخرية للشحاذين؛ لأن ذلك الأعرج الوغد ذا الألفاظ النابية كان يقلد السكير في بعض الليالي أسبوعا وراء أسبوع. وهكذا كان ذو القدم المسطوحة يقلد السكير بينما كان الأبله، الذي يحاكي الأموات في نومه، ينتفض على كل صرخة دون أن يلتفت إلى الأجسام الملقاة على الأرض ملتفة في دثارات ممزقة. فإذا ما رآه رفاقه على تلك الحال من الجنون رشقوه بكلمات السباب والسخرية الحادة. وكان ينقلب نائما إذا ما هده النواح، مشيحا بعينيه عن وجوه رفاقه الفظيعة، دون أن يرى شيئا، ودون أن يسمع شيئا، ودون أن يشعر بأي شيء. ولكنها كانت حكاية كل ليلة، فما يكاد يغلفه النوم حتى يوقظه صياح ذي القدم المسطوحة مرة أخرى: «أماه»!
وفتح الأبله عينيه مرة واحدة، كما يفعل من يحلم بأنه يدور ويلف في الفضاء، وبسط حدقتيه أكثر وأكثر وانكمش على نفسه كما لو كان قد أصابه جرح مميت ، وأخذت الدموع تهطل من عينيه. وبعد ذلك، تسلل إليه النوم رويدا رويدا بعد أن هزمه النعاس وتحول جسده إلى عجينة من النشاء، وترددت في ذهنه المكدود مخاوف غامضة. ولكنه ما كاد يخلد إلى نومه حتى أوقظه صوت آخر مختلف يصيح «أماه»!
كان صوت الشحاذ «فيودا» وهو خلاسي منحط أخذ يردد بين الضحكة والأخرى في عويل كالعجوز: «يا أم الرحمة، يا أملنا، ليحمك الله، إننا نضرع إليك نحن المحرومين الضعفاء ...»
واستيقظ الأبله ضاحكا، وبدا كما لو أنه يضحك هو الآخر من بؤسه وجوعه حتى تطفر الدموع من عينيه، بينما الشحاذون يقرعون الهواء بضحكاتهم وقهقهاتهم، ضحكاتهم ... وقه ... قها ... تهم. وفقد رجل سمين، ينضح شارباه بمرق الخضار، أنفاسه من كثرة الضحك، بينما لم يستطع واحد منهم ذو عين واحدة أن يحصر بوله وأخذ يضرب رأسه في الحائط كالتيس؛ أما العميان فأخذوا يتشكون بأنهم لا يستطيعون النوم وسط هذه الجلبة، وكذلك الشحاذ الذي يكنى ب «الذبابة»، الذي قال إن اللواطيين فقط هم الذين يستريحون إلى مثل ذلك الجو.
ولم يلتفت أحد إلى احتجاجات العميان. أما ملاحظة «الذبابة» فلم يكد يسمعها أحد. ومن ذا الذي يهمه الترهات التي يرددها: «أنا الذي قضيت طفولتي في معسكر المدفعية، وقد صنعت أقدام البغال ورفسات الضباط مني رجلا. رجلا يستطيع أن يعمل كالحصان، وهذا ما نفعني حين اضطررت إلى أن أجر آلة الموسيقى في الشوارع؛ أنا الذي فقدت بصري في إحدى الحانات، ولا أعلم كيف، وساقي اليمنى في حانة أخرى، ولا أعلم متى، وساقي الأخرى في حانة ثالثة، ضحية سيارة، ولا أعلم أين»!
وذاع بين سكان الحي على لسان الشحاذين أن الأبله يفقد صوابه إذا ذكر أحد أمه أمامه، وكان هذا التعس يطوف الشوارع والميادين والساحات والأسواق محاولا الهرب من الدهماء الذين يصيحون به هنا وهناك بكلمة «أماه»، كأنما هي لعنة من لعنات السماء. وكان يدلف إلى المنازل محاولا الاحتماء فيها، ولكنه يعود إلى الطريق حين يطرده منها الكلاب تارة والخدم تارة أخرى. كانوا يطردونه من الكنائس، ومن الحوانيت ، ومن كل الأنحاء، دون اعتبار للتعب الذي يأخذ بخناقه، ولا لعينيه اللتين كانتا تتضرعان دونما شعور طلبا للمغفرة.
وأخذت المدينة الكبيرة، التي كانت تزداد كبرا بالنسبة إلى شدة تعبه، تتضاءل وتتضاءل أمام ما يشعر به من يأس. كانت ليال من الفزع تتتابع بعد أيام من الاضطهاد، حيث كان يطارده أناس لا يكتفون بالصياح في وجهه: «سوف تتزوج أمك يوم الأحد القادم أيها الأبله الصغير ... أمك العجوز ... ها ... ها ... ها!» ولكنهم كانوا يضربونه أيضا ويمزقون ملابسه. وحين يطارده الأطفال كان يلتجئ إلى الأحياء الفقيرة ... ولكن مصيره فيها لم يكن أقل سوءا. كان الناس هناك يعيشون في وهدة من الفقر المدقع، ولم يكتفوا بقذفه بالإهانات، ولكنهم كانوا يرجمونه أيضا بالحجارة وبالفئران الميتة وبعلب الصفيح الفارغة، بينما هو يجري أمامهم في رعب وفزع.
وفي يوم من الأيام، عاد من تجواله في الضواحي إلى «رواق الرب» حين كان جرس صلاة الظهيرة يدق، وكان عاري الرأس جريح الجبهة، يجر خلفه ذيل قطة ربطوه إلى قدمه للسخرية منه. كان كل شيء يثير فيه الفزع: ظلال الجدران، الكلاب التي تجري، الأوراق التي تتساقط من الأشجار، ضجيج عجلات السيارات. وحين وصل إلى الرواق، كان الظلام قد انسدل، وكان الشحاذون يجلسون ووجوههم إلى الحائط يحصون مكاسبهم. كان «ذو القدم المسطوحة» يتشاجر مع «الذبابة»، بينما الصماء البكماء تتحسس بطنها المتكور، والعمياء معلقة في أحلامها من الخطاف يغطيها الذباب كأنها قطعة من اللحم في حانوت الجزار. وسقط الأبله على الأرض كأنه قد مات. لم يكن قد أغلق عينيه منذ عدة ليال، ولا أراح قدميه أياما. كان الشحاذون يهرشون مكان لدغات القمل في صمت، ولكن لم يكن في استطاعتهم النوم. كانوا ينصتون إلى خطوات رجال الشرطة يذهبون هنا وهناك في الميدان الذي تشوبه الظلمة، وأصوات رجال الدوريات وهم يتبادلون السلاح ويقفون وقفة انتباه كأنهم الأشباح في عباءاتهم المخططة أمام نوافذ الثكنات المجاورة، وهم يقومون بنوبة حراستهم الليلية في خدمة رئيس الجمهورية. لم يكن أحد يعرف أين هو، فقد كان يشغل عدة منازل خارج المدينة في نفس الوقت؛ ولم يكن أحد يعرف كيف ينام، فقد قال البعض إنه ينام إلى جوار الهاتف يحمل سوطا في يده، كما لم يكن أحد يعرف متى ينام؛ فقد كان أصدقاؤه يزعمون أنه لا ينام على الإطلاق.
وتقدم شبح شخص إلى «رواق الرب». وأقعى الشحاذون على أنفسهم مثل الديدان، وأجاب على صرير الأحذية العسكرية نعيق طائر مشئوم في ظلام الليل الساري العميق.
وفتح ذو القدم المسطوحة عينيه. كان ثمة خطر ماثل يهدد بنهاية العالم. وقال للبومة: «ها ... ها ... افعلي ما تشائين. إني لا أريد بك خيرا ولا شرا. ولكن فلتذهبي إلى الشيطان رغم هذا.»
وتحسس «الذبابة» وجهه بيديه. كان الهواء ثقيلا كأنما ثمة زلزال على وشك أن يقع. ورسم «فيودا» علامة الصليب وهو يجلس وسط العميان. وكان الأبله هو الوحيد الذي يغط في نوم عميق.
وتوقف الشبح، وارتسمت ابتسامة على وجهه. وسار نحو الأبله على أطراف أصابعه، ثم صاح فيه برنة مزاح: «أماه». ولم ينبس ببنت شفة بعد ذلك، فقد نهض الأبله من على الأرض بفعل ذلك النداء ووثب فوق الشبح دون أن يعطيه أي فرصة يستخدم فيها سلاحه، ودفع أصابعه في عينيه وهشم أنفه بعضاته، ورفسه أسفل بطنه بركبتيه إلى أن تركه جثة هامدة بلا حراك.
وأغلق الشحاذون أعينهم في رعب. وعبرت البومة المكان مرة أخرى، وهرب الأبله عبر الطرقات التي يلفها الضباب وقد أعماه الخوف والجنون. كانت قوة عمياء قد انتزعت لتوها الحياة من الكولونيل «خوسيه بيراليس سونرينتي». الذي يكنى «الرجل ذا البغل الصغير». وكان هو الرجل الذي قتله الأبله في سورة غضبه وجنونه.
وكان الفجر يقترب.
الفصل الثاني
موت «الذبابة»
كانت الشمس تجلل الأطراف البارزة من مبنى مركز الشرطة بأشعتها الذهبية، حيث يمر بعض الناس عبر طريق الكنيسة البروتستانتية، وهنا وهناك باب مفتوح، وبناء من الطوب الأحمر يقوم البناءون بتشييده. وفي المركز، كانت مجموعات من النسوة الحافيات يجلسن في انتظار المسجونين، قابعات في الفناء حيث يهطل المطر على الدوام، وكذلك في مصاطب الردهات المظلمة، يحملن سلال الفطور في حجورهن، وحولهن عديد من الأطفال الصغار يتعلقون بأثدائهن، والكبار منهم يهددون بالتهام أرغفة العيش التي تطل من السلال بأفواههم الفاغرة النهمة. وكانت النسوة يفضين بمتاعبهن بعضهن إلى بعض في صوت خفيض، باكيات على الدوام، ويمسحن عيونهن بأطراف عباءاتهن. وكانت هناك عجوز ذات عينين غائرتين، هدتها الملاريا، تبكي في حرقة وفي صمت، كأنما تريد أن تبدي أنها تعاني أكثر منهن بوصفها أما. هنا كانت شرور الحياة تبدو لا علاج لها، في مكان الانتظار الكئيب ذاك؛ حيث لا يوجد ما تستقر عليه العين سوى شجيرتين أو ثلاث، ونافورة جفت المياه منها، ورجال الشرطة عجاف الوجوه ينظفون ياقات قمصانهم بريق شفاههم. ولم يكن أمام النسوة إلا أن يسلمن أمرهن إلى الله القادر العليم.
وظهر شرطي خلاسي
1
يجر وراءه «الذبابة». كان قد قبض عليه إلى جوار «مدرسة المشاة». وكان الشرطي يشده من يده ويهزه من جانب لآخر كأنما هو قرد. ولكن النسوة لم يجدن في ذلك شيئا مضحكا؛ فقد كن مشغولات بمراقبة حركات السجانين وهم يحملون سلال الفطور ثم يعودون إليهن بأخبار السجناء: «يقول: لا تقلقوا عليه؛ فالأمور قد تحسنت فعلا!» يقول: «إن عليكم أن تشتروا له ما قيمته أربعة قروش من مرهم الزئبق حالما يفتح الصيدلي.» «يقول: لا تصدقوا ما قاله لكم ابن عمه.» «يقول: ابحثوا له عن محام، أو عن طالب في كلية الحقوق حتى لا يكلفكم كثيرا»! «يقول: الأمر لا يستحق كل ذلك، فليست هناك نسوة معهم تبرر الشعور بهذه الغيرة. لقد أحضروا واحدة ذلك اليوم، فبحث لنفسه عن صديق على الفور»! «يقول: أرسلوا إليه مسهلا حتى يستطيع أن يفرغ بطنه»! «يقول: إنه غاضب منكم لأنكم قد بعتم الصوان».
واحتج «الذبابة» على المعاملة التي يلقاها من الشرطي وقال له: «إيه ... أنت ... ماذا تظن أنك فاعل؟ ألا تشعر بأية شفقة؟ ألأني فقير؟ أنا فقير ولكني شريف. اسمع: إنني لست ابنك أو لعبتك أو حيوانك الأليف، ولا أي شيء حتى تعاملني هكذا! إنها لعبة ظريفة أن تعاملونا هذه المعاملة وتجرونا بهذه الطريقة كيما تحظوا برضاء الأمريكان. يا لها من لعبة قذرة! كما لو كنا ديوكا على مائدة عيد الميلاد. ولكن ... حتى المعاملة الحسنة لا نلقاها منكم! وحين جاء السيد فلان، حبسوا عنا الطعام ثلاثة أيام ونحن نتطلع عبر النافذة وقد التحفنا بالبطاطين كالمجانين ...»
وكانوا يقودون الشحاذين المقبوض عليهم إلى زنزانة ضيقة مظلمة تدعى «الثلاث ماريات». وارتفعت جلبة المفاتيح وهي تدور في الأبواب ولعنات السجانين الذين تفوح منهم نتانة العرق والتبغ، ثم ترددت صيحات «الذبابة» العالية مرة أخرى في هذه الأنفاق التحتية: «آه، يا له من شرطي! أيتها العذراء المقدسة، يا له من وغد! فليحمني منه يسوع المسيح!»
وكان رفاقه ينشجون كالحيوانات، تسيل أنوفهم وقد غمرهم العذاب من فرط الظلمة التي تحيط بهم من كل جانب، ويشعرون بأنهم لن يكون في مقدورهم الخلاص أبدا من وهدة السجن هذه التي سقطوا فيها؛ وغمرهم الخوف، فقد انتهى الأمر بكثير من الناس هنا إلى الموت جوعا وعطشا: وكان ينتابهم إحساس بأنهم سيضعونهم في القدور ويغلونهم على النار ويصنعون منهم طلاء للسيارات، كالكلاب، أو يذبحونهم ويقدمونهم طعاما لرجال الشرطة. ولاحت أمامهم الوجوه كأنها وجوه آكلي لحوم البشر، مضيئة كالفوانيس، يتقدم أصحابها عبر الظلال، وجناتهم كالأرداف، وشواربهم كأوراق الشيكولاتة المفضضة.
وكان ثمة طالب ومساعد قس في نفس الزنزانة. - سيدي، أعتقد لو لم أكن مخطئا أنك قد جئت إلى هنا أولا. أنت وأنا، أليس كذلك؟
تكلم الطالب لكي يقطع حبل الصمت، لكي يتخلص من بعض ما يشعر به من حزن في حلقه. ورد مساعد القس وهو يبحث في الظلمة عن وجه محدثه: أعتقد هذا. - و... حسنا. كنت سأسألك عن سبب القبض عليك. - بسبب السياسة. هكذا يقولون.
وارتجف الطالب من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، وقال بصعوبة شديدة: وأنا أيضا.
وفتش الشحاذون حول وسطهم بحثا عن كيس زوادهم الذي لا يفارقهم، غير أن الحراس كانوا قد جردوهم من كل شيء في مكتب مدير الشرطة، حتى مما يحملونه في جيوبهم، بحيث لم يعد معهم أي شيء حتى أعواد الثقاب . كانت الأوامر صريحة! ومضى الطالب في حديثه: وما هي قضيتك؟ - ليست لي قضية. إنني هنا بأمر من أعلى.
وارتد مساعد القس، وهو يقول هذا، إلى الخلف دافعا كتفه في الحائط كيما يسحق حشرات البق التي علقت به. - هل كنت ...
فرد مساعد القس بطريقة جافة: لا شيء! لم أكن شيئا ألبتة!
وفي هذه اللحظة سمع صرير الباب الذي انفتح على مصراعيه ليدخل منه شحاذ آخر.
وصاح «ذو القدم المسطوحة» وهو يدخل: «تحيا فرنسا!»
وقال مساعد القس: لقد سجنت ... تحيا فرنسا! - «... بسبب جريمة ارتكبتها بمحض الخطأ فبدلا من أن أزيل إعلانا عن السيدة العذراء من على باب الكنيسة التي أعمل بها، ذهبت وأزلت إعلانا عن الاحتفال بالذكرى السنوية لوالدة السيد الرئيس.»
وهمس الطالب بينما كان مساعد القس يمسح دموعه بأصابعه: ولكن، كيف علموا بالأمر؟ - لا أعرف. لقد أضاعني غبائي. وعلى كل حال فقد قبضوا علي وساقوني إلى مدير الشرطة الذي قام بإعطائي ما تيسر من اللكمات ثم أمر بأن أوضع في هذه الزنزانة، معزولا، باعتباري ثوريا، كما قال.
وبكى الشحاذون المتجمعون في الظلمة من فرط الخوف والبرد والجوع. ولم يكن أحد منهم يرى حتى يديه ذاتهما. وأحيانا كانوا يلجئون إلى السبات، ويسمع آنذاك زفير الصماء البكماء الحبلى يمرق من بينهم كأنما يبحث لنفسه عن مخرج.
ولم يدر أحد منهم متى أخرجوهم من هذا القبو، وربما كان ذلك في منتصف الليل؛ فالتحقيق يتناول جريمة سياسية كما قال لهم أحد الرجال ربعة القامة معرورق الوجه زعفراني اللون، ذو شارب ينسدل على شفتيه الغليظتين في إهمال، أفطس الأنف قليلا، وذو عينين مقنعتين. وقد انتهى هذا الرجل بسؤالهم جميعا فردا فردا عن مدى علمهم بالمسئول أو المسئولين عن جريمة «رواق الرب» التي ارتكبت في الليلة الفائتة في شخص أحد كبار رجال الجيش.
وكان ثمة مصباح يتصاعد منه الدخان يضيء الحجرة التي نقلوهم إليها، فبدا ضوءه الباهت كأنما يمر من خلال عدسات مملوءة بالمياه. ما هذا الذي يجري هنا؟ ما هذا الجدار؟ وما هذا الرف المليء بالأسلحة والذي يبدو أشد شراسة من أنياب النمر؛ وزنار الشرطي المليء بالذخيرة؟
وأثارت إجابات الشحاذين أعصاب المحقق، المدعي العسكري العام، فقفز من مقعده وصاح قائلا وهو يفتح عينيه الحجريتين من وراء نظارته الطبية السميكة ويضرب المائدة التي يستخدمها كمكتب بقبضة يده: سأستخلص منكم الحقيقة! وردد الواحد منهم بعد الآخر أن مقترف الجريمة هو الأبله، زميلهم الشحاذ ووصفوا بدقة تفاصيل الجريمة التي شاهدوا وقائعها بأعينهم.
وأشار المحقق من طرف خفي، فهجم رجال الشرطة، الذين كانوا يرهفون سمعهم من وراء الباب، على الشحاذين يوسعونهم ضربا ويدفعونهم نحو إحدى الردهات العارية من كل شيء، إلا من حبل غليظ يتدلى من سقفها.
وصرخ أول المعذبين في محاولة محمومة للهرب من التعذيب بذكر الحقيقة: إنه الأبله! إنه الأبله يا سيدي! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله بحق الإله! الأبله، الأبله، الأبله! ذلك الأبله. الأبله. ذاك، ذاك، ذاك! - لقد نصحوكم أن تقولوا لي ذلك. ولكن هذه الأكاذيب لا تجدي معي! الحقيقة أو الموت! هل أنت عارف، أتسمع؛ اعرف، إن لم تكن تعرف.
وانساب صوت المحقق كالدم السيال في سمع الشقي الذي لم ينقطع عن الصراخ إذ هو معلق من أصابعه دون أن يستطيع وضع قدميه على الأرض: «إنه الأبله، الأبله هو. إنه الأبله بحق الإله! إنه الأبله! إنه الأبله! إنه الأبله، إنه الأبله ...»
وأعلن المحقق: «كذب!» ثم قال بعد فترة صمت: «هذا كذب، وأنت كاذب. سوف أذكر لك من قتل الكولونيل «خوسيه باراليس سونرينتي» ولنر إذا كنت تجسر على إنكار ذلك. سوف أذكر لك اسمهما، إنهما الجنرال «يوسبيو كاناليس» والمحامي «قابيل كارفاخال»!»
وتلا كلامه صمت جليدي، وبعده، وبعده، أنين، وأنين آخر بعد ذلك، ثم أخيرا كلمة «أجل!» وحين أطلقوا الحبل ارتمى «فيودا» على الأرض دون حراك. وبدت وجنتا هذا الشحاذ الخلاسي غارقتين في العرق والأنين، كالفحم الذي بللته مياه الأمطار. وتتالى بعده استجواب رفاقه الذين كانوا يرتجفون كالكلاب الضالة التي تقتلها الشرطة بالسم في الشوارع ، وكلهم أمنوا على كلام المحقق، كلهم، عدا «الذبابة»؛ كان وجهه ينم عن مزيج من الخوف والاحتقار. وعلقوه من أصابعه لأنه كان يؤكد وهو على الأرض، نصف مدفون - مدفون حتى وسطه كحال كل من لا ساقين له - أن زملاءه يكذبون حين يلقون تبعة الجريمة على شخصين غريبين عنهما، في حين أن المسئول الوحيد عنها هو الأبله.
والتقط المحقق الكلمة: مسئول! كيف تجسر على أن تقول إن أبله مسئول؛ أترى كذبك؟ مسئول غير مسئول. - فليرد هو على هذا الكلام.
فاقترح شرطي له صوت نسائي أن يضربوه، بينما ساطه شرطي آخر على وجهه.
وصاح المحقق في الوقت الذي انهال السوط على وجه الرجل الكهل: قل الحق! الحق وإلا ستظل معلقا هكذا طوال الليل! - ألا ترى أنني أعمى؟ - فلتنكر إذن أن يكون القاتل هو الأبله. - كلا؛ فهذه هي الحقيقة ولدى الشجاعة أن أقولها.
وفجرت ضربتان من السوط الدماء من شفتيه ... - إنك أعمى ولكن ... اسمع، فلتقل الحقيقة، اعترف كزملائك! - «وهو كذلك!»
وافق «الذبابة» بصوت منطفئ. واعتقد المحقق أنه كسب الجولة. - وهو كذلك أيها الأخرق. - إنه الأبله ... - أيها الأحمق!
بيد أن شتيمة المحقق لم تجد صدى في آذان هذا النصف مخلوق الذي لن يسمع شيئا بعد ذلك. وحين أطلقوا الحبال، سقطت جثة «الذبابة» - أي الجذع، فقد كان جسده دونما ساقين - على الأرض كالبندول المكسور.
وصاح المحقق وهو يمر بجانب الجثة: «أيها الكذوب العجوز، لم يكن اعترافك بنافع لنا؛ فقد كنت أعمى!»
وجرى ليطلع السيد الرئيس على الخطوات الأولى للتحقيق، واستقل عربة يقودها جوادان هزيلان، وتضيء فوانيسها عيون الموت ذاته. وألقت الشرطة بجثة «الذبابة» في عربة للقمامة ابتعدت به ناحية المقابر. وبدأت الديكة في الصياح. وعاد الشحاذون الذين أطلق سراحهم إلى الشوارع. وكانت الصماء البكماء تبكي من الخوف؛ لأنها تشعر بطفل يتحرك في أحشائها.
الفصل الثالث
فرار الأبله
فر الأبله عبر الطرق الملتوية الضيقة التي تؤدي إلى ضواحي المدينة، بيد أن صرخاته المحمومة لم تفلح في إشاعة الاضطراب لا في هدوء السماء ولا في سبات السكان، الذين كانوا يتشابهون فيما بينهم في نومهم الشبيه بالموت، كاختلافهم مع مطلع الشمس حين يستأنفون الكفاح من أجل الحياة. كان البعض منهم يفتقر إلى أشد مطالب الحياة أساسية، ويضطر إلى اللجوء إلى الأعمال الشاقة كي يكسب عيشه اليومي، بينما البعض الآخر يحصل على ما يفيض عن حاجته عن طريق موارد الكسل المحظوظ: باعتباره من أصدقاء السيد الرئيس؛ أو من ملاك العقارات (أربعون أو خمسون منزلا)؛ أو المرابين الذين يقرضون الأموال بفائدة ستة وستة ونصف وعشرة في المائة؛ أو الموظفين الذين يشغلون سبعة أو ثمانية مناصب حكومية مختلفة في آن واحد؛ أو مستغلي الامتيازات، والمعاشات، والشهادات المهنية، ونوادي القمار، وحلبات مصارعة الديكة، وفقراء الهنود، ومصانع الخمور، وبيوت الدعارة، والبارات، والصحف المعانة من الدولة.
وكانت عصارة الفجر الدموية تجلل قمم الجبال التي تحيط بالمدينة التي كانت ترقد وسط الوادي كأنها أديم القشور. كانت الشوارع تبدو أنفاقا من الظلال، ينبجس منها العمال الباكرون كأنهم أشباح في فراغ عالم يخلق من جديد كل صباح، يتبعهم بعد ساعات قليلة الموظفون والكتبة والطلاب، وفي الحادية عشرة، حين تعلو الشمس كبد السماء، يظهر أكابر القوم بعد أن فرغوا من تناول إفطارهم، تنفتح شهيتهم لتناول الغداء، أو يتوجهون لزيارة صديق من ذوي النفوذ لإقناعه بالاشتراك معهم في شراء متأخرات رواتب المدرسين المدقعين بنصف قيمتها. كانت الشوارع ما زالت تقعي غارقة في الظلال، حين قطع صمتها صليل تنورات بعض النسوة ممن يعملن بلا كلل في رعي الخنازير أو بيع الحليب أو التجول بالبضائع أو بيع فضلات الذبيحة كيما يقمن أود أسرهن، أو يبكرن لأداء أعمالهن اليومية. وبعد ذلك، حين يذبل الضوء ويتحول إلى نور أبيض وردي كلون زهرة البيغونيا، تتردد أصداء قدمي عاملة صغيرة نحيلة، تزدريها السيدات الفضليات اللائي لا يغادرن مخادعهن قبل توسط الشمس كبد السماء، فيبسطن حينذاك سيقانهن في أبهاء البيت، ويحكين أحلامهن للخدم، وينتقدن المارة، ويداعبن القطة، ثم يطالعن الصحيفة، أو يتهن خيلاء أمام المرآة.
وبين الواقع والحلم، تابع الأبله جريه، تطارده الكلاب ويلسعه رذاذ المطر الحاد . كان يجري بلا هدف، فاغر الفم وقد تدلى لسانه، سائل اللعاب، لاهثا ، ملوحا بذراعيه في الهواء. وكانت تترى وراءه أبواب وأبواب وأبواب ونوافذ وأبواب ونوافذ. وكان يقف فجأة ويغطي وجهه بيديه ليحمي نفسه من عمود من أعمدة البرق، ثم يتبين له أن لا ضرر منه على نفسه فينفجر ضاحكا ويستمر في جريه، كأنما هو إنسان يهرب من سجن صنعت جدرانه من الضباب، بحيث إنه كلما زاد جريا، ابتعدت عنه هذه الجدران.
وحين وصل إلى الضواحي، حيث تستسلم المدينة إلى الريف المحيط بها، ارتمى على كومة من النفايات كأنه شخص بلغ مخدعه آخر الأمر، واستغرق في النوم. وكان يعلو كومة النفايات شبكة عنكبوتية من فروع الأشجار الميتة، تغطيها كوكبة من النسور. وحين لمحت تلك الطيور الجارحة السوداء الأبله يرقد هناك بلا حراك، حدقت إليه بعيونها الزرقاء، وحطت على الأرض بجانبه وهي تتقافز إلى جواره - قفزة هنا وقفزة هناك - في رقصة جنائزية. وكانت النسور تتطلع حواليها دونما انقطاع، وهي متأهبة لأن تطير عند أقل حركة تصدر عن ورقة شجر أو عن الرياح التي تصطفق في القمامة - قفزة هنا وقفزة هناك - ثم أطبقت على الأبله شكل دائرة إلى أن أصبح في متناول مناقيرها. وأعطى نعيب وحشي إشارة البدء بالهجوم. ونهض الأبله على قدميه إذ أفاق، مستعدا للدفاع عن نفسه. وكان واحد من تلك الطيور قد تشجع وألصق منقاره بالشفة العليا للأبله وأخذ ينقرها وينفذ منها إلى أسنانه كأنما هو سهم حاد، بينما أخذت الجوارح الأخرى تتنازع أيها ينقر عينيه وأيها قلبه. وجاهد الطير الذي أنشب منقاره في شفته كيما ينتزع لحمها، لا يهمه في شيء أن فريسته إنسان حي، وكان سيفلح في ذلك لو لم يتراجع الأبله خطوة إلى الوراء فسقط في وهدة مستودع للقمامة، مثيرا حوله سحبا من الغبار ومن قطع الأحجار الثقيلة. •••
كان الظلام ينسدل. سماء خضراء، وريف أخضر، وفي الثكنات، كان النفير يدوي معلنا تمام السادسة، مرددا أصداء تماثل القلق الذي تشعر به قبيلة في حالة طوارئ، أو قرية محاصرة في القرون الوسطى. وفي السجون، بدأت آلام الأسرى الذين يموتون موتا بطيئا على مر السنين تتجدد ثانية. وسحب الأفق رءوسه الصغيرة من شوارع المدينة، كأنما هي ثعبان بألف رأس. وكان الناس عائدين من مقابلات مع رئيس الجمهورية، بعضهم وقد أفلح في مساعيه، والآخر وقد خاب رجاؤه؛ وكانت الأضواء المتسربة من نوافذ أوكار القمار تطعن الظلمة في الصميم.
وكان الأبله لا يزال يصارع شبح النسر الذي ما فتئ يشعر به وهو يهاجمه، وآلام ساقه التي انكسرت وهو يسقط في وهدة مستودع القمامة، آلام لا تطاق، حالكة، تمزق أساسه تمزيقا. وأخذ يئن طوال الليل كالكلب الجريح، أنينا بدأ خافتا ثم استحال صراخا، وأخذ تعالي هنا يا فتاة يتردد خافتا مرة، وصراخا مرة أخرى: آآآآآ ... ه، ... آآآآ ... ه!
وكانت أظافر الحمى الحديدية تخمش جبهته. انفصال في الأفكار. عالم متماوج يتراءى في مرآة. تفاوت خرافي. عاصفة من الهذيان، طيران مخيف، أفقي، رأسي، مائل، هذيان حديث الولادة وميت في حلزون صاعد. وغرق في هذيان الحمى.
منعطفمنعطفمنعطف إلى منعطفمنعطفمنعطف إلى منعطفمنعطفمنعطف إلى زوجة لوط (هل هي التي اخترعت اللوتارية؟) وكانت البغال التي تجر الترام تتحول إلى زوجة لوط، وضاق السائقان ذرعا بجمودها، فلم يكتفيا بكسر سوطيهما على ظهور البغال وإلقاء الحجارة عليها، بل إنهما دعيا السادة الركاب إلى استخدام أسلحتهم أيضا؛ وكان أعلاهم شأنا يحملون خناجر جعلوا ينخسون البغال بها فتسير. - «آآآآ ... ه ... آآآآ ...!» - «يا أبله. ... يا أبله!»
ويشحذ شاحذ السكاكين أسنانه قبل أن يبتسم! شاحذو البسمة. أسنان شاحذ السكاكين. - «أماه!»
وأيقظته صيحة السكير التي سمعها في هذيانه. - «أماه!»
وكان القمر يسطع متألقا بين السحب الإسفنجية، وسقط نوره الأبيض على الأوراق الرطبة فخلع عليها بريق الخزف وجموده. - «إنهم يحملون ...» - «إنهم يحملون ...» - إنهم يحملون القديسين من الكنيسة كيما يدفنوهم! آه، يا لها من متعة! سوف يدفنونهم، سوف يدفنونهم، آه، يا لها من متعة!
المقابر أكثر بهجة من المدينة وأكثر نظافة منها! آه، يا لها من متعة، سوف يدفنونهم! - «تارارا، تارارا، بووم!»
ومضى قدما في هذيانه فرأى نفسه يشق طريقه وسط الصعاب، متقافزا من بركان إلى آخر، ومن نجمة إلى أخرى، ومن سماء إلى سماء، نصف مستيقظ ونصف نائم، وسط أفواه ضخمة وأفواه صغيرة، بأسنان وبدون أسنان، بشفاه وبلا شفاه، بشفاه مزدوجة، بشوارب، بألسنة مزدوجة، بألسنة ثلاثية، صائحا: «أماه، أماه، أماه!»
توت، توت! واستقل القطار المحلي كي يبتعد عن المدينة إلى الجبال بأسرع ما يستطيع؛ فالجبال ستمنحه دفعة إلى أعلى نحو البراكين، فيما وراء الأبراج اللاسلكية، فيما وراء الجزر، فيما وراء حصن المدفعية، تلك الفطيرة المحشوة بالجنود.
بيد أن القطار عاد إلى المكان الذي انطلق منه، كأنما هو لعبة معلقة بحبل؛ وحين وصل: «تشوف، تشوف، تشوف»، كانت هناك بائعة خضروات لاهثة ذات شعر يضاهي؛ بأعواد الصفصاف المصنوعة منه سلتها، تنتظر في المحطة، وصاحت به: «بعض الخبز للأبله، أيها الببغاء الصغير! ماء للأبله، ماء للأبله!» وجرى ناحية «رواق الرب» وبائعة الخضروات تطارده وتتهدده بقرعة مليئة بالماء، بيد أنه حين وصل إلى هناك، دوت صيحة «أماه!»: قفزة، رجل، ليل، صراع، موت، دماء، هروب، الأبله ... «ماء للأبله، الببغاء الصغير، ماء للأبله!»
وأيقظه ما كان يشعر به من ألم في ساقه، وأحس أن هناك متاهة في داخل عظامه. واتسمت عيناه بالحزن في ضوء النهار. وكانت ثمة تعريشات تغطيها أزهار جميلة دعته كيما ينام تحت ظلالها إلى جوار غدير بارد يحرك ذيله المغطى بالزبد كأنما هناك سنجاب فضي يختبئ وسط طحالبه وأعشابه.
لا أحد. لا أحد.
ومرة أخرى، التجأ الأبله إلى ليل عينيه المغمضتين وجاهد ضد الألم، محاولا وضع ساقه المكسورة وضعا مريحا وهو يسند بيديه شفته الممزقة. ولكنه كان كلما فتح جفنيه الحارقين عبرت فوقه سماوات حمراء كالدم. وبين ومضات البرق، كانت أشباح يرقات تمرق هاربة من أمامه كأنها الفراشات.
وأدار ظهره لجرس إنذار الهذيان. ثلج للمحتضرين! بائع الثلج يبيع قربان الوفاة المقدس! القسيس يبيع الثلج! ثلج للمحتضرين! تليلين، تليلين! ثلج للمحتضرين! قربان الوفاة المقدس يمر! بائع الثلج يمر! اخلع قبعتك احتراما، أيها الأخرس ذو اللعاب السائل! ثلج للمحتضرين!
الفصل الرابع
ذو الوجه الملائكي
ومضى الأبله يحلم، في مستودع القمامة الذي استقر فيه، تغطيه أوراق الأشجار، وقطع من الجلد، ومزق، وهياكل مظلات، وأطواق قبعات من القش، وبقايا الحديد الخردة، وقطع خزف مكسورة، وصناديق من الكرتون وعجائن الكتب، وحطام زجاج، وأحذية قديمة لفحتها الشمس، وياقات، وقشر بيض، وندف من القطن وفضلات الطعام، ورأى نفسه الآن في فناء كبير، يحيط به عدد من الأقنعة، سرعان ما تبين أنها وجوه أناس منهمكين في متابعة صراع الديكة. واضطرمت المعركة بين الديكين كالأوراق التي تضطرم وسط النيران. وقضى ديك منهما دونما ألم تحت أنظار المتفرجين الجامدة، سعداء برؤية المهماز المعقوف يخرج مضرجا بالدماء. جو يعبق برائحة الخمر. بصاق بلون التبغ. أحشاء الديك الصريع. إنهاك وحشي. سبات. خور. ظهيرة مدارية. وطاف به في سباته شخص ما، يمشي على أطراف أصابعه كي لا يوقظه!
كانت أم الأبله قد أصبحت محظية لأحد الأفاقين من أصحاب ديكة المصارعة، يلعب على الجيتار بأصابع كأنها من الحجارة. وسقطت الأم ضحية لشعور هذا الرجل بالغيرة عليها ولرذائله العديدة الأخرى. وكان شقاؤها قصة لا نهاية لها: محظية لهذا النكرة، وشهيدة للطفل الذي أنجبته تحت التأثير «المباشر للقمر المتحول»، كما تقول القابلات مدعيات العلم بكل شيء؛ ففي غمرة آلام مخاضها، امتزج رأس طفلها الهائل الحجم - رأس كبير ذو قرنين كالقمر - بالأوجه المعروفة لجميع المرضى الآخرين في المستشفى، وتعبيرات الخوف والسخط، والفواق، والجزع، وقيء صاحب الديكة المخمور، ونتج عن ذلك كله مولودها الأبله.
وأحس الأبله بصوت تنروتها المنشاة وسط الرياح وأوراق الشجر، وجرى خلفها والدموع تملأ مقلتيه. ووجد راحة على صدر أمه. وامتصت أحضان تلك التي منحته الوجود آلام جراحه كأنها أوراق النشاف. يا له من ملجأ عميق لا يعكر صفوه شيء! يا له من حب جارف! يا زهرتي! يا زهرتاه! يا زهرتي الحبيبة! يا زهرتي الحبيبة!
وكان صاحب الديكة يصل إلى أعماق أذنه وهو يغني برفق:
لم لا ... لم لا ...
لم لا ... يا حبيبي الصغير.
أنا الديك الصغير ...
ولما أرفع قدمي يا صغيري.
أجرجر جناحي يا صغيري!
ورفع الأبله رأسه وقال دون أن يتكلم: إني آسف يا أمي ، إني آسف!
ورد الطيف الذي مسح بيده على وجهه في حنان على شكواه قائلا: إني آسفة يا بني، إني آسفة!
وترامى صوت أبيه من بعيد آتيا عبر كأس من الخمر:
لقد شبكتني ...
لقد شبكتني ...
لقد شبكتني امرأة بيضاء.
وحين تكون الشبكة طيبة.
تتساقط خيوطها وحدها ...
وتمتم الأبله: أماه، إن آلامي تصل إلى أعماق روحي!
ورد الطيف الذي مسح بيده على وجهه في حنان على شكواه قائلا في ود: أي بني، إن آلامي تصل إلى أعماق روحي!
إن السعادة لا تعرف طعم الجسد. وإلى جوارهما كان ثمة ظل شجرة صنوبر ينحني ليقبل الأرض، غضة كالنهر. وكان طائر يغني على الشجرة، هو طائر وجرس من الذهب في نفس الوقت: إنني أنا الوردة - التفاحة لعصفور الجنة. إنني أنا الحياة، نصف جسدي أكذوبة، والنصف الآخر حقيقة؛ وإنني وردة وتفاحة. أعطي الجميع عينا من زجاج وعينا حقيقية، فأما الذين يرون بعيني الزجاجية فإنهم يرون لأنهم يحلمون، وأما الذين يرون بعيني الحقيقية فهم يرون لأنهم ينتظرون! إنني أنا الوردة - التفاحة لعصفور الجنة، إنني الأكذوبة في كل شيء حقيقي، والحقيقة في كل شيء كاذب!
وفجأة، ترك الأبله حضن أمه وجرى ليشاهد موكب السيرك. جياد ذات أعنة طويلة كأنها أغصان اللبلاب، تقودها نسوة يرتدين ملابس متلألئة بالترتر. عربات مزدانة بالزهور، ولافتات من الورق الصيني معلقة على أفاريز الشوارع تتأرجح يمينا ويسارا كالسكارى. فرقة من دهماء الموسيقيين وعازفي البوق والكمان وقارعي الطبول. والمهرجون ذوو الوجوه المدهونة بالدقيق يوزعون البرنامج في ورق ملون، معلنا عن الحفل الافتتاحي المخصص لرئيس الجمهورية، حامي حمى الوطن ورئيس حزب الأحرار المجيد وراعي الشباب المجتهد.
وانتقلت عينا الأبله الآن تطوف في نومه الهاذي حول سطح بالغ العلو. كان أهل السيرك قد خلفوه وحيدا ضائعا في بناية تقوم على شفا هوة سحيقة خضراء داكنة. وكانت المقاعد تتدلى من ستائر جانبية كأنها جسور معلقة، وقسس الاعتراف يصعدون ويهبطون من الأرض إلى السماء كأنما هم مصاعد للأرواح يقوم عليها الملاك ذو الكرة الذهبية والشيطان ذو الأحد عشر ألف قرن. وخرجت عذراء الكرمة من جدثها كالضوء الذي يمر من خلال الزجاج، كيما تسأله عما يريد، وعمن يبحث. وتوقف يتجاذب أطراف الحديث في انشراح معها، صاحبة هذا. البيت، أكثر الملائكة عذوبة، وجوهر وجود القديسين، وحلوى الفقراء البائسين. وكانت هذه السيدة العظيمة لا تكاد تبلغ المتر الواحد طولا، بيد أنها حين تتكلم تعطي انطباعا بأنها تفهم في كل شيء كالناس الكبار. وحكى لها الأبله بالإشارات كيف أنه يحب أن يمضغ الشمع، فقالت له بين جد وهزل إنه يستطيع أن يأخذ إحدى الشموع المضاءة في مذبح كنيستها. وبعد ذلك لملمت أطراف عباءتها الفضية الفضفاضة وقادته من يده إلى حوض للأسماك الملونة وأعطته قوس قزح يمتصه كأنما هو حلوى سكر النبات. إنها السعادة الكاملة! كان يشعر بالسعادة تغمره من طرف لسانه إلى طرف قدمه. لقد كان شيئا لم ينله طوال حياته: قطعة شمع يمضغها كاللدائن، وسكر نبات نعناعي، وحوض سمك ملون، وأم تدلك ساقه الجريحة وتغني له: «إشف سريعا، إشف سريعا يا صغيري». كان كل ذلك ملك يمينه إذ هو ينام على أكوام القمامة.
بيد أن السعادة لا تدوم إلا كما تدوم زخة المطر مع طلوع الشمس. فمن خلال أرض بلون اللبن. ظهر حطاب يتبعه كلبه بعد أن ضل طريقه إلى مستودع القمامة ذاك. كان يحمل حزمة من الحطب على ظهره، ورداؤه ملفوف على الحزمة، بينما يحمل منجله بين ذراعيه كما يحمل الأب طفله. ولم تكن الوهدة سحيقة، بيد أن الغروب المنسدل جعلها تبدو عميقة مليئة بالظلال التي أحاطت بالقمامة المكومة في قاعها من الفضلات التي تثير الخوف إذا ما حل الليل. والتفت الحطاب وراءه: كان بوسعه أن يقسم أن ثمة شخصا يتتبعه. وبعد هنيهة أخرى، توقف مرة ثانية. كان يشعر بوجود امرئ، ما يختفي هناك. ونبح الكلب وانتصب شعره كأنما يرى الشيطان أمامه. وأطارت دوامة ريح أوراقا قذرة ملطخة إما بدماء امرأة أو بماء البنجر. وكانت السماء تتبدى على البعد ، زرقاء ناصعة، كأنها قبة قبر عال، مرصعة بنسور حوامة غافية. وبعد برهة ، جرى الكلب ناحية المكان الذي كان الأبله يرقد فيه. وارتجف الحطاب من قشعريرة الخوف، واقترب خطوة خطوة وراء الكلب ليرى من هو الميت. كان يتهدده خطر إصابة قدميه بالجراح من قطع الزجاج أو أكعاب الزجاجات أو علب السردين الصفيحية؛ وكان عليه أن يقفز فوق الروث النتن وعبر الوهاد المظلمة. وكانت ثمة فجوات مليئة بالمياه تبدت كالموانئ وسط أكوام القمامة.
ودون أن يطرح عنه حمله _ إذ كان خوفه أشد ثقلا عليه أمسك بإحدى قدمي الجثة المزعومة، وشد ما كانت دهشته أن وجد أنه إنسان لا تزال الحياة تدب فيه، وامتزجت أنفاسه اللاهثة بصراخه بعواء الكلب، ليخلق كل ذلك صورة حية لمحنته، كالرياح التي تختلط أحيانا بوابل المطر. وزاد من اضطراب الحطاب صوت خطوات شخص يمشي خلال أجمة صغيرة قريبة من شجر الصنوبر وأشجار الجوافة العتيقة. فماذا يحدث لو أنها خطوات رجل شرطة! آه حقا، إن ذلك سيكون القشة التي تقصم ظهر البعير! وهتف بالكلب: «صمتا!» ولما استمر في نباحه، وجه إليه رفسة قائلا: «اسكت أيها البهيم، اسكت!»
وفكر في الهرب ... بيد أن الهرب هو اعتراف بالجرم ... وسيزيد الطين بلة لو كان القادم من رجال الشرطة. وتحول إلى الرجل الجريح وهتف به: «هيا، أسرع سأساعدك على النهوض! يا إلهي، لقد كادوا أن يقتلوك! هيا لا تخف، لا تصرخ فإني لا أريد بك سوءا ... لقد كنت مارا من هنا فرأيتك راقدا ...»
وقاطعه صوت من خلفه: «لقد رأيتك تنفض عنه أكوام القمامة، فعدت إليك لأنني فكرت أنه قد يكون شخصا أعرفه؛ فلنخرجه من هنا.»
وأدار الحطاب رأسه ليرد وقد كاد أن يغمى عليه من الخوف. وانقطعت أنفاسه، ولم يهرب إلا لأنه كان يمسك بالجريح الذي لا يكاد يقوى على الوقوف. وجال في خاطره أن من تحدث إليه لا بد أن يكون ملاكا: بشرة من مرمر ذهبي وشعر أشقر، وفم دقيق، وطلعة أنثوية تتناقض مع سواد عينيه الرجولي. كانت ملابسه رمادية اللون، وكان يبدو في ضوء الغسق كالسحاب. وكان يحمل في يديه الرقيقتين عصا نحيلة من الخيزران وقبعة ذات حافة عريضة بدت كالحمامة.
ورد الحطاب الذي لم يستطع أن يبعد عينيه عنه: «ملاك، إنه ملاك. ملاك!»
وقال الغريب: «يبدو من ملابسه أنه من الفقراء. لشد ما هو محزن أن يكون المرء فقيرا!» - الأمر متوقف على الظروف. كل شيء في هذه الدنيا يتوقف على شيء آخر. انظر لي مثلا، إني فقير جدا، ولكن عندي عملي، وزوجتي، وكوخي، ولا أظن أن وضعي مثير للشفقة. قال الحطاب ذلك متلعثما كرجل يتحدث في منامه. وكان يأمل في أن يفوز بحظوة لدى هذا الملاك الذي قد يكافئه على قناعته المسيحية بأن يحوله من حطاب إلى ملك بمجرد رغبته في ذلك. ورأى نفسه لحظات مشتملا بالذهب وعليه عباءة حمراء، وعلى رأسه تاج وفي يده صولجان مرصع بالجواهر. وتراءى له مستودع القمامة بعيدا بعيدا.
وقال الغريب ملاحظا وهو يرفع صوته فوق نواح الأبله: «هذا غريب!» - غريب؟ لماذا؟ على أية حال، إننا معشر الفقراء أكثر قناعة من الآخرين. وما بوسعنا أن نفعل، على كل حال؛ الحقيقة أنه مع وجود المدارس فإن من يتعلم القراءة يقع تحت تأثير أشياء يستحيل عليه تنفيذها. وحتى زوجتي ينتابها الحزن أحيانا وتقول إنها تتمنى لو كان لها أجنحة أيام الآحاد.
وأغمي على الجريح مرتين أو ثلاث مرات حين كانا يهبطان به أشد الجهات انحدارا. وكانت الأشجار ترتفع وتنخفض أمام عينيه المحتضرتين كأنما هي أصابع الراقصين في الرقصات الصينية. وتماوج في أذنيه حديث الرجلين اللذين يكادان يحملانه كلية كأنما هما رجلان سكرانان فوق أرض زلقة. كانت ثمة بقعة سوداء كبيرة تمسك بخناقه، وارتعاشات باردة مفاجئة تمر عبر جسده فتشعل من جديد رماد خيالاته المحترقة.
وقال الغريب: «إذن فزوجتك تريد أجنحة أيام الآحاد؟ أجنحة! حتى لو كان لها أجنحة فلن تكون بذات فائدة لها.» - هذا صحيح، إنها تقول إنها تريد الأجنحة حتى تخرج للنزهة بها. وحين تتشاجر معي تطلب دائما الأجنحة من الرياح.
وتوقف الحطاب كيما يمسح العرق الذي تناثر على جبهته بطرف كمه، وقال متعجبا: «إنه ليس بالخفيف الوزن !»
وقال الوافد الغريب: «يكفيها ساقاها إن هي أرادت الذهاب؛ حتى لو كانت لديها أجنحة فإنها لن ترحل. - «كلا، إنها لن ترحل، ولكن ليس كرما منها، بل لأن النساء طيور لا تستطيع العيش دون أقفاصها، ولأنني لا أحمل معي إلى البيت سوى قطع قليلة من الحطب لا أستطيع أن أكسرها فوق ظهرها.» وتذكر عند ذلك أنه يتحدث إلى ملاك فاستدرك سريعا قائلا: «وذلك لصالحها، طبعا.» ومضى الحطاب يقول مغيرا الحديث لشعوره بالحرج مما قاله توا: «من يا ترى ضرب هذا الشاب المسكين؟» - هناك الكثيرون ... - «أجل، كثير من الناس بوسعهم عمل أي شيء، ولكن هذا الشاب يبدو كما لو ... كما لو أنهم لم يشعروا بأي رحمة نحوه. طعنة بالسكين في شفتيه ... ثم إلقاؤه هكذا في مستودع القمامة!» - ربما كانت جراح أخرى كذلك. - يبدو لي أن جرح شفتيه من جراء طعنة موسى. ثم إنهم حملوه هنا بعيدا حتى لا يكتشف جريمتهم أحد، هه! - ويا له من مكان بائس! - هذا ما كنت على وشك أن أقوله.
وكانت الأشجار تغص بالنسور التي توشك على مغادرة مستودع القمامة. وكان خوف الأبله يطغى على آلامه، فبقي صامتا، وانكمش على نفسه كالقنفذ في سكون مميت.
وسرت الريح في خفة وسط السهل، تهب من المدينة تجاه الحقول، خفيفة لطيفة، أنيسة.
وتطلع الغريب إلى ساعته، ثم سار بعيدا بعد أن وضع بعض النقود في جيب الرجل الجريح وودع الحطاب بتحية ودية.
كانت السماء صافية رائعة. وكانت البيوت التي تقع في طرف المدينة تطل على الحقول؛ وأنوارها الكهربائية تتوهج كأعواد الثقاب في سرح مظلم. وبدأت تظهر وسط الظلمة طرقات متعرجة، تقوم الأشجار على جانبيها، بالقرب من أول صف من البيوت: أكواخ طينية تفوح منها رائحة القش، وأعشاش خشبية تفوح منها رائحة الهنود، بيوت ضخمة ذات فناء أمامي نتنة الرائحة كالإسطبلات، وخانات فيها المعتاد من العلف الذي يباع للحيوانات والخادمة التي تطارح حبيبها الغرام في الثكنات، وجماعة من البغالين يتحادثون في الظلمة.
وترك الحطاب الرجل الجريح عند وصولهما إلى أول البيوت بعد أن شرح له كيف يتوجه إلى المستشفى. وفتح الأبله جفنيه باحثا عن الراحة، وعن شيء يخلصه من الفواق، بيد أن نظرته المحتضرة، الثابتة كالشوكة، دقت رجاءه على الأبواب الموصدة في الشارع المهجور. وترامى على البعد صوت أبواق تنادي القوم الرحل، وأجراس تدق ثلاثا على أرواح الموتى المسيحيين: ال ... رح ... مة، ال ... رح ... مة، ال ... رح ... مة.
وشعر بالرعب من نسر يجر نفسه وسط الظلال. كان جناحه مكسورا، ورن نواحه في أذن الأبله كالوعيد. وتحرك بعيدا في بطء، خطوة خطوة، مستندا إلى الجدران، إلى ارتعاشات الجدران الثابتة، مطلقا أنة وراء أخرى، دون أن يدري أيان يذهب، والرياح تصك وجهه، الرياح التي بدت كما لو كانت قد امتصت ثلجا قبل أن تهب في الليل. وكان الفواق يهد كيانه.
وألقى الحطاب رزمة الحطب في فناء كوخه كالعادة. وكان كلبه قد وصل قبله إلى البيت واستقبله في حفاوة بالغة. وأزاحه بعيدا عنه؛ قبل أن يخلع عنه قبعته، فك أزرار سترته فتدلت على كتفيه كأنها جناحا وطواط، ثم توجه إلى النيران الموقدة في ركن الحجرة، حيث كانت زوجته تطهو بعض الكعك، وقص عليها ما حدث. - «لقد قابلت ملاكا عند مستودع القمامة.»
وخفق ضوء النيران على جدران الخيزران وعلى السقف المصنوع من القش كأنه أجنحة ملائكة آخرين.
وصدر عن الكوخ خيط مرتعش من الدخان الأبيض النباتي.
الفصل الخامس
ذلك الحيوان!
كان سكرتير الرئيس يصغي إلى الدكتور «بارينيو». - أقول لك يا سيدي السكرتير، إنني أعمل منذ عشر سنوات جراحا عسكريا في ثكنات الجيش؛ وأقول لك إنني وقعت ضحية مؤامرة كبرى؛ لقد اعتقلت، وكان اعتقالي بسبب ... ولكن يجب أن أخبرك بكل شيء. هذا ما حدث تماما: لقد انتشر أحد الأمراض فجأة في المستشفى العسكري؛ ففي كل يوم يموت عشرة أشخاص أو اثنا عشر شخصا في الصباح، ومثلهم في الأصيل، ومثلهم في الليل. وقام مدير الصحة العسكرية بتكليفي أنا وبعض زملائي من الأطباء الآخرين ببحث الحالة واكتشاف سبب وفاة هؤلاء الأشخاص الذين يدخلون المستشفى قبل وفاتهم بيوم في صحة جيدة، أو ما يقارب ذلك. حسنا، وبعد إجرائي خمس حالات تشريح، نجحت في إثبات أن هؤلاء الرجال التعساء قد ماتوا نتيجة حدوث تهتك في المعدة، ثقب بحجم العملة المعدنية الصغيرة، ناتج عن عامل خارجي لم أتعرف عليه، والذي ثبت فيما بعد أنه سلفات الصوديوم التي تناولها كمطهر للأمعاء، وهو صوديوم يشترى من مصنع المياه الغازية، ولذلك فهو من نوع رديء. حسنا، إن زملائي لم يشاطروني رأيي هذا، ولذلك لم يقبض عليهم فيما يبدو، فهم يرون أنه مرض جديد يحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي. أقول لك إن مائة وأربعين جنديا قد ماتوا، ولا يزال هناك صندوقان من سلفات الصوديوم تلك. أقول لك إن مدير الصحة العسكرية، كيما يربح حفنة من الجنيهات، قد ضحى بمائة وأربعين رجلا، بالإضافة إلى من سوف يلقون نفس مصيرهم. أقول لك ...»
وصاح أركان حرب رئيس الجمهورية من باب مكتب السكرتير: «الدكتور لويس بارينيو!» - سوف أحكي لك ما سيقوله لي أيها السيد السكرتير.
وسار السكرتير بضع خطوات مع الدكتور بارينيو تجاه الباب. وباستثناء الاعتبارات الإنسانية، شعر السكرتير بالاهتمام تجاه أسلوب قصة الدكتور المتدرجة، الرتيبة، الكئيبة، التي تتمشى مع رأسه الذي وخطه الشيب ومع الوجه اللحيم الجاف الذي يتسم به رجال العلم.
واستقبله رئيس الجمهورية واقفا، مرفوع الرأس، وإحدى ذراعيه متدلية على جنبه في وضع طبيعي، والأخرى خلف ظهره، وهتف به دون أن يترك له فرصة تقديم التحية: أرجو أن تدرك هذا جيدا يا سيد لويس، إنني لن أقبل أن تعمل شائعات يطلقها الدجالون من الأطباء على الحط من قدر حكومتي حتى في أقل القليل. وينبغي لأعدائي أن يضعوا هذا في اعتبارهم دائما، وسوف أقطع رقبة أول شخص ينسى ذلك. والآن، تفضل، أخرج ... وقل لذلك الحيوان أن يحضر!
وانسحب الدكتور بارينيو خارجا بمظهره، وقد تغضنت جبهته على نحو مؤلم، وشحب وجهه كأنما هو يوم دفنه. - لقد انتهيت يا سيدي السكرتير، لقد انتهيت. لقد كان الشيء الوحيد الذي سمعته يقول لي هو: تفضل، أخرج، وقل لذلك الحيوان أن يحضر . - إنني ذلك الحيوان.
قال ذلك واحد من الكتبة كان جالسا إلى مكتب في ركن الغرفة، وقام ثم دلف إلى حجرة الرئيس من نفس الباب الذي أغلقه الدكتور بارينيو لتوه.
وغمغم الدكتور بارينيو وهو يمسح العرق الذي يتصبب على وجهه: لقد ظننت أنه سيضربني! لو أنك رأيته، آه لو كنت قد رأيته! بيد أنني أضيع وقتك يا سيدي السكرتير، وأنت مشغول جدا. إنني ذاهب الآن، وأشكرك شكرا جزيلا. - مع السلامة يا عزيزي الدكتور، عفوا، وأتمنى لك حظا سعيدا.
وانتهى السكرتير من كتابة الرسائل التي سيوقعها السيد الرئيس في بضع دقائق. وكانت المدينة تتشرب الغسق البرتقالي، والسماء ترتدي حلة موسلين قشيبة من السحاب وتترصع بنجوم كأنه ملائكة التسبيح. وصدحت نواقيس الكنائس نغمة «مباركة أنت أيتها العذراء» فملأت الطرقات كأنها طوق نجاة للبشر.
وذهب بارينيو إلى بيته وعالمه ينهار من حوله. كيف كان يمكنه أن يتفادى هذه الضربة الخئون؟ وأغلق الباب وهو يتطلع إلى السقف حيث يمكن أن تهبط أياد قاتلة لتخنقه، وتوجه إلى خزانة ملابس كبيرة في حجرة نومه واختبأ فيها.
كانت معاطفه معلقة في الخزانة في صف مهيب كأنها جثث رجال مشنوقين محفوظة في النفتالين، وذكره منظرهم الجنائزي باغتيال والده منذ سنوات عديدة حين كان يسير بمفرده ليلا. وكان على أسرته أن تقنع بتحقيق قضائي لا جدوى منه. وبعد تلك الجريمة، حلت به مأساة، إذ تسلم خطابا غفلا من التوقيع كان منطوقه ما يلي على وجه التقريب: «كنت وزوج أختي عائدين يوما من طريق «فولتا غراندي» إلى حي «لا كانوا» في حوالي الحادية عشرة مساء، حين سمعنا طلقا ناريا عن بعد، وطلقا آخر، وآخر، وآخر، حتى عددنا خمس طلقات، فاختبأنا وراء أجمة أشجار قريبة. وسمعنا صوت جياد تقترب منا تخب بأقصى سرعة، حتى كادت الجياد وراكبوها أن يحتكوا بنا في انطلاقهم السريع، وبعد برهة، عدنا نسير في طريقنا مرة أخرى، وساد الصمت ثانية، بيد أن جوادينا أخذا يصهلان بشدة . ونزلنا من على ظهريهما وهما يزأران ويصهلان، كل منا يحمل مسدسه في يده لنرى ما الأمر، فوجدنا جثة رجل ميت مقلوب على وجهه، وعلى مقربة منه بغلا جريحا أراحه زوج أختي من آلامه بطلقة من مسدسه. وأسرعنا بالعودة إلى «فولتا غراندي» للإبلاغ عن الواقعة. وفي مقر الشرطة الرئيسي وجدنا الكولونيل «خوسيه بيراليس سونرينتي» الملقب ب «الرجل ذي البغل الصغير»، وثلة من أصدقائه يجلسون إلى مائدة عامرة بزجاجات النبيذ. وانتحينا به جانبا وحكينا له ما رأينا: أولا الطلقات النارية، ثم ... وأصغى إلينا، ثم هز كتفيه، وحول بصره إلى ضوء الشمعة التي سالت على جوانبها ورد في بطء: «اذهبا إلى منزلكما مباشرة - إني أعرف عما أتحدث - ولا تذكرا هذا الأمر مرة أخرى»!» - لويس! لويس!
وسقط أحد معاطفه من شماعته كأنه طير كاسر. - لويس!
وبحركة سريعة، خرج «لويس بارينيو» من خزانة الملابس وتوجه إلى غرفة المكتبة وتظاهر بتقليب صفحات كتاب. لشد ما يكون فزع زوجته لو أنها اكتشفت أنه كان مختبئا في خزانة الملابس! - لقد تعدى الأمر كل حدود! سوف تقتل نفسك أو تفقد عقلك من جراء كل هذه القراءة. لقد قلت لك ذلك منذ البداية! ألا تدرك أن ما ينقصك هو الكياسة وليست المعرفة إذا أردت أن تتقدم في حياتك؟ ماذا ستفيدك كل هذه القراءات؟ ماذا ستستفيد منها؟ لا شيء بالمرة! إنها لن تمكنك من شراء زوج من الجوارب! إن الأمر سيئ جدا، سيئ جدا!
وأعاد ضوء النهار وصوت زوجته الهدوء إلى نفس الدكتور بارينيو. - لا ينقصنا إلا هذا! القراءة، القراءة ... لماذا؟ كي يقولوا بعد أن تموت إنك كنت عالما؟ إنهم يقولون هذا عن كل شخص بعد أن يموت ... ها! فليقرأ الدجالون، أما أنت فلا حاجة بك إلى ذلك، فقد حصلت على درجتك العلمية. وانتهينا ولديك المعرفة بلا حاجة إلى الاستذكار. ثم ... لا تتطلع إلي بحدة هكذا! إن ما تحتاج إليه هو الزبائن، وليس الكتب. لو كان لديك مرضى بعدد ما لديك من كتب لكان هذا البيت قد أصبح جنة. أنا أنا ، فأنا أود أن أرى عيادتك ملآنة وأسمع الهاتف يرن على الدوام وأراهم يستدعونك للاستشارة، وأراك تصل إلى شيء ما ... - ماذا تعنين بأن أصل إلى شيء ما ...؟ - حسنا، أن تكون ناجحا. ولا تقل لي إن عليك أن تستهلك عينيك في القراءة حتى تكون ناجحا. إن غيرك من الأطباء ينجحون بنصف ما لديك من دراية ومعرفة. إنهم يسعدون بشق طريقهم بالسواعد إلى المقدمة، ويصنعون اسما لأنفسهم. لقد جاء طبيب السيد الرئيس، لقد ذهب طبيب السيد الرئيس ... هذا هو ما يعنيه النجاح.
فقال بارينيو وهو يمط الكلمات كأنما ليغطي فجوة في ذاكرته: ح ... س ... نا، حسنا يا عزيزتي. من الأفضل أن تتخلي عن آمالك هذه؛ فسأظن أنك ستقعين أرضا حين أخبرك أنني قد جئت توا من مقابلة مع الرئيس، أجل، مع الرئيس. - آه، يا إلهي! وماذا قال لك؟ كيف قابلك؟ - بمنتهى السوء. الشيء الوحيد الذي سمعته يقوله هو عن قطع رقبتي. لقد شعرت بالخوف. والأسوأ من ذلك أنني لم أهتد إلى باب الخروج بسهولة. - هل وبخك؟ حسنا، لن تكون الأول أو الأخير في هذا الأمر. «إنه يضرب الآخرين». وأضافت بعد صمت طويل: «إن ما يضيعك دائما هو الخوف ...». - ولكن يا امرأة، أي شخص يكون شجاعا في مواجهة وحش كاسر. - كلا يا رجل، ليس هذا ما أعني. إنما أتحدث عن الجراحة، ما دام في غير طاقتك أن تصبح طبيب الرئيس. إن ما ينقصك هو ألا تخاف. يحتاج المرء كي يصبح جراحا ماهرا إلى الشجاعة. صدقني. الشجاعة والحسم في ضرب المشرط. إن الحائكة التي لا تخسر قطعا من الثياب للتجربة فيها في البداية لن تتمكن أبدا من حياكة ثوب. والثوب شيء غال، أتعرف ذلك، أما الأطباء فبوسعهم أن يتمرنوا في المستشفى على الهنود. أما بشأن ما حدث لك من الرئيس، فلا تهتم بالأمر. هيا لنأكل! لا بد أن الرئيس كان في حالة سيئة بسبب تلك الجريمة البشعة التي وقعت في «رواق الرب». - اسكتي، وإلا فعلت بك ما لم أفعل أبدا، وهو أن أصفعك. ليست هناك جريمة ولا بشاعة في الأمر الذي أنهى حياة ذلك السفاح الكريه، الذي قتل والدي في طريق مهجور، أبي ذلك الشيخ المسالم الأعزل! - وفقا لخطاب غفل من التوقيع فحسب! يا لك من رجل غريب! من ذا الذي يهتم بالخطابات الغفل من التوقيع؟ - لو أنني اهتممت بالخطابات التي لا توقيع. - إن ذلك لا يليق بك. - دعيني أكمل كلامي. لو أنني اهتممت بالخطابات التي بلا توقيع لما كنت معي الآن في هذا البيت. وفتش بارينيو محموما في جيبه وعلى وجهه تعبير حاد وأضاف: «لما كنت معي الآن في هذا البيت، خذي، اقرئي هذا.»
وتناولت الزوجة الورقة التي دفعها إليها زوجها وقد شحب وجهها ولم يعد يبين فيه من لون سوى صبغة شفتيها الحمراء، وجرت بعينيها سريعا عبر سطورها المليئة بالأخطاء اللغوية: «يا دكتور، عليك أن تواسي زوجتك الآن وقد انتقل «الرجل ذو البغل الصغير» إلى الرفيق الأعلى. نصيحة أصدقاء يحبونك.»
وبضحكة ملتاعة، ضحكة تناثرت وملأت أنابيب الاختبار والقوارير التي يمتلئ بها معمل الدكتور بارينيو، كأنها سم زعاف مطلوب للتحليل، أعادت الزوجة الورقة إلى زوجها. وعلى الفور، ظهرت خادمة عند الباب وأعلنت: الغذاء جاهز. •••
وفي القصر، كان الرئيس يوقع أوراقا بمساعدة الرجل الهرم الضئيل الهزيل الذي دخل الغرفة حين غادرها الدكتور بارينيو، والذي سبق أن أطلق عليه لقب «ذلك الحيوان».
وكان «ذلك الحيوان» رجلا رث الهيئة، ذا بشرة وردية تشبه جلد الجرذان، وشعر يشبه الذهب الرخيص، وعينين زرقاوين قلقتين ضائعتين وراء نظارة صفراء فاقعة اللون.
وضع الرئيس اسمه للمرة الأخيرة، وسارع الرجل الهرم الضئيل الهزيل يحاول تجفيف التوقيع، فسكب دواة الحبر فوق الورقة التي انتهى الرئيس توا من توقيعها. - يا حيوان! - سيدي! - يا حيوان!
دق جرس، وأخرى، وأخرى ... خطوات مسرعة، ويظهر أحد الضباط عند الباب.
وزأر الرئيس: «أيها الجنرال، يضرب هذا الرجل مائتي جلدة فورا، فورا.» ثم انتقل من فوره إلى جناحه في القصر حيث كان الغذاء جاهزا.
وامتلأت عينا «ذلك الحيوان» بالدموع. ولم يقل شيئا، لأنه كان عاجزا عن النطق، ولأنه كان يعلم أنه لا فائدة من طلب المغفرة: ذلك أن اغتيال الكولونيل «سونرينتي» قد أفقد الرئيس صوابه. ولاحت أمام ضباب عينيه زوجته وأولاده يلتمسون الرأفة به: سيدة مكافحة وستة من الأطفال الناحلين. وبحث في جيب معطفه بيد كالمخلب عن منديل. آه لو كان بإمكانه فحسب أن يخفف عن نفسه بالبكاء! لم يكن يرى، كما هو مفروض، أن العقوبة جائرة، بل إنه كان على العكس، يعتقد أن من الضروري أن يضربوه كي يتعلم أن يكون أقل رعونة - آه لو كان بإمكانه فحسب أن يخفف عن نفسه بالبكاء! - وأن يكون أكثر كفاءة وألا يسكب الحبر على الوثائق - آه لو كان بإمكانه فحسب أن يخفف عن نفسه بالبكاء!
وبدت أسنانه بارزة بين شفتيه المضمومتين كأنها أسنان المشط؛ وتضافرت مع وجنتيه الغائرتين وسيمائه الملتاعة كيما تخلع عليه مظهر رجل محكوم عليه بالإعدام. وكان قميصه ملتصقا بفعل العرق، مما زاد في حزنه وضيقه. إنه لم يعرق من قبل بهذه الكثرة. آه لو كان بإمكانه فحسب أن يخفف عن نفسه بالبكاء! وشعر بغثيان الخوف يدفع بالقشعريرة في أوصاله.
ومسك به أركان حرب الرئيس من ذراعه، وكان ذاهلا، فاقدا للحس والحركة، جاحظ العينين، مقوس القامة، يغمره إحساس هائل بالفراغ، ويشعر بجلده ثقيلا، ثقيلا جدا ويحس بالخور، الخور ...
وبعد ذلك بدقائق، في حجرة طعام الرئيس: عن إذنك، سيدي الرئيس. - تفضل يا جنرال. - سيدي، لقد جئت أخبركم أن «ذلك الحيوان» لم يستطع أن يتحمل المائتي جلدة.
وكان الرئيس عند ذاك يتناول شيئا من البطاطس المقلية، ولم تستطع الخادمة. التي تقدم له الطبق أن تمنع نفسها عن الارتجاف، فصاح بها سيدها: «وأنت، لماذا ترتعدين؟» ثم وجه كلامه إلى الجنرال الذي كان يقف وقفة انتباه وقبعته العسكرية في يده دون أن تطرف عيناه، قائلا: «حسن جدا، يمكنك أن تنصرف.»
وجرت الخادمة وبيدها الطبق ولحقت بالجنرال وسألته لماذا لم يستطع الرجل أن يتحمل المائتي جلدة.
لماذا؟ لأنه قد مات!
وعادت الخادمة إلى حجرة الطعام وما زال الطبق بيدها. وقالت، وهي تكاد تبكي، للرئيس الذي كان يأكل في هدوء: إنه يقول لم يتحمل لأنه قد مات! - وماذا في هذا؟! أحضري الطبق التالي.
الفصل السادس
رأس جنرال
جاء ميغل ذو الوجه الملائكي، مستشار الرئيس وصفيه الحميم، لزيارته بعد أن فرغ من تناول الطعام.
وقال عند دخوله غرفة الطعام (كان جميلا وشريرا كالشيطان): ألف معذرة سيدي الرئيس، ألف معذرة سيدي الرئيس لتأخري ... ولكن كان علي أن أساعد حطابا يحمل جريحا وجده وسط القمامة، ولم أستطع الحضور قبل الآن. ولكني أحيط سيادة الرئيس علما بأن ذلك الجريح ليس من الشخصيات المعروفة، بل كان من عامة الشعب!
وكان الرئيس مرتديا كعادته ملابس حداد كاملة: حذاء أسود، وحلة سوداء، وربطة عنق سوداء، وقبعة سوداء لا يخلعها أبدا. وكان يخفي لثته الخالية من الأسنان تحت شارب أشهب كث ممشط على جانبي فمه؛ وكان ذا وجنتين نحيلتين متهدلتين وجفنين صغيرين.
وسأله باسطا حاجبيه: وهل أخذته إلى المستشفى؟ - سيدي ... - ما هذا؟ إن شخصا يفخر بأنه صديق لرئيس الجمهورية لا يترك أبدا مسكينا شقيا جريحا في الطريق ضحية اعتداء مجهول!
وحملته حركة صادرة عن باب حجرة الطعام على أن يلتفت جانبا: تفضل يا جنرال.
بعد إذن سيدي الرئيس!
هل هم جاهزون يا جنرال؟ - أجل يا سيدي الرئيس! - اذهب أنت بنفسك معهم، قدم تعازي إلى أرملته وسلم لها هذه الثلاثمائة بيزو باسم رئيس الجمهورية، لمساعدتها في نفقات الجنازة.
وقام الجنرال الذي كان يقف بانتباه وقبعته العسكرية في يده، دون أن تطرف عيناه ويكاد لا يتنفس، بالانحناء إلى الأمام وتناول النقود من على المائدة، وأدار كعبيه، ثم رؤي بعد ذلك بدقائق يرحل في عربة تحمل النعش الذي يضم جثمان «ذلك الحيوان».
وسارع ذو الوجه الملائكي يشرح موقفه: لقد فكرت أن أذهب إلى المستشفى مع الرجل الجريح، ولكني قلت لنفسي: إنهم سيعتنون به على نحو أفضل إذا أنا أحضرت أمرا من السيد الرئيس. ولما كنت متوجها لمقابلتكم، ولكي أنقل إليكم أيضا مرة أخرى هول ما أحس به من جراء المصرع الغادر لضابطنا «باراليس سونرينتي». - سأصدر أوامري. - إن هذا هو ما ينتظره المرء من رجل يقولون إنه ينبغي ألا يحكم هذا البلد. - من يقول هذا؟ - أنا يا سيدي الرئيس. فأنا أول من يؤمن أن رجلا مثلكم ينبغي أن يحكم بلدا مثل فرنسا، أو سويسرا الحرة، أو بلجيكا المجيدة، أو الدانمرك الرائعة؛ وإنما فرنسا، فرنسا فوق كل شيء. إنكم الشخص المثالي لقيادة أقدار مثل هذا الشعب العريق الذي أنجب «غامبيتا» و«فيكتور هيجو».
ولاحت ابتسامة شبه خفية تحت شارب الرئيس، بينما كان ينظف نظارته بمنديل حريري أبيض دون أن يحول عينيه عن وجه صديقه. وبعد فترة صمت قصيرة، أخذ يتحدث في موضوع جديد. - لقد طلبت منك الحضور يا ميغيل من أجل مسألة أريد أن أنهيها الليلة. لقد أصدرت السلطات المختصة أمرا بإلقاء القبض على ذلك الوغد الجنرال «أيوسيبيو كاناليس»، وسوف يتم ذلك في منزله مع إشراقة شمس الغد. ولأسباب خاصة، ورغم أنه واحد من قتلة «باراليس سونرينتي»، فإن الحكومة ترى من غير اللائق بها أن تضعه في السجن، ولذلك يلزم أن يقوم بالهرب فورا. فاذهب وقابله، وقل له ما تعرف من معلومات، وانصحه بأن يهرب الليلة، كأنما هي فكرة من بنات أفكارك. وقد يتعين عليك أن تساعده على الهرب، لأنه، كأي جندي محترف، يؤمن بالشرف ويفضل أن يموت على أن يهرب. وإذا قبضوا عليه غدا فإنه سيعدم. ويجب ألا يعرف شيئا عن حديثنا هذا، فهذا بيني بينك فحسب. وحاذر أن تعلم الشرطة شيئا عن قيامك بزيارته. رتب الأمر بحيث لا تثير الشبهة وحتى يتمكن ذلك الوغد من الهرب. بإمكانك أن تنصرف الآن.
وانصرف محبوب الرئيس وقد أخفى وجهه خلف لفاعه (لقد كان جميلا وشريرا كإبليس). وحياه الضباط القائمون على حراسة غرفة طعام سيدهم تحية عسكرية بدافع السليقة، أو ربما بدافع علمهم أنه يحمل مصير جنرال في يديه. وكان ثمة سبعون شخصا جالسين في حجرة الانتظار يتثاءبون، ينتظرون أن يفرغ الرئيس من مهامه حتى يقابلوه. وكانت الطرق المحيطة بالقصر وبمنزل الرئيس مغطاة بالزهور، وثمة عدد من الجنود يقومون بتزيين واجهة الثكنات المجاورة بالمصابيح وبالأعلام الصغيرة وبالشرائط الورقية الزرقاء والبيضاء، بتعليمات من رؤسائهم .
ولم يكد ذو الوجه الملائكي ليلحظ أيا من تلك الزينات، فقد كان عليه أن يقابل الجنرال ويدبر أمر فراره. وبدا كل شيء يسيرا، إلى أن بدأت الكلاب تنبحه في الغابة الهائلة التي تفصل الرئيس عن أعدائه، وهي غابة قوامها أشجار ذات آذان تستجيب لأدنى صوت فتعصف أوراقها كأنما تهب عليها عاصفة مدمرة. ولم يكن أقل ضجيج على بعد أميال ليهرب من نهم تلك الملايين من الأغشية النباتية. ومضت الكلاب في نباحها. كانت ثمة شبكة ذات خيوط فضية، أكثر خفاء من أسلاك البرق، تصل ما بين كل ورقة وبين الرئيس، مما يمكنه من مراقبة أشد أفكار أهل الشغب سرية وخفاء!
وفكر ذو الوجه الملائكي: آه لو أمكن عقد اتفاق مع الشيطان، يبيعه فيه روحه على شرط أن تنخدع الشرطة ويتمكن الجنرال من الهرب! بيد أن الشيطان لا يدخل في أي صفقة وراءها خير. رغم أن كل شيء تقريبا يتهدده الخطر في هذه العملية الغريبة. رأس الجنرال، وشيء آخر. ونطق بالعبارة كأنما هو حقيقة يحمل بين يديه رأس الجنرال، وشيئا آخر.
ووصل إلى بيت الجنرال كاناليس في حي «لامرسيد». كان بيتا كبيرا يقع على ناصية الطريق، عمره حوالي المائة عام؛ وكانت شرفاته الثماني الواقعة في واجهته، ومدخل العربات الكبير الواقع خلفه، يخلعان عليه شيئا من المظهر الفخيم، كأنه عملية نقدية قديمة. وقرر المحبوب أن يصغي خارج الباب ثم يطرقه للاستئذان في الدخول إذا سمع أي حركة في الداخل. بيد أن وجود رجال الشرطة يمرون على الإفريز المقابل أجبره على أن يتخلى عن هذه الخطة. وبدلا من ذلك، سار بسرعة عبر واجهة المنزل وهو يتطلع إلى الشرفات ليرى ما إذا كان هناك من شخص يستطيع أن يومئ إليه. ولكنه لم ير أحدا. وكان من المستحيل أن يقف على الإفريز دون أن يثير الشكوك. وكان في ناصية الطريق المواجه للمنزل حانة صغيرة سيئة السمعة، فرأى أن أسلم طريقة للبقاء في الحي هو الذهاب إليها وتناول مشروب هناك. زجاجة من البيرة. وتبادل بضع كلمات مع المرأة التي قدمت له الشراب، ثم حول رأسه وكوب البيرة في يده ليرى من يجلس على المقعد المواجه للحائط. وكان عند دخوله الحانة قد لمح رجلا هناك من طرف عينه. كان الرجل قد أسدل قبعته على جبهته حتى كادت تلامس عينيه، وربط منديلا حول عنقه، ورفع ياقة معطفه؛ وكان يرتدي بنطالا واسعا وحذاء بساق عالية وأشرطته غير معقودة، مصنوعا من المطاط والجلد الأصفر وقماش بلون القهوة. ورفع المحبوب عينه شارد الذهن وتطلع إلى الزجاجات المصفوفة على الرفوف، وحرف «س» المكتوب على مصابيح النور الكهربائي، وإعلان عن الأنبذة الإسبانية (باخوس إله الخمر يجلس فوق برميل وسط رهبان منتفخي البطون ونسوة عاريات)، وصوت للرئيس أعيد إليه فيها شبابه على نحو بشع، وعلى كتفيه شرائط بالقصب كأنها أشرطة السكك الحديدية، وملائكة صغار تتوج هامته بأكاليل الغار. صورة ذات ذوق رائع! وبين الفينة والفينة، كان المحبوب يلتفت ويتطلع إلى منزل الجنرال. سيكون الأمر خطيرا إذا كانت ثمة علاقة تربط الرجل الجالس على المقعد وصاحبة الحانة أكثر من علاقة الصداقة إذ سيثيران المشاكل له. وفك أزرار سترته ووضع في نفس الوقت ساقا فوق أخرى، مرتكزا بمرفقه على حافة البار كما لو لم يكن في عجلة من أمره. ولنفرض أنه طلب كوبا أخرى من البيرة؟ وطلبها وناول صاحبة الحانة ورقة مالية بمائة بيزو حتى يكسب الوقت، فربما لا يكون لديها فكة. وفتحت المرأة درج الخوان في ضيق ظاهر، وفتشت بين أوراق النقد التي فيه ثم أغلقته بعنف. لم يكن لديها أي فكة. نفس الشيء دائما! عليها أن تخرج وتبحث عن فكة. وألقت بميدعتها فوق ذراعيها العاريين وخرجت إلى الطريق، بعد أن ألقت نظرة على الرجل الجالس على المقعد، كأنما تحذره بأن عليه أن يراقب زبونها الآخر: أن يتأكد أنه لن يسرق شيئا. وكان ذلك ترتيبا لا نفع يرجى منه؛ لأنه في نفس تلك اللحظة، خرجت فتاة من منزل الجنرال كأنما قد سقطت من السماء ، وقفز ذو الوجه الملائكي إلى الخارج في لمح البصر.
قال وهو يسير إلى جوار الفتاة: يا آنسة، هل لك أن تخبري سيد المنزل الذي خرجت منه توا أن لدي شيئا عاجلا للغاية أود أن أقوله له؟ - والدي؟ - هل أنت ابنة الجنرال؟ - أجل. - إذن، لا تتوقفي، كلا، كلا، استمري في السير، لا بد أن نواصل المسير، هاك بطاقتي. أرجوك أن تخبريه أنني سوف أنتظره في منزلي في أقرب وقت ممكن، وأنني ذاهب إلى هناك مباشرة وسوف أنتظره، وأن حياته في خطر. أجل، أجل، في منزلي في أسرع وقت ممكن.
وأطاح الريح بقبعته فكان عليه أن يجري ليمسك بها. طارت من أمامه مرتين أو ثلاث مرات، وأخيرا أمسك بها بحركة عنيفة كمن يمسك دجاجة في حظيرة للدواجن.
وعاد إلى الحانة بحجة أخذ باقي نقوده، ولكنه كان يريد في الحقيقة أن يرى الانطباع الذي خلفه خروجه المفاجئ على الرجل الجالس على المقعد، ووجده يجاهد مع صاحبة الحانة: كان ظهرها إلى الحائط، بينما شفتاه المشتاقتان تنشدان قبلة من شفتيها. وصاحت به حين تركها أخيرا، مذعورة من وقع خطوات ذي الوجه الملائكي المقتربة: «أيها الشرطي البائس، أنت أيها الحقير، هذا هو الاسم الجدير بك!»
ورأى ذو الوجه الملائكي أن من المناسب لخطته أن يتدخل بلطف في الأمر، فتناول الزجاجة التي كانت صاحبة الحانة تلوح بها متوعدة، وتطلع إلى الرجل بإمعان. - «مهلا مهلا يا سيدتي! يا للسماء، يا لها من حكاية! هيا، خذي باقي النقود لك عوضا عن ذلك. لن تكسبي شيئا من الشجار، وربما تحضر الشرطة، فضلا عن أن صديقنا هذا ...» - لوسيو فاسكيز، في خدمتك.
وصاحت المرأة: لوسيو فاسكيز! بالأحرى «سوسيو باسكاس»!
1
الشرطة، دائما الشرطة. فليجربوا ويأتوا هنا. إنني لا أخاف أحدا، كما أنني لست من الهنود، أتسمعني؟ حتى يخيفني بسجن «كاسا نويفا»!
فتمتم فاسكيز وهو يبصق شيئا ابتلعه عن طريق الخطأ: إن بإمكاني أن أضعك في دار للدعارة إن أنا أحببت! - وهو كذلك يا سيدي، فلم أكن أقول أي شيء.
وكان صوت فاسكيز كريها ؛ فقد كان يتحدث بطريقة أنثوية، بعبارات قصيرة متكلفة. وكان واقعا في غرام صاحبة الحانة لقمة رأسه، ويجاهد معها ليلا ونهارا حتى تعطيه قبلة واحدة عن طيب خاطر، فقد كان هذا هو كل ما يطلبه. بيد أنها كانت ترفض دائما، على أساس أنها إذا قبلت أن تمنحه قبلة فإن ذلك يعني منحه كل شيء. ولم يفلح مع صاحبة الحانة أي شيء: الرجاءات، التهديدات، الهدايا الصغيرة، الدموع الحقيقية أو الزائفة، الأغاني الغرامية بالليل، الأكاذيب، فقد كانت عنيدة في رفضها، ولم تستسلم أبدا، ولم تسمح لنفسها أن تتأثر بهذا التزلف. وكانت تقول دائما: «فليعرف تماما أي شخص يحاول أن يطارحني الحب أنه سيخوض في سبيل ذلك أهوالا.»
ومضى ذو الوجه الملائكي يقول كأنما يحادث نفسه، وهو يحك بسبابته قرشا معدنيا دق على الحائط: «بما أننا قد سوينا أمركما، فسوف أحكي لكما قصتي. الفتاة التي تسكن في المنزل المواجه.»
وبدأ يحكي لهما أن صديقا له طلب منه أن يرى ما إذا كانت تلك الفتاة قد تسلمت خطابا أرسله لها، حين قاطعته صاحبة الحانة قائلة: إن أي شخص يرى صراحة أنك أنت الذي تسعى وراءها أيها الوغد المحظوظ!
وطرأت فكرة مفاجئة في ذهن المحبوب. وهو يسعى وراءها ... ولكن أسرتها تقف ضدهما ... يتظاهر بأنه سيخطفها.
واستمر يحك سبابته في القرش المعدني المدقوق على الحائط، ولكن بقوة أشد هذه المرة.
قال ذو الوجه الملائكي: «هذا صحيح، ولكن المشكلة هي أن والدها لا يوافق على زواجنا.»
فصاح فاسكيز: «تبا لذلك الرجل العجوز. لشد ما يعبس حين يراني كأنما هي غلطتي أن أتبعه في كل مكان يذهب إليه حسب الأوامر!»
فقالت صاحبة الحانة بخبث: هكذا حال الأغنياء على الدوام!
وشرح ذو الوجه الملائكي قائلا: ولهذا فإنني أخطط للهرب مع الفتاة. وقد وافقت هي. لقد كنا نبحث ذلك الأمر منذ هنيهة، وسوف ننفذ خطة الهرب الليلة.
وابتسمت صاحبة الحانة وفاسكيز.
قال فاسكيز: «لنتناول شرابا. هذا أفضل.» ثم التفت وقدم سيجارة إلى ذي الوجه الملائكي: «أتدخن؟» - كلا شكرا. حسنا، سأتناول واحدة حتى ندشن صداقتنا.
وملأت المرأة ثلاثة أقداح بينما كانا يشعلان سيجارتيهما.
وبعد برهة قال ذو الوجه الملائكي بعد أن سرى المشروب السحري في جسده: إذن يمكنني أن أعتمد عليكما؟ مهما حدث، سأحتاج إلى معونتكما. ولكن يجب أن يكون ذلك اليوم!
قال فاسكيز: لا يمكنني المشاركة بعد الحادية عشرة مساء، فعملي يبدأ آنذاك. ولكن هذه المرأة هنا ... - هذه المرأة أفضل منك! صن لسانك!
فعاد يقول وهو ينظر إلى صاحبة الحانة: هي، «لامسكواتا»، سوف تحل محلي. إنها تساوي رجلين. إلا إذا رغبت أن أرسل لك أحدا مكاني؛ إن أحد أصدقائي سيقابلني الليلة في الحي الصيني.
فقالت المرأة: لماذا بالله عليك تجر دائما «خينارو روداس» وراءك في كل شيء، ذلك الأشبه بماء جوز الهند؟
فتساءل ذو الوجه الملائكي: ما معنى ماء جوز الهند ذاك؟ - ذلك لأنه يبدو كالموتى، إنه مخطوف ... اللون! - وما صلة هذا بمهمتنا؟
فقال فاسكيز: لا أدري فيه ما يعيب ...
قالت المرأة: بل هناك ما يعيبه، وآسفة لأن أقطع كلامكما يا سيدي. لم أحب أن أخبرك بذلك، ولكن «فيدينا» زوجة «خينارو روداس» قد حكت للجميع أن ابنة الجنرال ستكون إشبينة طفلها عند ولادته، ومن هنا ترى أن صديقك «خينارو» ليس هو الشخص المناسب للعمل الذي يعتزم هذا السيد أن يقوم به. - كلام فارغ. - كل شيء عندك كلام فارغ.
وشكر ذو الوجه الملائكي فاسكيز على لطفه، وأخبره أن من الأفضل ألا يشرك صديقه «ماء جوز الهند» في الموضوع، لأنه - كما قالت المرأة - لا يمكن اعتباره محايدا. وأضاف: «خسارة يا صديقي فاسكيز ألا تتمكن من مساعدتي هذه المرة!» - إني آسف أيضا لعدم مشاركتي في الأمر، لو علمت لكنت قد طلبت إجازة هذه الليلة. - هل يمكن تسوية الأمر بدفع شيء من النقود؟ - «كلا، لست معتادا على ذلك، لا فائدة!» ورفع يديه وغطى بهما أذنيه. - حسنا، لا مناص من ذلك. سوف أعود إلى هنا قبل الفجر، حوالي الثانية إلا ربعا أو الواحدة والصنف صباحا، لأنه في أمور الغرام، لا بد من طرق الحديد وهو ساخن .
وودعهما وسار إلى الباب وهو يرفع ساعة يده إلى أذنه ليرى ما إذا كانت تعمل - وكان لارتجاف دقاتها المتواترة ما ينذر بالشر - ثم أسرع خارجا ولفاعه الأسود ملفوف على وجهه الشاحب. كان يحمل في يديه رأس الجنرال، وشيئا آخر.
الفصل السابع
غفران كبير الأساقفة
توقف «خينارو روداس» إلى جوار الحائط كيما يشعل سيجارة. وحين حك عود الثقاب جانب العلبة، ظهر «لوسيو فاسكيز». وكان ثمة كلب يتقيأ إلى جوار سور أحد الأضرحة الحديدي.
وهمهم «روداس» عند مرأى صديقه: «ظهر الشيطان»! وحياه «فاسكيز» قائلا: «كيف حالك؟» واستمرا يسيران. - كيف حالك أيها العجوز؟ - إلى أين أنت ذاهب؟ - ما هذا السؤال؟ أأنت تمزح؟ ألم نتفق على أن نتقابل هنا؟ - آه، آه. لقد ظننت أنك نسيت. سوف أقص عليك آخر تطورات موضوعك، ولكن هيا بنا نتناول شرابا. هيا، فلنذهب عن طريق «رواق الرب» لنرى ما إذا كان ثمة شيء هناك. - لا أظن أن ثمة شيئا هناك، ولكن فلنذهب إذا شئت. منذ أن منعوا الشحاذين من النوم هناك، لم يعد يرى في تلك المنطقة أي قطة بالليل. - هذا أفضل. فلنعبر عن طريق فناء الكتدرائية، إذا رأيت ذلك، يا لشدة الرياح!
ومنذ مصرع الكولونيل «باراليس سونرينتي»، لم يفارق رجال الشرطة السرية منطقة «رواق الرب» لحظة واحدة. وكان يختار للحراسة في ذلك المكان أقسى الرجال وأشدهم خشونة.
وعبر «فاسكيز» وصديقه الرواق من أوله إلى آخره، وصعدا السلم الذي يفضي إلى ناصية قصر رئيس الأساقفة، وخرجا من جانب منطقة «المئة باب». وكانت أعمدة الكتدرائية تلقي بظلالها في المكان الذي اعتاد الشحاذون أن يناموا فيه. وكان ثمة سلم خشبي، وآخر، وآخر، مما يشهد بأن النقاشين سوف يقومون بإعادة الشباب لأبواب المبنى ونوافذه. والواقع أن البلدية كانت لديها خطط لإظهار تأييدها المطلق لرئيس الجمهورية، وعلى رأس هذه الخطط طلاء وإصلاح المبنى الذي كان مسرحا للاغتيال المشين لأحد ضباطه، على أن يتكفل بالنفقات الأتراك الذين يمتلكون «بازارا» في المنطقة تفوح منه دائما روائح نفايات تحترق! وكان القرار الحازم الذي اتخذه أعضاء مجلس البلدية حين طرح عليهم موضوع النقود: «فليدع الأتراك، فهم مسئولون على نحو ما عن مصرع الكولونيل «باراليس سونرينتي»؛ لأنهم يقيمون في المكان الذي وقعت فيه الحادثة.» ونتيجة لهذا الإجراء الانتقامي، كان الأمر سينتهي بالأتراك إلى أن يصبحوا أشد فقرا من الشحاذين الذين اعتادوا أن يناموا على أعتاب أبوابهم، لو لم يمد لهم بعض الأصدقاء من ذوي النفوذ يد المعونة فدفعوا ثمن الطلاء والتنظيف. وإصلاح إضاءة الكتدرائية، بأذون دفع مالية من وزارة الخزانة مشتراة بنصف قيمتها.
بيد أن وجود الشرطة السرية كان مدعاة لقلق هؤلاء التجار الأتراك. وكانوا يتساءلون فيما بينهم عن سبب وجود هذه الحراسة المشددة: ألم تتحول أذون الدفع إلى دلاء من الطلاء الأبيض؟ ألم يشتروا على حسابهم فرشا للطلاء في طول لحى أنبياء بني إسرائيل؟ وقد دفعهم حرصهم إلى زيادة عدد القضبان الحديدية والمزاليج والأقفال على أبواب حوانيتهم.
وغادر «فاسكيز» و«روداس» الرواق من الناحية القريبة من «المائة باب». وابتلع الصمت صوت خطواتهما الثقيلة. وبعد أن قطعا شوطا من الطريق، دلفا إلى بار يدعى «صحوة الأسد». وحيا «فاسكيز» البارمان وطلب زجاجة نبيذ وكأسين، وجلس مع «روداس» إلى مائدة صغيرة وراء ستار.
سأله «روداس»: حسنا، أي أخبار عندك عني؟
فرفع فاسكيز كأسه قائلا: في صحتك. - في صحتك.
وأضاف البارمان الذي كان قد حضر إلى مائدتهما لتقديم الطلبات، بصورة آلية: «في صحتكما أيها السيدان!»
وأفرغ كلاهما كأسيهما دفعة واحدة. - لم يحدث تقدم بالنسبة لذلك الموضوع ...
بصق «فاسكيز» تلك العبارة مع آخر جرعة من كأسه ممتزجة بالرضاب الذي بعثته فيه، وأضاف: «لقد وضع مساعد المدير اسم أحد أقربائه بدلا منك، وحين تدخلت من أجلك، كانوا قد أعطوا الوظيفة بالفعل لذلك القذر.» - يا للحظ السيئ! - ولكن: حين يأمر الربان بشيء فعلى البحار أن يطيع وهو صامت. لقد جعلته يشعر أنك مشتاق للالتحاق بالشرطة السرية، وأنك رجل يعتمد عليه. إنك تعرف من هو فاسكيز! - وماذا قال لك؟ - ما سبق أن قلته لك: إن هناك شخصا من أقاربه للوظيفة، وبهذا فقد أفحمني. إن ما أقوله لك الآن إن الالتحاق بالشرطة السرية أصعب الآن مما كان عليه سابقا حين التحقت أنا بها. إن الكل يتسابق عليها باعتبارها ذات مستقبل عظيم.
ورد «روداس» على كلمات صديقه بهزة من كتفيه وتعليق غير مفهوم. لقد حضر وكله أمل في أن يحظى بالوظيفة. - لا تكن متشائما هكذا. حالما أسمع عن وظيفة أخرى شاغرة، فهي لك. أحلف بالله، بأمي، إنها لك؛ الآن بصفة خاصة بعد أن تأزمت الأمور لا بد أن يحتاجوا إلى المزيد من الرجال. ألم أحك لك؟
وحين قال «فاسكيز» ذلك، تلفت حوله في عصبية ثم أضاف: كلا، لست ثرثارا، من الأفضل لي أن أسكت. - حسنا، لا تحك لي شيئا، إني لا أهتم بذلك. - إنه موضوع خطير! - اسمع أيها العجوز، لا تحك لي شيئا، اسكت من فضلك، إنك لا تثق بي، ها، إنك لا تثق بي ... - بل أثق بك يا صديقي ... يا لك من شخص حساس! - اسمع؛ اسكت؛ فأنا لا أحب هذه الشكوك. إنك كالنساء! إني لم أطلب منك أن تقول لي أي شيء حتى تنصرف على هذا النحو!
ووقف «فاسكيز» ليرى ما إذا كان ثمة أحد على مرمى السمع منهما، ثم تحدث في نبرة خفيضة وهو يقترب من «روداس»، الذي أخذ ينصت إليه عابسا ولم يزل مستاء من تكتمه في الأمر. - لا أدري إذا ما كنت قد قلت لك إن الشحاذين الذين كانوا ينامون في «رواق الرب» ليلة مقتل الكولونيل «سونرينتي» قد اعترفوا أخيرا، ومن ثم فلا يوجد مخلوق لا يعلم من الذي قتل الكولونيل. وأضاف رافعا صوته: «من هو في ظنك؟» ثم قال خافضا صوته إلى حد يتلاءم مع رجل من الشرطة السرية: ليس غير الجنرال «إيوسبيو كاناليس» والمحامي «قابيل كرفخال» ... - أحقيقي ما تقول لي الآن؟ - لقد صدر الأمر باعتقالهما اليوم. ها أنت تعرف كل شيء الآن.
قال «روداس» وقد هدأت نفسه: «إذن فالأمر كذلك! ذلك الكولونيل الذي يحكون أن باستطاعته قتل ذبابة بطلقة من مسدسه على بعد مائة خطوة، وكان مكروها من الجميع، لم يقض عليه مسدس ولا سيف، بل انقصفت رقبته كالدجاجة، بإمكان المرء فعل أي شيء في هذا العالم إذا هو صمم على ذلك. ذلك الخنزير القاتل!»
واقترح فاسكيز دورة أخرى من الشراب، ونادى: كأسان آخران يا سيد «لوتشو».
وملأ «لوتشو» النادل كأسيهما مرة أخرى، وكان يخدم الزبائن مرتديا ميدعة من الحرير الأسود.
وصاح فاسكيز: «عليك بالكأس»، وأضاف من بين أسنانه بعد أن بصق: «إنني أكره أن أرى كأسا ملآن، فلتعلم ذلك إن كنت لا تعرف. في صحتك!»
كان القلق قد بدا على روداس، بيد أنه أفرغ كأسه في عجلة، وقال وهو يزيحه عن فمه: إن من أرسل الكولونيل إلى العالم الآخر ليس من البلاهة بحيث يعود إلى مكان فعلته مرة أخرى، في أي وقت. - ومن قال إنه سيعود؟ - ماذا؟ - اسمع ... يمكن أن يحدث أي شيء بينما هم يبحثون ... ها ها ها ... لقد جعلتني أضحك! - إن ما تقول هو ما يبعث على الضحك. ولكني أقول إنهم ما داموا يعرفون من قتل الكولونيل، فلا قيمة لأن يقفوا في «رواق الرب» في انتظار عودته كيما يمسكوا به ... أو لا تقل لي إنكم هنا من أجل عيون الأتراك؟ - لا تقل مثل هذا الهذر! - وأنت لا تقل لي هذه القصص العجيبة في مثل هذا الوقت من الليل! - إن ما تفعله الشرطة السرية في «رواق الرب» لا شأن له بمحنة الكولونيل «باراليس» ولا يهمك معرفته ... - كما لو كنت تعرف كل شيء. - إني أعرف ما يعنيني معرفته. - وأنا يتعين أن أعرف! - كف عن هذا الهذر. الواقع أن وجود الشرطة السرية في الرواق لا علاقة له بالجريمة، حقيقة، كلا. لن تتخيل ما تفعل هنا ... إننا في انتظار رجل مصاب بسعار الكلاب. - بالله عليك! - أتذكر ذلك الأخرس الذي يصيحون به «أماه» في الطرقات؟ ذلك الرجل الطويل الأعجف، الملتوي الساقين، الذي يجري في الطرقات كالمجنون ... أتذكره؟ أجل بالطبع أتذكره. حسنا، إننا نترقب وصول هذا الشخص إلى رواق الكتدرائية، حيث اختفى من هناك منذ ثلاثة أيام. سوف نرشق جسده بالرصاص.
ووضع فاسكيز يده على مسدسه حين نطق بالعبارة الأخيرة. - والله لقد أخفتني يا شيخ! - كلا يا رجل. لم أقل ذلك لأخيفك. إنها الحقيقة، صدقني، إنها الحقيقة. لقد عض عددا من الناس وأوصى الأطباء بإعطائه جرعة من الرصاص. ما رأيك؟ - إنك تسخر مني، ولكن لم يولد بعد من يستطيع خداعي. إن رجال الشرطة ينتظرون في «رواق الرب» من قتل الكولونيل. - يا إلهي، كلا! يا لك من عنيد صلب الرأي! إنهم ينتظرون الأخرس كما قلت لك، الأخرس، الأخرس المصاب بالسعار، والذي عض كثيرا من الناس! هل تريد أن أعيد ذلك على مسامعك؟ •••
أخذ الأبله يجر جسده في الطريق، متأوها من جراحه؛ يسير أحيانا على أربع، ملتويا، دافعا جسده بأطراف قدميه، يحك بطنه في الصخور، وأحيانا يعتمد على ساقه السليمة وأحد مرفقيه، بينما الألم يعتصر جانبه. وأخيرا، لاح الميدان أمامه. وكانت الريح تعصف بأشجار الحديقة فتتردد كأنها صرخات النسور. واجتاح الأبله الرعب حتى أنه بقي برهة غائبا عن الوعي، وتبدى ألمه في لسانه الذي أصبح جافا منتفخا كالسمكة الملقاة في الرماد، والعرق الذي غطى فخذيه، وصعد إلى «رواق العرب» خطوة خطوة، ساحبا جسده كأنه قطة تموت، ثم أقعي في جانب ظليل، فاغر الفم، جاحظ العينين، وقد تجمدت على أسماله بقع الدماء والطين. واختلط الصمت بوقع أقدام العابرين في هذا الوقت المتأخر، وطقطقة بنادق الحراس، وصوت الكلاب الضالة تمشي بخطوات بطيئة، وأنفها تجاه الأرض، تبحث عن عظام وسط مزق الورق وأوراق الشجر التي أطارها الريح إلى «رواق الرب».
وأعاد «لوتشو» ملء كأسي النبيذ الكبيرين، من النوع الذي يعرف بالكأس ذي الدورين. وقال «فاسكيز» في نبرة أحد من المعتاد، في عبارات قطعها البصاق مرتين: «لماذا لا تصدقني بحق الجحيم؟ ألم أقل لك إنه في حوالي التاسعة من هذا المساء - أو ربما الساعة التاسعة والنصف - وقبل أن ألاقيك هنا، كنت أغازل «لامسكواتا»، صاحبة حانة «الخطوتان» حين دخل إلى حانتها شاب طلب كأسا من البيرة. وبعد أن أحضرت له الكأس، طلب آخر ودفع لها ورقة بمائة بيزو. ولم يكن معها فكة، وخرجت تبحث عن فكة. بيد أني تيقظت له تماما؛ لأنه حالما دخل، شممت فيه رائحة الخطرين. وكأنما كنت أعرف الأمر مسبقا! فقد خرجت فتاة من المنزل المقابل، وما كادت تخطو خارجة حتى ذهب ذلك الشاب ولحق بها. ولكني لم أر غير هذا؛ لأن «لامسكواتا» عادت من الخارج في تلك اللحظة، فكان علي - كما تعلم - أن أعاود مغازلتها ثانية.» - وماذا عن المائة بيزو؟ - انتظر وسأحكي لك كل شيء: كنا نتصارع، أنا وهي، حين عاد ذلك الشاب للحصول على باقي نقوده، ووجدني أحتضنها، وعندها أفضى بسره وأخبرنا أنه متيم بحب ابنة الجنرال «كاناليس» وأنه يفكر في الهرب معها في هذه الليلة ذاتها إذا أمكن ذلك. وكانت الفتاة التي خرجت من المنزل لمقابلته هي ابنة الجنرال «كاناليس» نفسها. ولا يمكن أن تتصور كم ألح علي من أجل أن أساعده في خطته، ولكني لم أكن أستطيع عمل شيء وأنا مكلف تلك المهمة في «رواق الرب». - يا لها من حكاية!
وألحق «روداس» ملاحظته تلك ببصقة من لعابه. - والشيء الغريب هو أنني شاهدت ذلك الشاب مرارا عند قصر رئيس الجمهورية. - إذن لا بد أن يكون أحد أفراد عائلته. - كلا، لا يمكن أن يكون من نفس الأرومة. إن ما أريد أن أعرفه هو، لماذا هذه اللهفة لخطف الفتاة هذه الليلة بالذات؟ لا بد أنه يعلم شيئا عن إلقاء القبض على الجنرال ويعمل على أن يهرب بها حين يكون الجنود مشغولين بالقبض على العجوز. - لقد أصبت كبد الحقيقة، لا شك في ذلك. - كأس صغير آخر، ثم تنهض إلى العمل.
وملأ «لوتشو» كأسي الصديقين، فأفرغاهما على الفور. وبصقا تجاه دوائر البصاق وأعقاب السجائر التي تغطي أرض المكان. - كم حسابك يا سيد «لوتشو»؟ - ستة عشر قرشا ونصف ...
فسأل «روداس»: الواحد ...؟
فرد النادل: «كلا، الاثنان!» بينما كان فاسكيز يحصي النقود. - سلاما يا سيد «لوتشو». - نراك على خير يا سيد «لوتشيتو».
وامتزج صوتاهما بصوت النادل الذي اصطحبهما إلى الباب مودعا.
وصاح «روداس» وهو يدس يديه في جيبي بنطاله حين خرجا إلى الطريق: «يا الله، إن البرد شديد!»
ومشيا في بطء حتى بلغا الحوانيت القريبة من السجن، من الناحية التي تطل على «رواق الرب» وتوقفا هناك بناء على اقتراح من فاسكيز. كان يشعر بالسعادة، ومد ذراعيه إلى الأمام كأنما ليخلص نفسه من حمل من الخمول. وقال وهو يتمطى: «هذه هي صحوة الأسد حقا، بشعره الأمامي المعقوص! لا بد أن الأسد يتحمل كثيرا من المشاق في سبيل أن يكون أسدا. ابتهج قليلا يا رجل، هه؟ لا لأن الليلة هي ليلتي. الليلة ليلتي، أقول لك، الليلة ليلتي!»
وبفضل ترديده لهذه الكلمات برنة ثاقبة تزداد حدة في كل مرة، بدا وكأنه يحيل الليل دفا أسود مزدانا بأجراس ذهبية، وكأنه يصافح أصدقاء خفيين في وسط الريح، وكأنه يدعو الأراجوز الذي يسكن بيتا في الرواق كي يمثل أمامه هو وعرائسه الخشبية ليدغدغوا حلقة حتى يكاد ينفجر من الضحك. وضحك ... وضحك ... وحاول القيام بعدة خطوات راقصة ويداه في جيب صداره، ثم ماتت ضحكته فجأة وتحولت إلى أنين، واستحالت سعادته ألما. وقوس جسده ليحمي فمه من غثيان أمعائه. وصمت فجأة، وتصلبت ضحكته في فمه كأنها الجص الذي يستخدمه أطباء الأسنان لقياس حجم الأسنان. لقد لمح الأبله ودوى وقع أقدامه خلال الرواق الساكن؛ وضاعف المبنى العتيق منها، مرتين، ثماني مرات، اثنتي عشرة مرة. كان الأبله يئن، مرة برفق، ومرة بصوت عال، كالكلب الجريح. ودوت صرخة في سواد الليل؛ فقد اقترب «فاسكيز» من الأبله ومسدسه في يده، ليجره من ساقه الجريحة إلى رأس السلم الذي يفضي إلى ناصية قصر كبير الأساقفة. وشهد «روداس» الموقف دون أن يتحرك، لاهث النفس غارقا في عرقه. وعند أول طلقة من المسدس، تدحرج الأبله على درجات السلم. وقضت الطلقة الثانية عليه. وانكمش الأتراك على أنفسهم فيما بين الطلقتين. ولم ير أحد أي شيء. بيد أن ثمة قديسا كان يطل من إحدى شرفات قصر كبير الأساقفة، يساعد الرجل سيئ الحظ ساعة احتضاره. وفي اللحظة التي تدحرج فيها جسده على درجات السلم، امتدت إليه يد ترتدي خاتما من الأحجار الكريمة ومنحته الغفران، وفتحت له باب مملكة السماء.
الفصل الثامن
أراجوز الرواق
فور أن دوت طلقتا الرصاص، وعلت صرخات الأبله وهرب فاسكيز وصديقه، بدت الطرقات وكأنما تجري وراء بعضها بعضا، وقد تدثرت بحفيف الثياب تحت ضوء القمر؛ وذلك دون أن تدري ماذا حدث، بينما قبضت أشجار الميدان أصابعها في يأس لأنها لا تستطيع البوح بما حدث لا عن طريق الرياح التي تسري خلال أوراقها ولا أعمدة الهاتف التي تنتصب وسطها. وأطلت الطرقات على المفارق تتساءل فيما بينها عن المكان الذي وقعت فيه الجريمة، ثم هرع بعضها إلى وسط المدينة والبعض الآخر إلى الضواحي، وكأنما قد ضلت الطريق. كلا، لم تقع الجريمة في «حارة اليهود» الملتفة الملتوية كأنما خطتها يد رسام مخمور، ولا في «حارة اسكونتيا» التي اشتهرت يوما ما حين قام بعض أبناء النبلاء من الشبان بإحياء أيام الفروسية فيها بأعمال سيوفهم في أجساد رجال الشرطة المرتشين، ولا في «حارة الملك» التي يغشاها المقامرون، والتي يقال إنه لا يمكن لأحد أن يمر بها دون أن يحيي الملك؛ ولا في «حارة القديسة تريزا»، وهي تل منحدر يمر في حي موحش؛ ولا في «حارة الأرنب»؛ ولا بالقرب من نافورة «هافانا»، ولا عند «الشوارع الخمسة»؛ ولا في حي المارتينيك.
بل وقعت الجريمة في «الميدان الرئيسي»؛ حيث تسيل المياه على الدوام من المراحيض العمومية كأنها دموع البائسين، وحيث رجال الحرس لا يكفون عن استعراض سلاحهم، والليل يلف ويدور حول الكتدرائية تحت قبة السماء الثلجية. وكانت الرياح تخفق كأنها اضطرام دماء تنزف من صدغ أثخنته طلقات رصاص بالجراح، ولكنها لم تفلح في انتزاع الأوراق المثبتة في تسلط على رءوس الأشجار.
وانفتح فجأة باب في أحد مساكن «رواق الرب»، وأطل منه الأراجوز كالفأر. ودفعته زوجته، بحب استطلاع فتاة صغيرة في الخمسين من عمرها، إلى الشارع كي يرى ما يجري فيه ويصف لها ما يراه. ماذا حدث؟ ما معنى تينك الطلقتين، الواحدة في ذيل الأخرى؟ ولم يهتم الأراجوز بأن يظهر على الباب في ملابسه الداخلية ليرضي نزوات السيدة بنجامبون، كما أصبحت زوجته تدعي (ربما الآن اسمه بنيامين)، ورأى أن زوجته قد جانبها الصواب حين طغت عليها الرغبة في معرفة ما إذا كان أحد الأتراك قد قتل، إلى درجة أن غرست أظافرها في ضلوعه كأنها عشرة مهمازات كيما تدفعه إلى أن يبرز رأسه إلى الخارج بأقصى ما يستطيع. - ولكني لا أرى شيئا يا امرأة! ماذا تتوقعين مني أن أقول لك؟ علام كل هذا الإلحاح؟ - ماذا تقول؟ هل وقع ذلك في حي الأتراك؟ - أقول لك إنني لا أرى شيئا، وإن كل هذا الإلحاح ... - أوضح كلامك، بحق الله!
كان الأراجوز، حين يخلع أسنانه الصناعية ليتكلم، يحرك فمه جيئة وذهابا كأنه فقاعة هواء. - آه، أجل، إني أرى الآن! انتظري لحظة. إني أرى ما الأمر. فقالت المرأة في شبه همس: ولكن يا بنيامين، لا أستطيع أن أفهم كلمة واحدة مما تقول. ألا تدرك ذلك. لا أستطيع فهم كلمة مما تقول! - إني أرى الآن، إني أرى الآن. هناك جمع من الناس يحتشد هناك عند ناصية قصر كبير الأساقفة. - ابتعد عن الباب إذا كنت لا ترى شيئا. لا تقع فيك ألبتة! لا أفهم شيئا مما تقول.
وأفسح السيد بنيامين مكانا لزوجته، التي تبدت عند الباب في حالة شعثاء، وأحد ثدييها يتدلى من قميص نومها القطني الأصفر، والآخر مشتبك في صورة العذراء المعلقة على الباب.
وكان آخر ما قاله السيد بنيامين الأراجوز. آه ... إنهم يحضرون نقالة! - آه، حسنا، إن الحادث هناك وليس في حي الأتراك كما كنت أعتقد. لماذا لم تقل هذا من البداية يا بنيامين؟ حسنا، لهذا كان صوت الطلقات قريبا بطبيعة الحال.
وقال الأراجوز: انظري، ألا ترينهم يحضرون نقالة؟ وبدا صوته إذ هو يتحدث خلف زوجته وكأنه آت من أعماق الأرض. - اسكت! لا أعرف عم تتحدث. أفضل لك أن تذهب وتضع أسنانك الصناعية، فبدونها تبدو وكأنك تتحدث لغة أجنبية! - قلت إنني رأيتهم يحضرون نقالة. - كلا، إنهم يحضرونها الآن فقط؟ - كلا يا فتاتي العزيزة، لقد كانت هناك من قبل! - أقول لك إنهم يحضرونها الآن، إنني لست عمياء. - لا أدري، ولكني رأيتهم. - ماذا رأيت؟ النقالة؟
كان السيد بنيامين لا يكاد يبلغ المتر الواحد طولا، نحيلا، غرير الشعر كالوطاويط؛ وتعذر عليه أن يرى ماذا يفعل حشد من الناس والشرطة من وراء كتف السيدة بنجامبون زوجته، وهي امرأة هائلة البنية، تحتاج إلى مقعدين في الترام؛ مقعد لكل فخذ، وما يربو على سبعة أمتار من القماش للرداء الواحد.
وقال السيد بنيامين محاولا الهرب من هذه الحالة من الخسوف الكامل: «ولكنك تتفرجين وحدك الآن.»
وكأنما كان قد قال: «افتح يا سمسم!» فقد استدارت السيدة بنجامبون جانبا كالجبل وأمسكت به في قبضتها. وصاحت: «بحق العذراء، ها أنا أرفعك لترى!» وحملته بين ذراعيها كطفل وجذبته إلى الباب.
وبصق الأراجوز بصاقا أخضر وأرجوانيا وبرتقاليا ومن كل لون. وبينما كان يرفس صدر زوجته وبطنها، كان ثمة أربعة رجال مخمورين يعبرون الطرف الأقصى من الميدان حاملين جثة الأبله على نقالة. ورسمت السيدة بنجامبون علامة الصليب. لهذا كانت المراحيض العمومية تبكي على الميت، والرياح تعصف كأنها صوت النسور بين أشجار الحديقة ذات اللون الشاحب الترابي.
وهتف الأراجوز حين عادت قدماه تلمسان الأرض: كان على القسيس الذي عقد زواجنا أن يقول لي إنه يعطيني ممرضة وليس خادمة، عليه اللعنة!
وتركته نصفه الحلو يتكلم؛ وليست عبارة «نصفه الحلو» بالعبارة المناسبة هنا؛ فهي كالبطيخة إذا كان هو نصف البرتقالة التي تبحث عن نصفها الآخر.
وتركته يتكلم، بدافع صادر من جزء منه عن عدم فهمها كلمة مما يقول حين يخلع أسنانه الاصطناعية، وفي الجزء الآخر عن احترامها له.
وبعد مضي ربع ساعة، كانت السيدة بنجامبون تغط في نومها كأنما أجهزتها التنفسية تكافح من أجل الحياة داخل برميل اللحم هذا، بينما كان زوجها لا يزال يلعن اليوم الذي تزوج فيه منها وعيناه تقدحان شررا.
بيد أن ذلك الحادث غير العادي عاد بالخير على مسرح العرائس الذي يقيم أوده؛ ذلك أن العرائس قد اتخذت من تلك المأساة موضوعا لها، وكانت تذرف الدموع قطرة قطرة من عيونها الورقية، بفضل شبكة من أنابيب صغيرة تغذيها محقنة وحوض ماء. ولم تكن العرائس حتى ذلك الوقت قد عرفت سوى الضحكات، وكانت إن بكت تفعل ذلك بتقطيب باسم خال من البلاغة التي تضفيها الدموع التي تنساب الآن على خدودها وتسيل على خشبة المسرح التي كانت في السابق محل الكثير من الهزليات الضاحكة.
وكان السيد بنيامين يعتقد أن العنصر التراجيدي في تلك الدراما سيجعل الأطفال يبكون، ولذلك كانت دهشته عظيمة حين رآهم يضحكون من أعماق قلوبهم أكثر من أي وقت مضى، مقهقهين ترتسم علامات السعادة على وجوههم. كان منظر الدموع يثير ضحك الأطفال. وكان منظر الضربات يثير ضحكهم كذلك.
وخرج السيد بنيامين باستنتاج من ذلك: هذا غير منطقي. غير منطقي بالمرة!
وعارضته السيدة بنجامبون: هذا منطقي. منطقي جدا! - غير منطقي. غير منطقي. غير منطقي! - منطقي جدا. منطقي جدا. منطقي جدا.
وألمح السيد بنيامين: لا تدعينا نتشاجر.
ووافقت قائلة: لا تدعنا نتشاجر. - ولكن هذا غير منطقي. - إنه منطقي، أؤكد لك ذلك، منطقي جدا، منطقي للغاية! كانت السيدة بنجامبون حين تتشاجر مع زوجها تضيف إلى كلماتها صيغة المبالغة، كأنها صمامات الأمان التي تقي من الانفجار.
وصاح الأراجوز وهو يكاد يشد شعره من غيظه: غير منطقي! - منطقي، منطقي، منطقي للغاية. منطقي للغاية.
ومع ذلك، مضى الأراجوز الصغير الحجم يستخدم لمدة طويلة حيلة دموع المحقنة ليجعل العرائس تبكي كيما تسلي الأطفال.
الفصل التاسع
عين زجاجية
كانت الحوانيت الصغيرة في المدينة تغلق أبوابها عند الساعات الأولى من الليل، بعد أن تراجع حساباتها، وتتسلم الصحف، وتصرف آخر زبائنها. وكان ثمة مجموعات من الفتيان يتسلون عند نواصي الطرقات بمطاردة الحشرات الطائرة التي تهوم حول المصابيح الكهربائية. وكانت كل حشرة يمسكون بها تتعرض لسلسلة من التعذيب، يطيل منه الأشرار فيهم نتيجة لعدم وجود شخص رحيم بينهم يضع قدمه على هذه المخلوقات وينهي حياتها بسرعة. وكان يرى من النوافذ فتيات يتبادلن الشكوى من تباريح الهوى مع أحبائهن الواقفين في الطريق؛ بينها تسير دوريات مسلحة بحراب السونكي أو بالعصي في الشوارع الهادئة في صف مفرد، يمشون على خطى قائدهم. ومع ذلك كانت هناك أمسيات يكون فيها كل شيء مختلفا: فكان معذبو الحشرات الطائرة المسالمون يلعبون ألعابا ينتظمون فيها في معارك يعتمد طولها على وجود المؤن من «الصواريخ»؛ فقد كان هؤلاء المحاربون يرفضون التوقف عن اللعب ما دام هناك مدد من الحجارة في الطريق. أما المحبون، فقد تظهر أم الفتاة فجأة فتنهي هذا الاستعراض الغرامي، وترسل بالحبيب المفتون جاريا في الشارع يحمل قبعته وكأنما الشيطان يطارده. وأحيانا تقع دورية الحرس على أحد المارة فتفتشه من قمة رأسه إلى أخمص قدميه وترسل به إلى السجن، حتى لو لم يكن يحمل سلاحا، بوصفه شخصية مشبوهة، متشردا، متآمرا، أو كما يقول قائد الدورية «لأن منظره لا يعجبني!»
وفي تلك الساعة من الليل، كانت الأحياء الفقيرة بالمدينة تعطي انطباعا بالعزلة المطلقة، والفاقة الجهماء، ومظاهر الإهمال، وتظلل كل هذا قدرية دينية تترك كل شيء لإرادة الله. وكانت ميازيب الأمطار تعكس صورة القمر على الأرض، والمياه تتقاطر من صنابير مياه الشرب فتقيس الساعات اللا متناهية لشعب يؤمن بأنه قد حكم عليه بالعبودية والرذيلة.
وكان «لوسيوفاسكيز» يودع صديقه في أحد هذه الأحياء الفقيرة. قال وهو يغمز بعينه علامة كتمان السر: مع السلامة يا خينارو. سأذهب لأرى ما إذا كان في الوقت متسع للمساعدة في خطف ابنة الجنرال.
ووقف خينارو برهة جامدا يتبدى على سيمائه ذلك التعبير الحائر لشخص يتردد في قول عبارة أخيرة لصديق يودعه! ثم توجه إلى أحد البيوت في ذلك الحي، حيث كان يقطن في مسكن أعده في أحد الحوانيت، وطرق الباب.
وقال صوت من الداخل: من هناك؟ من الطارق؟
رد خينارو وهو يحني رأسه كأنما يتحدث إلى شخص قصير جدا: إنه أنا.
فقالت المرأة التي فتحت الباب: أنا من؟
ورفعت زوجته، «فيدينا دي روداس»، الشمعة إلى مستوى رأسه لترى وجهه. كان شعرها منكوشا، وترتدي ثياب النوم.
وحين دلف خينارو إلى الداخل، خفضت الشمعة، وأعادت مزلاج الباب الحديدي إلى مكانه بصوت عال وتوجهت إلى غرفة النوم دون أن تنطق بكلمة. ثم وضعت الشمعة أمام الساعة حتى يرى ذلك الفاجر الساعة المتأخرة التي عاد فيها إلى بيته. وتوقف لكي يداعب القطة النائمة على المصطبة، وحاول أن يصفر بفمه أغنية مرحة.
صاحت «فيدينا» وهي تحك قدميها قبل أن تدلف إلى الفراش: أي شيء يجعلك تبدو سعيدا هكذا؟
فرد خينارو بسرعة من جانب الحانوت المظلم، وهو يخشى أن تكتشف زوجته رنة القلق في صوته: لا شيء. - إنك تقابل رجل الشرطة ذاك ذا الصوت النسائي أكثر من ذي قبل الآن.
فقاطعها خينارو وهو يتجه إلى الغرفة الخلفية حيث ينامان، وقبعته الجوخ متدلية على عينيه: كلا. - كاذب! لقد تركته منذ لحظة! آه، إنني أعرف عمن أتحدث؛ إن رجلا يتحدث بصوت مائع - لا هو ديك ولا دجاجة - مثل صديقك ذاك لا يمكن أن يأتي الخير على يديه. إنك تصاحبه لأنك تريد أن تلتحق بالشرطة السرية. تلك الجماعة من المتوحشين الكسالى! الذين يجب أن يخجلوا من أنفسهم!
وتساءل خينارو ليغير موضوع الحديث وهو يخرج رداء صغيرا من صندوق: ما هذا؟
وأخذت «فيدينا» الرداء من زوجها كأنما هو راية من رايات السلام، وبدأت تحكي بحماسة، وهي جالسة على الفراش، أنه هدية من ابنة الجنرال كاناليس، التي طلبت الأم منها أن تكون إشبينة طفلها الأول عند تعميده. وأخفى «خينارو» وجهه في الظلال المحيطة بمهد ابنه الوليد، وبدون أن يسمع ما كانت تقوله زوجته عن ترتيبات التعميد، رفع يده في ضيق ليبعد ضوء الشمعة عن عينيه، ثم جذبها بسرعة بعيدا، وهو يهزها لينظفها من آثار لون الدماء الذي علق بأصابعه. وارتفع شبح الموت من المهد الذي ينام فيه طفله كأنما هو نعش. إن الموتى أيضا في حاجة إلى الهدهدة كالأطفال. كان الشبح يحاكي بياض البيضة في لونه، ذو عينين ضبابيتين، أصلع الرأس، بلا حواجب ولا أسنان، يثني نفسه في دورات حلزونية كتقلصات البخور داخل المجامر التي تستخدم في المراسم الجنائزية: وكان خينارو يسمع صوت زوجته يسعى إلى أذنيه كأنما يأتي من مكان سحيق. كانت تتكلم عن ابنها، وعن التعميد، وعن ابنة الجنرال ، وعن دعوة جارتها الملاصقة لهم، والرجل السمين المواجه لهم وجارتها التي على بعد خطوتين، والجار الذي يقطن في ناصية الشارع، وصاحب الخان، والجزار، والخباز. - «ألا يكون ذلك رائعا؟» ثم أضافت بحدة: ماذا دهاك يا خينارو؟
وجفل من وقع صوتها الحاد، وقال: لا شيء.
لقد غمرت صيحة زوجته شبح الموت في بقع سوداء صغيرة، بقع سوداء أبرزت الشبح منتصبا أمام ركن الغرفة المظلم. وكان هيكلا عظميا لامرأة لم يبق فيه من الصفات الأنثوية سوى الثديين الغائرين، رخوين مشعرين كالفئران المتدلية فوق إطار الضلوع. - ماذا دهاك يا خينارو؟ - لا شيء. - هذه هي نتيجة سهرك في الخارج. إنك تعود إلى المنزل كالسائرين في نومهم، مطأطئ الرأس خذلان. لماذا لا تبقى في بيتك أيها الرجل البائس؟
وبدد صوت زوجته وجود الهيكل العظمي. - كلا. لا شيء هناك.
كانت ثمة عين تسبح فوق أصابع يده اليمنى كأنها دائرة ضوء منبعث من مصباح كهربائي؛ تنتقل من الإصبع الصغير إلى الأوسط، ومنه إلى إصبع خاتم العرس، ومن إصبع الخاتم إلى السبابة، ومن السبابة إلى الإبهام. عين ... عين واحدة. كان يشعر بها تنبض. وحاول أن يسحقها بأن قبض يده بشدة إلى أن انغرست أظافره في راحة يده. بيد أن ذلك كان مستحيلا، فحين فتح يده ثانية، كانت لا تزال هناك مرة أخرى على أصابعه، لا تزيد في حجمها عن قلب عصفور، ولكنها مخيفة كنار جهنم. وانبجست من جبهته حبات عرق ساخن، كمرق اللحم. من ذلك الذي يتطلع إليه خلال هذه العين التي استكانت على أصابعه ثم تقافزت كأنها كرة عجلة الروليت على وقع الأجراس الجنائزية؟
وانتزعته «فيدينا» من المهد الذي كان ينام فيه طفله. - ماذا دهاك يا خينارو؟ - لا شيء.
وبعد برهة، تنهد مرات عديدة ثم قال: «لا شيء. إن هناك عينا تطاردني! إن هناك عينا تتبعني، عينا ورائي أينما ذهبت! إني أرى يدي - كلا! هذا مستحيل! إنها عيناي، إنها عين ...»
وقالت له زوجته من بين أسنانها دون أن تفهم شيئا مما يقول: سلم أمرك إلى الله! - إنها عين ... أجل، عين مستديرة سوداء ذات أهداب، كأنها عين زجاجية! - إنك ثمل. هذا هو ما دهاك. - كيف أكون ثملا وأنا لا أجد ما أشرب؟ - كيف لا تجد؟ إن فمك يعبق برائحة الخمر.
ورغم أنه كان يقف في وسط الحجرة التي ينامون فيها، فقد كان الحانوت يشغل نصفها الآخر، شعر «خينارو» أنه قد تاه في غياهب قبو مليء بالوطاويط والعناكب والثعابين والسحالي، بعيدا عن متناول أي عون أو راحة.
ووصلت «فيدينا» كلامها قائلة وهي تتثاءب: «لا بد أنك مقدم على شيء. إنها عين الله تراقبك!»
وقفز خينارو مرة واحدة إلى الفراش ودلف تحت الشراشف وهو في كامل ملابسه بما فيها الحذاء. كانت العين لا تزال هناك، تتراقص إلى جانب جسد زوجته، ذلك الجسد البض الفتي. وأطفأت «فيدينا» النور، بيد أن ذلك زاد الطين بلة، ذلك أن العين تعاظم حجمها شيئا فشيئا في الظلمة، إلى أن غطت الجدران والأرض والسقف والسطح والبيوت المجاورة، غطت حياته كلها، وطفله ...
وأجاب ردا على ملاحظة زوجته التي أعادت إشعال الشمعة حين سمعت صيحاته المذعورة، وراحت تمسح العرق البارد عن جبهته بإحدى مناشف الطفل: «كلا! إنها ليست عين الله، إنها عين الشيطان!»
ورسمت «فيدينا» علامة الصليب. وطلب منها خينارو أن تطفئ الشمعة ثانية. وتحولت العين إلى شكل حرف ثمانية إذ هي تنتقل من النور إلى الظلمة، ثم صدر عنها صوت مدو، كان يبدو أنها ستنكسر على شيء ما، وما لبثت أن تكسرت على الفور على صوت وقع أقدام تتردد في الشارع.
وصاح خينارو: الرواق! الرواق! أجل! أجل! النور، أعواد الثقاب! النور بحق الإله!
ومدت زوجته يدها من فوقه لتمسك بعلبة الثقاب. وكانت تتردد أصوات عجلات قصية. كان خينارو يمسك فمه بأصابعه ويصيح كأنما هو يختنق. لم يكن يريد أن يبقى وحيدا، ونادى على زوجته، التي كانت قد دست جسدها في قميص النوم وذهبت تسخن له بعض القهوة.
وحين سمعت صرخات زوجها، عادت إلى الفراش منزعجة. وقالت لنفسها وهي ترقب شعلة الشمعة الخافقة بعينيها السوداوين الجميلتين: «هل هو مريض يا ترى أم ماذا؟» وجال بخاطرها الدود الذي أخرجوه من معدة «هنرييتا » الفتاة التي تعمل في الخان المجاور للمسرح - والفطريات التي وجدوها مكان المخ في رأس أحد الهنود في المستشفى، وذلك المخلوق البشع المسمى «كاديخو» الذي يحول بين الإنسان والنوم. وكالدجاجة التي ترفرف بجناحيها وتصيح على فراخها حين ترى الطيور الكاسرة تتهددها، نهضت وعلقت ميدالية القديس «بلاس» حول رقبة طفلها الوليد الصغيرة وهي تتلو الصلوات بصوت عال.
بيد أن الصلوات هزت «خينارو» كأنما أحد يقوم بضربه. ونهض من الفراش وقد أغلق عينيه بشدة، فوجد زوجته إلى جوار مهد الطفل فتعثر ووقع على ركبتيه معانقا ساقيها ومعترفا لها بما شاهده في هذه الليلة: «لقد تدحرج على السلم، أجل، إلى نهاية السلم، نازفا الدماء من أول طلقة، ولم يغلق عينيه بعد ذلك أبدا، منفرج الساقين، وعلى عينيه نظرة جامدة باردة زجاجية لم أر في حياتي مثيلا لها أبدا! وبدت إحدى عينيه كأنما تحيط بكل شيء أمامها مثل لمح البرق، ولشد ما كانت تحدق إلينا! عين ذات أهداب طويلة، لا تريد أن تفارقني، لا تريد أن تفارق أصابعي، ها هي، آه يا إلهي، ها هي!»
وأسكتته صرخة من الطفل. وتناولت «فيدينا» الطفل من مهده، ولفته في بعض الثياب، ثم ألقمته ثديها، دون أن تتمكن من الإفلات من قبضة زوجها، رغم أنها شعرت بالاشمئزاز منه وهو يجثو هناك، ممسكا بساقيها يئن ويهذي. - وأسوأ ما في الأمر أنه «لوسيو» ... - أهو «لوسيو» ذلك الذي يشبه صوته صوت النساء؟ - أجل، لوسيو فاسكيز. - الرجل الذي يدعونه «القطيفة»؟ - أجل. - ولماذا قتله بحق السماء؟ - لقد صدرت إليه الأوامر بذلك؛ فقد أصيب بداء السعار. بيد أن ذلك ليس أسوأ ما في الأمر؛ فالأدهى من ذلك أن لوسيو قد أخبرني أن أمرا قد صدر باعتقال الجنرال كاناليس، وأن هناك شابا يعرفه ينوي اختطاف ابنة الجنرال الليلة ... - الآنسة كميلة، إشبينة طفلي؟ - أجل.
وحين سمعت «فيدينا» هذه الأنباء التي لا يصدقها عقل، طفقت تبكي بالسهولة والغزارة اللتين تبكي بهما عامة النساء حزنا على مصائب الآخرين. وسقطت دموعها على رأس طفلها الصغيرة إذ هي تهدهده، سخينة كالمياه التي تحملها الجدات إلى الكنيسة لإضافتها إلى المياه المقدسة الباردة في حوض التعميد.
وراح الطفل في النوم وانقضى الليل وخينارو وزوجته لا يزالان جالسين كأن على رأسيهما الطير، حين خط الفجر خيطا ذهبيا تحت الباب وكسرت ابنة الخباز صمت الدار وهي تدق على الباب وتصيح: الخبز! الخبز! الخبز!
الفصل العاشر
أمراء الجيش
غادر الجنرال «إيوسبيو كاناليس»، الملقب «تشاماريتا»، منزل ذي الوجه الملائكي في كل أبهته العسكرية، كأنما هو ذاهب على رأس جيشه؛ ولكن عندما أغلق الباب وأصبح وحيدا في الطريق، استحالت مشيته العسكرية إلى خبب هندي فقير ذاهب إلى السوق لبيع دجاجته. وكان يشعر بالجواسيس الذين يتعقبونه في أعقاب قدميه، وظل يضغط بأصابعه على فتاق يشعر به في حقويه؛ فقد كانت آلامه تصيبه بالخور. وكان يزفر كلمات متقطعة وشكايا محطومة، في حين يحس بقلبه يخفق في اضطراب ويتقلص، وتفوته بعض الدقات، لدرجة اضطر معها - زائغ العين مشلول الفكر - أن يضغط بيده على صدره ويقبض عليه رغما عن الضلوع التي تفصله عنه، كأنما هو عضو كسير بإمكانه إرغامه على العمل. شكرا لله. لقد عبر الآن تلك الناصية التي بدت له جد بعيدة من قبل، والآن، إلى الناصية التالية. ولكن: لشد ما تبدو له بعيدة مع كل هذا التعب الذي يشعر به! وبصق. وكادت ساقاه تخذلانه. قشرة برتقالة. وعربة تمرق عند نهاية الطريق. إنه هو الذي سيمرق. ولكنه لم يعد يرى سوى العربة والمنازل والأنوار ... وغذ السير، إذ لم يعد أمامه من شيء سوى ذلك. شكرا لله. لقد عبر توا ذلك الركن الذي بدا له بعيدا جدا منذ دقائق. والآن، إلى الركن التالي، ولكن: لشد ما يبدو له بعيدا مع كل هذا التعب الذي يشعر به! وصر على أسنانه حتى يتمكن من شد أزر ركبتيه. إنه لم يعد يكاد يسير. كانت ركبتاه متيبستين، وثمة ألم ينذر بالسوء يشعر به أسفل عموده الفقري وفي حلقه. ركبتاه، عليه أن يجر نفسه نحو منزله زاحفا على أربع، دافعا جسده بيديه ومرفقيه وبكل غريزة فيه تصارع من أجل الهروب من الموت. وخفف من مشيته. وتتابعت نواصي الطريق التي لا توفر أية حماية له. بل وأكثر من ذلك، فإنها بدت وكأنها تتكاثر في ذلك الليل البهيم مثل الأبواب الزجاجية الشفافة. لقد كان يتصرف على نحو مضحك أمام نفسه وأمام الآخرين، سواء كانوا يرونه أم لا، وهو شيء متناقض يعزى إلى كونه شخصية هامة عامة على الدوام، حتى في هدأة الليل، محط أنظار مواطنيه. وهمهم: «فليحدث ما يحدث، إن الواجب يحتم علي البقاء في المنزل، ويصبح هذا أكثر لزوما إذا ما صح ما قاله لي توا ذلك الوغد «ذو الوجه الملائكي»!» ثم مضى بعد برهة يقول لنفسه: «الهرب معناه أنني مذنب!» ... وكان الصدى يتردد مع وقع خطاه ... «الهرب معناه أنني مذنب، معناه ...! ولكن البقاء ...!» وكان الصدى يتردد مع وقع خطاه ... «الهرب معناه أنني مذنب! ... ولكن البقاء!» وكان الصدى يتردد مع وقع خطاه ...
ومد يده إلى صدره كأنما لينتزع كمادات الخوف التي زرعتها فيه كلمات محبوب الرئيس، ذي الوجه الملائكي ... ولكن أوسمته العسكرية لم تكن هناك. «الهرب معناه أنني مذنب، ولكن البقاء ...» وكان إصبع ذي الوجه الملائكي يشير له إلى الطريق الوحيد الممكن للخلاص ... المنفى: «لا بد من الهروب بجلدك يا جنرال! ما زال في الوقت متسع!» وكان كل ما يشعر نحوه بالاهتمام والتقدير، وكل ما يحبه في حنان الأطفال: الوطن، الأسرة، الذكريات، التقاليد، وابنته «كميلة» ... كل هذا كان يدور حول ذلك الإصبع المشئوم، كأنما الكون كله قد استحال شذرات كما استحالت أفكاره مزقا.
ولكن، بعد خطوات قليلة أخرى، لم يبق شيء من هذه الرؤيا الهائلة سوى دموع الحيرة تتألق في مآقيه ... - «لقد قلت مرة في إحدى خطبي إن الجنرالات هم «أمراء الجيش». يا لي من أحمق! لقد دفعت ثمنا باهظا لهذه العبارة الصغيرة! لن يغفر لي الرئيس أبدا قولي هذا عن أمراء الجيش. وما دمت قد سقطت في نظره، فهو الآن سيحملني وزر موت كولونيل كان دائما يظهر احتراما وحبا لشيبتي.»
ولاح شبه ابتسامة صغيرة ساخرة تحت شاربه الرمادي. كانت ثمة صورة مختلفة أخرى للجنرال كاناليس تتشكل في أعماقه، جنرال كاناليس آخر، يمشي بخطى السلحفاة، يجر ساقيه كأنما هو أحد الخطاة التائبين في موكب أسبوع الألم، صامتا، كئيبا، حزينا، تفوح منه رائحة الصواريخ النارية المحترقة. أما «تشاماريتا» الحقيقي كاناليس الذي سبق أن خرج من منزل ذي الوجه الملائكي، عزيزا، في عزوة منصبه العسكري، ووراء ظهره العريض معارك مجيدة خاضها الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر ونابليون وبوليفار، فقد أخذ يحل محله فجأة صورة جنرال كاريكاتورية، جنرال كاناليس آخر يسير دون أي زخارف ذهبية، دون أحذية بساق ولا مهمازات ذهبية، دون امتيازات أو صولجان. وبدا التناقض واضحا بين النهاية التي يلقاها هذا الجنرال الغريب الكئيب الملبس، الرث، الذليل، كجنازة فقير مسكين، وبين نهاية «تشاماريتا» الحقيقي الآخر، كجنازة من الدرجة الأولى، كاملة بالشرائط وأكاليل الغار والرياش والتحايا العسكرية. لقد كان جنرال كاناليس مجللا بالعار، يتقدم إلى ساحة هزيمة لن يسجلها له التاريخ، أمام الجنرال الحقيقي الذي بقي في الخلفية كالدمية غارقا في أضواء ذهبية وزرقاء، وقبعته المثلثة الأطراف تغطي عينيه، وسيفه مكسور، وذراعاه متدليان، والصلبان والأوسمة على صدره قد علاها الصدأ.
وأشاح كاناليس بعينه، دون أن يخفف. من خطاه، من صورته الأخرى المبهرجة وهو يشعر أنه قد هزم هزيمة معنوية. وتخيل نفسه، والكآبة تسيطر عليه، في المنفى يرتدي بنطال الحمالين، على سترة إما طويلة جدا أو قصيرة جدا، واسعة جدا أو ضيقة جدا، وإنما ليست على مقاسه إطلاقا. لقد كان يسير وسط أطلال حياته المحطومة، يدوس رياشه الذهبية بأقدامه. - «ولكني بريء!»
وردد هذه العبارة بكل اقتناع. - «ولكني بريء، فلماذا أخاف ...؟»
وأجابه ضميره، بالكلمات التي سمعها من ذي الوجه الملائكي: «وهذا هو السبب بالذات! ذلك أن الأمر سيكون مختلفا تماما لو كنت مذنبا. إن الجريمة مهمة جدا لأنها تضمن للحكومة ولاء الموطن؛ والوطن؟ اهرب بجلدك يا جنرال، إني أعرف جيدا ما أقوله لك. لا الوطن ولا الثروة سينقذانك. والقانون؟ ابحث عن شيء آخر. لا بد أن تهرب يا جنرال، إن الموت بانتظارك!» - ولكني بريء. - «سواء كنت مذنبا أو بريئا لا أهمية له يا جنرال. إن ما يهم هو ما إذا كنت محل رضى الرئيس أم لا. من الأفضل أن تكون مذنبا عن أن تكون بريئا لا ترضى عنك الحكومة!»
وسد أذنيه حتى لا يسمع صوت ذي الوجه الملائكي، وغمغم ببعض عبارات الانتقام؛ فقد كانت ضربات قلبه تكاد تكتم أنفاسه. وبعد ذلك، بدأ يفكر في ابنته. لا بد أنها تنتظره الآن على أحر من الجمر. ودقت ساعة كنيسة «لا مرسيد». كانت السماء صافية ترصعها النجوم دونما سحابة واحدة. وحين أشرف على ناصية شارعه، رأى النور مضاء في النوافذ، ويلقي أشعته القلقة إلى قلب الطريق. - «سوف أترك ابنتي كميلة في رعاية أخي «خوان» إلى أن أتمكن من إحضارها معي. لقد عرض ذو الوجه الملائكي أن يأخذها الليلة أو صباح غد إلى مسكن أخي».
ولم يكن في حاجة إلى مفتاح البيت الذي يحمله في يده؛ لأن الباب انفتح على الفور. - حبيبي بابا. - «هس! تعالي، سوف أشرح لك كل شيء. ليس هناك من وقت نضيعه. سوف أشرح لك. قولي لمساعدي أن يجهز لي جوادا ... وبعض النقود. ومسدسا ... وبعد ذلك سأرسل في طلب ملابسي ... لن أحتاج إلا للضروري فقط في حقيبة. لا أدري ماذا أقول وأنت لا تفهمينني. أصدري الأوامر بأن يجهزوا لي البغل الكستنائي اللون، وجهزي أنت حاجاتي بينما أذهب أنا لتغيير ملابسي وكتابة خطاب لإخوتي. وسوف تبقين مع خوان بعض الوقت.»
ولو كانت الابنة قد شاهدت أمامها مجنونا هائجا لما كانت قد شعرت بالفزع الذي شعرت به حين رأت أباها، وهو الهادئ الرصين، يدخل في تلك الحالة من الهياج. كان مخنوق العبارات مخطوف اللون. لم تكن قد رأته هكذا أبدا من قبل. ودفعها الإلحاح والعجلة - يعذبها القلق ولا تستطيع أن تسمع ما يقول أبوها ولا أن تقول سوى: آه يا إلهي، آه يا إلهي - إلى التوجه إلى مساعد أبيها لتخبره أن يجهز البغل، وهو بغل عظيم ذو عينين تتوهجان بالنيران، ثم عادت لتجهز حقيبة الملابس: مناشف ، جوارب، خبز، شحم بالزبد، بيد أنها نسيت أن تضيف الملح - ثم توجهت إلى المطبخ لتوقظ مربيتها، التي كانت تجلس فوق السلة الخشبية غافية كعادتها أمام النيران الذابلة إلى جوار القطة التي كانت تحرك أذنيها لدى سماع أي ضوضاء غير مألوفة.
وكان الجنرال يسطر خطابا في عجلة شديدة عندما مرت الخادمة بالغرفة لتغلق النوافذ بالمزلاج.
واستولى الصمت على البيت، بيد أنه لم يكن ذلك الصمت الحريري. لليالي العذبة الهادئة، التي تطبع ظلمتها الليلية نسخا مطابقة من الأحلام الجميلة، أخف من عبير الزهور وأقل لمعة من المياه. إن ذلك الصمت الذي استولى على البيت، والذي لم يقطعه سوى سعال الجنرال وحركات ابنته المسرعة هنا وهناك، ونشيج الخادمة وأصوات فتح وإغلاقه الصوانات والخزائن والأدراج في فزع، كان صمتا مشدودا ثقيلا مؤلما كالملابس الغريبة. •••
وفي تلك الأثناء، كان ثمة شخص ضئيل، ماكر الوجه، ذو جسد أشبه براقصي الباليه، يكتب خطابا دون أن يرفع القلم من فوق الورق ودون أن يصدر عنه أي صوت، كأنما هو يخيط نسيجا عنكبوتيا:
إلى صاحب السعادة رئيس الجمهورية الدستوري، الحاضر دائما
سيادة الرئيس
وفقا لما تلقيته من تعليمات، فرضت حراسة مشددة على الجنرال «إيوسبيو كاناليس»، وأتشرف الآن أن أبلغ سيادة الرئيس أنه قد شوهد في منزل أحد أصدقاء فخامتكم، منزل السيد ميغيل ذي الوجه الملائكي. وقد أبلغتني الطباخة التي تعمل في منزل ذي الوجه الملائكي (وهي تتجسس على سيدها وعلى الخادمة)، والخادمة (التي تتجسس على سيدها وعلى الطباخة) أن ذا الوجه الملائكي قد انفرد بالجنرال كاناليس في حجرته ما يقرب من ثلاثة أرباع الساعة، وقد قالت إن الجنرال كاناليس قد خرج بعدها في حالة من الاضطراب الشديد. وبناء على التعليمات، ضوعفت الحراسة على منزل كاناليس، وصدرت الأوامر مرة أخرى بأن أي محاولة للهرب من جانبه لا بد وأن تنتهي بقتله.
وقد قدمت الخادمة - دون علم الطباخة - تفاصيل أخرى؛ فقد أخبرتني على الهاتف أن سيدها قد أفهمها أن كاناليس قد حضر إليه يعرض عليه ابنته مقابل تدخله الفعال في صالحه لدى الرئيس.
أما الطباخة فكانت - دون علم الخادمة - أكثر وضوحا في ذلك الموضوع؛ فقد قالت إنه بعد مغادرة الجنرال للمنزل كان سيدها في حالة سرور عظيم، وأمرها بأن تخرج حالما تفتح الحوانيت لشراء بعض المربى والشراب والفطائر والحلوى؛ لأن فتاة من أسرة عريقة ستحضر لتعيش معه. «هذه هي فحوى المعلومات التي أتشرف بإبلاغها إلى السيد رئيس الجمهورية ...»
وكتب التاريخ ومهر الخطاب بتوقيعه المنمق الذي يشبه رمية السهم، وقبل أن يرفع القلم من على الورق ليحك به أنفه، أضاف خاطرة أخرى: «إضافة للمذكرة المقدمة هذا الصباح: الدكتور لويس بارينيو: قام ثلاثة أشخاص بزيارة عيادته هذا الأصيل، اثنان منهم من الفقراء المدقعين؛ وفي المساء خرج للنزهة مع زوجته في الحديقة. - قابيل كرفخال المحامي: ذهب هذا الأصيل إلى البنك الأمريكي، وإلى الصيدلية المواجهة لدير الكابوتشين وإلى النادي الألماني، وهناك تحدث فترة طويلة مع السيد «رومز» الموضوع تحت مراقبة الشرطة، ثم عاد إلى منزله في السابعة والنصف. ولم يشاهد مرة أخرى خارجا، وقد ضوعفت الحراسة حول منزله، وفقا للتعليمات الواردة». ختام.
الموقع أعلاه. التاريخ أعلاه
الفصل الحادي عشر
الاختطاف
توجه لوسيو فاسكيز، بعد افتراقه عن روداس، إلى الحانة التي توجد فيها «لامسكواتا» بأسرع ما تستطيع قدماه أن تحملاه، كيما يرى ما إذا كان الوقت قد حان للمساعدة في اختطاف الفتاة. وأسرع في مروره بنبع «لامرسيد» وهو مكان يمتلئ بالأشباح والجريمة طبقا للإشاعات والأكاذيب التي تطلقها النسوة اللائي يخلطن إبر ثرثرتهن مع المياه القذرة التي يملأن بها صفائحهن من النبع.
وقال جلاد الأبله في نفسه دون أن يخفف من خطاه: «إن الاشتراك في عملية اختطاف شيء عظيم. ونظرا لأن مهمتي في «رواق الرب» قد أنجزت بسرعة فائقة، حمدا لله، فإن في وسعي أن أستمتع بتنفيذ تلك العملية. يا إلهي، إذا كان الفرح لا يسعني حين أعثر على شيء أو حين أسرق دجاجة، فكيف ستكون متعتي إذ تتاح لي الفرصة كي أخطف فتاة!»
وبدت الحانة التي تمتلكها «لامسكواتا» على مشارف البصر، بيد أنه أخذ يتصبب عرقا حين لمح ساعة كنيسة «لامرسيد». كان الوقت قد أزف، ما لم تكن عيناه تخدعانه. وألقى التحية على رجل شرطة أو اثنين ممن كان يحرسان منزل الجنرال كاناليس، ثم دلف إلى باب الحانة كأنه أرنب يدلف إلى جحره.
وكانت «لامسكواتا» قد أوت إلى الفراش في انتظار الساعة المحددة، وهي الثانية صباحا، وأعصابها على أحر من الجمر، وضغطت إحدى ساقيها بالأخرى، وسحقت ذراعيها تحت جسدها في أوضاع غير مريحة، وطوت رأسها على مدار الوسادة، والعرق يتصبب منها مع كل حركة، ولكن دون أن تفلح في إغلاق عينيها.
وحين طرق فاسكيز الباب قفزت من الفراش وأسرعت إلى الباب وهي تشهق من فرط الاضطراب. - «من هناك؟» - أنا، فاسكيز، افتحي. - لم أكن أنتظرك!
وقال وهو يدخل: كم الساعة الآن؟ - الواحدة والربع صباحا.
قالت ذلك على الفور دون أن تنظر إلى الساعة، ولكن بقناعة من كان يحصي كل دقيقة تمر، وكل خمس دقائق، وعشر دقائق، وربع ساعة، وعشرين دقيقة؛ إذ هي في انتظار أن تحل الساعة الثانية. - إذن كيف تشير ساعة الكنيسة إلى الساعة الثانية إلا ربعا؟ - غير معقول. لا بد أنها غير مضبوطة. - ثم ... أخبريني، هل عاد ذلك الشاب؟ - كلا.
وأخذ فاسكيز صاحبة الحانة بين ذراعيه وهو يتوقع تماما أن يكون جزاؤه صفعة منها. ولكن لم يحدث شيء من هذا؛ فقد أصبحت «لامسكواتا» وديعة كالحمامة، فتركته يحتضنها ويقبلها في شفتيها، ماهرة بذلك إمضاءها على اتفاق بألا ترفض له شيئا أيا كان الليلة. وكان الضوء الوحيد في الغرفة يتوهج أمام صورة للعذراء، إلى جوار باقة من الورد المصنوع من الورق. وأطفأ فاسكيز الشمعة ثم أوقع صاحبة الحانة أرضا. واختفت صورة العذراء في الظلمة؛ إذ تدحرج جسداهما على أرض الحجرة وقد التصقا ببعض كحزمة من الثوم. •••
وظهر ذو الوجه الملائكي من ناحية المسرح، يمشي مسرعا بصحبة مجموعة من الأفاقين الأجلاف. وقال لهم: «حالما تصبح الفتاة في يدي، بوسعكم أن تنهبوا المنزل، لن تذهبوا أبدا فارغي اليد، أعدكم بذلك. ولكن، الزموا الحيطة، الآن وفيما بعد على حد سواء ، ولا تفشوا السر، وإلا فإني أفضل أن أعمل بدونكم.»
وحين داروا إلى المنعطف أوقفتم دورية للشرطة. وتحدث المحبوب مع ضابط الدورية في حين وقف الجنود حولهما. - إننا ذاهبون للغناء أمام نافذة إحدى السيدات
1
أيها الملازم.
فقال الضابط وهو يدق على الأرض بسيفه: «هل تتفضل فتخبرني أين ذلك؟» - هنا، في حارة «المسيح». - وأين هي قيثاراتكم وطبولكم؟ يا لها من سيرينادا غريبة بدون أية موسيقى!
فدس ذو الوجه الملائكي في خفة ورقة مالية من فئة المائة بيزو في يد الضابط، وعندها سحب ذاك جميع اعتراضاته.
وكانت نهاية الشارع مسدودة ببناية كنيسة «لامرسيد»، وهي كنيسة بنيت على شكل سلحفاة ذات عينين، هما نافذتان، في قبتها. وأمر المحبوب رفاقه بألا يذهبوا إلى حانة «الخطوتان» كلهم مرة واحدة. وقال لهم بصوت عال وهم يفترقون: «تذكروا، سنتقابل جميعا في حانة «الخطوتان»، «الخطوتان»، حذار أن تخطئوا المكان، «الخطوتان»، إلى جوار حانوت الأثاث.»
وغاضت أصوات أقدامهم إذ تفرقوا كل إلى جهة. كانت خطة الهروب كما يلي: حين تدق ساعة الكنيسة الثانية صباحا، يرتقي رجل أو اثنان من رجال ذي الوجه الملائكي سطح منزل الجنرال كاناليس، وعندها تقوم ابنة الجنرال، طبقا للاتفاق، بفتح نافذة في واجهة المنزل وتصيح بأعلى صوتها طلبا للنجدة من اللصوص الذين اقتحموا المنزل، وذلك لجذب انتباه رجال الشرطة الذين يراقبون المكان. وعند ذاك ينتهز الجنرال كاناليس فرصة الهرج والمرج من الباب الخلفي.
وما كان يضع مثل هذه الخطة السخيفة أحمق أو مجنون أو طفل، فهي خطة دون بداية ولا نهاية، وإذا كان الجنرال وذو الوجه الملائكي قد وافقا عليها رغم سخفها؛ فذلك لأن كلا منهما كان يرى فيها - على حدة - هدفا آخر مختلفا تماما؛ فبالنسبة للجنرال كاناليس، كانت الحماية التي خلعها عليه ذو الوجه الملائكي تعطيه فرصة أفضل للهرب؛ وبالنسبة لذي الوجه الملائكي، كان نجاح الخطة لا يعتمد على اتفاقه مع كاناليس بل مع السيد الرئيس، الذي كان قد أبلغه هاتفيا بزمان الخطة وتفاصيلها حالما غادر الجنرال منزله. •••
تبدو ليالي أبريل في المناطق الاستوائية كأنها أرامل أيام مارس الحارة، مظلمة، باردة شعثاء، حزينة. ووقف ذو الوجه الملائكي في المنعطف الذي يقع بين الحانة وبين منزل كاناليس، وأخذ يحصي أشباح رجال الشرطة ذات اللون الأخضر الداكن، المتناثرين هنا وهناك، ثم سار ببطء خلف ذلك الصف من المنازل، وفي عودته، دلف إلى باب حانة «الخطوتان» الصغير. كان ثمة رجل شرطة في زيه الرسمي على باب كل منزل من المنازل المجاورة، عدا عدد لا يحصى من رجال الشرطة السرية، يسيرون في عصبية جيئة وذهابا على الطوار. وشعر بنذر شؤم. قال في نفسه: «إنني أشارك في اقتراف جريمة. إنهم سوف يقتلون هذا الرجل حين يغادر منزله». وكلما أمعن فكره في تلك الخطة؛ بدت له أشد هولا. وبدت له فكرة اختطاف ابنة رجل محكوم عليه بالموت بشعة وكريهة، على نحو ما كان يمكن أن يكون الأمر سارا ومناسبا لو أنه ساعد الجنرال على الهرب حقا. ولم تكن طيبة القلب هي التي دفعت هذا الرجل، وهو عديم الإحساس بطبعه، إلى الشعور بالكراهة لفكرة نصب كمين في قلب المدينة لمواطن أعزل سلم له ثقته إلى حد أنه يهرب من منزله معتقدا أن صديق السيد الرئيس يبسط حمايته عليه. لا، ولا كون أن تلك الحماية لا بد أن تنكشف في نهاية الأمر وتكشف عن خدعة بالغة القسوة تملأ اللحظات الأخيرة للضحية بالمرارة إذ تجعله يتحقق أنهم قد خدعوه وخانوه وداسوه بالأقدام، وأنهم قد أعدوا طريقة بارعة لخلع مظهر قانوني على الجريمة بالقول إنها كانت الملجأ الأخير للسلطات تحول بها بين المجرم المزعوم وبين الفرار في اليوم السابق لاعتقاله. كلا. لقد كانت الدوافع التي حملت الوجه الملائكي على عض شفتيه إنكارا لتلك الخطة الجهنمية البائسة مختلفة تماما. لقد كان يعتقد بكل حسن نية أنه قد اكتسب - بوصفه حاميا للجنرال - حقوقا على ابنته، بيد أنه يرى الآن أن تلك الحقوق قد راحت ضحية قيامه بدوره المعتاد في كل مرة، كأداة عمياء، كتابع وفي يقوم بدور جلاد السيد الرئيس.
كانت ثمة رياح غريبة تهب عبر وادي الصمت الذي يلفه، حيث أخذت تنمو نباتات برية عطشى عطش الأهداف التي لا تعرف الدموع، عطش الصبار المليء بالأشواك، عطش الأشجار التي لا تسقيها الأمطار. ما معنى هذه الرغبة الحارقة؟ ولماذا يتعين على الأشجار أن تكون عطشى حين تنهمر الأمطار؟!
وأومضت فكرة في ذهنه كالبرق، أن يعود أدراجه ويدق جرس الباب في منزل كاناليس ويحذره من المصير الذي ينتظره. (وتخيل ابنته تبتسم له في امتنان). بيد أنه قد اجتاز بالفعل مدخل الحانة الصغيرة، وشعر بشجاعته تعود إليه مع كلمات فاسكيز الجريئة ووجود الرجال الآخرين. - جربني، هذا كل شيء. إنني من تبحث عنه. أجل، إنني مستعد أن أساعدك في أي شيء، أتسمع ذلك؟ إنني لست بالمرء الذي يتراجع. إنني كالقط، بسبعة أرواح، سليل عربي شجاع!
وكان فاسكيز يحاول خفض نبرة صوته الأنثوي ليعطي كلماته صفة الرجولية. وأضاف في صوت خفيض: لو أنك لم تجلب لي الحظ السعيد، لما كنت أتحدث هنا الآن بمثل هذه الشجاعة. كلا. صدقني. إنك قد أصلحت وضعي مع «ماسكواتا»، وهي تعاملني الآن كما يجب أن يكون.
ورد ذو الوجه الملائكي وهو يصافح يد الجلاد الذي قتل الأبله: «إنني سعيد جدا أن أجدك هنا مليئا بتلك الروح الجسورة. إنك رجل قريب إلى قلبي. لقد أعدت لي معنوياتي التي سرقها رجال الشرطة مني يا عزيزي فاسكيز، إن ثمة رجلا منهم أمام كل باب.» - تعال واشرب شيئا من الخمر الهولندي تدفع عنك الخوف. - أوه! إنني لا أشعر بالخوف على نفسي، فإن هذه ليست أول مرة أجد نفسي في مأزق عصيب؛ إنني خائف على الفتاة. لا أحب أن يقبضوا علينا خارجين من منزلها، أتفهم ذلك؟ - «ولكن، ما هذا؟ من الذي سيقبض عليك؟ حالما سيجد رجال الشرطة شيئا ينهبونه في المنزل لن ترى واحدا منهم في الطريق، ولا واحدا منهم، أراهن بحياتي على ذلك. إنني أعدك أنهم حين يرون ما يمكنهم أن يضعوا مخالبهم عليه، سينشغلون جميعا في حمل ما خف وزنه وغلا ثمنه؛ لا تكن لديك ذرة من شك في هذا ...» - «أليس من الأفضل أن تذهب إليهم وتكلمهم، ما دمت قد تفضلت وجئت، ماداموا يعرفون أنك غير قادر ...»؟ - «كلام فارغ. لا حاجة إلى قول أي شيء لهم. حين يرون الباب مفتوحا على مصراعيه، سيقولون لأنفسهم: هيا، لا ضرر من ذلك. بل سيرون أنهم يحسنون صنعا. أما إذا رأوني، أنا الذي أصبحت شهيرا منذ اقتحمت مع «أنطونيو ليبيلولا» بيت ذلك القس الضئيل الحجم، الذي بلغ به الخوف مداه حين رآنا نهبط إلى حجرته من الطابق الأعلى ونضيء النور لدرجة ألقى إلينا بمفاتيح الخزانة التي يحتفظ فيها بمدخراته الملفوفة في منديل كبير حتى لا تصدر أصواتا، ثم تظاهر بأنه نائم! أجل، في تلك المرة خرجت منتصرا. والآن، فإن الأولاد عاقدو العزم».
وأنهى فاسكيز كلامه مشيرا إلى مجموعة الرجال الصامتين القذرين المنكودي الحظ، الذين كانوا يعبون كأسا وراء أخرى من البراندي، قاذفين بالخمر إلى سقف حلقهم دفعة واحدة ثم يبصقون باشمئزاز حالما تترك الكأس شفاههم: «أجل، أؤكد لك أنهم جاهزون للعمل.»
ورفع ذو الوجه الملائكي كأسه ودعا فاسكيز أن يشرب نخب الحب. وصبت «لامسكواتا» لنفسها كأسا من «الأنيس»، وشرب ثلاثتهم.
وعلى بصيص النور الخابي؛ إذ إنهم خشوا أن يوقدوا النور الكهربي فلم يبق من نور في الحجرة سوى الشمعة المضاءة أمام صورة العذراء، ألقت أجساد هؤلاء الرجال البائسين ظلالا غريبة، متطاولة كأنها الغزلان على الجدران المائلة إلى الاصفرار، كما بدت الزجاجات كأنها شعلات مختلفة الألوان على رفوفها. وكان الجميع يرقبون مسير الساعة. وكانت بصقاتهم على الأرض تدوي كطلقات الرصاص. وكان ذو الوجه الملائكي ينتظر على مبعدة من الآخرين وظهره إلى الحائط بجوار صورة العذراء وعيناه السوداوان الواسعتان تجولان في الغرفة، تطارد الفكرة التي ما فتئت تهاجمه في تلك اللحظات الحاسمة: إنه بحاجة إلى زوجة وأولاد. وابتسم في نفسه إذ تذكر حكاية السجين السياسي المحكوم عليه بالإعدام، الذي زاره المدعي العسكري العام قبل إعدامه باثنتي عشرة ساعة، عارضا عليه باسم السلطات أن يهبه أي شيء يطلبه، حتى لو كان حياته، مقابل أن يغير شهادته. فرد عليه السجين بحزم: حسنا، إنني أطلب أن أترك ورائي ابنا. فقال المدعي العسكري العام: موافق. وأرسل يطلب له عاهرة، وهو يظن نفسه قد أحسن صنعا. بيد أن السجين أطلق المرأة دون أن يمسها، وحين عاد المدعي العسكري قال له: «يكفي ما هو موجود فعلا من أبناء العاهرات»!
ولاحت ابتسامة أخرى على شفتيه إذ قال لنفسه: «لقد عملت مديرا لمدرسة، ورئيس تحرير صحيفة، ودبلوماسيا، وعضو برلمان وعمدة مدينة، وها أنا الآن رئيس لمجموعة من الأفاقين! هذه هي الحياة في المناطق المدارية!»
ودقت ساعة الكنيسة مرتين.
فصاح ذو الوجه الملائكي: «إلى الخارج جميعا». وقال ل «ماسكواتا» وهو يخرج ومسدسه في يده: «سوف أعود مع غنيمتي». وصاح فاسكيز آمرا وهو يصعد كالعظاءة إلى إحدى نوافذ منزل الجنرال يتبعه اثنان من عصابته: هيا إلى العمل، وممنوع الهذر، أسامعون؟
وكذلك سمع من في المنزل دقتي الساعة. - هل أنت جاهزة يا كميلة؟ - أجل يا والدي العزيز؟
كان كاناليس يرتدي بنطال ركوب الخيل وسترة عسكرية زرقاء خالية من الأوسمة الذهبية، بدا شعره أعلاها أبيض لامعا لاشية فيه. وألقت كميلة بنفسها بين ذراعيه يكاد يغشى عليها، دون أن تنبس بكلمة أو تذرف دمعا. إن معنى السعادة أو الشقاء لا يمكن أن يدركه إلا أولئك الذين جربوه في أذهانهم من قبل، الذين عضوا بنواجذهم على منديل مبلل بالدموع ومزقوه إربا إربا بأسنانهم من فرط الحزن. أما بالنسبة لكميلة فقد كان كل ذلك يبدو إما لعبة أو كابوسا، كلا، لا يمكن، لا يمكن أن يكون حقيقة. إن ما يحدث، ما يحدث لها، وما يحدث لوالدها، لا يمكن أن يكون حقيقة. وأخذها الجنرال كاناليس بين ذراعيه وقال لها وداعا. - «هكذا احتضنت والدتك حين ذهبت للقتال من أجل وطني في الحرب الأخيرة. وقد وضعت العزيزة المسكينة في فكرها أني لن أرجع ثانية، ولكنها هي التي لم تنتظرني.»
وإذ سمع ذلك المحارب القديم خطوات على السطح، نحى كميلة جانبا، وذهب عبر الفناء المليء بالأصص والأزاهير إلى الباب الخلفي. وقال له عطر كل زهرة وكل جييرانيوم وكل وردة وداعا. وقالت له المياه التي تقطر إلى الجرار وداعا، وكذلك الضوء الذي يسري من النوافذ. وفجأة ساد المنزل الظلام، كأنما قد انفصل عن جيرانه بفعل ضربة قاضية. الهرب لا يليق بالجندي. ومن ناحية أخرى، فإن فكرة العودة لتحرير وطنه على رأس ثورة ...
ووفقا للخطة التي اتفقوا عليها، توجهت كميلة إلى النافذة لطلب النجدة: «واللصوص قد اقتحموا المنزل! النجدة! اللصوص!»
وقبل أن يتلاشى صوتها في وهدة الليل، وصل أول جنود الشرطة - أولئك الذين كانوا يراقبون واجهة المنزل - ينفخون في صفاراتهم الطويلة الجوفاء. وعلت أصوات متنافرة من حديد وخشب؛ وانهار الباب الخارجي من فوره. وظهر رجال شرطة آخرون في ملابس مدنية عند منعطف الطريق، جاهلين ما كان يحدث، ومن أجل ذلك خاصة كانوا يحملون خناجرهم الحادة جاهزة، وقبعاتهم تخفي وجوههم بينما رفعوا ياقات معاطفهم إلى أعلى. وابتلعهم الباب المفتوح جميعا - كالبحر الهائج. وكان فاسكيز قد قطع الأسلاك الكهربائية بعد أن صعد إلى السطح، حتى استحالت الممرات والحجرات ظلا واحدا هائلا. وأشعل بعض رفاقه أعواد الثقاب حتى يروا طريقهم إلى الخزائن والصناديق والأدراج، ودون مزيد من الضوضاء، عمدوا إلى نهبها من أعلاها إلى أسفلها بعد أن كسروا أقفالها، وحطموا الأبواب الزجاجية وأحالوا الخشب الثمين مزقا ونثارا. وكان آخرون يعيثون فسادا في حجرة الجلوس، يقلبون المقاعد والمناضد وخزانات الأركان المغطاة بالصور الفوتوغرافية التي بدت كأوراق اللعب الأسيانة في وسط الظلال، أو يضربون على مفاتيح بيانو صغيرة ثمين كان قد ترك مفتوحا، يئن كالحيوان الذي يتألم كلما دقوا عليه بأصابعهم.
وبعيدا كانت تسمع أصوات الشوك والملاعق والسكاكين وهي تقع على الأرض، ثم صرخة قطعتها ضربة حادة. وكانت المربية العجوز، «تشابيلونا»، قد خبأت كميلة في حجرة الطعام بين حائط وخوان في الحجرة. وألقى المحبوب المربية أرضا واشتبك شعرها بمقبض خزانة الفضيات فانتثرت على الأرض بصوت رنان. وأسكتها فاسكيز بضربة قضيب حديدي حيثما اتفق، حتى إنه لم يكد يرى يديها في الظلام.
الجزء
24 و25 و26 و27 أبريل
الفصل الثاني عشر
كميلة
كانت «كميلة» في سالف الأيام تقضي ساعات وساعات أمام المرآة في حجرتها. وكانت مربيتها العجوز تصرخ فيها: «إذا أنت نظرت في المرآة طويلا، سيأتي الشيطان ويطل من وراء كتفيك!» وترد كميلة: «إنه لن يكون أكثر شيطنة مني!» كان شعرها ثورة من الشعلات السوداء، ووجهها الأسمر يلمع بمعجون البشرة المصنوع من زبدة جوز الهند، وعيناها الخضراوان المائلتان تغرقان في محجريهما العميقين. وكانت زميلاتها في المدرسة يدعونها «كاناليس الصينية» حين تخرج متشحة بمعطفها المدرسي المغلق حتى الرقبة، ولكنها الآن نضجت وازدادت جمالا وأصبحت فتاة بمعنى الكلمة.
وكانت تقول لنفسها أمام المرآة: خمسة عشر عاما! ولكني ما زلت كالقطة الأليفة، لا أذهب إلى مكان إلا ويحوطني الأعمام والعمات وأبناء وبنات العم كأنهم الحشرات.
وكانت تعمد أحيانا إلى جذب شعرها، وإلى الصراخ، وإلى السخرية من نفسها. كانت تكره أن تكون دائما وسط هذا الرهط من الأقارب، وأن تكون الفتاة الصغيرة، وأن تذهب معهم إلى كل مكان: إلى الاستعراض العسكري، إلى قداس الثانية عشرة، إلى ربوة «الكرمة» لركوب الخيل والنزهة عند مسرح «كولون»، وصعود تلال «ساوثي» والهبوط منها.
وكان أعمامها يشبهون فزاعات الطيور، ذوي شوارب يقف عليها الصقر، تصلصل خواتمهم في أصابعهم، وأبناء عمها منكوشي الشعر، سمان، ثقلاء الظل. وعماتها - وهن أصلا زوجات الأعمام - يثرن النفور. أو هكذا كانوا يبدون جميعا في عينيها. وكانت تشعر بالضيق حين يقدمون لها - خاصة أبناء العم - قراطيس مليئة بالحلوى، كأنما هي طفلة صغيرة، أو حين يقوم الأعمام بالتربيت عليها بأيديهم التي تعبق برائحة التبغ، والإمساك بوجهها بين إصبعي السبابة والإبهام كيما يحركونه من جانب إلى آخر - وكانت كميلة تصلب رقبتها آنذاك عمدا، أو حين يقبلها العمات دون أن يرفعن نقابهن، فيخلفن لديها شعورا بأن ثمة نسيج عنكبوت قد التصق بوجنتيها.
وفي أيام الآحاد، كانت تنام، أو تجلس في غرفة الاستقبال ينتابها السأم تتطلع إلى صور قديمة ملصقة في «ألبوم» العائلة، أو إلى الصور المعلقة على الجدران المغطاة بالقماش الأحمر، أو الموضوعة على رفوف الصوانات في الأركان وعلى المناضد المفضضة والكونصولات المرمرية، بينما والدها يتطلع من النافذة إلى الطرق الخالية وهو يخرخر كالقطة ويرد على تحيات الأصدقاء والجيران. كانوا يرفعون القبعة تحية واحتراما له، فهو الجنرال كاناليس. وكان الجنرال يرد عليهم في صوت جهوري: «مساء الخير، إلى اللقاء، إني مسرور لرؤيتك، مع السلامة!»
وكانت هناك صورة لأمها بعد الزواج بفترة قصيرة، لا يظهر منها سوى أصابعها ووجهها، مشتملة على رداء على أحدث طراز آنذاك يصل إلى قدميها، وقفاز إلى مرفقيها، وفراء حول عنقها، وقبعة يتدلى منها شلال من الشرائط والرياش على ظلة من الدانتلا. وكانت هناك صور لعماتها، ضخمات الصدور، محشوات كطنافس الصالون، وشعرهن متحجر، وعلى جباههن تاج مرصع بجواهر دقيقة الحجم، وصور أخرى لصديقات الأيام الخوالي، امرأة ترتدي شالا من الدنتلا المطرزة وأمشاطا ومراوح، وأخرى ترتدي ملابس هندية وصندلا ورداء مطرزا وتحمل إبريقا على كتفها، وأخريات لهن شامات حسن ومجوهرات. وكانت كل هذه الصور تبعث في كميلة إحساسا بخدر الشفق، مقرونا بإحساس خرافي بما تحمل من إهداءات: «ستكون صورتي هذه معك كظلي»، «بكل سرور، وحظا سعيدا لك»، «وداعا، واعتني بنفسك»، «إذا محا النسيان هذه السطور فستنمحي ذكراي»، «في خدمتكم، وتحياتي إلى السيدة الوالدة».
وأحيانا، كان ثمة صديق يقفز من ألبوم الصور ويحضر ليتجاذب أطراف الحديث مع الجنرال في الشرفة. وكانت كميلة تتلصص عليه من وراء الستار. إنه ذلك الشخص الذي كانت عليه سيماء «الدون جوان» في الصورة، شاب في مقتبل العمر، رشيق، فاحم الحاجبين، يرتدي بنطالا مربعات ملونا، وسترته مقفلة بأزرار حتى أعلاها، وعلى رأسه قبعة متوسطة الحجم ... وهي ملابس آخر طراز في نهاية القرن الماضي. وتبتسم كميلة وتقول لنفسها: «كان من الأفضل أن تظل كما كنت في الصورة. كنت ستبدو عتيق الطراز وسيضحك الناس على ملابسك اللائقة بالمتاحف، ولكنك على الأقل لن تكون منبعج البطن هكذا أصلع الرأس غائر الوجنتين كما أنت الآن.»
وعبر ظلال الستارة المخملية التي تعبق بالغبار، كانت كميلة تسرح عينيها الخضراوين عبر النافذة أصيل يوم الأحد؛ ولم تخف حدة البرودة في عينيها الزجاجيتين المتجمدتين حين كانت تمدهما خارج المنزل لتريا ما يحدث في الطريق. كان والدها، مرتديا قميصا وضاء من الكتان بلا سترة، يعتمد بمرفقيه على وسادة من الساتان، يقتل الوقت بالثرثرة مع شخص بدا وكأنه صديق حميم، عبر قضبان الشرفة. كان رجلا صفراوي المظهر، معقوف الأنف، ذا شارب صغير وعصا ذهبية المقبض. يا لها من مصادفة سعيدة! لقد كان يتمشى أمام المنزل حين استوقفه الجنرال قائلا: يا لها من سعادة أن نراك هنا في حي «لامرسيد»! هذا عظيم! وقد وجدته كميلة في ألبوم الصور. لم يكن من السهل التعرف عليه، وكان عليها أن تطيل التحديق إلى الصور. كان لهذا الرجل المسكين أنف مستقيم ووجه مستدير جميل يوما ما. كم صحيح هو القول بأن الزمن يسيء معاملة الناس. لقد أصبح وجهه الآن نحيلا بارز عظام الوجنتين، نحيل الحاجبين، ناتئ الفكين. وحين كان يتحدث إلى والدها بصوته البطيء الخفيض، ظل يرفع مقبض عصاه إلى أنفه كأنما هو يشم الذهب. إنها الرحابة في حركة دائمة. هي نفسها في حركة دائمة. كل شيء فيها، حتى الساكن بطبيعته، كان في حركة دائمة. وحين رأت البحر لأول مرة، فارت الكلمات التي تعبر عن دهشتها على شفتيها، ولكن حين سألها أعمامها عن رأيها في مرأى البحر قالت بمظهر الأهمية الكاذبة: «لقد عرفت البحر قبل ذلك من الصور!» وكان الهواء يعبث بقبعتها الوردية العريضة الأطراف التي أمسكتها في يديها. كانت تشبه الطوق، أو طائرا مستديرا ضخما.
وتطلع إليها أبناء عمها وقد اتسعت عيونهم من فرط الدهشة، فاغري الأفواه. وغطت أصوات الموجات الهادرة على ملاحظات العمات: «يا لجمال البحر! شيء لا يصدقه عقل! يا للمياه الغزيرة! يبدو هائجا! انظروا هناك، إن الشمس تغرب! ألم ننس شيئا في القطار عند تعجلنا النزول منه؟ ألم تروا ما إذا كان كل شيء على ما يرام؟ يجب أن تحصى الحقائب!»
وكان أعمامها قد حملوا حقائب مليئة بالثياب الخفيفة للشاطئ (تلك الملابس المغضنة كالزبيب التي يرتديها المصيفون) وعناقيد من جوز الهند اشترتها السيدات في المحطات التي توقف القطار فيها على الطريق ، لمجرد أنها رخيصة الثمن، ومجموعة من الرزم والسلال حملها عدد من الهنود إلى الفندق.
وقال أخيرا أنضج أبناء العم: «أجل، إنني أعرف ما تقصدين»، (واصطبغت وجنتا كميلة الداكنتين باحمرار خفيف من جراء دفعة دفعة دماء حين سمعته يكلمها) «ولكني لا أشاركك رأيك. إني أرى أن ما أردت أن تقولي هو أن البحر يشبه الصور المتحركة، ولكنه أكبر حجما.»
وكانت كميلة قد سمعت عن الصور المتحركة التي تعرض في حي «المائة باب»، إلى جوار «رواق الرب»، ولكن لم تكن لديها أي فكرة عنها. ولكن كان بإمكانها بعد ما قاله ابن عمها عنها أن تتصور ماهيتها وهي تتطلع إلى البحر. كل شيء في حركة دائمة. لا شيء ثابت. صور تمتزج بصور أخرى، متبدلة، تتكسر حطاما لتشكل صورة جديدة في كل ثانية، في حالة لا هي بجامدة ولا سائلة ولا غازية، بل هي حالة حياة في البحر. حالة وضاءة. في البحر وفي الصور المتحركة على حد سواء.
ومضت كميلة تتأمل المشهد في بهجة نهمة وهي تعقص أصابع قدميها داخل حذائها. وعيناها تومضان في كل اتجاه وشعرت في البداية أن عينيها تتخليان عن مكانهما كي تحيطا بهذه الرحابة؛ وأحست بعد ذلك أن تلك الرحابة تملآنها كلية. لقد بلغ المد الزاخر عينيها.
وسارت ببطء إلى الشاطئ يتبعها ابن عمها، وكان المسير على الرمال صعبا بعض الشيء. كانت تريد أن تزداد قربا من الموجات، ولكن المحيط الهادئ، بدلا من أن يمد لها يدا حنونا، صوب نحوها صفعة سائلة من المياه الشفافة بللت قدميها. وقد فوجئت بذلك، وبجهد تراجعت في الوقت المناسب، تاركة وراءها رهينة، قبعتها الوردية اللون، التي لم تصبح بعد برهة إلا مجرد نقطة على صفحة الموجات، وأطلقت كميلة وعيدا صبيانيا بأن تذهب لتشكو البحر إلى أبيها: آه أيها البحر!
1
ولم تلاحظ هي ولا ابن عمها أنها نطقت كلمة «يحب» لأول مرة وهي تتوعد البحر وتنذره. وخلع لون السماء فوق الشمس الغاربة مزيدا من البرودة على المياه الخضراء الداكنة.
لماذا عمدت إلى تقبيل ذراعيها على الشاطئ، مستنشقة عبير جسدها الملحي الذي لوحته الشمس بأشعتها؟ لماذا فعلت نفس الشيء بثمرة الفاكهة التي حرم عليها أكلها، إذ هي تلمسها بشفتيها؟ كانت عماتها قد قلن: «الحمضيات ضارة بالفتيات الصغيرات، وكذلك الأقدام المبللة، والسير اللعوب.» ولم تكن كميلة تشم والدها ولا مربيتها حين تقبلهما. ولقد كتمت أنفاسها حين قبلت قدمي المسيح في الكتدرائية الذي كان يشبه جذع الشجرة المحطوم. وإذا لم يشم المرء ما يقبل، لما أصبحت القبلة ذات طعم. وكان جسدها الملحي البني اللون كالرمال، ولباب الأناناس والسفرجل، يغرونها جميعا بتقبيلهم راجفة الأنف مشتاقة نهمة. ولكن جاءت الحقيقة ناصعة بعد الشك: فإنها لم تعد تعرف ما إذا كانت تشم أم تعض حين عمد ابن عمها نفسه الذي تحدث عن الصور المتحركة إلى تقبيلها في فمها في نهاية ذلك الصيف، وإلى عزف نغمة تانجو أرجنتيني بفمه.
وحين عادوا إلى العاصمة، ألحت كميلة على مربيتها كي تصحبها إلى الصور المتحركة. كانت تعرض في دار صغيرة في جانب من ميدان «رواق الرب» في حي «المائة باب». وذهبا دون علم والدها، تقرضان أظافرهما في قلق وعصبية وتتلوان الصلوات. وبعد أن كادتا تعودان أدراجهما لدى رؤية الصالة غاصة بالناس، تشجعتا واتخذتا مقعدين أمام ستارة بيضاء، يظهر عليها بين الفينة والفينة ضوء كأنه آت من الشمس. كانوا يجربون آلة العرض وعدساتها، التي كان يصدر عنها قرقعة تماثل قرقعة فوانيس الشارع الكهربائية. ثم أظلمت القاعة فجأة. وشعرت كميلة كأنما هي تلعب «عسكر وحرامية». وأصبح كل شيء على الشاشة غير واضح. وكانت الشخوص تتحرك عليها هنا وهناك كالجراد. أناس مبهمون بدوا كأنهم يمضغون شيئا حين يتكلمون، يمشون على شكل قفزات ويحركون أذرعتهم كأنما هي مخلوعة عن أجسادهم. وتذكرت كميلة بوضوح حادثة، حين اختبأت هي وصبي من أقرانها في غرفة ذات سقف زجاجي مفتوح على السماء، جعلتها تنسى للحظة الصور المتحركة. وكان ثمة شمعة ذائبة أمام صورة شفافة للمسيح في الركن المظلم من الغرفة. واختبأ تحت السرير وكان عليهما أن يرقدا بالطول على الأرض. وأخذ السرير يقرقع بصوت عال مستمر. كان قطعة أثاث عتيقة من عهد الجدود ولا يتحمل تلك المعاملة القاسية. وسمعت صيحة: «أنا قادم» من الفناء البعيد؛ «أنا قادم». وحين سمعت كميلة صوت أقدام من هو «قادم»، فاجأتها رغبة في الضحك. ونظر إليها رفيقها في المخبأ بحدة منذرا إياها أن تصمت؛ وأطاعت في البداية واتخذت مظهرا جادا ولكنها لم تستطع السيطرة على نفسها حين وصلت إلى أنفها رائحة مغثية من خزانة نصف مفتوحة، وكانت ستنفجر ضاحكة على الفور لو لم تبدأ عيناها تدمعان من جراء التراب الدقيق تحت السرير، في حين تلقت ضربة مفاجئة في نفس الوقت على جبهتها.
وتماما كما غادرت مكمنها تحت السرير منذ فترة بعيدة، غادرت دار الصور المتحركة وعيناها مفعمتان بالدموع، وسط جمهرة من الناس كانت تغادر مقاعدها وتهرع إلى باب الخروج وسط الظلام. ولم تتوقف هي والمربية حتى بلغتا «رواق التجار» وهناك علمت كميلة أن النظارة قد غادرت الدار كي تتجنب الحرمان الديني من الكنيسة؛ فقد ظهرت على الشاشة صورة امرأة في ثوب يلتصق بجسدها ترقص التانجو الأرجنتيني مع رجل طويل الشعر ذي شارب كث يرتدي ربطة عنق فنان. •••
وخرج «فاسكيز» إلى الطريق وهو لا يزال يحمل القضيب الحديدي الذي أخرس به المربية. وأعطى إشارة بيده فظهر ذو الوجه الملائكي وراءه يحمل ابنة الجنرال بين ذراعيه. واختفيا داخل حانة «الخطوتان» في نفس الوقت الذي بدأ رجال الشرطة يهربون بما يحملون من أسلاب. وكان أولئك الذين لم تقع أيديهم على سروج جياد يحملون على ظهورهم ساعة حائط، أو مرآة كبيرة، أو تمثالا، منضدة، تمثال المسيح، سلحفاة، دجاجا، بطا، حماما، أو أيا من مخلوقات الله الأخرى؛ ملابس رجال، أحذية حريم، أدوات من الصيني، زهورا، صور قديسين، أحواضا، جرادل، مصابيح، نجف، زجاجات دواء، صورا زيتية، كتبا، مظلات لمياه السماء ومبولات لمياه الإنسان.
وكانت صاحبة الحانة تنتظر في الداخل وفي يدها قضيب حديدي، جاهزة لتغلق به الباب خلفهم.
ولم تكن كميلة لتتصور وجود مثل هذه «الزريبة» التي تفوح منها رائحة الفراش العفن، لا تبعد سوى أمتار قليلة من البيت الذي عاشت فيه في سعادة غامرة، يدللها ذلك الجندي العجوز (وكان من المستحيل تصور أنه كان سعيدا بالأمس فقط)، وترعاها مربيتها (وكان من المستحيل تصور أنها ترقد الآن مصابة بجراح مميتة). والزهور التي كانت بالأمس ناضرة أصبحت الآن على الأرض مداسة بالأقدام، وقطتها هربت، وعصفورها الكناري مات بعد أن ديس بالأقدام مع قفصه. وحين أزاح المحبوب الوشاح الأسود من على عيني كميلة، خامرها شعور بأنها بعيدة جدا عن منزلها. ومرت بيدها على وجهها مرتين أو ثلاثا وهي تتطلع فيما حولها لترى أين هي، وتوقفت أصابعها عن الحركة كي تخنق صيحة استياء كادت تصدر عنها حين تحققت أن محنتها حقيقة واقعة وليست حلما أو خيالا.
وجاءها صوت الرجل الذي نقل إليها الأنباء المشئومة ذلك المساء، طافيا نحو جسدها الثقيل الخدر: «آنستي، على الأقل ليس من خطر يتهددك هنا. ماذا نستطيع أن نفعل كي نهدئ من مخاوفك؟»
فصاحت صاحبة الحانة: «ماء ونيران!» وأسرعت تحرك بضع جمرات في أعلى وعاء فخاري تستخدمه فرنا، في حين انتهز «فاسكيز» الفرصة لمهاجمة قنينة من البراندي القوي، وابتلع ما فيها دون أن يذوقه، كأنما هو يشرب سم فئران.
وأنعشت صاحبة الحانة النيران عن طريق النفخ فيها، وهي تتمتم طوال الوقت: «اشتعلي سريعا! اشتعلي سريعا!» وتراءى خلفها، على جدار الغرفة الخلفية التي كانت تتوهج الآن بالنور الأحمر المنبعث من جمرات النار، ظل فاسكيز وهو ينسل في طريقه إلى الفناء.
وأسقطت «لامسكواتا» جمرة مشتعلة في صحن مليء بالماء، فقعقعت وهسهست كالشخص المرتعب، ثم طفت الفحمة المنطفئة على سطحها كنواة ثمرة جهنمية سوداء، فالتقطتها المرأة بالملقاط. وبعد أن احتست كميلة شيئا من هذه المياه، عاد إليها صوتها ثانيا.
وكان أول ما قالته: ماذا حدث لوالدي؟
فرد ذو الوجه الملائكي: «اهدئي، لا تقلقي، اشربي مزيدا من مياه الفحم، إن الجنرال بخير.» - هل أنت متأكد؟ - أعتقد ذلك. - إن المصيبة ... - «هس! لا تجلبي الحظ السيئ!»
واستدارت كميلة ونظرت إلى ذي الوجه الملائكي. إن تعبير الوجه كثيرا ما يكون أشد إيحاء من الكلمات. بيد أن عينيها تاهتا في عيني المحبوب السوداوين الجامدتين.
وقالت لامسكواتا: «يجب أن تجلسي يا عزيزتي.»
وسحبت لها المقعد الذي كان يجلس عليه «فاسكيز» حين دخل الغريب الذي دفع ثمن شرابه بورقة نقد كبيرة في الحانة لأول مرة.
أكان ذلك المساء منذ سنوات عدة، أم منذ بضع ساعات ليس إلا؟ وحدق المحبوب إلى ابنة الجنرال أولا، ثم إلى نار الشمعة الموقدة أمام صورة العذراء. وتوهجت حدقتاه حين جال بخاطره أن يطفئ الشمعة ويقضي وطره من الفتاة. نفخة واحدة ... وتصبح ملكه إما برغبتها أو رغما عنها. ولكن عينيه تحولتا عن صورة العذراء لتتطلعا إلى كميلة، كانت تهاوت على المقعد وغاصت فيه، وحين رأى وجهها مرصعا بالدموع، وشعرها الأشعث وجسدها الشبيه بجسد الملاك الفتى، تغيرت سيماؤه وتناول القدح من يدها بمظهر أبوي، قائلا: يا فتاتي الصغيرة المسكينة!
وجاءه سعال صاحبة الحانة على نحو حصيف لتنبههما إلى أنها ستتركهما وحدهما، ثم شتائمها اللاذعة حين وجدت فاسكيز يرقد مخمورا تماما في الفناء الصغير الذي يعبق برائحة الورود في أصصها المصفوفة وراء الغرفة الخلفية، وتسبب كل هذا في انفجار كميلة في موجة جديدة من الدموع.
قالت «لامسكواتا» تؤنب فاسكيز: لقد ملأت نفسك حتى التخمة أيها البائس. الشيء الوحيد الذي تجيده هو أن تجعلني أفقد أعصابي! إن ما يقال صحيح تماما، لا يمكنني أن أغلق عيني إلا وتخطف شيئا. ورغم ذلك تدعي أنك تحبني. آه، أجل، لا شك في هذا. ما أكاد أدير رأسي حتى تنقض على الزجاجة. إنها لا تكلفك مليما واحدا، أليس كذلك؟ كل ذلك لأني وثقت بك. اخرج من هنا، أيها اللص، قبل أن ألقي بك إلى الخارج!
ورن صوت الرجل المخمور في نغمة شاكية، بينما اصطك رأسه بالأرض حين بدأت المرأة تجذبه من قدميه. وأغلق الهواء باب الفناء الصغير، وساد الصمت بعد ذلك. وكان ذو الوجه الملائكي يردد في سمع كميلة وهي تبكي : «لقد انتهى كل شيء الآن. إن والدك لم يعد في خطر، وإنك في أمان تام في هذا المخبأ، إنني هنا لكي أحميك. لقد انتهى كل شيء، لا تبكي، فإن بكاءك سيزيد ما تشعرين به من قلق. توقفي عن البكاء وانظري لي وسأشرح لك كل شيء.»
وخبت شهقات كميلة رويدا رويدا. كان ذو الوجه الملائكي يربت على شعرها، وتناول منديلها من يدها وأخذ يجفف به عينيها. وبدأ ضوء الفجر يلون الأفق ويشع بين الأشياء في الحجرة وتحت الأبواب، كأنه ماء الجير الأبيض ممزوجا بطلاء وردي. إن البشر يحسون بوجود بعضهم بعضا قبل أن يتمكنوا من رؤية بعضهم بعضا. وهاجت الأشجار بفعل أول غناء للعصافير ولم تعد تستطيع أن تحك أوراقها. وتثاءبت النوافير من وراء أخرى. وأطرحت السماء جانبا خصلات الليل السوداء، خصلات الموت، وارتدت حلة مذهبة. - «ولكن يجب عليك أن تلزمي الهدوء، وإلا ضعنا. سوف تضيعين نفسك، وتضيعين والدك، وتضيعينني. سوف أعود هذا المساء وأصطحبك إلى منزل عمك. أهم شيء هو كسب الوقت. لا بد أن نتذرع بالصبر. لا يمكن للمرء أن يرتب كل شيء في وقت واحد، فبعض الأشياء أشد صعوبة من أشياء أخرى.» - «أنا لا أشعر بالقلق على نفسي، فأنا أشعر بالأمان بعد ما قلته لي، وإني ممتنة لذلك. إني أدرك أن علي أن أبقى هنا. إنني قلقة على والدي. إنني تواقة لأن أتأكد أنه لن يحدث مكروه لوالدي.» - أعدك أن أحضر لك أنباء عنه. - اليوم؟ - اليوم.
وقبل أن ينصرف ذو الوجه الملائكي، التفت إلى كميلة وربت على خدها في ود. - أأنت أحسن حالا الآن؟
ونظرت إليه ابنة الجنرال كاناليس بعينين قد امتلأتا ثانية بالدموع وقالت: ائتني بالأنباء ...
الفصل الثالث عشر
اعتقالات
لم تنتظر زوجة «خينارو روداس» وصول الخبز قبل أن تهرع خارجة من بيتها. ولا يعلم إلا الله ما إذا كانت أرغفة الخبز ستوزع اليوم عليهم. تركت زوجها ممددا على السرير بملابسه الكاملة، منهكا كالخرقة البالية، كما خلفت وليدها في السلة التي تقوم له مقام المهد. وكانت الساعة السادسة صباحا.
ودقت ساعة كنيسة «لامرسيد» في نفس الوقت الذي كانت هي تدق فيه على باب منزل الجنرال كاناليس. وقالت لنفسها وهي تمسك مطرقة الباب، على وشك أن تدق بها ثانية: أرجو أن يغفروا لي إيقاظهم هكذا في هذه الساعة المبكرة. ولكن أما من أحد يفتح لي الباب؛ لا بد أن يعلم الجنرال بأسرع ما يمكن ما قاله «لوسيو فاسكيز» لزوجي الأحمق في ذلك البار المسمى «صحوة الأسد».
وتوقفت عن الدق وانتظرت أن يفتح الباب. وجال في خاطرها: «لقد ألقى الشحاذون مسئولية جريمة «رواق الرب» على الجنرال. سوف يحضرون ويقبضون عليه هذا الصباح. وأسوأ ما في الأمر أنهم ينوون اختطاف ابنته!» ورددت في نفسها وهي لا تكف عن دق الباب: «يا له من غدر! يا له من غدر!» وتزايدت ضربات قلبها: «إنهم إذا قبضوا على الجنرال، حسنا، إنه رجل على كل حال ويمكنه احتمال مصاعب السجن. ولكنهم إذا خطفوا السيدة الصغيرة، فليساعدنا الله! لن يكون هناك علاج لهذه المصيبة. إني أراهن بكل شيء أن هناك واحدا من أولئك الأوغاد قليلي الحياء هو السبب في كل هذا الذي يحدث، واحد ممن ينتقلون من الجبال إلى المدينة لممارسة مكائدهم البشعة المشينة.»
ودقت الباب مرة أخرى. وردد المنزل والطريق والهواء الطرقات كأنها دقات طبول. وامتلأت يأسا حين لم يفتح لها أحد. وعمدت لقتل الوقت إلى قراءة عنوان الحانة الواقعة عند الناصية: «الخطوتان». كانت كلمة واحدة مكونة من حروف قليلة. ولكنها لاحظت عند ذاك صورتين لشخصين كل واحد منهما على أحد جانبي باب الحانة: صورة رجل على اليمين، وصورة امرأة على اليسار. ومن فم المرأة تخرج عبارة مكتوبة هي: «تعال ارقص في حانة «الخطوتان».» ثم يأتي الرد عليها من الرجل الذي كان يمسك زجاجة في يده: «كلا شكرا، إني أفضل رقصة الزجاجة!»
وحين كلت يدها من دق الباب، فهم إما ليسوا في الداخل أو أنهم لن يفتحوا لها الباب، دفعت بيدها الباب فانفتح. كيف أنه لم يكن مغلقا بالرتاج؟ ولملمت شالها المطرز حول كتفيها ودخلت الردهة يغمرها إحساس عميق بشر متوقع، ومضت نحو البهو وهي لا تكاد تعرف ما هي فاعلة. واخترق المنظر الذي رأته أمامها عينيها كما تخترق طلقة رصاص جسد الطائر، وتجمد الدم في عروقها، وتركها لاهثة الأنفاس، غائرة العينين، مشلولة الأطراف: كانت ثمة مزهريات محطومة وريش طيور متناثر على الأرض، وستائر ممزقة ونوافذ ومرايات مكسورة، وخزائن مبقورة، وأقفال محطمة، والأوراق والملابس والأثاث والسجاد كله قد عاث فيه الخراب، كل شيء قد شاخ في ليلة واحدة، كل شيء قد استحال خليطا لا قيمة له من نفاية قذرة لا حياة فيها ولا روح.
وكانت المربية العجوز «لاتشابيلونا» تدور في أنحاء المنزل كالشبح بحثا عن سيدتها الصغيرة، ورأسها مفتوح بالجراح. كانت تقول وهي تضحك: ها، ها، ها، هي، هي، هي! أين تختبئين يا فتاتي كميلة؟ إنني قادمة، لا تردين؟ قادمة! قادمة! قادمة!
كانت تتخيل أنها تلعب «عسكر وحرامية» مع كميلة، فظلت تبحث عنها مرات عديدة في نفس أركان الغرفة، بين أصص الزهور، تحت الأسرة، وراء الأبواب، وهي تقلب كل شيء عاليه سافله كأنها الزوبعة. - ها ها ها، هي هي هي! أوه أوه أوه، قادمة، قادمة. اخرجي يا كميلة، لقد سلمت. اخرجي يا كميلتي، لقد تعبت من البحث عنك. ها ها ها! اخرجي. إنني قادمة. هي هي هي، أوه أوه أوه!
وفي أثناء بحثها عن كميلة صادف أن توجهت إلى النافورة، وحين رأت خيالها المنعكس على صفحة المياه الساكنة، صرخت كالقرد الجريح، وأخذت ضحكتها، تتحول إلى لغو مخيف، وشعرها يغطي وجهها، ويداها تمسكان بشعرها، وطفقت تنهار رويدا رويدا إلى الأرض كيما تهرب من هذه الرؤيا المخيفة. وغمغمت بعض أعذار متقطعة كأنما هي تطلب السماح من نفسها على كونها بمثل هذا القبح وهذه الشيخوخة وهذه الضآلة وهذه الهيئة المشوشة. وفجأة، بدأت تصرخ مرة أخرى. فمن خلال شلال شعرها المنفوش، ومن بين أصابعها المتفرقة، لمحت الشمس تقفز فوقها من أعلى، وتلقي بظلها على أرض الفناء. وأعماها الغضب فنهضت وهاجمت ظلها وصورتها المنعكسة، وأخذت تضرب صفحة المياه بيديها والأرض بقدميها. كانت تريد أن تدمرهما. وطفق ظلها يتلوى وينثني كأنه حيوان يجلد بالسياط. ولكنه ظل باقيا برغم ضربات قدمها المحمومة وركلاتها، وتحطمت صورتها نثارا في خضم المياه التي ضربتها بيديها، ولكنها عادت مرة أخرى حالما سكن الماء. وأخذت تصرخ كالحيوان المتوحش غاضبة لعدم قدرتها على تدمير هذا الراسب السخامي المنتثر على الأحجار، والذي يهرب من ركلات قدميها كأنما يفر حقيقة من الضربات، وعلى تحطيم ذرات الغبار المضيء التي تطفو على سطح المياه وبها سمكة لها نفس صورتها.
وبدأت قدماها تدميان، وذراعاها ترتخيان إلى جنبيها من فرط التعب، ولكن ظلها وصورتها المنعكسة بقيا عصيين على التدمير. وتشنجت من سورة الغضب، فبذلت جهدا يائسا أخيرا وألقت بنفسها على جدار النافورة.
وسقطت وردتان في المياه!
وانتزع عينيها غصن شجرة ورد مليء بالأشواك.
وبعد أن ارتمت تتلوى على الأرض كظلها، رقدت أخيرا ساكنة تحت إحدى أشجار البرتقال لا يبدو فيها نفس حياة.
وكانت ثمة فرقة موسيقية عسكرية تعبر الطريق. يا لها من موسيقى عسكرية قوية، يا لها من رؤية مشوقة لأقواس النصر تلك التي تبعثها في النفوس! ولكن برغم جهود نافخي؟ في النفخ بقوة وفي تناغم، فإن سكان الحي بدلا من؟ يفتحوا عيونهم ذلك الصباح في نفاد صبر لأنهم كأبطال تعبوا من مشاهدة السيف يصدأ في ظل أمان حقول الذرة الذهبية، استيقظوا تملؤهم آمال يوم الإجازة السارة، عازمين في تواضع على الصلاة إلى العلي القدير كي يخلصهم من الأفكار والأقوال والأفعال الشريرة الموجهة ضد رئيس الجمهورية.
وبعد فترة قصيرة من الإغماء، بدأت «لاتشابيلونا» تحس بأصوات الفرقة الموسيقية. كانت في عالم من ظلام. لا بد أن سيدتها الصغيرة قد تسللت على أطراف أصابعها وغطت عينيها من الخلف. وتمتمت في صوت متعثر وهي ترفع يديها إلى وجهها لتزيح عنها يدي الفتاة اللتين كانتا تسببان لها ألما فظيعا: «يا عزيزتي كميلة، أعرف أنه أنت. دعيني أنظر إليك.»
وتلاشت موسيقى الفرقة في الهواء مع ابتعادها عن الحي. وتضافرت الموسيقى مع الظلمة التي طوق بها العمى عينيها كأنما هي حقا تلعب «عسكر وحرامية»، فبعثت فيها ذكرى المدرسة التي تعلمت فيها الهجاء، هناك في «المدينة القديمة». ثم قفزت عبر السنين فرأت نفسها وقد نمت، تجلس في ظلال شجرتي مانجو، وبعد ذلك، قفزة أخرى في الزمن، وها هي جالسة في عربة تجرها الثيران تدب على طريق منبسط يعبق برائحة التبن. وبدأ صرير العجلات كتاج مزدوج من الأشواك يسحب الدماء من صمت سائق العربة الأمرد الذي جعل منها زوجته، وكان الثوران الصبوران يمضغان طعامهما وهما يغذان السير ويجران خلفهما عربة العرس.
ويسحر السماء التي تظلل الحقول في الربيع ... بيد أن ذكرياتها تشتتت فجأة، ورأت حشدا من الرجال يندفعون إلى منزل الجنرال كالسيل، يلهثون كالحيوانات السوداء، وسمعت صرخاتهم الشيطانية، وضرباتهم، وتجديفهم، وضحكاتهم الخشنة، والبيانو يصرخ كأنما ينتزعون أسنانه بالقوة. واختفت سيدتها الصغيرة كأنها عبير العطر، وشعرت هي بضربة عنيفة في وسط جمجمتها مقرونة بصرخة غريبة وظلمة سادت كل شيء.
ووجدت «نينيا فيدينا»، زوجة «خينارو روداس»، الخادمة العجوز ممدة في الفناء ووجنتاها غارقتان في الدماء، وشعرها منفوش، وملابسها ممزقة شر ممزق، وهي تناضل كي تطرد عنها الذباب الذي كانت ثمة يد خفية تقوده إلى وجهها، ففرت في ذعر إلى داخل المنزل كأنما هي قد رأت عفريتا.
وظلت تردد في سرها: «يا للمسكينة! يا للمسكينة!»
وتحت إحدى النوافذ، عثرت «فيدينا» على الخطاب الذي كان الجنرال قد كتبه إلى أخيه خوان يطلب منه أن يعتني بكميلة. بيد أن فيدينا لم تقرأ الخطاب كله، فمن ناحية كانت ملهية بصرخات «لا تشابيلونا» التي كانت تتردد خلال المرايا المحطمة وشظايا أفاريز النوافذ، والكراسي الممزقة، والخزائن المنهوبة والصور الساقطة - وهي من ناحية أخرى ملتهية بحاجتها المسيسة إلى الهرب من هذا المكان. ومسحت العرق عن وجهها بمنديل مطوي أربعا، انسحق بين أصابعها المتشنجة المزدانة بالخواتم الرخيصة، ودست الخطاب في صدرها وأسرعت خارجة إلى الطريق.
بيد أن ذلك جاء متأخرا. ذلك أن ضابطا خشن المظهر، استوقفها لدى الباب كان المنزل محاطا بالجنود. ومن الفناء انبعثت صيحات المربية المعذبة.
ووقف لوسيو فاسكيز وراء باب حانة «الخطوتان»، وكانت «لامسكواتا» و«كميلة» قد دفعتاه إلى مراقبة ما يحدث في الخارج من عند الباب، حابسا أنفاسه وهو يرى الجنود يقبضون على زوجة صديقه «خينارو روداس» الذي كان قد كشف له، في الليلة الماضية تحت تأثير الخمر في بار «صحوة الأسد»، خطة القبض على الجنرال.
وتوجه جندي إلى حانة «الخطوتان» وجال في خاطر صاحبة الحانة وقد سقط قلبها إلى قدميها من الخوف: «لا بد أنهم يبحثون عن ابنة الجنرال.» وجعلت نفس هذه الفكرة شعر فاسكيز يقف ذعرا. بيد أن الجندي كان قد حضر ليقول لهم إن عليهم أن يغلقوا الحانة. فأغلقا الباب ووقفا يرقبان ما يحدث في الطريق من خلال الشقوق.
وفي الظلمة، أخذ فاسكيز يستجمع قواه وبدأ يربت على «لامسكواتا» بحجة أنه خائف، ولكنها أوقفته بدافع العادة، وكانت على وشك أن تصفعه فقال لها فاسكيز: يا لك من عنيدة مغرورة؟
أوه، أحقا؟ إنك مخطئ. أود أن أعرف لماذا يجب علي أن أسكت على استهزائك بي.
ألم أقل لك الليلة الماضية أن تلك البلهاء قالت لي إن ابنة الجنرال ... فقاطعها فاسكيز قائلا: احذري وإلا سمعوك!
كانا يتحدثان وهما منحنيان ينظران إلى الطريق من خلال شقوق الباب. - «لا تكن أبله، إنني أتكلم بصوت منخفض! لو لم أقل لك أن تلك المرأة ستتخذ من ابنة الجنرال إشبينة لطفلها، لكنت قد أقحمت «خينارو» في هذه المسألة ولكان الفتى قد ضاع الآن.»
فرد عليها وهو يحاول أن ينتزع بعض خيوط العنكبوت التي التصقت بين رقبته وأنفه: «حقا حقا ...» - «أتهزأ مني أيها المتوحش؟ حقا إنك لجاهل!» - آه، يا لك من عالمة مرهفة الحس ...! - هس!
كان المدعي العسكري العام يهبط في هذه اللحظة من إحدى العربات.
قال فاسكيز: إنه المدعي العام ...
وتساءلت «لامسكواتا»: ولماذا جاء إلى هنا؟
كيما يقبض على الجنرال. - ألهذا قد ارتدى كل أوسمته وأصبح كالطاووس؟ لماذا لا تقطف لك ريشة تلك الرياش التي تتوج رأسه؟ - كلا، شكرا. يا لك من فضولية ثرثارة. إنه يرتدي حلته الرسمية لأنه في طريقه لمقابلة السيد الرئيس. - يا لحسن حظه، أكون عاهرة لو لم يكونوا قد قبضوا على الجنرال في الليلة الماضية. - لماذا لا تصمتين؟
وحين هبط المدعي العسكري العام من عربته، صدرت الأوامر في صوت خافت، ودخل أحد الضباط إلى المنزل على رأس فرقة من الجنود، شاهرا سيفه في يد وحاملا مسدسا في يده الأخرى، فبدا أشبه بالضباط في التصاوير الملونة عن الحرب الروسية - اليابانية.
وبعد عدة دقائق، حسبها فاسكيز قرونا إذ هو يراقب كل ما يحدث وقلبه يخفق بين ضلوعه - عاد الضابط شاحب اللون شديد الاضطراب، ليخبر المدعي العام بما حدث.
وصاح المدعي العام: «ماذا؟ ماذا؟» وخرجت كلمات الضابط مندفعة ثائرة من ثنايا طيات أنفاسه المتهدجة.
وزأر المدعي العام: ماذا ... ماذا، أتقول أنه قد هرب ...؟ واحتقن عرقان في جبهته كأنهما علامتا استفهام سوداوان «وأنهم ... أنهم ... وأنهم نهبوا المنزل؟»
وبدون إضاعة مزيد من الوقت اختفى داخل المنزل يتبعه الضابط؛ وألقى نظرة خاطفة، ثم عاد بخفة إلى الشارع ويده السمينة تقبض في غضب على مقبض سيفه، ووجهه من الشحوب لدرجة يصعب معها التفريق بين شفتيه وشاربه الغض.
وقال متسائلا حين خرج من المنزل: «كيف هرب ... هذا ما أود أن أعرفه؟ لقد اخترع الهاتف من أجل هذا، لتنفيذ الأوامر ... للقبض على أعداء الحكومة. آه أيها الثعلب العجوز! سوف أشنقه إذا وضعت يدي عليه. إنه في موقف لا يحسد عليه أبدا.»
وفجأة وقعت عينا المدعي العسكري العام على «نينيا فيدينا» كالصاعقة وكان ضابط «ورقيب» قد أحضراها بالقوة حيث كان المدعي العام يزفر ويزأر.
قال لها وهو لا يرفع عينيه عنها: أيتها الكلبة ... سنعرف كيف نجعلك تعترفين! أيها الضابط، خذ عشرة جنود واحملوها إلى حيث يجب أن تكون.
وأن فاسكيز قائلا: «آه يا إلهي، ماذا يفعلون بهذا المسيح المصلوب المسكين؟» ذلك أن صرخات «لاتشابيلونا» المتزايدة القاطعة جعلت الدماء متجمدة في عروقه.
وصححت له صاحبة الحانة قوله في سخرية: المسيح؟ ألا تسمع؟ إنها صرخات امرأة؟ هل تظن أن الرجال لهم لهجة العصافير الأنثوية؟ - لا تكلميني هكذا ...
وأمر المدعي العام العسكري بتفتيش المنازل المجاورة لمنزل الجنرال. وانتشرت فرق من الجنود في جميع الأنحاء بقيادة عريف أو رقيب. وقلبوا في كل الأنحاء، الأفنية، غرف النوم، المكاتب الخاصة، الحجرات العلوية، النوافير. وتوجهوا إلى الأسطح ونقبوا في خزائن الشراشف، والأسرة، والسجاجيد، والصوانات، والبراميل، والخزانات، والصناديق. وكان إذا تأخر أحد في فتح الباب كسروه بكعوب بنادقهم. وكانت الكلاب تنبح في غضب إلى جوار أصحابها شاحبي اللون. وكان النباح يصدر من البيوت كأنما هو مياه تصدر عن رشاشة ماء.
قال فاسكيز الذي كاد ينعقد لسانه من الرعب: افرضي أنهم فتشوا هنا؟ لقد أوردنا أنفسنا موارد الهلاك! ولو كان ذلك مقابل شيء لهان الأمر، ولكنه يكاد يكون مقابل لا شيء بالمرة ...
وأسرعت «لامسكواتا» لتحذر «كميلة». وأعقبها فاسكيز يقول: إني أعتقد أن الأفضل أن تغطي وجهها وتغادر هذا المكان حالا. ثم أسرع إلى الباب دون أن ينتظر جوابا لكلامه.
وقال وعيناه على ثقب الباب: «انتظرا، انتظرا! لقد أعطى المدعي العام أمرا آخر، لقد توقفوا عن التفتيش. لقد نجونا!»
وخطت صاحبة الحانة خطوتين إلى الباب لترى بعينيها ما أعلنه فاسكيز بهذا الحبور.
وهمست المرأة: انظر إلى مسبحك المصلوب!
من هي؟ «إنها المربية - ألا ترى؟» وأزاحت جسدها لتبتعد عن نطاق يدي فاسكيز، وأضافت «اتركني أيها الرجل، اتركني، اتركني عليك اللعنة!» - يا للمسكينة. انظري كيف يجرونها معهم! - لماذا تصبح أعين الناس حولاء وهم يحتضرون؟ - «هس، لا أريد أن أرى!»
كانت فرقة من الجنود يقودها ضابط شهر سيفه قد جرت «لاتشابيلونا» المربية التعسة الحظ من منزل الجنرال. كان مستحيلا على المدعي العام أن يستجوبها. ومنذ أربع وعشرين ساعة، كان هذا الحطام الإنساني، الذي يلفظ الآن آخر أنفاسه، هو الدعامة الأساسية لبيت كان النشاط السياسي الوحيد فيه هو خطط طائر الكناري التي يحيكها للحصول على مزيد من حبوب القرطم لغذائه، والدوائر المتراكزة التي تنتشر تحت دفقة النافورة، وانهماك الجنرال المتواصل في ألعاب «الكوتشينة»، ونزوات كميلة.
وقفز المدعي العسكري العام إلى عربته، يتبعه أحد الضباط. وتوقفوا عند أول ناصية؛ فقد وصل أربعة رجال قذرين، رثي الثياب، ومعهم نقالة لحمل جثة «لاتشابيلونا» إلى المشرحة. واصطف الجنود عائدين إلى ثكناتهم، وفتحت «لامسكواتا» حانتها. وجلس فاسكيز في مقعده المعهود، ولم يبد جهدا يذكر لإخفاء اضطرابه من جراء القبض على زوجة «خينارو روداس». كان رأسه كالفرن الذي يغلي فيه الآجر الأحمر، وعقله مسطحا من تأثير الخمر، تنتابه نوبات السكر من حين إلى آخر، مقرونة بمخاوف من فرار الجنرال.
وأثناء ذلك، كان الجنود المكلفون «بنينيا فيدينا» يصطحبونها إلى السجن، ويدفعونها من حين إلى آخر من على الطوار إلى عرض الشارع. واستسلمت المرأة لتلك المعاملة السيئة في صبر، غير أنها فقدت أعصابها فجأة وهم في الطريق وضربت واحدا منهم على وجهه. وجاءها الرد على صورة ضربة قاسية من كعب البندقية؛ وفي نفس الوقت سدد إليها جندي آخر ضربة من الخلف جعلتها تترنح وأسنانها تصطك في رأسها، والنجوم تتماثل أمام عينيها.
وتدخلت امرأة من المارة كانت عائدة من السوق حاملة سلة مليئة بالخضروات والفاكهة، صاحت بهم: «أيها القذرون، ألهذا تحملون أسلحتكم؟ يجب أن تخجلوا من أنفسكم.»
وصاح بها جندي: «اصمتي!» - يا لك من وقح.
وصاح بها رقيب: هيا يا سيدتي، تابعي سيرك. اذهبي إلى حيث كنت ذاهبة، أوليس لك ما تفعلين؟
وهل أنا مثلكم، أيها الخنزير السمين!
فتدخل الضابط قائلا: «اصمتي وإلا سنحطم رأسك.» - «تحطمون رأسي؟ حقا. هذا ما كان ينقصنا فعلا، هؤلاء الهنود الذين يسيرون هنا وهناك مثل الصينيين، وملابسهم مهترئة عند المرفقين وعند حجر البنطلون! أفضل لكم أن تنظروا إلى أنفسكم وأن تكفوا أيديكم عن الناس، أيتها الجماعة التي يرتع القمل فيكم، وأنتم تلهون بشتم الناس!»
وقليلا قليلا، ابتعد الركب عن المدافعة المجهولة عن زوجة «خينارو روداس» وسط دهشة المارة، في حين ذهبت المقبوض عليها في طريقها إلى السجن، حزينة، مضطربة، تتفصد عرقا، وطرف شالها المطرز يمسح الأرض خلفها. •••
وصلت عربة المدعي العام العسكري إلى منزل «قابيل كرفخال» المحامي في الوقت الذي كان يتأهب لمغادرة بيته إلى القصر الجمهوري مرتديا قبعته العالية وسترته الصباحية. وقفز المدعي العام من العربة إلى الطوار مما جعل العربة تهتز من بعده. وأغلق «كرفخال» الباب وراءه وكان يضع فردة قفازه بعناية حين اعتقله زميله. واصطحبته مفرزة من الجنود، وهو في ملابسه الكاملة، في وسط الطريق إلى مركز الشرطة الثاني، الذي زينت واجهته بالأعلام والشرائط الورقية. وأخذوه رأسا إلى الزنزانة التي كان الطالب ومساعد القس سجينين فيها.
الفصل الرابع عشر
فليغن العالم جميعه!
كانت الشوارع تتبدى تدريجيا للبصر في ضوء الفجر الهارب؛ ومن حولها ترقد الأسطح والحقول العبقة بنضارة الربيع. وكانت البغال التي تحمل اللبن ترى وهي تسير خببا وأغطية جرار اللبن تصلصل من فوقها، يستحثها البغالون على السير قدما بالضربات وباللعنات. وسطع نور الصباح على الأبقار الواقفة للاستحلاب أمام أروقة منازل من هم أيسر حالا، أو في نواحي الطرقات في الأحياء الفقيرة، بينما الزبائن، وبعضهم في طريق النقاهة والآخر في طريق الهلاك، وأعينهم لا يزال السبات يغطيها، ينتظرون بقرتهم المفضلة ويذهبون إليها لاستحلابها، وهم يميلون الجرة في براعة كيما يحصلوا على قدر من الحليب أكثر من الرغاوي. وكانت النسوة اللاتي يوزعن الخبز على البيوت يمشين ورءوسهن منحنية على صدورهن، محنيات الظهور، يجاهدن في حر سيقانهن، حافيات الأقدام، يسلكن طريقهن بخطوات قصيرة متعثرة تحت وطأة سلالهن الضخمة. كانت السلال مكومة الواحدة فوق الأخرى على هيئة الأهرامات، مخلفة في الهواء عبير الفطائر المغطاة بالسمسم المحمص والسكر. وأعلنت الساعات الدقاقة بداية يوم عطلة رسمية، وأثارت بذلك أطيافا من المعدن والهواء، سيمفونية من الروائح وانفجارا من الألوان، في حين صدرت عن الكنائس، فيما بين الظلمة والفجر، دقات الناقوس معلنا القداس الأول، في وجل وجسارة في نفس الوقت، ذلك أنه إذا كانت دقاته توحي في أيام الأعياد بفطائر الشيكولاتة والبسكويت الكنسي، فإنه في أيام العطلة الرسمية يفوح برائحة الفاكهة المحرمة.
عطلة رسمية ...
وفي الشوارع، مع عبير الأرض الطيبة، ارتفع حبور السكان وهم يفرغون أحواضا من المياه من نوافذهم كما يترسب الغبار الذي تخلف عن قوات الجنود التي مرت تحمل الراية نحو قصر السيد الرئيس، الراية التي لها رائحة المنديل الجديد؛ أو عن عربات علية القوم المرتدين أفخر ثيابهم: أطباء في معاطف «الفراك »، جنرالات في حللهم الرسمية المتألقة التي تعبق برائحة «النفتالين»، والمدنيون في قبعات عالية لامعة، والعسكريون في قبعات مثلثة الأطراف يعلوها الريش، أو عن خبب جياد الموظفين الأقل شأنا، الذين تقاس الخدمات التي يؤدونها بالمبلغ الذي ستدفعه الدولة يوما ما لتغطية نفقات جنازتهم.
سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك!
وسمح الرئيس بأن يراه الشعب، مسرورا من استجابته التي لقيتها جهوده التي يبذلها في سبيل رفاهيته، فظهر في الشرفة طويلا وسط كوكبة من أصدقائه المحببين.
سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك!
وشعرت النسوة بقوة معبودهم الحبيب الإلهية. وقدم له أكابر القسس فروض الطاعة والولاء. وتخيل المحامون أنهم في معية ألفونسو العالم.
1
أما الدبلوماسيون، وهم أصحاب فخامة أتى بعضهم ربما من مدينة «تفليس»، فقد ارتسمت على محياهم علامات الأهمية كأنما هم في بلاط «الملك الشمس»
2
في «فرساي». وهنأ الصحافيون أنفسهم على أن موجودون في صحبة «بركليز»
3
آخر. سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك! وأحس الشعراء أنهم في «أثينا»، هكذا أعلنوا للعالم أجمع. وتخيل نحات للتماثيل الدينية أنه «فيدياس».
4
وابتسم، وحل بدنه، ورفع عينيه إلى السماء حين سمع الهتاف في الشوارع تكريما لحاكمهم العظيم. سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك! وعمد مؤلف معزوفات جنائزية، مغرم ب «باخوس»
5
وبالدين كذلك، إلى مد وجهه ذي اللون الطماطمي من النافذة ليرى ما يحدث في الطرفين.
ولكن، إذا كان الفنانون قد اعتقدوا أنهم في أثينا؛ فقد تخيل أصحاب البنوك اليهود أنهم في «قرطاجنة»، وهم يتجولون خلال صالونات رجال الدولة الذين وهبهم ثقته وأوكل مدخرات الأمة إلى صناديقهم التي لا قرار لها بفائدة صفر أو لا شيء في المائة، مما نتج عنه أنهم أثروا ثراء فاحشا، واستعاضوا عن عمليات الختان بالعملات الذهبية والفضية!
سيدي الرئيس! سيدي الرئيس! السماء والأرض مليئتان بأمجادك!
وشق ذو الوجه الملائكي طريقا لنفسه وسط المدعوين (كان جميلا وماكرا كالشيطان): الشعب يطلب ظهورك في الشرفة يا سيدي الرئيس! - ... الشعب؟
ووضع القائد نبرة استفهام في هذه الكلمة. وساد الصمت من حوله. ونهض من مقعده وتوجه إلى الشرفة، تحت ضغط حزن عميق كتمه في نفسه بغضب حالما شعر به لئلا يظهر في عينيه.
وظهر أمام الجماهير محاطا بكوكبة من محبوبيه. وكانت بعض النسوة قد جئن ليهنئنه بالذكرى السعيدة لنجاته من محاولة للاغتيال، وبدأت واحدة منهن، أوكل إليها مهمة إلقاء خطبة، تقول حالما رأت الرئيس: «يا ابن الشعب البار ...»
وازدرد القائد لعابه المرير، ربما وهو يذكر أيام كان طالبا، حين كان يعيش في فقر مدقع مع أمه في مدينة لم يجد فيها أي متنفس لهما، ولكن المحبوب تدخل قائلا في رنة خفيضة: مثل يسوع، ابن الشعب ...
ورددت صاحبة الخطبة: «يا ابن الشعب البار، أقول ابن الشعب. في هذا اليوم الساطع البهاء، تتلألأ الشمس في كبد السماء، وتلقي بضوئها على عينيك وفي روحك. وإذ أمتثل بالتعاقب المبارك للنهار والليل في قبة السماء، فإن سواد تلك الليلة لا ينسى، حين عمدت الأيادي المجرمة - بدلا من الاقتداء بك سيدي الرئيس في زرع البذور الصالحة في الحقول - إلى وضع قنبلة في طريقك، ولكنك خرجت منها سالما معافى، رغم كل الدقة العلمية الأوروبية التي صنعت تلك القنبلة.»
وغرق صوت «لسان البقرة» - كما كانت ألسنة السوء تسمي السيدة التي قالت الخطبة - في غمار تصفيق حاد من الجمهور إلى الهواء لدى الرئيس وحاشيته. - عاش السيد الرئيس! - عاش السيد رئيس الجمهورية! - عاش السيد رئيس الجمهورية الدستوري! - «فلتتردد أصداء هتافنا وتصفيقنا في العالم كله إلى الأبد، عاش السيد رئيس الجمهورية الدستوري، حامي حمى الوطن، رئيس الحزب الليبرالي العظيم، المدافع عن الشباب المجتهد!»
واستطردت لسان البقرة تقول: «إنه لو كانت خطط أولئك الأشرار قد نجحت، أولئك الذين كان يعاونهم أعداء السيد الرئيس في محاولتهم الإجرامية، لكانت راية بلادنا قد تلطخت بمئات الشوائب الشائنة. إنهم لم يتوقفوا لحظة ليتدبروا أن يد الله كانت معكم تحمي حياتكم الغالية، مقرونا بتأييد كل أولئك الذين يسلمون بأنكم جديرون بأن تكونوا المواطن الأول للأمة، والذين أحاطوا بكم في تلك اللحظة العصيبة، الذين يحيطون بكم الآن وسوف يحيطون بكم طالما دعت الحاجة إلى ذلك. أجل!»
أيها السادة، أيتها السيدات والسادة، إننا ندرك اليوم أكثر من أي وقت مضى أنه لو كانت تلك الخطط الدنيئة قد نجحت في ذلك اليوم ذي الذكرى المفجعة في تاريخ أمتنا - التي تقود اليوم الشعوب المتحضرة - لحرم وطننا من أبيه وحامي حماه، ولسقط تحت رحمة أولئك الذين يشحذون خناجرهم في الظلام ليطعنوا بها صدر الديمقراطية في الصميم، كما قال يوما ذلك السياسي العظيم «خوان مونتالفو». «وبفضل نجاتكم، لا تزال رايتنا تخفق عالية دونما شوائب. وهذا هو السبب الذي نجتمع هنا من أجله أيها السادة، لتكريم حامي حمى الطبقات الفقيرة المجيد، الذي يسهر علينا بعطف الأب، والذي جعل أمتنا - كما سبق أن قلت - في طليعة ذلك التقدم الذي أطلق «فالتون» شرارته الأولى باكتشافه البخار، والذي دافع «خوان سانتا ماريا» عنه ضد القرصنة عن طريق إشعال النار في الديناميت المشئوم في «لمبيرا». عاش وطننا! عاش رئيس الجمهورية الدستوري، رئيس الحزب الليبرالي، حامي حمى الأمة، معزز النساء والأطفال العزل، والتعليم!»
وضاعت هتافات «لسان البقرة» وسط سعير من الهتاف أطفأه بحر من التصفيق.
ورد السيد الرئيس ببضع كلمات، ويده اليمنى تقبض على سور الشرفة المرمري، والتفت جانبا حتى لا يعرض صدره للخطر، وحرك رأسه من اليسار إلى اليمين ليحيط بالجمهور، وقد قطب جبينه، وعيناه ترقبان كل شيء. ومسح الرجال والنساء على حد سواء دمعات تساقطت من عيونهم.
وقال ذو الوجه الملائكي حين رأى الرئيس وقد انسد أنفه بعض الشيء: هلا تفضلت بالدخول سيدي الرئيس؟ ... إن الجمهور يؤثر عليكم تأثيرا شديدا ...»
واندفع المدعي العسكري العام نحو الرئيس الذي عاد من الشرفة تتبعه ثلة من أصدقائه، كيما يقدم إليه تقريرا عن هروب الجنرال «كاناليس» ويهنئه على خطبته قبل أي شخص آخر، ولكنه - مثله في ذلك مثل جميع الذين تقدموا إلى السيد الرئيس لنفس الغرض - توقف فجأة وقد شله شعور غريب بالوجل، ناتج عن قوة خفية خارقة للطبيعة، وحتى لا يبقى ممدود اليد في الهواء، تقدم ليصافح ذا الوجه الملائكي .
بيد أن المحبوب أدار له ظهره. وسمع المدعي العسكري العام، ويده ممدودة في الهواء، أول انفجار في سلسلة من الانفجارات التي توالت في ثوان قليلة كأنما هي طلقات مدفعية. وعلى الفور، انطلقت الصرخات، وتقافز الناس يجرون هنا وهناك ويركلون المقاعد في طريقهم، بينما أغمي على كثير من النساء، وسرعان ما كانت فرق الجنود تهرع لتنتشر وسط الجمهور كحبات الأرز، وأيديهم على زناد بنادقهم المحشوة، وسط المدافع الرشاشة، والمرايا المحطومة والضباط والمدافع ...
واختفى كولونيل فوق الدرجات ومسدسه في يده، بينما هبط آخر من الدرجات ومسدسه في يده. لم يكن هناك شيء. لم يكن هناك شيء. بيد أن الهواء كان باردا. وانتشرت الأنباء بين الجمهور المضطرب. لم يحدث شيء. وتجمع الضيوف تدريجيا في مجموعات، وبعضهم قد بال على نفسه من الخوف، والبعض الآخر أضاع قفازاته. وكان أولئك الذين عاد اللون إلى وجوههم، لم يستعيدوا بعد القدرة على الكلام، بينما كان أولئك الذين استعادوا القدرة على الكلام قد غاض اللون من وجوههم. وكان السؤال الوحيد الذي لم يستطع أحد الإجابة عنه هو أين ومتى اختفى السيد الرئيس.
وعلى الأرض، تحت سلم صغير، كان يرقد قارع الطبول الأول في الفرقة الموسيقية العسكرية. كان قد سقط من على السلم هو وطبلته، مما سبب كل ذلك الفزع والهلع!
الفصل الخامس عشر
الأعمام والعمات
خرج المحبوب من القصر الجمهوري بين قاضي القضاة، وهو شيخ ضئيل الحجم يبدو في قبعته العالية ومعطفه «الفراك» أشبه بالجرذان التي تظهر في رسوم الأطفال، وبين نائب من نواب الشعب، وهو رجل بالغ الهزال والشحوب كأنه أحد تماثيل القديسين العتيقة. وكانا يتناقشان في جدية بالغة فيما إذا كان «الغران هوتيل» أم خان قريب هو الأفضل لغسل الخوف الذي أصيبا به من جراء حادثة ذلك الطبال الأخرق، الذي نقلوه على التوالي إلى الخدمة العاملة، إلى الجحيم، أو إلى عقاب أسوأ من ذلك، دون أي وازع من ضمير. وحين دافع عضو البرلمان عن فكرة الذهاب إلى «الغران هوتيل»، بدا كما لو يضع قواعد إلزامية بشأن أفضل مكان أرستقراطي يمكن اللعب فيه من بنت الحان، وهو نشاط يجد قبولا واسعا وانتشارا متزايدا بين موظفي الدولة. أما القاضي فقد تكلم كأنما هو يصدر حكما: «إن الامتياز الحقيقي يوجد دائما حيث لا يكون هناك ما يدل على ذلك الامتياز في الظاهر، وهذا هو السبب، يا صديقي العزيز، في أنني أفضل الخان المتواضع حيث المرء على سجيته وسط أصدقاء، على الفندق الفخم حيث لا يكون كل ما يلمع ذهبا.»
وتركهما ذو الوجه الملائكي وهما لا يزالان يتجادلان عند ناصية القصر - فمن الأفضل نفض اليد من مناقشة بين مثل هاتين الحجتين - واتجه إلى حي «إنسسيو» بحثا عن منزل خوان «كاناليس»، شقيق الجنرال كاناليس. كانت الحاجة ماسة إلى أن يبعث هذا العم لإحضار ابنة شقيقه من حانة «الخطوتان». قال في نفسه: «ماذا يهمني سواء ذهب بنفسه أو بعث أحدا لإحضارها إليه، ما دامت لن تصبح تحت مسئوليتي؟ ما دامت لن توجد بعد في خاطري كما كان الحال أمس حين لم تكن شيئا بالمرة بالنسبة لي!» وتنحى له اثنان أو ثلاثة من المارة عن الطريق في احترام تاركين له الطوار إلى الطريق، وشكرهم دون أن يتبين من كانوا.
كان السيد «خوان»، شقيق الجنرال كاناليس، يقطن حي «إنسنسيو» في منزل قريب من «العملة»، كما كانت تسمى دار سك النقود، وهي بالمناسبة مبنى ذو كآبة مشنقية. كانت ثمة دعائم خشبية تدعم الجدران المائلة، ومن خلال القضبان الحديدية على النوافذ، يمكن للمرء أن يلمح حجرات كأقفاص الحيوانات المتوحشة. هنا كانت ترقد ملايين الشياطين في الحفظ والصون.
وحين طرق المحبوب باب المنزل أجيب بنباح كلب. وكان واضحا من الطريقة المحمومة التي كان الكلب ينبح بها أنه كان مقيدا.
ودخل ذو الوجه الملائكي من الباب وقبعته العالية في يده (كان جميلا وماكرا كالشيطان). كان يشعر بالسرور من وجوده في المنزل الذي ستذهب إليه ابنة الجنرال، ولكن صرف انتباهه عن ذلك نباح الكلب ، والدعوة المتكررة إلى «الدخول»، من رجل متورد الوجه، باسم، بطين، لم يكن سوى السيد «خوان كاناليس» نفسه. - «ادخل من فضلك، ادخل. من هنا، لو سمحت. وما هو يا ترى سبب تشريفنا بزيارتكم الكريمة؟»
نطق السيد خوان كل هذه العبارات على نحو آلي، في رنة صوت بعيدة تماما عن الإعراب عن الاضطراب الذي شعر به في حضرة هذا التابع الجليل للسيد الرئيس.
وتطلع ذو الوجه الملائكي حوله في الحجرة. يا للنباح الذي يستقبل به الزوار هذا الكلب الشرير! ولاحظ وجود مجموعة من الصور لآل كاناليس معلقة على الحائط، وأن صورة الجنرال قد أزيلت. وعكست مرآة في الطرف الآخر للحجرة المكان الذي كانت الصورة معلقة فيه، وجزءا آخر من الحجرة غطي بورق حائط أصفر، لون البرقيات.
وبينما السيد «خوان» يستهلك كل ما لديه من عبارات الترحيب المؤدبة، جال في خاطر ذي الوجه الملائكي أن الكلب لا يزال هو حامي المنزل كما في الأزمان البدائية. حامي حمى القبيلة. حتى السيد الرئيس عنده مجموعة من الكلاب المستوردة.
كان رب المنزل يرى في المرآة يتكلم بحركات إيمائية يائسة. وشعر السيد «خوان» بعد أن استنفد كل ما لديه من عبارات التكريم أنه كالسباح الذي قفز إلى المياه العميقة.
كان يقول: «هنا، في بيتي، شعرنا - زوجتي وخادمكم المطيع - بالسخط العميق لسلوك أخي «إيوسبيو». أي عمل هذا؟ الجريمة دائما مقيتة، وهي تزداد مقتا في أحوال كهذه؟ حين تكون الضحية جديرة بكل احترام وإجلال، رجل هو فخر جيشنا، وفوق كل شيء، كما أقول، صديق للسيد الرئيس!»
ولزم ذو الوجه الملائكي الصمت الرهيب لامرئ يرقب شخصا يغرق وهو يملك وسائل إنقاذه، صمت لا مثيل له غير صمت الزوار الذين لا يملكون القدرة على تأكيد ما يقال أو تفنيده.
ولما وجد السيد خوان أن عباراته لا تجد صدى في أذن محدثه، فقد أعصابه كلية وبدأ يضرب الهواء بيديه ويبحث عن أرض صلبة لقدميه. وكان رأسه يغلي. كان يعتقد أنه متورط في جريمة القتل التي وقعت في «رواق الرب» وفي كل ما تفرع منها من تفريعات سياسية بعيدة المدى. أما كونه بريئا منها بالفعل فلم يكن له أية أهمية. إن كل شيء بالغ التعقيد، بالغ التعقيد والتشابك «إن الأمر كاليانصيب يا صديقي، كاليانصيب». كانت تلك العبارة التي تصف حالة الأمور في البلد؛ فقد تعود أن يصيح بها العم «فولخنسيو»، وهو شيخ طيب يبيع أوراق اليانصيب في الشوارع، وكاثوليكي أصيل يعتني أشد العناية بتجارته. وبدا «لخوان كاناليس» أنه لا يرى أمامه ذا الوجه الملائكي وإنما هيكل العم «فولخنسيو» الجانبي، الذي كانت عظامه وفكاه وأصابعه تبدو كأنها قد وصلت فيما بينها بأسلاك عصبية. كان العم «فولخنسيو» يحمل حافظة أوراق اليانصيب الجلدية السوداء تحت إبطه، ثم يسوي تجاعيد وجهه، وينفض حجر بنطاله المتدلي، ويمد عنقه، ويقول بصوت يخرج في آن واحد من أنفه ومن فمه الخالي من الأسنان: «اليانصيب هو القانون الوحيد على هذه الأرض يا صديقي! اليانصيب بإمكانه أن يرسل بك إلى السجن، أو يجعلهم يعدمونك رميا بالرصاص، أو يجعلك نائبا في البرلمان، أو دبلوماسيا، أو رئيسا للجمهورية، أو جنرالا، أو وزيرا! ما فائدة العمل، إذا كان يمكن الحصول على كل هذا عن طريق اليانصيب؟ إن الحياة يانصيب يا صديقي، ولذلك تعال واشتر ورقة يانصيب!» وعند ذلك، كان كل ذلك الهيكل المعقود، ذلك الجذع الملتوي المغضن، يهتز بالضحك الذي ينبجس من فمه كأنه قائمة بأرقام اليانصيب الرابحة.
وحملق ذو الوجه الملائكي في «كاناليس» بصمت، يسائل نفسه سؤالا مختلفا تماما: «كيف يكون لمثل هذا الرجل الجبان الكريه أية صلة بكميلة؟»
واستطرد «خوان كاناليس» قائلا وهو يخرج منديلا من جيبه بصعوبة بالغة ويجفف به قطرات العرق الكثيفة التي تدحرجت على جبهته: «لقد أشيع، لقد قالوا ذلك لزوجتي على أية حال، إنهم يريدون توريطي في جريمة مقتل الكولونيل «باراليس سونرينتي»!»
فقال الرجل الآخر باقتضاب: «لا علم لي بذلك». - إن ذلك ظلم. وكما سبق أن قلت منذ لحظة، لقد عارضت أنا وزوجتي سلوك أخي «إيوسبيو» منذ البداية. وإلى جانب هذا، لا أدري ما إذا كنت تعلم ذلك أم لا، فإنني لم أكن أقابل أخي مؤخرا إلا نادرا. يكاد يكون ولا مرة. ولا مرة في الواقع. كنا نتقابل كأننا غريبان. «صباح الخير، صباح الخير، مساء الخير، مساء الخير، هذا هو كل شيء، مع السلامة، مع السلامة، هذا هو كل شيء.»
كان صوت السيد «خوان» مهتزا. ورأت زوجته، التي كانت تتابع الزيارة من وراء ستار، أن الوقت قد حان لأن تنهض لمساعدة زوجها.
وهتفت وهي تدخل وتومئ برأسها مع ابتسامة مؤدبة لذي الوجه الملائكي: «هلا قدمتني للسيد «يا خوان؟» فقال زوجها الذاهل: أجل، بالطبع. اسمح لي بأن أقدم زوجتي إليك!» - «جوديث دي كاناليس.»
وسمع ذو الوجه الملائكي اسم زوجة السيد «خوان»، بيد أنه لا يذكر أنه قد نطق اسمه هو.
وخلال تلك الزيارة التي كانت تتطاول دون داع، كانت أي عبارات لا تتعلق بكميلة لا تجد أذنا صاغية لدى ذي الوجه الملائكي، وذلك من جراء تلك القوة الغامضة التي بدأت تؤثر في فؤاده وتشيع الاضطراب في وجوده ذاته.
وتعجب في سريرته: «ولكن، لماذا لا يتحدث هؤلاء القوم عن ابنة أخيهم؟ لو أنهم تحدثوا عنها لأصغيت إليهم بكل جوارحي، لو أنهم تحدثوا عنها لقلت لهم إنه لا داعي لأن يشعروا بأي قلق، وأن السيد «خوان» لا يمكن أن يورط في أي جريمة. آه لو أنهم يتحدثون عنها! أي أحمق أنا ... عن كميلة؟ التي أود أن تكون على ما هي عليه وأن تبقى مع هؤلاء القوم وألا أفكر فيها بعد ذلك؟ ولكن، أي أحمق أنا، إنها هي وقومها، وأنا بعيد عنهم، بعيد عنهم! أميالا كثيرة، هي وأنا لا ...
وجلست السيدة جوديث على الأريكة ورفعت إلى أنفها منديلا من الدنتلا كيما تخفي ارتباكها. - كنتما تقولان ... أخشى أن أكون قد قطعت حديثكما ... آسفة ... - إن ... - ... - لو ...
كان الثلاثة قد بدءوا يتحدثون في نفس الوقت، وبعد كثير من عبارات «تفضل»، تسلم السيد خوان دفة الحديث، لا يعرف لماذا. وكانت عينا زوجته تقول له «أيها الأحمق»؛ لأنه لم يترك لضيفهما الكلمة. - إنني كنت أقول لصديقنا إننا - أنت وأنا - قد غضبنا حين أخبرونا، على نحو سري، أن أخي «إيوسبيو» هو أحد المتهمين بقتل الكولونيل «باراليس سونرينتي».
فوافقته السيدة «جوديث» قائلة وهي تدفع صدرها العظيم إلى الأمام: «آه، أجل، أجل، حقا! لقد قلنا - «خوان» وأنا - أنه لم يكن خليقا بأخ زوجي أن يدنس حلته العسكرية بمثل هذا العمل الهمجي؛ والأسوأ من ذلك، أن الناس يريدون أن يورطوا زوجي!» - «كنت أيضا أشرح للسيد «ميغيل» أنني قد ابتعدت أنا وأخي بعضنا عن بعض منذ فترة طويلة؛ لم يكن يتحمل منظري، ولم أكن أتحمل رؤيته!»
فأضافت السيدة «جوديث» وهي تطلق زفرة في الهواء: «ليس إلى هذه الدرجة من السوء، ولكن الأمور العائلية تفضي دائما إلى الغضب والشجار.»
فقال ذو الوجه الملائكي: أعرف ذلك. بيد أن على السيد «خوان» ألا ينسى أن هناك دائما وشائج لا انفصام لها بين الإخوة ... - ماذا تعني يا سيد «ميغيل»؟ إنني كنت شريكه؟ - أرجو أن تعذراني ...
فقالت السيدة «جوديث» في عجلة وقد خفضت عينيها إلى الأرض: يجب ألا تصدق ذلك. حين تتدخل أمور المال تنقطع كل الوشائج. إنه لأمر محزن أن يكون الحال كذلك، ولكن المرء يراه يحدث أمامه كل يوم. المال لا يحترم وشائج القربى. - «أرجو أن تعذراني! لقد قلت الآن إن هناك وشائج لا تنفصم بين الإخوة؛ لأنه على الرغم من الخلافات في الرأي بين السيد «خوان» والجنرال، فحين رأى الجنرال أن الخراب قد حل به وتعين عليه أن يرحل عن البلاد قال لي ...» - إذا كان قد حاول أن يورطني في الجريمة فهو نذل آه، يا لها من مكيدة. - ولكنه لم يقل شيئا من هذا القبيل. - خوان، خوان، دع ضيفنا يتحدث! - لقد قال لي إنه يعتمد عليكما معا كيما ترعيا ابنته من بعده، وطلب مني أن أذهب وأتحدث إليكما كي تأخذاها لتعيش معكما في هذا المنزل.
وجاء دور ذي الوجه الملائكي كي يشعر الآن أن عباراته لا تجد أذنا صاغية. كان يبدو عليه وكأنه يتحدث إلى قوم لا يفهمون اللغة الإسبانية التي يحدثهم بها: كانت عباراته ترتد إليه كما لو كانت تصطدم بمرآة، لا يصغي لها لا السيد «خوان» الحليق النظيف ولا السيدة «جوديث» القابعة في داخل صدرها الهائل كأنما هي في داخل عربة يد. - «والأمر متروك لكما لتتدبرا أفضل ما يمكن عمله من أجل الفتاة.»
وحالما تحقق السيد «خوان» أن ذا الوجه الملائكي لم يحضر كيما يعتقله، استعاد قدرته الذهنية العادية وقال: أجل، بالطبع ... لا أدري حقا ما أقول. الواقع أنك قد فاجأتني! ليس هناك محل بالطبع لإحضارها هنا، لا يمكن للمرء أن يلعب بالنار! إنني واثق أن الفتاة الصغيرة ستكون سعيدة هنا، ولكني وزوجتي لا يمكننا أن نخاطر بفقدان أصدقائنا، ذلك أنهم سوف يحاسبوننا على أننا فتحنا أبواب بيتنا المحترم لابنة أحد أعداء السيد الرئيس. وإلى جانب هذا، فمن المعروف أن أخي الشهير قد عرض - كيف أعبر عن ذلك؟ حسنا، قد عرض ابنته على أحد الأصدقاء الحميمين لرئيس الأمة، مقابل ...
فتدخلت السيدة «جوديث» قائلة وهي تسقط صدرها المنتفخ في زفرة أخرى: كيما يتفادى الدخول إلى السجن! ولكن ... كما كان «خوان» يقول، فهو قد عرض ابنته على صديق للسيد الرئيس، الذي كان مفروضا أن يقدمها بدوره إلى السيد الرئيس نفسه، الذي كان من الطبيعي والمنطقي أن يرفض هذا العرض الشائن. وعند ذلك، رأى أمير الجيش، كما أصبحوا يلقبون الجنرال بعد خطبته الشهيرة، أن لا منجاة له، وقرر الهرب وترك ابنته لنا. هذه هي الحكاية! ماذا يمكن للمرء أن يتوقع من رجل لوث علاقاته بالشكوك كالطاعون، وجلب العار على اسم العائلة! لا تتصور أننا لم نعان نتيجة لهذه المسألة. لقد شيبتنا، كما يشهد على ذلك الله والعذراء!»
وتبدت لمحة من غضب في أعماق عيني ذي الوجه الملائكي السوداوين. - إذن، لا مجال هناك لمزيد من القول. - إننا آسفان لتجشمك عناء الحضور إلينا. لو أنك بعثت برسالة.
وأضافت السيدة جوديث: «ولو لم تكن المسألة مستحيلة تماما علينا، لكنا قد قبلنا بسرور من أجلك.»
وخرج ذو الوجه الملائكي دون كلمة أخرى ودون أن ينظر ناحيتهما.
ونبح الكلب في سعار وهو يجر سلسلته عبر الأرض من ناحية إلى أخرى إلى أقصى امتداد لها.
وكانت آخر كلمات ذي الوجه الملائكي على الباب الخارجي: سوف أذهب لمقابلة الإخوة الآخرين؟
فسارع السيد خوان يقول: «إن في هذا إضاعة لوقتك. لقد عرف عني طوال فترة إقامتي هنا أنني من المحافظين، ومع ذلك فإنه لا يمكنني قبولها في بيتي. أما هم فليبراليون، أوه، حسنا، سيعتقدون أنك قد جننت، أو أنك تمزح!»
كان السيد «خوان» يقف على عتبة الباب وهو يقول تلك العبارات؛ ثم أغلق الباب في بطء، وفرك يديه السمينتين، معا، وتردد برهة، ثم عاد أدراجه إلى البيت. وأحس برغبة لا تقاوم في أن يلاطف أحدا، ولكن ليس زوجته، وذهب لإحضار الكلب الذي كان لا يزال ينبح.
وصاحت به زوجته من الفناء، حيث كانت تقلم شجرة الورد بعد أن انحسرت الشمس عنها: «دع الكلب إذا كنت خارجا!» - «أجل، سوف أخرج الآن.» - «حسنا، أسرع، لأنني ذاهبة إلى الكنيسة لأداء صلاتي اليومية، وأفضل عدم الخروج إلى الطريق بعد السادسة مساء.»
الفصل السادس عشر
في سجن «كاسا نويفا»
في حوالي الساعة الثامنة صباحا (ما أسعد ما كان الناس عليه في عهد الساعات المائية، حين لم يكن هناك ساعات دقاقة تحسب الوقت بالقفزات والارتداد!) سجنت «نينيا فيدينا» في زنزانة كالقبر على شكل الجيتار، بعد اتخاذ الإجراءات المعهودة والقيام بتفتيش شامل لكل شيء معها. لقد فتشوها من الرأس إلى القدم، أظافرها، ما تحت إبطيها، كل شيء، وهي عملية مزعجة للغاية، بل وزادوا التفتيش حدة حين عثروا في ثنايا قميصها على خطاب كتبه الجنرال كاناليس بخط يده، وهو الخطاب الذي كانت قد التقطته من على الأرض في البيت.
وأحست بالتعب من الوقوف في الزنزانة، ولم يكن هناك مكان للمشي ولو خطوتين فقط، فجلست، فالجلوس أفضل على كل حال. ولكنها نهضت واقفة بعد برهة. لقد نفذت برودة الأرض إلى كفليها وعظام ساقيها وإلى يديها وأذنيها، فالجسم البشري حساس تجاه البرودة. وظلت واقفة بعض الوقت، ثم جلست مرة ثانية، ووقفت، وجلست، ووقفت ... وهكذا ...
وكانت تسمع السجينات الأخريات حين أخرجوهن من زنازينهن لشم الهواء، يتغنين بأغان غضة كالخضروات النيئة ، برغم الغليان الذي يشعرن به في الصدور. وكن أحيانا يهمهمن بعض هذه الأغاني وهن ناعسات، أغان ذات رتابة قاسية، توحي بإحساس بالظلم المحتوم، تقطعه فجأة صرخات يأس، وكفر «وسباب» وشتائم.
ومنذ اللحظة الأولى لدخول «نينيا فيدينا» السجن، أحست بالخوف من صوت متنافر النغمات يعيد هذه الأغنية مرارا وتكرارا كأنه يتلو مزمورا:
من سجن «كاسا نويفا»،
إلى بيوت السمعة السيئة،
يا حبيبي الصغير،
خطوة واحدة،
وما دمنا هنا وحدنا،
يا حبيبي الصغير،
فلتعطني قبلة،
آه، أعطني قبلة،
يا حبيبي الصغير؛
لأن ما بين هذا السجن،
والبيوت سيئة السمعة،
يا حبيبي الصغير،
خطوة واحدة.
لم يكن البيتان الأولان من الأغنية يتمشيان مع بقيتها، ومع ذلك فإن هذا الأمر بدا كأنما يؤكد العلاقة الوثيقة بين البيوت سيئة السمعة وبين سجن «كاسا نويفا». كان وزن كلمات الأغنية مكسورا كيما تعبر عن واقع الحال المؤلم، وهو ما جعل «نينيا فيدينا» ترتعد خوفا من أن يغمرها الخوف، الآن وهي ترتعد ولم يغمر الخوف كيانها كله بعد، ذلك الخوف الغامض المرعب الذي شعرت به بعد ذلك، حين تسرب إلى عظامها ذلك الصوت الذي يشبه الأسطوانة المشروخة والذي يخفي أكثر الأسرار جرما. كان ظلما ألا تجد ما تفطر به سوى تلك الأغنية المريرة. إنهم لو سلخوها حية لما شعرت بعذاب أكثر مما كانت تشعر به الآن من سجنها؛ إذ تصغي إلى كلام ربما تعتبره السجينات الأخريات - دون أن يدركن أن فراش العاهرة أشد برودة من السجن - أملهن الأسمى في الحرية والدفء.
ووجدت راحة في التفكير بابنها. كانت تفكر فيه كما لو كانت لا تزال تحمله بين أحشائها؛ ذلك أن الأمهات لا يشعرن أبدا أن أبناءهن قد تركن بطونهن بالفعل. إن أول شيء ستفعله حين تخرج من السجن هو تعميد ابنها. لقد اتخذت كل الترتيبات. والرداء واللفاع اللذان أهدتهما له الآنسة كميلة رائعان. وكانت تعتزم الاحتفال بهذه المناسبة بتقديم أطباق «الطامال»
1
والشيكولاتة في الإفطار ، وأطباق الأرز على الطريقة «البلنسية» واليخنة في الغداء، ثم ماء القرفة وشراب اللوز والمثلجات وحلوى الرقاق في العشاء. وقد طلبت بالفعل بطاقات الدعوة الصغيرة التي سترسلها لأصدقائها، من صاحب المطبعة ذي العين الزجاجية. كما أنها تريد استئجار عربتين من محل «شومان»، تجرهما تلك الجياد الضخمة الفخمة التي تبدو كالقاطرة، ذات اللجام المتلألئ المغطى بالفضة، والسائقين الذين يرتدون قبعات طويلة ومعاطف الفراك. وعند ذاك حاولت طرد هذه الأفكار من رأسها حتى تتجنب مصيرا كمصير ذلك الرجل الذي قال لنفسه عشية ليلة عرسه. في مثل هذه الساعة غدا، ستكونين ملك يميني يا حبيبتي الصغيرة! ثم نكب بأن سقط قالب طوب على رأسه وهو في طريقه إلى الكنيسة في اليوم التالي ومات.
وأخذت تفكر ثانية في طفلها، في استغراق سعيد جعلها لا تلاحظ أنها تحدق دون أن تشعر إلى شبكة من الرسوم الإباحية المحفورة على حائط الزنزانة، مما جعلها تضطرب من جديد، رسوم صلبان، عبارات، أسماء رجال، تواريخ، أرقام العلوم السرية، مختلطة وسط رسوم جنسية من كل حجم ونوع. كانت ثمة كلمة دينية إلى جوار رسم لعضو جنسي، ورقم «13» على رسم خصيتين هائلتين، شياطين ذوو أجسام معقوصة كالشمعدانات، زهور صغيرة لها أصابع بشرية بدلا من الأوراق، كاريكاتور لقضاة ومحامين، قوارب صغيرة، مراس، شموس، أسرة أطفال، شموس ذات شوارب لرجال الشرطة، أقمار لها وجوه عوانس، نجوم ثلاثية وخماسية، ساعات، صفارات، قيثارات ذات أجنحة، سهام.
وغلبها الفزع فحاولت الهروب من عالم الجنون والضلال هذا، كيما تسقط في الإباحية فحسب التي تغطي الجدران الأخرى في الزنزانة. وأغلقت عينيها وقد أخرسها الفزع، كانت كامرأة بدأت تهوي من على منحدر شاهق، تتفتح حولها مهاو بدلا من النوافذ، والسماء تستعرض نجومها كما يستعرض الذئب أنيابه.
وعلى أرض الزنزانة، كانت ثمة مجموعة من النمل تحمل صرصارا ميتا. وجال في خاطر «نينيا فيدينا»، إذ كانت لا تزال تحت تأثير الرسوم الإباحية، أنها تحدق إلى عضو جنسي أنثوي يجره شعره إلى فراش الخطيئة.
من سجن كاسا نويفا،
إلى بيوت السمعة السيئة،
يا حبيبي الصغير ...
وأخذت الأغنية مرة أخرى تحك لحمها الحي برفق بشظايا زجاج صغيرة، كأنما هي تزيل تدريجيا تواضعها الأنثوي.
وفي المدينة، كانت الاحتفالات على شرف السيد الرئيس لا تزال تجري على قدم وساق. وفي الأمسيات، كانوا ينصبون شاشة سينما كأنها المشنقة في «الميدان الرئيسي»، يعرضون عليها أجزاء غير واضحة من الأفلام على الجمهور، الذي كان يشاهدها كأنه يشاهد حكم إعدام لمحاكم التفتيش. وكانت المباني الحكومية الغارقة في الضوء تشمخ تجاه السماء الداكنة، وثمة سيل من العابرين يلفون أنفسهم كالعمامة حول السور المدبب الأطراف الذي يحيط بالحديقة العمومية المستديرة. كانت صفوة المجتمع تتجمع هناك للتنزه حول الحديقة في الأمسيات، في حين ترقب العامة السينما في صمت ديني تحت النجوم. وكان الشيوخ، عزابا وأزواجا، مكدسين جنبا إلى جنب كالسردين، قد أخذوا يتثاءبون في ملل ظاهر، ويرقبون المارة من مقاعدهم ومنصاتهم المنصوبة في الميدان، يرسلون بالإطراء لكل فتاة تمر، وبالتحايا إلى أصدقائهم ومعارفهم ... ومن آن لآخر، كان الأغنياء والفقراء على السواء يرفعون أبصارهم إلى السماء: يرقبون صاروخا ملونا ينفجر وتتساقط خيوطه على شكل قوس قزح حريري.
إن الليلة الأولى في السجن لشيء رهيب حقا. يشعر السجين أنه مقطوع عن الحياة في عالم من الكوابيس، هناك في الظلمات. الجدران تختفي، والسقف يتلاشى، والأرضية تحتجب عن البصر، بيد أن ذلك لا يجلب معه إحساسا بالحرية، وإنما بالموت.
وبدأت «نينيا فيدينا» تتلو صلاة سريعة: «أيتها العذراء مريم الرحيمة، معروف عنك أنك لا تخذلين أي مخلوق ينشد عونك ويتضرع طلبا لمساعدتك ويرجو حمايتك! ولهذا فإني أتحول إليك عن ثقة، يا عذراء العذارى، وألقي بنفسي على قدميك، أبكي خطاياي. لا ترفضي صلواتي، أيتها العذراء مريم، بل أنصتي لي بأذن صاغية مجيبة. آمين!» كانت الظلمة تخنقها. لم تعد تستطيع الصلاة بعد. وانزلقت إلى الأرض، باسطة ذراعيها اللتين بدتا لها طويلتين جدا، طويلتين جدا، كيما تحتضن الأرضية الباردة، كل الأرضيات الباردة لجميع السجناء الذين يضطهدون باسم العدالة، المحتضرين، المشردين ...
ورددت الابتهالات باللاتينية:
أورا برو نوبيس.
2
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
واعتدلت جالسة ببطء. كانت تشعر بالجوع. من سيرضع ابنها؟ واتجهت إلى الباب على يديها وقدميها وظلت تقرعه عبثا.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
وعلى البعد، سمعت ساعة تدق الثانية عشرة.
أورا برو نوبيس.
أورا برو نوبيس.
في العالم الخارجي، حيث كان ابنها ...
أورا برو نوبيس.
وأحصت الدقات الاثنتي عشرة. واستجمعت قواها لتتخيل أنها مطلقة السراح، ونجت في ذلك. وتصورت نفسها في بيتها وسط حاجاتها وأصدقائها، وهي تقول ل «خوانيتا»: «مع السلامة، لقد سعدنا برؤيتك.» وهي تخرج لتصفق منادية «غابرييليتا»، وهي تعنى بالموقد، وهي تنحني للسيد «تيموتيو». كانت تبدو كأنها ترى حانوتها كما لو كان عضوا حيا، جزءا منها ومن الآخرين.
وفي الخارج، مضت الاحتفالات قدما، وشاشة السينما تقوم كالمشنقة والناس تسير حول الحديقة كالعبيد حول عجلة رفع المياه.
وفتح باب الزنزانة بعد أن يئست من ذلك. وجعلتها جلبة فتح القفل على الباب تجفل كأنما هي تقف على شفا حفرة من النار. ودخل رجلان يبحثان عنها في الظلام، ودفعا بها عبر ممر ضيق مكشوف عصفت به رياح المساء، وعبر حجرتين مظلمتين إلى حجرة أخرى مضاءة بالأنوار. وحين دخلت، كان المدعي العسكري العام يتحدث مع كاتبه بصوت خفيض. وقالت «نينيا فيدينا» في سريرتها: «هذا هو السيد الذي يعزف على الأرغن في عيد عذراء الكرمة! لقد بدا لي أنني أعرفه حين قبضوا علي، لقد رأيته مرارا في الكنيسة، لا يمكن أن يكون رجلا شريرا!»
وثبت المدعي العام عينيه عليها فترة طويلة، ثم سألها بعض الأسئلة العامة: اسمها، عمرها، حالتها الاجتماعية، عملها، عنوانها. وأجابت زوجة «روداء» في صوت ثابت، ثم أضافت سؤالا من عندياتها حين فرغ الكاتب من كتابة آخر إجاباتها - وهو سؤال لم يرد عليه أحد لأنه في نفس اللحظة دق جرس الهاتف وسمع صوت أجش لامرأة تقول في صمت الحجرة المجاورة: «أجل، كيف حالك؟ إنني مسرور لذلك! لقد أرسلت إلى «كاندوتشا» أسألها هذا الصباح ... الفستان؟ ... الفستان جميل، أجل، إن قصته حلوة ... ماذا ... كلا، كلا، إنه لم يتلوث ... أقول إنه لم يتلوث! ... أجل، ولكن دون تأخير ... أجل، أجل، أجل ... تعالوا دون تأخير ... مع السلامة ... تصبحون على خير مع السلامة.»
وفي هذه الأثناء كان المدعي العام يرد على سؤال «نينيا فيدينا» في رنة عادية من السخرية القاسية: «لا تقلقي، إننا هنا لذلك الغرض، كيما نقول للناس من أمثالك، ممن لا يعرفون، أسباب القبض عليهم.»
ثم أردف قائلا بصوت مختلف، وعيناه الضفدعيتان تبرزان من محجريهما: «ولكنك لا بد أن تخبريني أولا ماذا كنت تفعلين في منزل «إيوسبيو كاناليس» هذا الصباح.» - لقد ذهبت - لقد ذهبت لأقابل الجنرال في مهمة ما. - هل لي أن أسألك ما هي تلك المهمة؟ - مسألة بسيطة ليس إلا يا سيدي! مهمة اضطلعت بها ... كي ... اسمع يا سيدي، سوف أقول لك كل شيء: لقد ذهبت كي أخبره أنهم سيقبضون عليه بتهمة قتل ذلك الكولونيل (لقد نسيت اسمه) الذي لقي مصرعه في رواق الرب. - ثم تسمحين لنفسك بعد هذا أن تسأليني عن سبب وجودك في السجن؟ هل يبدو لك ذلك شيئا هينا، شيئا هينا أيتها العاهرة؟ هل يبدو لك ذلك شيئا هينا، شيئا هينا؟
وكان غضب المدعي العام يزداد مع كل مرة يقول فيها «هينا». - على مهلك يا سيدي، دعني أشرح لك، على مهلك يا سيدي، إن الأمر ليس كما تعتقد. انتظر، اسمع، بحق السماء! حين وصلت إلى منزل الجنرال، لم يكن الجنرال هناك، إنني لم أره، إنني لم أر أحدا هناك، كانوا قد رحلوا جميعا، وكان المنزل خاليا، ما عدا الخادمة التي كانت تجري هنا وهناك. - وهل يبدو لك ذلك شيئا هينا؟ شيئا هينا، وأي ساعة كنت هناك؟ - كانت ساعة كنيسة «لا مرسيد» تدق السادسة صباحا يا سيدي. - إن ذاكرتك قوية! وكيف عرفت أنه سيقبض على الجنرال؟ - أنا؟ - أجل أنت. - سمعت ذلك من زوجي. - وما اسم زوجك؟ - خينارو روداس. - وممن سمع هو بذلك الأمر؟ كيف عرف؟ من أخبره؟ - أحد أصدقائه يا سيدي، يدعى لوسيو فاسكيز، أحد أعضاء الشرطة السرية. هو أخبر زوجي، وزوجي ...
وقاطعها المدعي العام صائحا: وأنت أخبرت الجنرال؟
وهزت «نينيا فيدينا» رأسها كيما تقول: ليس صحيحا، لا. - وإلى أين ذهب الجنرال؟ - ولكن، بحق السماء، كيف لي أن أعرف وأنا لم أر الجنرال مطلقا؟ ألا تفهم، إنني لم أره مطلقا، لم أره مطلقا! ولماذا أكذب؟ خاصة وأن هذا السيد يكتب كل كلمة أقولها.
وأشارت إلى الكاتب، الذي حملق فيها بوجهه الشاحب المليء بالنمش، الذي بدا كورقة نشاف بيضاء عليها بقع حبر كثيرة. - ليس لك شأن بما يكتب. أجيبي عن سؤالي! أين ذهب الجنرال؟
وساد صمت طويل. ثم انفجر صوت المدعي العام بنبرة أحد: أين ذهب الجنرال؟ - لا أعرف. كيف لي أن أجيب عن هذا؟ لا أعرف، إنني لم أره على الإطلاق - لم أتحدث إليه. - إنك تخطئين إذ تنكرين ذلك؛ لأن السلطات تعرف كل شيء، بما في ذلك أنك قد تكلمت مع الجنرال. - إنك تجعلني أضحك! - اسمعي، ليس في الأمر ما يضحك. إن السلطات تعرف كل شيء، كل شيء، كل شيء. وكان يجعل المنضدة تهتز عند كل «كل شيء». «إذا كنت لم تر الجنرال، كيف إذن حصلت على هذا الخطاب؟ أظن أنه قفز إلى قميصك من نفسه؟» - إن هذا هو الخطاب الذي عثرت عليه في المنزل. لقد «التقطتها» من على الأرض قبل أن أخرج. ولكن لا فائدة من قول أي شيء ما دمت لا تصدقني وتعتبرني كاذبة.
ودمدم الكاتب قائلا: «التقطتها»! إنها لا تعرف حتى كيف تتحدث بلغة سليمة. يجب أن تقولي «التقطته». - اسمعي، لا تكذبي يا سيدتي واعترفي بالحقيقة؛ لأن الكذب سوف يجر عليك عقابا ستذكرينني به طوال حياتك. - ولكني قلت الحقيقة، وإذا كنت لا تصدقني فإني لا أستطيع أن أجعلك تفهمني بضربك بالعصا كالأطفال! - سوف يكلفك هذا غاليا، سوف ترين! وشيء آخر: ما شأنك أنت بالجنرال على أية حال؟ ما علاقتك به؟ هل أنت أخته أم ماذا؟ ماذا أخذت منه؟ - أنا ... من الجنرال ... لا شيء. إنني حتى لم أره سوى مرتين في حياتي. ولكن ما حدث هو أن ابنته قد وعدتني أن تكون إشبينة طفلي يوم تعميده. - ليس هذا سببا. - إنها إشبينة ابني يا سيدي!
فقال الكاتب من الخلف: كلها أكاذيب! - وإذا كنت قد اضطربت وفقدت أعصابي وهرعت إلى منزل الجنرال فذلك لأن لوسيو أخبر زوجي أن ثمة رجلا يعتزم اختطاف ابنة الجنرال. - كفاك أكاذيب. أفضل لك أن تفرغي كل ما في صدرك وتقولي لي أين يختفي الجنرال؛ لأنني أعلم أنك تعرفين، وأنك الشخص الوحيد الذي يعرف، وأنك سوف تقولين لنا هنا والآن، تقولين لنا. كفاك بكاء وتكلمي، إنني مصغ إليك.
وأضاف في نبرة رقيقة، كأنما هو قس الاعتراف: «إذا أنت قلت لي الآن أين الجنرال - انظري، اسمعيني: إنني أعلم أنك تعرفين وستقولين لي - إذا أنت قلت لي أين يختبئ الجنرال سوف أفرج عنك، سوف أطلق سراحك ويمكنك الذهاب إلى بيتك مباشرة في سلام. فكري في ذلك. فكري في ذلك فحسب!» - آه يا سيدي العزيز، لو كنت أعرف لأخبرتك. ولكني لا أعرف، لا أعرف لسوء الحظ. أيتها العذراء المقدسة، ماذا أفعل؟ - لماذا تنكرين؟ ألا ترين أنك تضرين نفسك بنفسك؟
وفي الفترات التي قطعت بين كلام المدعي العام، كان الكاتب يسلك أسنانه. - حسنا، إذا كانت لا تجدي معك المعاملة الطيبة، «إذا كنت ماكرة إلى هذا الحد» ونطق المدعي العام بهذه العبارة الأخيرة بسرعة وبضيق متزايد كالبركان الذي يوشك على الانفجار «فسنجعلك تعترفين بوسائل أخرى. إنك تدركين أنك قد اقترفت جريمة بالغة ضد أمن الدولة، وإنك في يد العدالة لمسئوليتك عن فرار أحد الخونة المتمردين الثائرين القتلة أعداء السيد الرئيس ... وفي هذا الكفاية، الكفاية تماما، الكفاية تماما!»
ولم تعرف السيدة روداس ماذا تفعل. كانت عبارات هذا الرجل الشيطاني تخفي وعيدا ملحا مريعا، قد يكون الموت ذاته. وارتعد فكاها، وأصابعها، وساقاها ... وحين ترتعد اليدان تبدوان كما لو كانتا بدون عظام وترتعدان كالقفاز الفارغ. وحين يرتعد الفكان ويعجز المرء عن الكلام، يبدو كما لو كان يبرق بآلامه وأشجانه. وحين ترتعد الساقان، يبدو المرء جالسا في عربة يجرها جوادان مارقان، كروح ذاهبة إلى الشيطان.
وتضرعت قائلة: سيدي! - إني لا أمزح! هيا ، أسرعي الآن. أين الجنرال؟
وانفتح باب على مبعدة وانبعث منه صراخ طفل. صراخ دافئ، يائس ...
وحتى قبل أن يقول المدعي العام ذلك، كانت «نينيا فيدينا» قد مدت عقلها تبحث في كل الأنحاء من أين ينبعث ذلك الصراخ. - «إنه يبكي من حوالي ساعتين، وعبثا تحاولين البحث عنه ... إنه يبكي من الجوع، وسوف يموت جوعا إذا لم تقولي لي عن مكان الجنرال.»
واندفعت نحو الباب، غير أن ثلاثة رجال أوقفوها، ثلاثة متوحشين تبدو عليهم الشراسة، لم يجدوا صعوبة في التغلب على مقاومتها الأنثوية. وتهدل شعرها أثناء نضالها الذي لم يكن ثمة طائل من ورائه، وخرجت بلوزتها من تحت تنورتها وتهدل قميصها الداخلي. ولكن ماذا يهمها من سقوط ملابسها. وعادت تزحف على ركبتيها شبه عارية تتضرع إلى المدعي العام أن يتركها ترضع وليدها.
تضرعت قائلة وهي تقبل حذاء المدعي: «بحق عذراء الكرمة يا سيدي، أجل، عذراء الكرمة، دعني أرضع وليدي، إنك ترى أنه لم يعد يقوى على الصراخ، إنك ترى أنه يموت. يمكنك بعد ذلك أن تقتلني إن شئت.» - لن تنفعك أي عذراء كرمة هنا! إذا أنت لم تقولي لي أين يختبئ الجنرال، ستبقين هكذا، وابنك، إلى أن يموت من الصراخ.
وركعت كالمجنونة أمام الرجال الذين يحرسون الباب. ثم تعاركت معهم ثم عادت تركع أمام المدعي العام، وتحاول تقبيل حذائه. - سيدي، من أجل ابني! - حسنا، من أجل ابنك: أين الجنرال؟ لا فائدة من أن تركعي وتمثلي علي هكذا، لأنك إن لم تجيبي عن سؤالي لن يكون هناك أي أمل لك أبدا في أن ترضعي طفلك.
وبعد أن قال المدعي العام ذلك، وقف على قدميه بعد أن تعب من الجلوس. وكان الكاتب لا يزال يسلك أسنانه، حاملا القلم في حالة تأهب لكتابة الاعتراف الذي لن يخرج من بين شفتي الأم التعسة. - أين الجنرال؟
واستمر الطفل يبكي، شاكيا باكيا، كما تبكي المياه في الميازيب في ليالي الشتاء. - أين الجنرال؟
بقيت «نينيا فيدينا» صامتة كالحيوان الجريح، تعض شفتيها ولا تدري ماذا تفعل. - أين الجنرال؟
ومرت خمس ، عشر، خمس عشرة دقيقة على هذا الحال.
وأخيرا، مسح المدعي العام فمه بمنديل أسود الحافات وأضاف وعيدا جديدا إلى قائمة أسئلته: حسنا، إذا لم تردي سنجعلك تأكلين بعض الجير الحي ونرى ما إذا كان ذلك سيذكرك أين ذهب الجنرال. - سأفعل كل ما تريد، ولكن دعني أولا دعني أرضع طفلي الصغير. لا تكن ظالما هكذا يا سيدي، إن الرضيع الصغير لم يرتكب ذنبا. بإمكانك أن تعاقبني أنا كما تشاء.
وجذبها أحد الرجال الذين يحرسون الباب إلى الأرض بخشونة، ووجه إليها آخر «ركلة» طرحتها أرضا. ومحت الدموع والسخط الذي شعرت به مناظر الجدران والأشياء من ناظريها. ولم تعد تشعر بشيء خلاف صراخ طفلها.
وكانت الساعة الواحدة صباحا حينما بدأت تبتلع الجير حتى لا يستمروا في ضربها. وكان طفلها يبكي ...
وكان المدعي العام يردد بين آونة وأخرى: أين الجنرال؟ أين الجنرال؟
الواحدة صباحا ...
الثانية ...
وأخيرا، الثالثة ... ورضيعها يبكي ...
الثالثة، حين كان يجب أن تكون الخامسة على الأقل ... ومتى تأتي الرابعة؟ ورضيعها يبكي ... - أين الجنرال؟ أين الجنرال؟
وتأوهت «نينيا فيدينا» من الألم وهي ترفع الحجر وتدحرجه على الجير الحي كيما تذروه مسحوقا، ويداها مغطاتان بالشقوق العميقة، تنفتح أكثر مع كل حركة تقوم بها، وأطراف أصابعها متسلخة، كلها قروح، دامية الأظافر. وحين كانت تتوقف ضارعة بالرحمة لطفلها وليس لآلامها هي، كانوا يضربونها.
أين الجنرال، أين الجنرال؟
لم تكن مصغية لصوت المدعي العام؛ فقد كان نواح طفلها، الذي يخفت مع مر اللحظات، يملأ كل أسماعها.
وفي الخامسة إلا ثلثا تركوها ممددة على الأرض وقد أغمي عليها، كان ثمة لعاب مخاطي يسيل من شفتيها، بينما لبن أشد بياضا من الجير نفسه يسيل من ثدييها اللذين كانا يسلطان بسياط شبه خفية. ومن آن لآخر كانت ثمة دمعات مسترقة تطفر من عينيها المنتفختين.
وبعد ذلك، حين كان يطل أول خيط من الفجر، أعادوها إلى زنزانتها. وهناك، استيقظت فوجدت طفلها بين يديها، يحتضر، باردا، دونما حياة، كأنه دمية من قش. وانتعش الرضيع شيئا ما حين أحس بنفسه في حجر أمه ، ولم يضع وقتا للهجوم على ثدي أمه في نهم، بيد أنه حين وضع فمه عليه وأحس بطعم الجير الحريف، ترك ثديها وأخذ في الصراخ، ولم يفلح كل ما فعلته بعد ذلك في إغرائه بالعودة إلى الثدي.
وصرخت وأخذت تقرع الباب والطفل بين ذراعيها، كان جسده آخذا في البرودة، لا يمكن أن يتركوا طفلا بريئا يموت هكذا. وبدأت ثانية تقرع الباب وتصرخ. - «آه، إن ابني يموت! آه، إن ابني يموت! آه، حياتي، صغيري، حياتي! تعالوا بحق الله! افتحوا بحق الله، افتحوا الباب! إن ابني يموت! يا للعذراء المقدسة، يا للقديس أنطونيو المبارك، يا يسوع القديسة كاترين!»
وفي الخارج، كانت الاحتفالات تمضي قدما. كان اليوم الثاني كاليوم الأول، بشاشة السينما كالمشنقة، والناس يتجولون حول الحديقة كالعبيد حول عجلة رفع المياه.
الفصل السابع عشر
أحابيل الغرام
- هل سيأتي أم لا؟ - سوف يظهر في أي لحظة، سوف ترين. - إنه قد تأخر، ولكن لو أتى آخر الأمر، فلا يهم تأخيره، أليس كذلك؟ - إنه سوف يأتي بالتأكيد، إن ذلك مضمون ضمان أن الآن ليل. ولسوف أقطع أذني إن لم يحضر. لا تعذبي نفسك هكذا ... - وهل تعتقدين أنه سيحضر لي أخبارا عن والدي؟ لو وعدني بذلك. - بالطبع، وهذا يزيدك تأكيدا ... - أوه، إنني أدعو الله ألا تكون أخبارا سيئة! إنني لا أدري ما أنا فاعلة، أحس أنني سأجن ... أريد أن يأتي سريعا حتى أخرج من هذه الشكوك، وأرجو في نفس الوقت ألا يأتي إذا كان سيحضر لي أخبارا سيئة.
كانت «لامسكواتا»، صاحبة الحانة، تصغي من المطبخ الصغير الذي ابتدعته في ركن من الغرفة، إلى عبارات كميلة التي كانت ترقد على الفراش وتتكلم بصوت مرتعش. وكانت هناك شمعة موقدة مثبتة على الأرض أمام صورة العذراء. - بما أنك تمرين بهذه المرحلة الدقيقة فلا بد أن يأتي، وبأخبار لا بد أن تملأك سرورا، وسترين. ستقولين ومن أين لي أن أعلم؟ لأن هذا هو اختصاصي، ولا يوجد شيء يتعلق بالقلب والحب لا أعرفه. صحيح أن المرء يجب أن لا يحكم بالمظاهر، ولكن الرجال كلهم سواء ... كالنحل حول الرحيق ...
وقطع صوت المنفاخ كلمات صاحبة الحانة. وراقبتها كميلة شاردة البال وهي تنفخ في النار بالمنفاخ. - إن الحب كالمشروب المثلج يا عزيزتي، إذا شربته ساعة تحضيره شعرت به حلو المذاق وخير الشراب، يأتي من كل ناحية، ولا بد من شربه بسرعة وإلا تساقطت قطراته على كل جانب. ولكن، بعد ذلك، لا يبقى منه سوى قطعة ثلج لا لون لها ولا طعم.
وسمع صوت خطوات في الطريق. ودق قلب كميلة بعنف لدرجة اضطرت معها أن تضغط بيديها الاثنتين على صدرها. وعبر صوت الخطوات الباب وابتعد بسرعة. - ظننت أنه هو ... - لن يتغيب أكثر من ذلك ... - لا بد أنه تأخر لأنه ذهب إلى منزل عمي قبل حضوره. ومن المحتمل أن يحضر معه عمي «خوان». - بس! القطة! القطة تشرب كوب لبنك، اطرديها!
والتفتت كميلة نحو القطة، كانت قد خافت من صيحة صاحبة الحانة، وكانت تلعق شواربها المغمسة باللبن إلى جوار الكوب الذي نسيته كميلة فوق المقعد. - ما اسم القطة؟ - بنجي. - كان لدي قطة اسمها قطر الندى، كانت أنثى.
وسمع وقع أقدام مرة أخرى. ربما ...
أجل، كان ذا الوجه الملائكي.
وبينما كانت «لامسكواتا» ترفع القضيب الحديدي الذي يغلق الباب، حاولت كميلة أن تسوي شعرها إلى الخلف قليلا بيديها. كان قلبها يدق بعنف في صدرها، فعند نهاية هذا اليوم الأبدي، الذي بدا لها أحيانا بلا نهاية، كانت تشعر بالخدر، والضعف، والخور، والإنهاك، كالشخص المريض الذي يسمع همهمات من حوله استعدادا لإجراء عملية جراحية له.
قال ذو الوجه الملائكي من عند الباب وهو يزيح جانبا التعبير المتعب الذي كان على وجهه: أخبار طيبة يا آنستي، كل شيء على ما يرام!
كانت تنتظره إلى جوار الفراش، وهي تقف وإحدى يديها على رأس السرير، وعيناها مليئتان بالدموع وعليها تعبير بارد. وتناول المحبوب يدها. - أولا، أخبار والدك، هذا أهم شيء بالنسبة إليك.
وبعد أن قال ذلك، نظر إلى «لامسكواتا»، ثم غير رأيه دون أن يغير نبرة صوته: «ولكن والدك لا يعلم أنك مختبئة هنا ...» - وأين هو؟ - لا بد أن تلزمي الهدوء! - حسبي أن أطمئن أنه لم يحدث له شيء لأحتمل أي شيء.
فقاطعت صاحبة الحانة حديثهما بقولها لذي الوجه الملائكي وهي تشير إلى مقعد: اجلس. - شكرا. - وبما أن لديك الكثير مما تقوله للآنسة، فربما تسمح لي بالخروج بعض الوقت إذا لم تكن تريد شيئا. أريد أن أذهب لأرى ماذا حدث للوسيو. لقد خرج هذا الصباح ولم يعد من ساعتها.
وكان المحبوب على وشك أن يطلب من المرأة ألا تتركه وحده مع كميلة، ولكنها كانت قد حرجت بالفعل إلى الفناء الصغير المظلم لتغير رداءها، وكانت كميلة تقول: «سيكافئك الله على ما فعلته لأجلي يا سيدتي. يا للمسكينة، إنها طيبة جدا. وكل ما تقوله مسل. إنها تقول إنك طيب جدا، وغني جدا، وساحر، وإنها تعرفك منذ وقت طويل.» - أجل إنها طيبة. ومع ذلك فلم يكن بإمكاننا التحدث صراحة أمامها، ومن الأفضل أنها قد خرجت. الشيء الوحيد المعروف عن والدك هو أنه في طريق الفرار، وإلى أن يعبر الحدود، لن نستطيع الحصول على أخبار مؤكدة عنه. ولكن أخبريني، هل قلت أي شيء عن والدك لهذه المرأة؟ - كلا، لأنني اعتقدت أنها تعرف كل شيء. - حسنا، من الأفضل ألا تقولي كلمة واحدة لها. - وماذا قال عمي وعمتي؟ - لم أتمكن بعد من الذهاب لمقابلتهما لأنني كنت مشغولا باستقصاء الأنباء عن والدك، ولكني أرسلت لهما بأنني سأزورهما غدا. - إني آسفة لكل هذه المضايقات، ولكني على ثقة بأنك ستفهم أنني سأكون أسعد حالا معهما، خاصة مع عمي «خوان» إنه إشبيني في العماد وكان دائما أبا ثانيا بالنسبة لي. - هل كنتم تتزاورون كثيرا؟ - كل يوم تقريبا. تقريبا - أجل، أجل؛ لأنه إذا لم نذهب نحن إلى بيته، كان هو يأتي لزيارتنا، إما مع زوجته، وإما وحده. وهو الأخ الذي كان والدي يحبه أكثر من غيره من إخوته. وكان دائما يقول لي: «حين أذهب سوف أتركك مع «خوان»، يجب أن تذهبي إلى بيته وتطيعيه كما لو كان والدك.» وقد تعشينا معا يوم الأحد الماضي. - على كل حال، يجب أن تدركي أنني قد خبأتك هنا حتى أتحاشى أن يضايقك رجال الشرطة، ولأن هذا المكان كان قريبا من بيتكم.
وخفقت الشعلة المرهقة للشمعة التي لم ينظفها أحد، كنظرة شخص يشكو من قصر النظر. وشعر ذو الوجه الملائكي بنفسه ضعيفا وضئيلا في ضوئها. وبدت كميلة أكثر شحوبا، أكثر وحدة، وأشد جاذبية أكثر من أي وقت مضى في ردائها الصغير الأصفر الليموني ... - فيم تفكرين؟
ورن صوته ودودا مطمئنا. - في الآلام التي لا بد وأن والدي يكابدها، هاربا عبر أماكن مظلمة مجهولة - إنني لا أعبر جيدا عن أفكاري - جائعا متعبا، عطشا، وحيدا لدى أحد يعاونه. فلتواكب العذراء المقدسة خطاه! لقد أبقيت شمعتها مضيئة طوال اليوم. - لا تفكري في هذه الأشياء، لا تتوقعي الشر قبل حدوثه. إن ما هو مكتوب سيحدث. إنك لم تتوقعي أن تعرفيني، ولا أنا أن أكون بذي نفع لوالدك.
وتناول إحدى يديها في يده وسمحت له بأن يربت عليها بينما هما واقفان معا يحدقان إلى صورة العذراء.
وكانت تجول في ذهن المحبوب هذه الأبيات من الشعر:
بوسعك أن تمري بسهولة،
من ثقب مفتاح باب السماوات،
لأن صانع المفاتيح،
حينما جئت إلى الوجود،
جبل صورتك من الثلج،
وطبعها على الشهاب البارق.
كانت تلك الفقرة الغنائية تمر عبر ذهنه في تلك اللحظة، كأنما هي تجسد الإيقاع الذي يربط الآن بين قلبيهما. - لقد قلت لي إن والدي سيذهب بعيدا، فمتى سنعرف المزيد من الأخبار عنه؟ - في الحقيقة ليست لدى أي فكرة، ولكن لا بد أن نعرف شيئا بعد أيام. - بعد أيام كثيرة؟ - كلا. - ربما كان لدى عمي «خوان» أخبار عنه؟ - محتمل جدا. - إنك تبدو محرجا حين أتكلم عن عمي وعمتي. - ماذا تعنين بذلك بحق السماء؟ كلا، على الإطلاق. على العكس تماما. إنني مدرك لولاهما لكانت مسئوليتي أعظم بكثير. إلى أين آخذك إن لم يكن إليهما؟
كانت نبرة صوت ذي الوجه الملائكي تتغير حين يترك لخياله العنان في الحديث عن هرب الجنرال وعن العم والعمة، الجنرال الذي يخشى أن يعود مكبلا بالأغلال مخفورا، أو باردا كالمرمر على محفة ملطخة بالدماء.
وفتح الباب فجأة. كانت «لامسكواتا»، في حالة من الاضطراب الشديد. ورنت قضبان الباب على الأرض. وهبت دفقة هواء كادت أن تطفئ الشمعة. - اعذراني لمقاطعتكما ودخولي فجأة هكذا. لقد قبضوا على «لوسيو» سمعت لتوي الأنباء من صديقة حين وصلتني هذه الورقة الصغيرة. إنه في السجن. إن ذلك من فعل «خينارو روداس». يا له من رجل! لقد كنت أشعر بالقلق طوال المساء. كل دقيقة كان قلبي يدق: بوم بوم بوم بوم بوم. لقد ذهب ذلك الشخص وقال لهم إنك أنت ولوسيو خطفتما السيدة الصغيرة من منزلها.
ولم يستطع المحبوب أن يفعل أي شيء لتدارك الكارثة. لم يحتج الأمر إلا إلى كلمات قليلة حتى يقع الانفجار. لقد أطيح به وبكميلة وبقصة حبهما ذات الحظ العاثر في ثانية واحدة، بل في أقل من الثانية بسبب حديث صاحبة الحانة الصريح عن اختطافهم لكميلة. وحين بدأ ذو الوجه الملائكي يحيط إدراكا بالموقف، كانت كميلة ترقد وهي تدفن وجهها في الفراش تبكي بلا توقف، وكانت صاحبة الحانة لا تزال تصف عملية الاختطاف بالتفصيل، دون أن تدرك أي إدراك بأنها تقذف بعالم صغير كامل إلى هوة سحيقة، أما هو؛ فقد شعر كأنما يدفنونه حيا مفتوح العينين.
وبعد أن بكت كميلة وقتا، نهضت كمن يمشي في نومه وطلبت من صاحبة الحانة غطاء تخرج به.
وقالت وهي تلتفت إلى ذي الوجه الملائكي بعد أن ناولتها المرأة شالا: وإذا كنت سيدا مهذبا حقا، خذني من فضلك إلى منزل عمي «خوان».
ورغب المحبوب أن يقول ما لا يمكن قوله، عبارات لا يمكن أن تعبر عنها الشفاه، ولكنها تتراقص في عيون أولئك الذين أحبط القدر أعز آمالهم.
وتساءل بصوت أجش وبفعل ابتلاعه لعاب القلق: أين قبعتي؟
وعاد وقبعته في يده إلى داخل الغرفة ليرى مرة أخرى قبل الرحيل المكان الذي غرقت فيه آماله لتوه.
واعترض قائلا وهو على وشك الخروج : «ولكني أخشى أن يكون الوقت قد فات ...» - هذا يمكن أن يكون صحيحا لو أننا كنا ذاهبين إلى منزل أحد الغرباء، ولكنا ذاهبون إلى منزلي؛ ذلك أن منزل أي واحد من أعمامي هو منزلي.
وأوقفها ذو الوجه الملائكي من ذراعها برفق، وقال لها الحقيقة المؤلمة كأنما تخرج روحه من صدره: يجب عليك ألا تفكري في منزل عمك «خوان» بعد الآن، إنه لا يريد أن يسمع أي شيء عنك، أو عن الجنرال، فهو متبرئ منه كأخ. لقد قال لي ذلك اليوم. - ولكنك قلت الآن لتوك إنك لم ترهما، وإنك قد حددت موعدا للذهاب إليهما فحسب! ماذا أصدق؟ هل نسيت ما قلت لي منذ لحظة وها أنت تقول أشياء مريعة عن عمي؛ وذلك حتى تبقيني أسيرة هنا في هذا الخان وتمنع فراري! هل تقول إن عمي وعمتي لا يريدان أن يسمعا أي شيء عنا، وأنهما لا يريدان استقبالي في منزلهما؟ حسنا، لا بد أنك قد جننت. تعال معي هناك وسأثبت لك العكس! - إنني لم أجن. لا بد أن تصدقيني. إنني أضحي بحياتي حتى أحول دونك والتعرض للهوان، وإذا كنت قد كذبت عليك أولا فذلك لأنني - لا أعرف، أظن أنني كذبت رحمة بك، حتى أوفر عليك الآلام التي تشعرين بها الآن لأطول مدة ممكنة. وكنت أنوي الذهاب غدا مرة أخرى لأجدد محاولاتي، عارضا أسبابا أخرى، وأسترحمهما ألا يتركاك في الطريق، ولكن ذلك مستحيل الآن وأنت ستخرجين. إن هذا مستحيل الآن.
وكانت الطرقات المضاءة بالنور الساطع تبدو أكثر عزلة من أي وقت مضى. وتبعتهما صاحبة الحانة إلى الخارج وهي تحمل الشمعة التي كانت مضاءة أمام صورة العذراء، لتضيء لهما أول الطريق. وهبت الريح فأطفأتها، وبدت الشعلة الصغيرة وكأنها ترسم علامة الصليب قبل أن تموت.
الفصل الثامن عشر
طرقات على الباب
تام - ترام - رام! تام - ترام - رام!
سرى صوت الطرق على الباب إلى المنزل كانفجار المفرقعات، فأيقظ الكلب الذي بدأ على الفور في النباح باتجاه الطريق. كانت الضوضاء قد أحرقت منامه. واستدارت كميلة لتنظر إلى ذي الوجه الملائكي - كانت تشعر هنا على عتبة منزل عمها «خوان» بالأمان - وقالت له في زهو : «إنه ينبح لأنه لم يتعرف علي!» وصاحت بالكلاب: «روبي، روبي!» ولكنه استمر في نباحه «روبي، روبي! إنه أنا، ألا تعرفني يا روبي؟ اذهب وأحضرهم ليفتحوا لي الباب.» ثم قالت وهي تلتفت مرة أخرى إلى ذي الوجه الملائكي: علينا فحسب أن ننتظر لحظة. - أجل، أجل. لا تقلقي لذلك، سوف ننتظر.
كان يتحدث بكلمات متقطعة، كشخص فقد كل شيء وأصبح لا يبالي بأي شيء. - ربما لم يسمعوا، يجب أن نطرق الباب بصوت أعلى.
ورفعت مطرقة الباب إلى آخر مداها ثم تركتها تسقط عدة مرات. كانت مطرقة من النحاس على شكل راحة اليد. - لا بد أن الخدم نائمون، ورغم ذلك فقد كان لديهم متسع من الوقت لفتح الباب! كان والدي ينام بصعوبة، وهو على حق عندما كان يقول، بعد ليلة سيئة، آه لو كان بإمكاني فحسب أن أنام كما ينام الخدم!
كان نباح الكلب هو العلامة الوحيدة على الحياة في المنزل. كان نباحه يأتي أحيانا من الردهة، وأحيانا من الفناء. كان يهرع دون كلل هنا وهناك بينما ضربات المطرقة تنهال كالصخور على السكون المطبق الذي أخذ بخناق كميلة.
قالت دون أن تترك الباب: هذا غريب! لا شك أنهم نائمون، سوف أضرب بقوة أشد لأرى ما إذا كان ذلك يوقظهم.
تام - ترام - رام! تام - ترام - رام! - الآن سيحضرون. إنهم لم يسمعوا قبل ذلك بالتأكيد.
قال ذو الوجه الملائكي: يبدو أن الجيران هم الذين سيحضرون أولا!
ذلك أنهما رغم عدم تمكنهما من الرؤية وسط غبشة الظلام، قد سمعا صوت أبواب تفتح. - أرجو ألا يكون قد حدث شيء. - أوه كلا، اطرقي، اطرقي، لا تقلقي. - فلننتظر برهة لنرى إذا ما كانوا قادمين الآن.
وأخذت كميلة تعد في ذهنها لتقتل الوقت: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، سبعة، ثمانية، تسعة، عشرة، إحدى عشر، اثنا عشر، ثلاثة عشر، أربعة عشر، خمسة عشر، ستة عشر، سبعة عشر، ثمانية عشر، تسعة عشر، عشرون، واحد وعشرون، اثنان وعشرون، ثلاثة وعشرون، أربعة وعشرون، خمسة وعشرون ... - إنهم لن يأتوا! - ... ستة وعشرون، سبعة وعشرون، ثمانية وعشرون، تسعة وعشرون، ثلاثون، واحد وثلاثون، اثنان وثلاثون، ثلاثة وثلاثون، أربعة وثلاثون، خمسة وثلاثون ... كانت تشعر بالرعب من أن تصل إلى خمسين دون مجيب «... ستة وثلاثون، سبعة وثلاثون ... سبعة وثلاثون ... ثمانية وثلاثون.»
وفجأة، ودون أن تشعر بالسبب، أدركت أن ما قاله ذو الوجه الملائكي عن عمها «خوان» صحيح، وغلب عليها الحزن والرعب؛ فانطلقت تطرق الباب مرة وأخرى: تام - ترام - رام! إن هذا مستحيل. تام - ترام - رام! تامترا مرا متامترامرام - تامترامرام.
وكان الرد كسابقه: نباح الكلب المتواصل. أي ذنب جنته ولا تعرفه حتى لا يفتحوا لها الباب؟ وطرقت مرة أخرى. ووضعت أملا جديدا مع كل طرقة للمطرقة. ماذا سيكون مصيرها لو أنهم تركوها في الشارع؟ إن مجرد هذه الفكرة تجعل قواها تخور. وطرقت وطرقت. طرقت بعنف، كما لو كانت تطرق فوق رأس أعدى أعدائها. كانت تشعر بساقيها ثقيلتين، وطعم المرارة في فمها، وجفاف في لسانها، بينما اصطكت أسنانها من الخوف.
وسمع صرير نافذة تفتح فظنت أنها سمعت أصواتا. وعادت الحياة إلى جسمها كله. إنهم قادمون أخيرا، حمدالله. إنها ستكون سعيدة أن تترك هذا الرجل الذي تتوهج عيناه بنيران شيطانية كعيني القط - هذا الشخص الذي تشعر بالنفور منه رغم جماله الملائكي. وخلال هذه البرهة القصيرة، احتك عالم المنزل بعالم الطريق، الذي يفصل بينهما باب البيت، كأنهما نجمان يحترقان.
إن وجود بيت يسمح للمرء بتناول طعامه في خلوة، والطعام الذي يؤكل في خلوة لذيذ الطعم، ويعلم الإنسان الحكمة، بيت يتمتع بأمان لاستمرار القبول الاجتماعي. إنه مثل صورة العائلة، وفيها يرتدي الأب أفضل أربطة عنقه، وتعرض الأم أغلى جواهرها، شعر الأطفال ممشط جيدا بماء الكولونيا الحقيقي. أما الطريق فمن الناحية الأخرى، فهو عالم غير مستقر، خطر، مليء بالمغامرات، زائف كالمرآة، وهو المغسلة العامة لجميع ملابس الحي القذرة.
كم من مرات عديدة لعبت على هذه العتبة وهي طفلة! كم من مرة أيضا، بينما كان والدها وعمها «خوان» يتحادثان في شئونهما قبل الانصراف، تلهت هي بالنظر من مكانها إلى أفاريز أسطح البيوت المجاورة، مستعرضة على السماء الزرقاء كأنها أعمدة فقرية مغطاة بالقشور. - ألم تسمعهم وقد ظهروا من تلك النافذة؟ أليس ذلك صحيحا؟ وأنهم لا يفتحون الباب ... أو أننا قد أخطأنا المنزل ... سيكون هذا غريبا!
وتركت المطرقة ونزلت من على الإفريز لترى واجهة المنزل. كلا، لم يخطئا المنزل. إنه منزل عمها «خوان». كانت ثمة لوحة نحاسية على الباب مكتوب عليها: «خوان كاناليس، مهندس معماري». وتغضن وجهها كالطفلة الصغيرة ثم انفجرت باكية. وجرت دموعها على خديها كالجياد العاديات، وفجرت معها من بين ثنايا الذهن الداخلية تلك الفكرة السوداء بأن ذا الوجه الملائكي قد صدق القول حين خرجا من حانة «الخطوتان». ولم تكن راغبة في تصديق ذلك حتى ولو كان صحيحا.
وكانت الشوارع مغلفة بالضباب، ضباب يعبق بالخضرة الناضرة ويزخرف المنازل بلون أخضر شاحب. - تعال معي من فضلك لرؤية أعمامي الآخرين. سنذهب أولا لعمي «لويس»، إذا سمحت. - كل ما تأمرين به، إذن هيا بنا ... إنهم لا يريدونني هنا.
وكانت الدموع تهطل من عينيها كالمطر.
وانطلقا. ومع كل خطوة كانت تلتفت وراءها - فلم يكن بمستطاعها أن تقطع الأمل في أن يفتحوا لها الباب في آخر لحظة. وسار ذو الوجه الملائكي في صمت كئيب. إنه سيذهب لمقابلة السيد «خوان كاناليس» مرة أخرى، فمن غير الممكن التغاضي عن مثل هذا السلوك. كان نباح الكلب لا يزال يسمع، وينحسر عن الآذان مع كل خطوة. وسرعان ما غاب هذا العزاء الأخير، ذلك أن الكلب هو الآخر لم يعد يسمع له صوت. وأمام دار سك النقود، صادفا ساعي بريد مخمورا، يلقي بالخطابات في الطريق وهو يسير كالماشي في نومه. كان لا يكاد يقوى على الوقوف. وكان بين آونة وأخر يرفع ذراعيه في الهواء وينفجر في القوقأة كالدجاجة؛ إذ يناضل كيما يخلص أزرار سترته الرسمية من سيل اللعاب الذي كان يطفو من فمه. وأخذت كميلة وذو الوجه الملائكي، مدفوعين بنفس الفكرة، في التقاط الخطابات ودسها في حقيبة الرجل المخمور، محذرينه من عدم إلقائها مرة أخرى.
وتمتم الرجل في عناية وهو يستند إلى جدار دار السك: شك ... را لكما، شك ... را جز ... يلا!
وحين عادت جميع الخطابات إلى حقيبته، وابتعدت كميلة وذو الوجه الملائكي عنه، سار مرة أخرى، يغني:
للصعود إلى السماء،
يحتاج الأمر،
سلما طويلا،
وآخر قصيرا!
ثم بدأ ينشد أغنية أخرى، بين الغناء والكلام:
اصعدي اصعدي،
إلى السماء أيتها العذراء،
اصعدي اصعدي،
ستصعدين إلى مملكتك! - «حين يعطي القديس «خوان» الإشارة، لن أكون أنا، غو ... غو ... غورسيندو سولاريس! ساعي بريد بعد ذلك، لن أكون ساعي بريد بعد ذلك، لن أكون ساعي بريد بعد ذلك!» ثم ينشد:
حين أموت من يواريني الثرى،
غير الأخوات،
راهبات الدير! - «أوه، اللعنة، إنك لا نفع فيك، لا نفع فيك، لا نفع فيك!»
وابتعد مترنحا وسط الضباب. كان رجلا ضئيل الحجم، ذا رأس كبير.
وكانت سترته الرسمية كبيرة عليه، بينما غطاء رأسه صغير عليها. •••
وفي تلك الأثناء، كان السيد «خوان كاناليس» يبذل قصارى جهده للاتصال بأخيه «خوسيه أنطونيو». كان سنترال الهاتف لا يرد، وبدأ يشعر بالدوار من جلبة السماعة. وأخيرا أجاب عليه صوت كأنه آت من وراء القبر. وطلب أن يتحدث إلى منزل السيد «خوسيه أنطونيو كاناليس»، وبعكس توقعاته، سمع على الفور صوت أخيه الأكبر آتيا عبر الخط الهاتفي. - أجل، أجل. أنا خوان ... حسبت أنك لم تعرف صوتي ... حسنا، اسمع ... البنت وذلك الشخص، أجل، طبعا طبعا، بالتأكيد ... أجل، أجل ... ماذا تقول؟ كلا! لم نسمح لهما بالدخول. تصور! ولا شك أنهما ذهبا مباشرة من هنا إلى منزلك ... ماذا؟ ما هذا؟ كما توقعت تماما. إننا كنا نرتجف رعبا إلى أن رحلا. نفس الشيء معك؟ إن صحة زوجتك لا تحتمل أي إزعاج، وقد أرادت زوجتي أن تفتح الباب، ولكني لم أدعها تفعل ذلك. طبعا طبعا! هذا واضح. أجل، وأيقظا الحي كله! أجل، فعلا. وكان الأمر أسوأ هنا. لا بد أنهما كانا غاضبين. وأظن أنهما ذهبا بعدك إلى «لويس» كلا؟ أوه، حسنا، سوف يذهبان ...
وفاجأهما الفجر، منبجسا في البداية في شحوب طفيف، متوهجا بسرعة بعد ذلك إلى لون ليموني داكن، ثم برتقالي، ثم إلى احمرار النار المضرمة لتوها ممزوجة باصفرار الشعلات الأولى الجهماء، بعد أن كانا عائدين من الدق بلا فائدة على باب منزل السيد «خوسيه أنطونيو».
وكانت كميلة تردد عند كل خطوة: «سوف أتصرف على نحو ما!»
كانت أسنانها تصطك من البرد. وتطلعت عيناها الكبيرتان الدامعتان إلى الفجر في مرارة لا واعية. كانت تسير على غير هدى كشخص يتتبعه القدر، لا تشعر بما تفعل.
وكانت الأطيار ترحب بالفجر في الحدائق العامة وفي حدائق الأفنية الصغيرة وتصاعد «كونشرتو» سماوي من الأنغام الموسيقية في سماء الصباح الزرقاء بينما تفتحت الورود، وترددت الأجراس الصادحة تقول للرب صباح الخير، مع الضربات الخفيفة لسواطير الجزارين وهم يقطعون اللحم في حوانيتهم، وامتزجت ألحان الديكة وهي تحسب الوقت برفرفة أجنحتها، مع أصوات أرغفة الخبز وهي تسقط بخفة في السلال في المخابز، وأصوات ساهري الليل ووقع أقدامهم مع ضوضاء باب تفتحه عجوز ضئيلة الحجم متوجهة لحضور القداس، أو خادمة تهرع لشراء الخبز لسيدها الذي يجب أن يلحق بالقطار في الصباح الباكر.
كان الفجر يطلع.
وكانت النسور تتشاجر فيما بينها على الأشجار، وتتنازع بمناقيرها على جيفة قطة. وكانت الكلاب تجري لاهثة وراء الكلبات، وقد توهجت عيونها وتدلت ألسنتها. ومر كلب يعرج، ذيله بين قدميه الخلفيتين، والتقت ليلقي نظرة حزينة خائفة وراءه، وقد أبان عن أسنانه. وخلفت الكلاب وراءها شلالات من المياه على الجدران والأبواب.
وكان الفجر يطلع.
وكانت جماعات الهنود الذين يكنسون الطرقات الرئيسية خلال الليل عائدين إلى بيوتهم واحدا بعد الآخر، كأنهم أشباح ترتدي الثياب الصوفية الخشنة، يضحكون ويتحادثون بلغة بدت كأغنية زيز الحصاد
1
في صمت الصباح. وكانوا يحملون مقشاتهم تحت أذرعتهم كأنها الشماسي. أسنان بيضاء كمسحوق اللوز في وجوه نحاسية. أقدام عارية. أسمال. وأحيانا كان أحدهم يتوقف عند حافة الطوار ويتمخط بأن ينحني إلى الأمام ويعصر أنفه ما بين الإبهام والسبابة وخلعوا جميعا قبعاتهم عندما مروا على باب الكنيسة.
كان الفجر يطلع!
أشجار الصنوبر التي لا يصل إليها أحد، كأستار العنكبوت الخضراء المنصوبة كيما تصطاد النجوم المذنبة. جمهرة متوجهة إلى القداس المبكر . صفارة قاطرات قصية. •••
وابتهجت «لامسكواتا» لرؤيتهما عائدين مرة أخرى. لم تكن قد استطاعت أن تغمض جفنها طوال الليل من شدة القلق، وكانت على وشك الخروج متوجهة إلى السجن تحمل الإفطار «للوسيو فاسكيز».
وودع ذو الوجه الملائكي «كميلة» التي كانت تبكي مصيبتها التي لا يصدقها عقل. - سوف أعود قريبا.
قال لها ذلك دون أن يعرف السبب، فلم يكن هناك من شيء يفعله بعد ذلك. - وعند خروجه، أحس لأول مرة منذ موت أمه بعينيه مليئتين بالدموع.
الفصل التاسع عشر
الحسابات والشيكولاتة
فرغ المدعي العسكري العام من التهام قدح الشيكولاتة بالأرز، بعد أن أمال القدح مرتين كيما يفرغه حتى الثمالة، ثم مسح شاربه الأشهب بردن قميصه، واقترب من المصباح ينظر في القدح على ضوئه ليرى ما إذا كان قد فرغ حقا. لم يكن سهلا تبين ما إذا كان هذا الحقوقي، بعد أن خلع عنه بنيقة قميصه المنشأة، رجلا أم امرأة؛ إذ هو يجلس وسط أوراقه الرسمية وكتب القانون المتسخة، صامتا قبيحا، قصير النظر، شرها، مثله مثل شجرة قوامها الأوراق الرسمية المختومة - شجرة تستمد غذاءها من جميع الطبقات الاجتماعية انتهاء بأدناها وأشدها فقرا. وحين انتزع عينيه من قدح الشيكولاتة، الذي فحصه بإصبعه ليرى ما إذا كان قد ترك فيه شيئا، رأى الخادمة تدخل من باب حجرة مكتبه الوحيد، وهي عجوز ذات مظهر طيفي تجر قدميها في بطء الواحدة بعد الأخرى، كأنما حذاؤها أكبر من قدمها. - «لا تقل لي إنك قد احتسيت قدح الشيكولاتة بالفعل؟» - أجل، وليباركك الله عليه، كم كان لذيذا! إني أحب دائما أن أحس بآخر قطرات فيه تنساب في حلقي.
فقالت الخادمة وهي تفتش وسط الكتب التي تلقي ظلالها على المائدة: وأين وضعت القدح؟ - هناك، ألا ترينه؟ - على فكرة، أرجو أن تلقي نظرة على تلك الأدراج المليئة بالأوراق الرسمية المختومة. غدا إن شئت سأذهب إلى السوق وأرى إذا ما كان بإمكاني بيعها. - حسنا، ولكن حاذري أن يعرف أحد ذلك. إن الناس أشرار. - إني لست بلهاء. هناك ما لا يقل عن أربعمائة ورقة ، مضروبة في 25 مليما، ومائتين أخريين في 50 مليما. لقد قمت بإحصائها هذا الأصيل بينما كانت المكواة تسخن على النار.
وقطع كلامها دق شديد على الباب الخارجي. وهمهم المدعي العام: يا لها من طريقة لدق الباب! هؤلاء الحمقى! - أجل. إنهم يقرعون الباب دائما هكذا. من يكون هذه المرة؟ إنني دائما أسمعهم حين أكون في المطبخ.
ونطقت هذه العبارة الأخيرة؛ إذ كانت تتجه بالفعل لترى من بالباب. كانت هذه المخلوقة المسكينة تبدو كالمظلة برأسها الصغير وتنورتها الطويلة الماحلة.
وصاح بها المدعي العام: إنني لست بالبيت. انتظري لحظة، من الأفضل أن تنظري من النافذة ...
وبعد عدة لحظات عادت المرأة، وهي لا تزال تجر قدميها، وناولته خطابا. - إنهم بانتظار الرد.
وفتح المدعي العام المظروف في حدة، وتطلع إلى البطاقة الصغيرة التي كانت بداخله، ثم قال في لهجة أرق: قولي إنني قد تلقيت المذكرة.
وذهبت تجرجر قدميها لتقول ذلك للصبي الذي أحضر الخطاب، وبعد ذلك أغلقت النافذة بإحكام.
ولم تعد إلا بعد وقت، فقد كانت تتأكد من إغلاق جميع الأبواب. ولم تكن قد أزاحت بعد قدح الشيكولاتة.
وفي تلك الأثناء، كان سيدها يسترخي في المقعد الوثير، يعيد بعناية قراءة البطاقة الصغيرة التي تلقاها لتوه، حتى آخر نقطة فيها. كانت البطاقة مرسلة من أحد زملائه يقدم له فيها عرضا.
كتب المحامي «فيدالتاس» في بطاقته: «إن كونسبسيون ذات السن الذهبية، وهي صديقة للسيد الرئيس وصاحبة محل دعارة مشهور، قد زارتني هذا الصباح في مكتبي لتخبرني أنها قد شاهدت سيدة فتية جميلة في سجن «كاسانويفا»، وهي تعتقد أنها مناسبة للعمل في محلها. وهي تعرض عشرة آلاف بيزو ثمنا لها. ولما كنت أعلم أن السجينة محتجزة بناء على أوامر منكم، فإني أكتب إليكم أسألكم ما إذا كان مناسبا لكم أن تقبلوا هذا المبلغ الصغير وتسلموا المرأة إلى عميلتي: إذا لم تكن في حاجة إلى شيء آخر، فسآوي إلى فراشي.» - كلا، لا شيء، طبت مساء. - طبت مساء. فلتسترح الأرواح في المطهر في سلام.
وفي حين ذهبت الخادمة تجر قدميها، كان المدعي العسكري العام يحسب المبلغ الذي سيحصل عليه من العملية المقترحة، رقما رقما، واحد، وإلى يمينه صفر، وصفر آخر، وصفر آخر، وصفر رابع، عشرة آلاف بيزو!
وعادت الخادمة العجوز: نسيت أن أخبرك أن الأب قد أرسل يخطرك أن القداس سيقام غدا مبكرا عن الموعد المعتاد. - آه صحيح، غدا السبت! أوقظيني حالما تبدأ الأجراس في القرع. ذلك أنني لم أنم في الليلة الماضية وربما لا أستيقظ في الميعاد. - حسنا جدا، سوف أوقظك.
وبعد أن قالت ذلك، خرجت ببطء وهي تجر قدميها. غير أنها سرعان ما عادت. كانت قد بدأت في خلع ملابسها بالفعل حين تذكرت. قالت لنفسها: لحسن الحظ أنني تذكرت. وجاهدت في لبس حذائها مرة أخرى. «آه لو كنت قد نسيت ...» وانتهت إلى قولها «حمدا لله أنني قد تذكرت»، مصحوبة بتنهيدة عميقة. وكان كل ذلك الذي جعلها تنهض مرة أخرى من فراشها هو عدم استطاعتها ترك وعاء قذر بحجرة المكتب دون أخذه وغسله.
ولم يشعر المدعي العسكري العام بدخول وخروج العجوز مرة أخرى؛ إذ كان غارقا في قراءة آخر أعماله الجليلة: قضية هروب الجنرال «إيوسبيو كاناليس». كان هناك أربعة متهمين رئيسيين: «فيدينا دي روداس» و«خينارو روداس»، و«لوسيو فاسكيز» و... وبلل لسانه بشفتيه؛ إذ كان لديه حساب يريد تصفيته مع الشخص الأخير: ميغيل ذو الوجه الملائكي. وجال في خاطره أن اختطاف ابنة الجنرال هو كالسحابة السوداء التي يطلقها «الجبار»
1
حين تهاجمه الحيوانات الأخرى - مجرد حيلة لخداع السلطات الساهرة على الأمور. لقد أثبتت رواية «فيدينا روداس» ذلك إثباتا جازما. كان المنزل خاليا حين وصلت إلى هناك تبحث عن الجنرال في السادسة صباحا. وكانت روايتها قد وقعت موقعا صادقا لديه منذ البداية، بيد أنه قد حمل عليها كيما يطمئن قلبه: ذلك أن ما قالته يدين ذا الوجه الملائكي إدانة قاطعة. كان المنزل خاليا بالفعل في الساعة السادسة، وبما أنه يظهر من المعلومات التي أعطتها الشرطة أن الجنرال وصل إلى منزله في منتصف الليل تماما، وبناء عليه يكون قد هرب في الساعة الثانية صباحا بينما كان ذو الوجه الملائكي يتظاهر بأنه يختطف ابنته.
كم ستكون صدمة السيد الرئيس حين يكتشف أن صفيه الحميم قد رتب أمر هروب أعدى أعدائه وأشرف على ذلك الهرب! ماذا يا ترى سيفعل حين يعرف أن صديق الكولونيل «باراليس سونرينتي» الصدوق مشترك في هروب أحد قتلته؟
وعمد إلى قراءة مواد القانون العسكري، وإعادة قراءتها، رغم أنه يحفظها عن ظهر قلب، فيما يختص بالشركاء في الجريمة. ولمعت عيناه الحربائيتين بالسرور إذ وجدتا في كل سطر من هذا المجلد القانوني العبارة المقتضبة التالية: «عقوبة الإعدام» أو مرادفها «عقوبة الموت». - «آه يا سيد ميغلين ميغيليتو، ها أنت الآن في قبضتي، وطوال الوقت الذي أريد! حين أهنتني ليلة أمس في القصر الجمهوري لم أكن أتصور أننا سوف نلتقي مرة أخرى سريعا هكذا! وأني أعدك بأن دائرة انتقامي سيكون لها آلاف الدورات!»
وبتلك الأفكار المضطرمة بالرغبة في الانتقام، وبقلبه وقد قد من الصلب البارد، صعد درجات القصر الجمهوري في الساعة الحادية عشرة من صباح اليوم التالي. وكان يحمل معه عريضة الاتهام وإذنا بالقبض على ذي الوجه الملائكي.
وقال الرئيس له بعد أن عرض الوقائع عليه: «اسمع أيها السيد المدعي العام، دع هنا عريضة الاتهام هذه، وأنصت إلى ما سأقوله لك: لا السيدة «دي روداس» و«ميغيل» مذنبان، أصدر أوامرك بالإفراج عن تلك السيدة وألق بأمر القبض على ميغيل في سلة المهملات. إن المذنبين هم أنتم، أيها الحمقى، لمن ولاؤكم وخدماتكم ...؟ أي نفع فيكم ...؟ لا شيء! كان على الشرطة أن تنهي حياة الجنرال «كاناليس» عند أقل بادرة منه للهرب. كانت الأوامر هكذا! ولكن الذي حدث هو أنه لم يكن في إمكان الشرطة رؤية باب مفتوح دون أن تأكلها يدها للسرقة والنهب! إنك تقول: إن ذا الوجه الملائكي قد لعب دورا في هروب الجنرال «كاناليس». إنه لم يكن يدبر لهربه، وإنما لموته. بيد أن رجال الشرطة ما هم إلا حمقى رسميون ... لك أن تنصرف. أما بالنسبة إلى الرجلين المتهمين الآخرين فاسكيز وروداس، فأوقع بهما ما يستحقان من عقاب، فهما أفاقان، خاصة فاسكيز، الذي يعلم عن الأمر أكثر مما هو مسموح له. لك أن تنصرف.»
الفصل العشرون
ذئاب من نفس النوع
لم تكف جميع الدموع التي سحها «خينارو روداس» لمحو التعبير الذي بدا في عيني الأبله وهو يحتضر، من ذاكرته، وها هو يقف الآن أمام المدعي العسكري العام مطأطئ الرأس، وقد انطفأت فيه آخر ذبالة من الشجاعة من جراء ما حل بأسرته من مصائب، ومن جراء حالة القنوط التي تبسط ظلها على من يفقد حريته حتى لو كان أشجع الشجعان. وأصدر المدعي العام أوامره بفك قيوده، وقال له أن يقترب، بلهجة من يخاطب خادما.
وقال له بعد صمت طويل كاد يكون اتهاما: يا ولدي، إني أعرف كل شيء، وما أسألك إلا لكي أسمع من شفتيك كيف مات ذلك الشخاذ في «رواق الرب».
فسارع «خينارو» يقول: ما حدث ... ثم توقف كأنما هو خائف مما سيقوله. - أجل، ماذا حدث يا ولدي؟ - آه يا سيدي، بحق الإله لا تمسني بسوء، بحق الرحمة يا سيدي! - لا تخف يا ولدي. إن القانون قد يعامل المجرمين الأشرار بقسوة، ولكن ليس ولدا طيبا مثلك. لا تقلق وقل لي الحق. - أوه، إني أخاف أن تنزلوا بي سوءا.
وكان يتلوى بطريقة مسترحمة وهو يتكلم، كأنما يدافع عن نفسه من خطر يطوف في الهواء من حوله.
كلا، كلا، هيا الآن. - ما حدث؟ كانت تلك الليلة - أنت تعرفها - الليلة التي رتبت فيها مقابلة «لوسيو فاسكيز» عند الكتدرائية وتوجهت إلى هناك عن طريق الحي الصيني. كنت يا سيدي أبحث عن عمل وكان لوسيو قد أخبرني أن بوسعه الحصول على وظيفة في الشرطة السرية. تقابلنا كما قلت، وكانت التحية والسلام والسؤال عن الأحوال، ثم طلب مني ذلك الرجل أن نتناول كأسا في بار يقع على مبعدة خطوات وراء «ميدان السلاح» اسمه «صحوة الأسد». ولكن الكأس أصبح اثنين وثلاثة وأربعة وخمسة، وباختصار ...
فوافق المدعي العام قائلا وهو يلتفت ناحية الكاتب ذي الوجه المليء بالنمش الذي كان يكتب أقوال المتهم: أجل، أجل ، باختصار. - حسنا إذن، كما ترى، ظهر أنه لم يتمكن من الحصول على تلك الوظيفة في الشرطة. فقلت له إن هذا لا يهم. ثم، آه، أجل أني أذكر، لقد دفع هو ثمن المشروبات. وبعد ذلك، خرجنا نحن الاثنين مرة أخرى إلى «رواق الرب» حيث كان على لوسيو نوبة الحراسة هناك، كما أخبرني، إذ كان عليه أن يبحث عن رجل أخرس مصاب بالسعار ويجب قتله. وعلى هذا قلت له: «سأعود إلى منزلي». وحين وصلت إلى الرواق، كنت وراءه بخطوات. وعبر الطريق ببطء، بيد أنه حين وصل إلى مدخل الرواق، رأيته يخرج ثانية جاريا. وخرجت خلفه، معتقدا أن ثمة شخصا يطاردنا. وأمسك فاسكيز بشيء إلى جوار الحائط - كان هو ذلك الأخرس، الذي أخذ في الصراخ كأنما الحائط قد سقط على أم رأسه حين شعر بوقوعه في الأسر. ثم جذب فاسكيز مسدسه ولم ينطق بكلمة بل أطلق عليه النار، ومرة أخرى. آه، كلا يا سيدي، لم أكن أنا الذي قتلته، لا تمسوني بسوء، إني لم أقتله. كنت أبحث فحسب عن وظيفة يا سيدي، فهل ترى ما حدث من جراء ذلك؟ كان من الأفضل لي أن أبقى نجارا، ماذا حدث لي كيما أود أن أصبح رجل شرطة.
ومرة أخرى، وقعت نظرات المدعي العام الباردة على عيني روداس. ثم ضغط على جرس أمامه، صامتا ودون أن يغير التعبير المرتسم على وجهه. وسمع صوت وقع أقدام، وظهر عند الباب عدة حراس يتقدمهم رئيسهم. - أيها الرئيس، يجلد هذا الرجل مائتي جلدة.
ولم يتغير صوت المدعي العام أدنى تغيير حين كان يصدر أمره بذلك، كما لو كان مدير أحد البنوك يصدر تعليماته بصرف مائتي بيزو إلى أحد العملاء.
ولم يفهم «روداس» شيئا. ورفع رأسه وتطلع إلى الزبانية الحفاة الذين كانوا في انتظاره. وزادت حيرته حين رأى وجوههم الهادئة الجامدة الخالية من أي تعبير عن الدهشة. وحول الكاتب وجهه المليء بالنمش وعينيه الجامدتين نحوه. وقال رئيس الحراس شيئا للمدعي العام. وقال المدعي العام شيئا لرئيس الحراس. لم يسمع كلامهما، ولم يفهم ما كان يجري حوله. ولكنه شعر وكأنه على وشك أن يتبرز في ملابسه حين صرخ رئيس الحراس فيه بأن يذهب إلى الحجرة المجاورة، وهي صالة طويلة ذات سقف مقبب، وأعطاه لكزة وحشية في صدره حين وصل إلى متناول يده.
وحين دخل السجين الآخر، «لوسيو فاسكيز»، الحجرة، كان المدعي العام لا يزال يتفجر سخطا على روداس: لا فائدة من معاملة هذا النوع معاملة حسنة! إن ما يحتاجون إليه هو العصا، ثم العصا.
ورغم أن فاسكيز قد شعر أنه في وسط أهله، إلا أنه لم يكن يثق فيهم بأي حال، خاصة حين سمع ملاحظة المدعي العام. إن وجود أية علاقة له بهروب الجنرال كاناليس، حتى ولو ضد رغبته، تهمة خطيرة للغاية، ويا لشد ما كان حمقه! - اسمك؟ - لوسيو فاسكيز. - هل ولدت هنا؟ - هنا. - في السجن؟ - كلا، طبعا لا. في العاصمة. - متزوج أم أعزب؟ - أعزب طول عمري.
أجب عن الأسئلة بلياقة! المهمة أو الوظيفة؟ - موظف حكومي. - هل اعتقلت؟ - أجل. - بأي تهمة. - القتل أثناء الخدمة. - سنك؟ - ليس لي سن. - ماذا تعني بألا سن لك؟ - لا أعرف كم سني، ولكن أكتب خمسا وثلاثين إذا كان لا بد وأن تكون لي سن! - ماذا تعرف عن مقتل الأبله؟
وجه المدعي العسكري العام ذلك السؤال إلى السجين في الصميم وهو يتطلع إلى عينيه مباشرة؛ بيد أن كلماته، على عكس ما كان يتوقع، لم تخلق أي تأثير على معنويات فاسكيز، الذي رد بصورة طبيعية وهو يكاد يحس بالرضا الكامل: «إن ما أعرف عن مقتل الأبله هو أنني قتلته بنفسي.» ثم كرر ما قاله مشيرا بيده إلى صدره حتى لا يبقى هناك أي شك في الأمر: «أنا قتلته!»
وزأر المدعي العام قائلا: وهل تأخذ هذا الأمر هكذا على محمل المزاح، أو أنك من الجهل بحيث لا تدرك أن هذا قد يكلفك حياتك؟ - ربما ... - ماذا تعني بربما؟
ومرت برهة على المدعي العام لم يعرف خلالها ماذا يفعل؛ فقد أحس بالارتباك من الهدوء الذي يتملك فاسكيز، ومن صوته المشابه لصوت الجيتار ، وعينيه الحادتين. واتجه إلى الكاتب كيما يكسب وقتا. - اكتب ... وأضاف في صوت مرتعد: اكتب أن لوسيو فاسكيز يقرر أنه قتل الأبله، بالاشتراك مع خينارو روداس.
فتمتم الكاتب من بين أسنانه: لقد كتبت ذلك بالفعل.
فقال فاسكيز بهدوء، برنة صوت فيها شيء من المزاح جعل المدعي العام يعض شفتيه: إني أرى أن الأستاذ لا يعرف الكثير عن هذا الأمر. ماذا يعني ذلك القرار؟ إن أي شخص بإمكانه أن يرى أنني لم ألوث يدي من أجل أبله سائل اللعاب ... - احترم المحكمة، وإلا سأكسر دماغك! - إن ما أقول في صميم الموضوع. أقول لك إنني لست من الحماقة بحيث أقتل ذلك الأبله لمجرد القتل؛ ذلك أنني فعلت ما فعلت بناء على أوامر صريحة من السيد الرئيس. - اخرس أيها الكاذب ... ها ... ستكون مهمتنا سهلة إذا ...
ولم يكمل عبارته؛ لأن حراس السجن دخلوا في تلك اللحظة يجرون «روداس» وقد تدلت ذراعاه، وقدماه تكنسان الأرض، كالخرقة، أو كوشاح مصارع الثيران.
وسأل المدعي العام الرئيس الذي كان يبتسم للكاتب وسوطه معلق حول عنقه كذيل القرد: كم أعطيتموه؟ - مائتين. - حسنا ...
وأسرع الكاتب إلى نجدة المدعي العام، فتمتم وهو يدمج الكلمات في بعضها حتى لا يسمعه الآخرون: يجب إعطاؤه مائتين أخريين.
وعمل المدعي العام بنصيحته: «أجل أيها الريس، أعطه مائتين أخريين إلى أن أفرغ من هذا الولد.»
وجال في خاطر فاسكيز: «يا لأعصابه ... أجل إن هذا ما هو منتظر من شيخ مثله، وجهه كمقعد الدراجة!»
وعاد الحراس أدراجهم يجرون حملهم البائس يتبعهم رئيسهم. وألقوا به على حشية في ركن الحجرة حيث ينفذون العقوبة. وأمسك أربعة منهم بيديه وقدميه، بينما أخذ الآخرون يضربونه، ورئيسهم يحسب العدد. وتقلص جسد روداس مع الضربات الأولى، بيد أنه كان قد فقد قواه الآن ولم يعد يستطيع الجهاد ولا الصراخ من الألم كما فعل حين ضربوه في المرة الأولى منذ دقائق. وعلقت قطرات جامدة من دماء الجروح التي خلفتها دورة الضرب الأولى، بعصا الخيزران الرطيبة المرنة ذات اللون الأصفر المخضوضر. وكانت آخر شكواه صرخات مخنوقة كالحيوان الذي يحتضر دون أن يحس بآلامه. ودفن وجهه في الحشية وقد تقلصت قسماته وتهوش شعره. واختلطت صرخاته الثاقبة مع لهثات الحراس الذين كان رئيسهم يعاقبهم بسوطه كلما تهاونوا في الضرب. - «إن مهمتنا تكون سهلة يا لوسيو فاسكيز إذا أطلقنا سراح أي مواطن يرتكب جريمة حين يؤكد بأنها بأوامر من السيد الرئيس! ما هو البرهان؟ إن السيد الرئيس ليس مجنونا كيما يصدر أمرا كهذا. أين هي الورقة التي يذكر فيها أنه أمرك بفعل ما فعلت ضد هذا البائس بمثل هذه الطريقة المجرمة الجبانة؟»
وشحب وجه فاسكيز، وبينما كان يبحث عن رد، وضع يديه المرتعشتين في جيبي بنطاله. - إنك تعلم أنه أمام المحاكم يجب أن تدعم أقوالك بالوثائق، وإلا فماذا يكون الوضع؟ أين هو ذلك الأمر؟ - حسنا، انظر، إنه ليس معي الآن. لقد أعدته لا بد أن يكون السيد الرئيس على علم بذلك.
ما هذا؟ ولماذا أعدته؟ - لأن الأمر كان مذيلا بعبارة تنص على أنه يجب إعادته بعد التنفيذ! لم يكن مسموحا لي بالاحتفاظ به ... أظن أنك تفهم. - ولا كلمة ... ولا كلمة زيادة! إنك تحاول خداعي بكلامك عن الرئيس. أيها اللص، إني لست طفلا لا أزال في المدرسة حتى أصدق كلاما فارغا كهذا أيها الوغد! إن إقرار المرء شيء، والدليل عليه شيء آخر، إلا في الحالات التي يحددها قانون العقوبات، ومنها شهادة رجال الشرطة التي تقوم مقام الدليل القاطع. ولكني لست بصدد إلقاء محاضرة عليك عن قانون العقوبات. هذا يكفي، يكفي؛ لقد قلت ما فيه الكفاية. - حسنا، إذا لم تكن تريد أن تصدقني، اذهب واسأله، ربما ستصدق ما يقوله لك. ربما لم أكن معك حين اتهم الشحاذون الأبله ... - اخرس، وإلا أمرت بضربك! يا للمهزلة إذ أتصور نفسي ذاهبا لسؤال السيد الرئيس! ... إن ما أقوله لك يا «فاسكيز» إنك تعلم عن الموضوع أكثر مما يحق لك، وإن رأسك في خطر!
وأحنى «لوسيو» رأسه كأنما قد قطعتها كلمات المدير العام. وكانت الرياح تزأر في غضب على نوافذ الحجرة.
الفصل الحادي والعشرون
حلقة مفرغة
جذب ذو الوجه الملائكي بنيقته وربطة عنقه عنه في عنف. وجال في خاطره أنه لا يوجد أسخف من التفسيرات الهينة التي يخترعها الناس لتبرير أفعال الناس الآخرين. أفعال الآخرين ... الآخرين. أحيانا لا يرقى انتقادهم إلى أكثر من الهمهمة اللاذعة. يخفون ما هو في صالح المرء ويغالون في وصف الباقي. يا لهم من حثالة! بيد أن الأمر مؤلم كمرور الفرشاة الخشنة على موطن الجرح. كما أن التأنيب المقنع، الذي يتنكر في صورة تعليق ودي عادي أو حتى تعليق يقصد به الإحسان، يمكن أن يكون جرحه أشد إيلاما، تماما كالفرشاة ذات الشعر الحاد المرهف. وحتى الخدم! فليذهب كل هؤلاء إلى الجحيم!
وفي جرة واحدة، انقطعت أزرار القميص كلها دفعة واحدة. لقد شقه بعنف من الأمام. كان الأمر كما لو كان قد شق صدره. كان خدمه يحكون له بتفصيل شديد ما يقول الناس عن قصة غرامه. إن الرجال الذين يترددون في الزواج خوفا من مشاركة امرأة لهم في بيتهم تقص عليهم - كالتلميذة المجتهدة يوم الامتحان - ما يقوله الناس عنهم، وكلها أشياء قبيحة، ينتهي بهم الأمر إلى سماع هذه الأشياء من فم خدمهم، كما حدث لذي الوجه الملائكي. وأسدل ستائر غرفته أخيرا دون أن يخلع عنه قميصه. كان في حاجة ماسة إلى النوم، أو على الأقل أن تبدو غرفته حاجزا بينه وبين النهار الطالع، وهو نهار لن يكون أقل سوءا من سابقه، كما قال في نفسه بمرارة. «النوم»، ردد ذو الوجه الملائكي هذه الكلمة إذ جلس على حافة سريره، يفك أزرار بنطاله، دون حذاء ولا جورب، وقميصه مفتوح. «أوه، يا لي من أحمق! إني لم أخلع سترتي بعد!»
وسار على عقبيه وقد قوس أصابع قدميه حتى يبعد راحة قدميه عن لمس أرض الحجرة الباردة، ونجح في تعليق سترته على ظهر المقعد، ثم عاد إلى فراشه قافزا بخفة على قدم واحدة كأنه طائر الكروان. ولكن ... «طاخ»! ... ويقع على الأرض وقد هزمته هذه الأرضية الباردة. ودارت ساقا بنطاله في الهواء كعقربي ساعة هائلة الحجم. وبدت الأرض مصنوعة من الثلج وليس من الإسمنت. يا للهول! ثلج ممزوج بملح. ثلج ممزوج بالدموع. وقفز إلى السرير كأنه يقفز من جبل ثلجي إلى طوق نجاة. كان يرى الفرار من كل ما حدث، وحين سقط على السرير تخيل أنه جزيرة، جزيرة بيضاء تحيط بها شبه ظلمة، وأحداث ساكنة مسحوقة. سوف ينسى، وينام، ويتوقف عن أن يكون موجودا. سوف يستريح من تجميع الأسباب وطرحها كأنما هي قطع في ماكينة من الماكينات. فلتذهب قواعد الصواب المتداولة إلى الجحيم بكل التواءاتها! من الأفضل بمراحل النوم المجافي للصواب، ذلك الخدر اللذيذ، ذو اللون الأزرق في البداية، والذي يكون أخضر ثم يتحول بعد ذلك إلى السواد، والذي يتقطر من العين إلى الكيان كله، خالعا الإثباط الكامل على المرء. آه، الرغبة! إن المرغوب فيه يكون محرزا وغير محرز في نفس الوقت. إنه مثل بلبل من ذهب تكون يدانا بأصابعهما العشرة مضمومة قفصا له. النوم الكامل المريح، الخالي من المضايقات، يدخل من مرايا العيون ويخرج من نوافذ الأنف، كان هذا هو ما يتوق إليه، نوم هنيء كنوم الأيام الخوالي.
وسرعان ما أحس أن النوم يهوم عاليا فوقه، فوق سطح بيته، في نور النهار الساطع، ذلك النهار الذي لا ينسى. وأدار وجهه. لا فائدة، واستدار على جانبه الأيسر حتى يهدئ من ضربات قلبه. ثم على جانبه الأيمن. لا فائدة. كانت ثمة مائة ساعة تفصل بينه وبين النوم الهنيء في تلك الأيام حين كان يأوي إلى فراشه خاليا من المشاغل العاطفية. واتهمته غريزته بأنه إنما يعاني من هذه العذابات لأنه لم يغتصب كميلة بالقوة. إن المرء يشعر أحيانا بالجانب المعتم للحياة يحوم قريبا منه إلى درجة يبدو الانتحار معها هو الوسيلة الوحيدة للهرب منه. وجال في خاطره: «سأتوقف عن أن أكون موجودا!» وارتعش في داخله. ولمس إحدى قدميه بالقدم الأخرى. كان يزعجه عدم وجود مسامير في الصليب الذي علق عليه. وجال في خاطره: ثمة شيء في مشية السكارى يذكر المرء بالمشنوقين. والمشنوقون يذكرون المرء بالسكارى، حين يرفسون بأقدامهم يتطوحون في الهواء . وأشارت غريزته إليه بأصبع الاتهام. عضو السكير. عضو المشنوق. وأنت، يا ذا الوجه الملائكي، لست أفضل منهما!
وجال في خاطره: الحيوان لا يخطئ في دفتر حساباته الجنسية. فنحن كأنما نبول أطفالا يأخذون طريقهم إلى المقبرة. ونفير يوم القيامة ... حسنا، لن يكون نفيرا. سيقوم مقص من الذهب بقطع هذا الخيط الأبدي من الأطفال. إننا نحن معشر الرجال نشبه أمعاء الخنزير التي يحشوها الخنزير الشيطاني باللحم المفروم كيما يصنع منها مقانق. وحين سيطرت على طبيعتي حتى أنقذ كميلة من رغبتي فيها، تركت ورائي جزءا مني خاليا، ولذلك فإني أشعر بنفسي خاويا، قلقا، غاضبا، مريضا، وحبيسا في الفخ. إن المرأة هي اللحم المفروم التي يملأ بها الرجل نفسه كأمعاء الخنزير حتى يكون راضيا. يا له من ابتذال!
والتصقت به الشراشف كأنها تنورات. تنورات مبللة بعرق لا يطاق.
لا بد أن «شجرة الليلة الحزينة» تشعر بالألم في أوراقها. «آه يا دماغي المسكين!» صوت صلصلة الأجراس السائلة، «بروغيز»، مدينة الموتى. شرائط لولبية من الحرير حول عنقه. «أبدا ...» ولكن ثمة فوتوغراف في مكان ما في الجوار. لم أسمعه أبدا. لم أعرف أنه يوجد. أول أنباء عنه. لديهم كلب في الفناء الخلفي للمنزل. لا بد أن هناك اثنين. ولكن هنا لديهم فوتوغراف. واحد فقط. ما بين نفير الفوتوغراف هنا، وكلاب الفناء الخلفي تصغي لصوت سيدها، يقع منزلي، رأسي، نفسي. الجيرة هي أن تكون قريبا وتكون بعيدا في نفس الوقت. هذا أسوأ ما في الجوار. ولكن بالنسبة إلى هذين الجارين، فلديهما عمل عليهما أن ينجزاه. إنهما يديران الفوتوغراف، ويتكلمان في حق الجميع. بوسعي أن أتصور ما يقولان عني. يا لهما من زوج من الحثالة العفنة. بوسعهما أن يقولا ما يشاءان عني، فأنا لا يهمني شيء. ولكن ... عنها هي! لو تأكدت أنهما قد قالا كلمة واحدة في حقها فسوف أجعلهما عضوين في «منظمة الشبيبة الحرة». لقد هددتهما مرارا بذلك ولكني أشعر اليوم أنني سأنفذ وعيدي حقا. سوف يملأ ذلك حياتهما بالمرارة. ولكن ربما لا أفعل ذلك، فهما لا يستحقان أصلا. إن بوسعي أن أسمعهما يقولان في كل الأنحاء: لقد خطف الفتاة المسكينة بعد منتصف الليل، وحملها إلى خان تملكه قوادة حيث اغتصبها هناك، بينما كانت الشرطة السرية تحرس الباب حتى لا يدخل عليهما أحد!
وسوف يتخيلان المشهد وأنا أخلع عنها ملابسها وأمزقها، وكميلة كالطائر الذي وقع في الفخ، يرتجف جسدا وريشا. وسوف يقولان: «ثم اغتصبها بالقوة دون أن يلاطفها، مغلق العينين كأنما هو يرتكب جرما أو يجرع دواء مرا!» لو أنهما علما بأن ما حدث كان مختلفا تماما عن ذلك التصور، وأنني هنا شبه نادم على تصرفي كجنتلمان! لو أنهما أدركا أن كل ما يقولان خاطئ. إنهما في الحقيقة يرغبان في تخيل الفتاة ليس إلا. تخيلها معي، معي ومعهما. هما يجردانها من ثيابها، هما يقومان بما يتصوران أنني قمت به! إن «الشبيبة الحرة» لا تليق بمثل هذين المخلوقين. علي أن أدبر لهما شيئا أسوأ من ذلك. إن العقاب الأمثل - بما أنهما عازبان، أجل إنهما حقا أعزبان عريقان - هو تكبيلهما بزوج من أولئك النسوة، أولئك النسوة. إني أعرف امرأتين ممن يحمن حول السيد الرئيس. فلتكونا هما إذن. هما. ولكن إحداهما حامل. لا يهم. بل أفضل إذا أمر الرئيس بعقد زواج فلا طائل من وراء الاحتجاج بأن العروس حامل. لذا فليتزوجا منهما بدافع الخوف، فليتزوجا ...
وقوس نفسه في الفراش واضعا ذراعيه بين ساقيه، ودفن رأسه في الوسائد، باحثا عن استراحة من لمحات أفكاره المؤلمة. وكانت في انتظاره صدمات جسمانية في صورة الأركان الباردة من الفراش، مما أعطاه راحة مؤقتة من جنوح تفكيره الطائش. وفي النهاية، سعى إلى تلك الإحساسات التي يرحب بها رغم إيلامها بأن مد ساقيه خارج الشرشف إلى أن لمسا العمود المعدني في نهاية السرير. ثم فتح عينيه بالتدريج. وبدا حين فعل ذلك أنه يقطع خطوط جفنيه الدقيقة غاية الدقة. وأحس بنفسه عديم الوزن كالظلال، وبعظامه هشة رخوة، وضلوعه ترق حتى تصبح غضاريف ورأسه يتحول إلى عجينة طرية ... وكانت ثمة يد من القطن والصوف تتخذ هيئة المقرعة في الغبشة السائدة ... يد صوفية قطنية لأحد السائرين في نومهم ... إن المنزل مصنوع من المقارع ... والمدن غابات من أشجار المقارع ... وراحت أوراق الصوت تسقط بينما هي تقرع الباب ... وبقي جذع شجرة الباب سليما بعد أن سقطت عنه أوراق الصوت ... ولم يكن أمامها ما تفعله سوى أن تقرع الباب ... ولم يكن أمامهم مفر من أن يفتحوا ... ولكنهم لم يفتحوا. كان يمكن أن تكسر الباب بقرعها عليه ... قرعه وراء قرعة، كان يمكن أن تكسر الباب؛ قرعة وراء قرعة ... ثم لا شيء، كان يمكن أن تكسر الباب ... - من بالباب؟ ماذا؟ - إنه إعلان وفاة أحضروه لتوهم. - أجل، ولكن لا تذهب به إليه لأنه لا بد نائم ضعه هنا على المكتب. «توفي الليلة الماضية السيد خواكين سيرون، بعد أن تناول السر المقدس الأخير. ومن دواعي حزن حرمه وأولاده وأقاربه الآخرين أن يبلغوكم بهذا النبأ، راجين منكم الترحم عليه والتفضل بحضور الجنازة في المقبرة العامة اليوم الساعة الرابعة مساء وسيجتمع المعزون أمام باب المقبرة؛ وعنوان منزل الفقيد: شارع كاروسيرو.»
كان ذو الوجه الملائكي قد استمع رغما عنه لصوت أحد خدمه يقرأ إعلان وفاة السيد خواكين سيرون بصوت عال.
وخلص إحدى ذراعيه من الشراشف وثناها تحت رأسه. كان السيد «خوان كاناليس» يسير عبر دماغه مرتديا ريشا. كان قد انتزع أربعة قلوب مصنوعة من الخشب وأربعة قلوب مقدسة وصنع منها صاجات يدق عليها. وكان بوسعه أن يشعر في قذاله بالسيدة «جوديث»، بثدييها الهائلين سجينة الكورسيه المصنوع من خيوط المعدن والرمال، وشعرها المصفف على الطريقة «البومبية» ومشط فخم في وسطه جعلها تبدو كالتنين. وأحس بتقلص عنيف في ذراعه الذي استخدمه وسادة تحت رأسه، ومده في حذر، كأنه ثوب فيه عقرب يسعى ... في حذر ...
كان ثمة أسانسير مليء بالنمل يصعد تجاه كتفه، وأسانسير مليء بنمل مغناطيسي يهبط تجاه مرفقه. ومضى التقلص عبر أنبوب مقدم ذراعه واختفى وسط الظلال. وكانت يده نافورة مياه - نافورة ذات أصابع مزدوجة. وشعر بعشرة آلاف ظفر حتى أخمص قدميه. - «يا للفتاة الصغيرة المسكينة، تقرع وتقرع ثم لا شيء ... إنهم متوحشون، بغال عنيدة. سوف أبصق في وجوههم لو فتحوا الباب. بالتأكيد، كما أن ثلاثة واثنين خمسة ... وخمسة عشرة ... وتسعة تسع عشرة، سوف أبصق في وجوههم. كانت تقرع الباب في انشراح أول الأمر، ولكن في النهاية بدت وكأنها تحفر في الصخر. لم تكن تقرع الباب، بل تحفر قبرها بنفسها. يا لها من صحوة مريرة! سوف أذهب لرؤيتها غدا إن استطعت. بحجة أنني أحمل لها أخبارا عن والدها. آه، لو كان بإمكاني فحسب أن أحصل على أخبار عنه اليوم. بوسعي ... رغم أنها قد لا تصدق ما أقول.» ••• «إنني أصدق ما تقول! إنني مقتنعة، مقتنعة تماما أن أعمامي قد تنكروا لوالدي وقالوا لك إنهم لا يريدون رؤيتي في منزلهم مرة أخرى.»
كان هذا يجول في خاطر كميلة إذ هي ترقد في سرير «لامسكواتا» والألم يعتصر ظهرها، بينما الناس في الحانة، التي يفصلها عن حجرة النوم حاجز من الألواح القديمة والمشمع والخرق البالية، يعلقون على أحداث اليوم: هروب الجنرال، واختطاف ابنته، وأنشطة المحبوب. وتظاهرت صاحبة الحانة بعدم سماع أي شيء يقولونه، بيد أنها حرصت على ألا تفوتها كلمة منه.
وحملت موجة جديدة مفاجئة من الغثيان بكميلة بعيدا عن هذه العصبة الآثمة. إحساس بالسقوط عموديا وفي صمت ... وبعد تردد، أتصرخ مع ما في ذلك من تهور، أو لا تصرخ وربما يغمى عليها تماما، قررت أن تصرخ طلبا للعون. وبعد ذلك، أحاط بها شعور بالبرد، كأنما من ريش طيور ميتة. وهرعت «لامسكواتا» لنجدتها على الفور - ماذا حدث؟ وحالما رأتها هناك شاحبة اللون كالثلج، وذراعاها متصلبتان كيد المكنسة، وفكاها مطبقان، وعيناها مغلقتان، أسرعت بأخذ جرعة من البراندي من أقرب زجاجة، ورشت بها وجهها. وأفعمها القلق لدرجة لم تسمع معها زبائنها وهم يغادرون الحانة. وتضرعت للعذراء ولجميع القديسين ألا تموت الفتاة هنا في منزلها. ••• - «حين افترقنا هذا الصباح، بكت مما قلته لها. ماذا كان بوسعها أن تفعل؟ حين يقع شيء كان يبدو مستحيلا، يبكي المرء إما من السرور أو الأسى ...»
هكذا كان يجول بخاطر ذي الوجه الملائكي وهو يرقد في الفراش، نصف نائم، نصف مستيقظ، مستيقظ على لهيب أزرق سماوي. وشيئا فشيئا، نام بالفعل، طافيا تحت أفكاره المضطرمة، دونما جسد، دونما شكل، كنسمة هواء دافئة تهتز من جراء أنفاسه ...
وبعد هذا السقوط في العدم، لم يبق له إلا كميلة، طويلة عذبة، قاسية، كالصليب المنتصب فوق المقابر ...
واستقبله ملك النوم، الذي يخط بحار الحقيقة المظلمة، في واحدة من سفنه العديدة. وجرته أيد خفية بعيدا عن فكي الأحداث الفاغرين، بينما الموجات النهمة تتشاجر بوحشية على مزق ضحاياها.
وتساءل ملك النوم: من هو؟
وأجاب رجال خفيون: ميغيل ذو الوجه الملائكي.
وامتدت أيديهم كالظلال البيضاء، وسط الظلال السوداء، هلامية غير ملموسة.
وتردد ملك النوم قائلا: خذوه إلى سفينة ... سفينة المحبين الذين يئسوا من الشعور بالحب وقنعوا بأن يحبهم الآخرون.
وكان رجال ملك النوم ينفذون الأمر ويحملونه إلى تلك السفينة، وهو يتحرك فيما فوق ذلك الغشاء من الوهم الذي يغطي أحداث الحياة اليومية بغبار دقيق، حين انتزعته ضوضاء مفاجئة من قبضتهم كالمخلب ...
الفراش ... الخدم ...
كلا؛ الإعلان، كلا ... صبي!
وفرك ذو الوجه الملائكي عينيه ورفع رأسه في رعب. وعلى بعد خطوتين من سريره كان ثمة صبي لاهث الأنفاس لا يستطيع الكلام. وقال أخيرا. - «لقد أرسلتني ... السيدة صاحبة الحانة ... لأقول لك ... إن عليك الذهاب حالا إلى هناك ... لأن الآنسة ... في حالة خطرة.»
ولو كان ذو الوجه الملائكي قد تلقى تلك الأنباء من السيد الرئيس نفسه، لما ارتدى ملابسه بمثل السرعة التي ارتداها بها. واندفع خارجا إلى الطريق واضعا على رأسه أول قبعة رآها على المشجب، وحذاؤه مفكوك، وربطة عنقه مهدلة.
وتساءل ملك النوم: «من هي؟»
وكان رجاله قد اصطادوا لتوهم وردة ذابلة من مياه الحياة القذرة. فأجابوا: «كميلة كاناليس». - حسنا جدا. ضعوها في سفينة المحبين التعساء؛ إذ كان لا يزال فيها موضع لقدم!
ورق صوت ذو الوجه الملائكي واتخذ رنة أبوية وهو يقول: ماذا تظن يا دكتور؟ كانت كميلة مريضة للغاية. - أعتقد أن الحمى ستزداد ... إنها مصابة بالتهاب رئوي ...
الفصل الثاني والعشرون
القبر الحي
لم يعد لابنها وجود ... ورفعت «نينيا فيدينا» الجسد إلى وجهها المرتعش بالحمى، بحركة آلية تماثل حركة من يفقدون عقلهم في خضم فوضى حياتهم المنهارة. لم يكن الجسد يزن أكثر من وزن بذرة جافة. وقبلته، ولاطفته. وركعت فجأة على ركبتيها - وكان ثمة شعاع أصفر شاحب ينساب من تحت الباب - وانحنت بالقرب من الفرجة التي يدخل منها شعاع الفجر الساطع هذا على مستوى الأرض، حتى ترى ما تبقى من صغيرها على نحو أوضح.
وبدا الوليد كجنين في قماطه وليس طفلا له عدة شهور؛ إذ كان وجهه الصغير مغضنا كسطح الندبة، ودائرتان سوداوان تحيطان بعينيه، وشفتاه في لون الجير. وحملته بسرعة بعيدا عن الضوء وضغطت به على ثدييها المنتفخين. واشتكت إلى الله في عبارات غير مفهومة مختلطة بالنواح. وكان قلبها يكف عن الدق لحظات، وتطلق حزنها في نواح على نواح متمتمة في لعثمة تشبه فواق المحتضر: ابني ... اب ... اب ... ابني!
وتدحرجت الدموع فوق وجهها الخالي من التعبير. وبكت إلى أن كادت تفقد الشعور، ناسية زوجها الذي توعدوه بالموت جوعا في السجن إذا لم تعترف زوجته، وناسية آلامها هي الجسمانية، ويديها وثدييها المقروحة، وعينيها المحترقتين، وظهرها المهشم، وأزاحت جانبا قلقها على عملها الذي لا يوجد من يعنى به، وسيطرت عليها الدهشة والذهول. وحين جفت دموعها ولم يعد بإمكانها أن تبكي بعد، شعرت أنها قد أصبحت قبرا لابنها، وأنه قد عاد مرة أخرى داخل بطنها، وأن سباته الأخير الذي لا نهاية له هو سباتها هي. وللحظة، قطع سرور حاد أبدية آلامها؛ فقد كانت فكرة كونها قبرا لابنها بلسما ملطفا لقلبها. وشعرت بسعادة النسوة الشرقيات اللائي يدفن مع أحبائهن. بل وكانت سعادتها أعظم - فإنها لم تكن لتدفن مع ابنها، بل إنها هي قبره الحي، مهده الأخير، الحجر الأمومي، ولسوف ينتظران معا، متحدين، إلى أن يستدعيهما الله إليه. ودون أن تجفف دموعها، سوت شعرها كأنما هي ذاهبة إلى حفل، وقبعت في ركن من الزنزانة الجب، وجثة ابنها لاصقة بثدييها وبين ذراعيها وساقيها.
والقبور لا تحتضن الموتى، لذلك كان عليها أن تمتنع عن تقبيل ابنها، ولكنها تضغط عليهم بشدة، بشدة، كما تفعل هي الآن. إنها دروع للقوة والرقة، تجبر الموتى على تحمل مضايقة الديدان وحرارة التحلل في صمت ودون حراك. أما الشعاع المتماوج الذي يدخل من فرجة عقب الباب فإنه لا يزيد سطوعا إلا كل ألف سنة. والظلال، يطاردها الضوء الطالع، تزحف ببطء على الجدران كالعقارب. جدران من عظام ... عظام موشومة برسوم خليعة. وأغلقت «نينيا فيدينا» عينيها؛ فالقبور مظلمة من الداخل، ولم تنطق كلمة أو أنينا، فالقبور صامتة أبدا.
كان الوقت منتصف الظهيرة. رائحة أشجار الصنوبر مغسولة بمياه الأمطار. طيور السنونو. الهلال. كانت الطرق لا تزال تستحم في ضوء الشمس ويملؤها الأطفال المزعجون. وكانت المدارس تفرغ نهرا من الحيوانات الجديدة إلى المدينة. كان بعض الأولاد يلعبون «المساكة»، عارجين هنا وهناك كالذباب. وتحلق آخرون حول اثنين من رفاقهم كانا يتعاركان كديكي المصارعة. أنوف دامية، بكاء، دموع. وراح البعض يدق على الأبواب ثم يجري مسرعا. وأغار آخرون على محال الحلويات لشراء طوفي العسل، وفطائر جوز الهند، والكعك باللوز، وحلوى المارنغي، أو هجموا كالقراصنة على سلال الفاكهة، تاركينها كالقوارب الفارغة المفككة. وجاء وراءهم أولئك الذين كانوا مشغولين ببيع الأشياء القديمة أو تبادل طوابع البريد أو بأول محاولاتهم في التدخين.
وتوقفت عربة أجرة أمام سجن «كاسانويفا» وأفرغت ثلاث سيدات في زهرة الشباب وسيدة بدينة عجوزا. ولم تكن تخطئ العين معرفة من جئن من مظهرهن. كانت الشابات منهن يرتدين ملابس قطنية زاهية اللون، وجوارب حمراء، وأحذية صفراء ذات كعوب عالية جدا بصورة مغالى فيها، وتنورات فوق الركبة تظهر أردية داخلية ذات شراريب من الدانتلا الطويلة القذرة، وبلوزات مفتوحة عند السرة. وكان شعرهن مصففا على الطراز المسمى بطراز لويس الخامس عشر، ويتكون من كمية كبيرة من اللفات الغارقة في زيت الشعر المربوطة في الجانبين بشريط أخضر أو أصفر، وكانت حمرة خدودهن تعيد إلى الأذهان المصابيح الكهربائية الحمراء التي تعلق على أبواب بيوت الدعارة. أما المرأة العجوز التي كانت ترتدي ثوبا أسود عليه شال أرجواني فقد هبطت من العربة متعثرة الخطى، وهي تمسك الباب بيد سمينة مغطاة بالكثير من الجواهر.
وسألت صغرى الفتيات وهي ترفع صوتها لكي تسمعه حتى أحجار الطريق: سوف تنتظرنا العربة، أليس كذلك يا سيدة «تشون»؟
فردت العجوز: أجل بالطبع، يمكن أن تنتظر هنا.
وتوجهن أربعتهن إلى «كاسا نويفا» حيث استقبلتهن البوابة بمظاهر الترحيب والابتهاج.
وكان ثمة أشخاص آخرون ينتظرون في تلك القاعة ذات المظهر القاسي.
وسألت العجوز البوابة: قولي لي يا «شينتا»، هل السكرتير موجود؟ - أجل يا سيدة «تشون»، لقد حضر لتوه. - إذن قولي له وحياتك إنني أريد مقابلته؛ لأنني أحضرت معي أمرا كتابيا له، في غاية الأهمية بالنسبة لي.
وظلت العجوز صامتة طوال غياب البوابة. كان المكان لا يزال، بالنسبة لكبار السن ممن عاصروه، يحتفظ بجو الأديرة، ذلك أن المبنى كان، قبل تحويله إلى سجن للمنحرفين، سجنا للعشاق. للنساء فقط. وكانت أصوات راهبات «سانت تريزا» العذبة تنساب من جدرانه الضخمة كأنها تحليق حمائم. ولم تكن هناك من زنابق ترى، ولكن الضوء كان أبيض مهدهدا بهيجا، واستعيض عن الصيام والخيش بأشواك جميع ألوان التعذيب التي ازدهرت تحت علامة الصليب وشباك العنكبوت.
وحين عادت البوابة، ذهبت السيدة «تشون» لتشرح للسكرتير موضوعها. كانت قد رتبت أمورها مع مديرة السجن من قبل؛ وقد أصدر المدعي العسكري العام أوامره بتسليمها - مقابل عشرة آلاف بيزو، وهو ما لم يذكره - السجينة «فيدينا دي روداس»، التي ستصبح من وقتها نزيلة «النشوة اللذيذة» كما كان ماخور السيدة تشون ذات السن الذهبية يدعى.
وتردد صدى قرعتين كالرعد في الزنزانة التي كانت السجينة التعسة لا تزال مقعية فيها مع ابنها، بلا حراك، مغلقة العينين تكاد لا تتنفس. وبجد جهيد، تظاهرت بأنها لا تسمع. ثم تصاعد الصرير من المزاليج. وترددت أصداء أزيز متطاول من مفصلات قليلة الاستعمال، من خلال الصمت، كأنها العويل. وفتحوا الباب وأمسكوا بها في غلظة. وأغلقت عينيها بقوة حتى لا ترى الضوء، فالقبور مظلمة في الداخل. وهكذا جروها كالعمياء، وجسد طفلها الصغير العزيز مضغوط إلى صدرها. لقد بيعت كالحيوان إلى أحط الأعمال. - إنها تتظاهر بالخرس. - إنها تغلق عينيها حتى لا ترانا. - إنها خجلانة، هذه هي الحقيقة. - ربما لا تريد أن يوقظوا طفلها.
هكذا كانت تعليقات «تشون» ذات السن الذهبية وفتياتها الثلاث أثناء الرحلة. وقعقعت العربة وهي تنطلق على طول الطريق غير الممهد، وصدرت عنها ضوضاء جهنمية. وكال السائق، وهو إسباني ذو مظهر «كيشوتي»، السباب لجواديه، وكانا مخصصين لحلبة المصارعة، وكأنما هو فارس المصارعة. وجلست «نينيا فيدينا» إلى جواره خلال الرحلة من سجن «كاسا نويفا» إلى بيوت الدعارة (كما في الأغنية) جاهلة تماما ما يدور حولها، دون أن تحرك جفنيها أو شفتيها، بل تقبض على طفلها بكل قوتها.
وبينما كانت السيدة «تشون» تدفع للسائق أجره، ساعدت الأخريات «فيدينا» على النزول ودفعنها بلطف إلى داخل دار «النشوة اللذيذة».
وكان هناك بضعة زبائن، معظمهم من الجنود، يقضون الليلة في صالون الماخور. وصاحت السيدة تشون بالبارمان عند دخولها: كم الساعة يا أنت؟
وردد أحد الجنود: «السادسة والثلث يا سيدتي تشون.» - آه، أأنت هنا أيها المشاغب العجوز؟ إني لم ألحظ وجودك!
وأظهر الجميع اهتماما بالفتاة الجديدة، وأرادوا أن يمضوا الليلة معها. وواصلت «فيدينا» بعناد صمتها الشبيه بصمت القبور، وجسد طفلها معلق في ذراعيها، وأبقت عينيها مغلقتين، وأحست ببرودة الأحجار وثقلها.
وقالت ذات السن الذهبية لفتياتها الثلاث: هيا، خذوها إلى المطبخ وقولوا «لمانويلا» أن تعطيها شيئا تأكله، واجعلوها تتزين بعض الشيء وتعتني بنفسها.
وتوجه ضابط مدفعية ذو عينين زرقاوين شاحبتين إلى الفتاة الجديدة يتحسس ساقيها. بيد أن إحدى الفتيات الثلاث حمتها منه. وعندها لف جندي آخر ذراعيه حول وسطها كأنما هي جذع نخلة، واحولت عينيه وأبان عن أسنانه الهندية الباهرة، كأنه الكلب إلى أوار أنثاه وقت النزو. وبعد ذلك قبلها وهو يحك خديها الثلجيين، المملوحين من الدموع، بشفتيه اللتين تنضحان بالبراندي. وكان ذلك يمثل خير اتحاد بين ثكنات الجنود وبين دور الدعارة، فإن حرارة العاهرات هي خير تعويض عن برودة ساحة التدريب في الثكنات.
وقالت السيدة «تشون» منهية بذلك هذا المشهد البذيء: «والآن، أنت أيها المشاغب، أيها الفاسق، كف عن هذا! آه، حسنا، سنضطر إلى تقييدك!»
ولم تدافع «فيدينا» عن نفسها ضد هذه الأشياء الشبقية، بل اكتفت بأن تضغط على جفنيها وشفتيها حتى تحفظ ظلامها وسكونها الشبيهين بالقبر من الهجوم، في حين ضمت طفلها الميت إليها بشدة وهدهدته بين ذراعيها كأنما هو نائم. وقادوها إلى فناء صغير، حيث كان الأصيل يغرق تدريجيا في النافورة. وترامى صوت تأوهات، أصوات خفيضة، همسات مريضات، تلميذات، سجينات أو راهبات، ضحكات مفتعلة، صرخات قصيرة فظة، وخطوات أقدام لا ترتدي سوى الجورب. وألقى أحدهم أوراق اللعب من باب إحدى الحجرات، وسقطت على الأرض على شكل المروحة. ولم يعرف أحد أيهم فعل ذلك. وأخرجت امرأة ذات شعر منكوش رأسها من فتحة صغيرة، وحدقت إلى أوراق اللعب كأنما هي ممثل القدر نفسه، ثم مسحت دمعة تساقطت على خدها الشاحب.
كان ثمة قنديل أحمر معلقا على الباب الخارجي لدار «النشوة اللذيذة». كان يبدو كعين حيوان منتفخة، ويلقي صبغة تراجيدية على الرجال والحجارة. استخفاء الكاميرات الفوتوغرافية وغرف تحميض الصور. كان الرجال يأتون ليستحموا في ذلك الضوء الأحمر كضحايا الجدري الذين يأملون في علاج تقرحاتهم. وكانوا يعرضون وجوههم للضوء في خجل أن يراهم أحد، كأنما هم يشربون دما، ثم يعودون بعد ذلك لضوء الشارع، إلى ضوء البلدية الأبيض، وإلى أضواء بيوتهم الصافية، يحملون معهم إحساسا قلقا بأنهم قد أفسدوا تحميض الصورة.
كانت «فيدينا» لا تزال غير واعية لما يحدث حولها، بيد أنه كانت تسيطر عليها فكرة أنه لا وجود لها إلا من أجل طفلها. وأبقت عينيها وشفتيها مزمومة أكثر من ذي قبل، وكان الجسد الصغير لا يزال عالقا بثدييها الطافحين. وبذلت رفيقاتها كل ما في وسعهن للخروج بها من هذه الحالة، حين كن يأخذنها إلى المطبخ.
وكانت «مانويلا كالفاريو»، الطباخة، قد توجت منذ سنوات عديدة ملكة على شئون المطبخ ومشتقاته في دار «النشوة اللذيذة»، وكانت بمثابة الأب الرحيم دونما لحية وفي تنورة منشاة. وكان فكا هذه الطباخة المحترمة الهائلة الحجم المترهلان مملوءين بمادة هوائية وجدت متنفسا لها في عبارات حادة وجهتها إلى «فيدينا» حالما وقع بصرها عليها: «ها، عاهرة فاجرة أخرى، حسنا، من أين أتت هذه؟ وما هذا الذي تضمه بشدة إلى صدرها؟»
ولم تجرؤ الفتيات الثلاث على الكلام، رغم أنهن لم يعرفن لذلك سببا، وأفهمن الطباخة بالإشارات - مثل وضع يد فوق أخرى، علامة القضبان - أنها قد أتت من السجن.
وكانت ملاحظة المرأة بعد ذلك: «كلبة قذرة!» ثم أضافت حين خرجت الأخريات: «ينبغي أن أعطيك سما بدلا من أن أعطيك طعاما! هاك، خذي هذا، وذاك!» ووجهت إليها عدة ضربات بسيخ اللحم على ظهرها.
وجلست «فيدينا» على الأرض تحمل جثمانها الصغير، دون أن ترد أو تفتح عينيها. كانت قد حملته مدة طويلة في نفس الوضع حتى إنها لم تعد تشعر بثقله. وأخذت «مانويلا» تروح هنا وهناك، مشوحة بيديها وهي ترسم علامة الصليب. ولاحظت في مرواحها ومجيئها وجود رائحة كريهة في المطبخ. وعادت من ناحية الحوض تحمل طبقا، وبدأت - بلا انتظار - تركل «فيدينا» وهي تصيح بها: «إن معك شيئا نتنا يفوح بالرائحة الكريهة. ألقيه بعيدا عن هنا! تخلصي منه فإني لا أريده هنا!»
وجاءت السيدة تشون إلى المطبخ على صيحات «مانويلا»، وتعاونا معا كأنهما يقتلعان شجرة في فتح ذراعي المرأة البائسة. بيد أنها حين أدركت أنهما ينتزعان طفلها منها، فتحت عينيها وأطلقت صرخة حادة ثم سقطت مغشيا عليها.
وصاحت «مانويلا»: إنه الطفل الذي تفوح منه الرائحة. إنه ميت! يا للهول! ولم تحر ذات السن الذهبية منطقا، وبينما العاهرات يتدفقن إلى المطبخ جرت إلى الهاتف كيما تخطر السلطات. كانت كل واحدة تريد أن ترى الطفل وتقبله؛ وغطينه بالقبلات وتنازعن عليه فيما بينهن. كان الوجه المغضن الصغير مقنعا برضاب الرذيلة، وكانت قد أخذت تنبعث منه رائحة كريهة. وامتلأ المكان بالبكاء وبالحديث عن إجراءات إقامة جنازة للطفل. وتوجه الماجور «فارفان» لاستخراج تصريح الدفن من الشرطة. وأخليت أكبر حجرات النوم الخاصة من الأثاث، وأحرقوا فيها البخور لطرد رائحة المني العفنة من الستائر والسجاجيد، وأحرقت «مانويلا» قطرانا في الطبخ، ووضعوا الطفل على صفحة سوداء من الميناء وسط الورود والكتان حيث رقد مقعيا على نفسا، جافا مصفرا، كبذرة نبات لبلابي.
لقد بدون جميعا كما لو كانت كل واحدة منهن قد فقدت طفلا تلك الليلة. كانت أربع شمعات تحترق. ورائحة فطائر الذرة والبراندي، ولحم عليل، وأعقاب سجائر ونبيذ.
وكانت ثمة امرأة نصف مخمورة، وأحد ثدييها عار، تمضغ سيجارا بدلا من أن تدخنه، ظلت تردد وسط أنهار من الدموع:
نم يا صغيري نم.
نم يا حبيبي الوليد!
وإلا سيأتي الذئب،
ليأكلك!
نم يا حياتي نم!
لأن علي أن أذهب الآن؛
لأغسل لك اللفائف،
وأجلس أحيك لك الثياب.
الفصل الثالث والعشرون
تقرير عن الرسائل الموجهة إلى السيد
الرئيس
(1)
السيدة «اليخاندرا»، أرملة المرحوم «بران»، القاطنة في هذه المدينة، وصاحبة حانوت الأثاث المسمى «لابايينا فرانكا»، تقرر أنه لما كان محلها مجاورا لحانة «الخطوتان»؛ فقد كان بوسعها أن ترى عدة أشخاص يترددون على تلك الحانة، خاصة بالليل، بحجة زيارة إحدى المريضات. وهي تتشرف بإحاطة السيد الرئيس علما بهذه الوقائع؛ إذ يبدو لها - من المحادثات التي سمعتها عبر الحائط - أن الجنرال «إيوسبيو كاناليس» قد يكون مختبئا في تلك الحانة، وأن الأشخاص الذين يترددون على ذلك المكان يتآمرون ضد سلامة الدولة وعلى حياة السيد الرئيس الغالية. (2) «سوليداد بلماريس»، القاطنة في هذه المدينة، تقرر أنها لم تعد تجد ما تقتات به؛ لأن مواردها قد نفدت. ولما كانت غريبة عن هنا ولا يمكن لأحد أن يقرضها نقودا، فإنها ترجو السيد الرئيس أن يفرج عن ابنها «مانويل بلماريس» وعن زوج أختها «فيديريكو أورنيروس ب». وأن الوزير المفوض بسفارة بلدها هنا يمكنه أن يشهد أنه لا صلة لهما بالسياسة، وأنهما ما جاءا هنا إلا ليكسبا عيشهما بالعمل الشريف، وأن جريمتهما الوحيدة أنهما قبلا توصية من الجنرال «إيوسبيو كاناليس» لمساعدتهما في الحصول على وظيفة في محطة السكك الحديدية. (3)
الكولونيل «برود نسيو بيرفكتو باز» يقرر: أن الرحلة التي قام بها مؤخرا إلى الحدود كانت تهدف إلى التعرف على حالة الأراضي والطرق والممرات البرية هناك لتحديد المواضع التي ينبغي اتخاذ مزيد من الإجراءات بشأنها. وهو يعطي وصفا تفصيليا لخطة؟؟ حملة يمكن القيام بها في نقاط إستراتيجية ملائمة في حالة حدوث حركة ثورية، وهو يؤكد نبأ تطوع أفراد عند الحدود لذلك الغرض، وأن منهم «خوان لليون بارادا» وغيره، وأنهم يحوزون أسلحة من النوع التالي: قنابل يدوية، رشاشات يدوية، بنادق محدودة المدى، ديناميت وغيره من لوازم زرع الألغام؛ وأن الثوار لديهم ما بين 25 و30 رجلا مسلحا بإمكانهم الهجوم على قوات الحكومة المرابطة هناك. ولم يكن بإمكانه تأكيد خبر أن «كاناليس» هو قائدهم، ولكن إذا كان الأمر كذلك، فإنهم بلا شك سيقومون بغزو بلدنا ما لم نتخذ الإجراءات الدبلوماسية لتسليم هؤلاء الثوار من البلد المجاور. ويضيف أيضا أنه مستعد لتنفيذ الهجوم المحدد له بداية الشهر القادم، بيد أنه يفتقر إلى أسلحة لفرقة المشاة، وليست لديه ذخيرة كافية، وأنه باستثناء بعض المرضى الذين يحتاجون رعاية طبية، فإن قواته بحالة طيبة، وأنهم يتلقون تدريبا من السادسة إلى الثامنة صباح كل يوم، ويخصص لغذائهم رأس من الماشية كل أسبوع، وأن الموقع أدناه قد طلب أكياسا من الرمل من الميناء لبناء تحصينات. (4) «خوان أنطونيا ماريس» يشكر السيد الرئيس على الاهتمام الذي تفضل بإبدائه نحوه، بتوفير الرعاية الطبية اللازمة له. وهو جاهز الآن للعودة إلى الخدمة ويرجو الإذن له بالحضور إلى العاصمة للاضطلاع ببعض المهام الناشئة عن معلوماته الخاصة عن الأنشطة السياسية التي يقوم بها المحامي «قابيل كرفخال». (5) «لويس رافيليس م»، يقرر أنه بالنظر إلى مرضه ونقص الوسائل الكفيلة باستعادته لصحته، فإنه يود العودة إلى الولايات المتحدة، حيث يرجو تعيينه في إحدى الوظائف بإحدى قنصليات الجمهورية، لا في «نيواورليانز»، وليس بموجب الظروف السابقة، بل بوصفه صديقا مخلصا للسيد الرئيس. وكان من حسن حظه أن أدرج اسمه في جدول المقابلات في نهاية يناير الماضي، ولكنه حين كان في الصالون وعلى وشك الدخول، لاحظ وجود شيء من الريبة من جانب ضباط الحراسة، الذين عدلوا موضع اسمه في القائمة، وحين حل دوره، أخذه ضابط إلى حجرة مجاورة حيث فتشه كأنما هو فوضوي، وقال له إنه يفعل ذلك بناء على إخبارية بأن المحامي «قابيل كرفخال» قد دفع له مالا كيما يقوم باغتيال رئيس الجمهورية. ولدى عودته إلى الصالون، وجد أن مقابلته قد ألغيت، ورغم أنه بذل منذئذ كل ما في وسعه كيما يقابل السيد الرئيس ليطلعه على بعض الأشياء التي لا يمكن تسطيرها على الورق، فإنه لم ينجح في ذلك المسعى. (6) «نيقوميدس آسيتونو» يكتب مقررا أنه في طريق عودته إلى العاصمة بعد إحدى رحلاته العديدة التي تحمله إليها أعماله، لاحظ أن الملصق الإعلاني المربوط إلى خزان المياه - والذي يظهر فيه اسم السيد الرئيس - قد دمر كله تقريبا؛ إذ نزعت عنه ستة حروف وخربت حروف أخرى فيه. (7) «لوسيو فاسكيز» المقبوض عليه في السجن المركزي بأمر المدعي العسكري العام، يرجو مقابلة السيد الرئيس. (8) «كاتارينو ريخيسيو» يقرر أنه يدير عقار «لاتييرا» المملوك للجنرال «إيوسبيو كاناليس»، وأنه في أحد أيام شهر أغسطس الماضي زار ذلك السيد أربعة أصدقاء، أعلن لهم (وهو في حالة سكر) أنه إذا اندلعت الثورة فثمة كتيبتان تحت أمره: واحدة تأتمر بأمر أحد أصدقائه هو الميجور «فارفان»، والأخرى لأحد العمداء لم يذكر اسمه. ولما كانت شائعات الثورة لا تزال تتردد، فإن الموقع أدناه يكتب لإبلاغ السيد الرئيس بهذا؛ نظرا لأنه لم يتمكن من مقابلته لإبلاغه بذلك شخصيا، رغم مساعيه العديدة لهذا الغرض. (9)
الجنرال «ميغاديو رايون» يرفق خطابا تلقاه من القس «بلاس كوستديو» يقرر فيه أن الأب «أوركيخو» يفتري عليه الشائعات (حيث إنه سيخلف الأب في رئاسة أبرشية «سان لوقا» بأمر من الأسقف) ويثير عليه السكان الكاثوليك بأكاذيبه، تعاونه السيدة «أركاديا دي أيوسو». ولما كان وجود الأب «أوركيخو» في الأبرشية يمكن أن تترتب عليه عواقب وخيمة، وهو صديق للمحامي «قابيل كرفخال»، فإن الموقع أدناه يتشرف بإحاطة السيد الرئيس علما بهذه الوقائع. (10) «الفريدو توليدانو» من هذه المدينة، يقرر أنه نظرا لأنه يعاني من الأرق ولا ينام إلا في ساعة متأخرة من الليل، فإنه قد فاجأ أحد أصدقاء السيد الرئيس - هو «ميغيل ذو الوجه الملائكي»، يقرع بعنف على باب منزل السيد «خوان كاناليس»، شقيق الجنرال المسمى بنفس اللقب، والذي دأب أيضا على انتقاد الحكومة. وهو يبلغ السيد الرئيس بذلك عله يجد فيه ما يهمه. (11) «نيقوميدس آسيتونو» وكيل أعمال متنقل، يقرر أن الرجل الذي محا اسم السيد الرئيس من على ملصق خزان المياه هو «غيرمو ليزازو» المحاسب، وهو في حالة سكر. (12) «كاسيميرو ريبيكولونا» يقرر أنه سيتم قريبا سنتين ونصفا من الاعتقال في مركز الشرطة الثاني؛ وإنه لما كان فقيرا ولا أقارب يشفعون له، فإنه يرجو من السيد الرئيس أن يتكرم بالأمر بإطلاق سراحه، وأن الجريمة المتهم بها هي أنه أزال إعلانا عن ذكرى والدة السيد الرئيس من على باب الكنيسة التي يعمل مساعدا للقس بها، بناء على تحريض من أعداء الحكومة، يقول إن تلك التهمة غير صحيحة، وإنه إن كان قد فعل ذلك فلأنه قد خلط بين الإعلان وبين إعلان آخر، حيث إنه أمي لا يقرأ ولا يكتب. (13)
الدكتور «لويس بارينيو» يرجو من السيد الرئيس الإذن له بالسفر إلى الخارج بغرض البحث والدراسة، بصحبة زوجته. (14) «أديلايدا بنيال» نزيلة دار الدعارة الرسمية المسماة «النشوة اللذيذة» في هذه المدينة، ترغب في إبلاغ السيد الرئيس أن الميجور «مودستو فارفان» قد أخبرها حين كان مخمورا أن الجنرال «إيوسبيو كاناليس» هو الجنرال الوحيد الأصيل في الجيش، وأن المصيبة التي حلت به إنما ترجع إلى خوف السيد الرئيس من القادة الأكفاء، وأن الثورة ستنتصر في النهاية رغم كل شيء. (15) «مونيكا بردومينو» المريضة في المستشفى العمومي، في السرير رقم 14 في عنبر «سان رافاييل»، تقرر أنها لما كان سريرها مجاورا للمريضة «فيدينا روداس»، فإنها قد سمعتها تتحدث عن «الجنرال كاناليس» في هذيانها، وإنه نظرا إلى أنها هي نفسها مريضة فإنها لم تفهم ما قالته المذكورة، ولكن قد يكون مستصوبا أن يقوم شخص بمراقبة ما تقول ويكتب ملاحظات به. وترسل الموقعة أدناه هذه الإخبارية إلى السيد الرئيس انطلاقا من إعجابها الفائق بحكمه. (16) «توماس جافيلي» يعلن زواجه من الآنسة «آركلينا سواريز»، ويرغب في تكريس هذا الزواج للسيد رئيس الجمهورية.
28 أبريل ...
الفصل الرابع والعشرون
دار الدعارة
- تعالي هنا يا فتاة ... - ولماذا هنا وليس هناك ... - ماذا دهاك؟ - دهاني ما دهاني ...
وصرخت ذات السن الذهبية في الفتيات: اصمتن حالا، اصمتن، ما هذا؟ منذ يبزغ الفجر وهن هنا يتحادثن ويتشاجرن؛ إنهن كالحيوانات التي لا تفهم.
وكانت صاحبة الفخامة ترتدي بلوزة سوداء وتنورة أرجوانية، جالسة تهضم عشاءها في مقعد من الجلد وراء نضد البار.
وبعد برهة، وجهت كلامها إلى خادمة ذات بشرة نحاسية وضفائر مجدولة لامعة: «بانتشا»، اذهبي وقولي للفتيات أن يأتين إلى هنا، فهذا لا يصح، فالزبائن قد يحضرون في أي لحظة، ولا بد أن يكن هنا جاهزات ينتظرن! دائما علي أن أكون وراءهن في كل شيء!
ودخلت فتاتان تجريان إلى الغرفة لا ترتديان في أقدامهن إلا الجوارب. - كفى ضجيجا يا «كونسيلر». آه. يا لهما من جميلتين صغيرتين! انظر إلى لعبهما! واسمعي يا «أدلايدا» - «أدلايدا»، إنني أتحدث إليك - إذا حضر الميجور من الأفضل أن تخلعي عنه سيفه مقابل ما عليه من ديون لنا. كم بلغت ديونه أيها القرد العجوز؟
فرد البارمان: تسعمائة بالضبط، بالإضافة إلى ستة وثلاثين أعطيتها له بالأمس. - إن السيف لا يساوي كل هذا، حتى ولو كان من ذهب، ومع ذلك فإنه أفضل من لا شيء. «أدلايدا»، إنني أتحدث إليك لا إلى الحائط!
فردت «أدلايدا» بين ضحكة وأخرى: أجل يا سيدة «تشون»، أجل إني أسمعك.
ثم واصلت لعبها مع رفيقتها التي كانت قد أمسكتها من شعرها.
وجلست تشكيلة النساء اللائي تعرضهن دار «النشوة اللذيذة» هنا وهناك على الأرائك القديمة صامتات. كان هناك من كل نوع: سمينات، نحيفات، متقدمات في السن، شابات، طويلات، قصيرات، مراهقات، وديعات، نفورات، شقراوات، حمراوات الشعر، سوداوات الشعر، صغيرات العين، واسعات العين، بيضاوات، سمراوات، خلاسيات. ورغم أن كل واحدة كانت تختلف عن الأخرى، فقد يبدون جميعا متشابهات، فقد كانت رائحتهن واحدة، تفوح منهن رائحة الرجل، كلهن الرائحة اللاذعة للمحار العتيق . وكانت أثداؤهن تترجرج هنا وهناك داخل قمصانهن القطنية الصغيرة الرخيصة، كأنها تكاد تكون سائلة. وحين يجلسن في استرخاء منفرجات الفخذ، فإنهن يبن عن سيقان نحيلة كمواسير تصريف المياه، وأربطة جوارب زاهية اللون، وسراويل إما حمراء مطرزة بشريط أبيض، أو وردية خفيفة مطرزة بشريط أسود.
كان انتظار الزبائن يملؤهن بالقلق. كن ينتظرن كالمهاجرين، وفي عيونهن تعبير حيواني، يجلسن في مجموعات أمام المرايا. ويعمد بعضهن دفعا للضجر، إلى النوم، والبعض إلى التدخين، بينما يأكل البعض حبات النعناع، ويحصي البعض بقع بقايا الذباب على الورق الأزرق والأبيض الذي يزين السقف. كانت المتعاديات منهن يتشاجرن، بينما الصديقات يلاطفن بعضهن بعضا في وهن وقلة حياء.
وكن لهن جميعا تقريبا ألقاب غير أسمائهن؛ فالفتاة ذات العينين الواسعتين تدعى الغزالة، فإذا كانت قصيرة فهي الغزالة القصيرة، وإذا كانت متقدمة في السن ممتلئة فهي الغزالة الكبيرة. أما الفتاة ذات الأنف المرتفع إلى أعلى فهي الرومانية، والسمراء هي الأسمرانية، والخلاسية: الداكنة، والفتاة ذات العيون المائلة: الصينية، والشقراء: قطعة السكر، والفتاة التي تتكلم بصعوبة: المتهتهة.
وإلى جانب هذه الألقاب العامة، كانت هناك أيضا ألقاب الناقهة، والخنزيرة، وذات القدم المفلطحة، وذات اللسان الذي يقطر عسلا، والقردة، والدودة الشريطية، والحمامة، والقنبلة، والجبانة، والطرشاء.
وكان بضعة رجال يفدون في الساعات الأولى من الليل ليتسلوا بعض الوقت بأحاديث العشق مع أي من الفتيات غير المنشغلات وتقبيلهن ومداعبتهن مداعبات ثقيلة. كانوا دائما متحذلقين مفلسين. وكانت السيدة «تشون» تتوق إلى طردهم؛ لأنهم قد اقترفوا في نظرها جريمة، هي أنهم فقراء، ولكنها كانت تتحملهم إكراما «للملكات». يا للملكات المسكينات! إنهن قد علقن بهؤلاء الرجال - الذين يستغلونهن مقابل الحماية ويخدعونهن باسم الحب. انطلاقا من توقهن للحب والإحساس بوجود رجل يتملكنه.
وكان بعض الصبية يحضرون أيضا في مطالع الليل. كانوا يأتون يرتعدون، لا يكادون يقدرون على الكلام، يتحركون في وجل كالفراشات زائغة البصر، ولا يستردون أنفاسهم إلا بعد أن يخرجوا إلى الطريق. صيد سهل. طائعون لا يخادعون؛ «مساء الخير»، «لا تنسيني». وبدلا من الإثم والاستئساد اللذين يدخلون بهما إلى الماخور، يخرجون بمذاق كريه في أفواههم، وذلك الخور اللذيذ الناتج عن الضحك مع امرأة والتقلب في أحضانها. آه، ما أحلى الابتعاد عن هذا المنزل العفن! ويستنشقون الهواء كما لو كان عشبا ناضرا زاهرا، ويحدقون في النجوم كأنما هي تعكس قوتهم وفتوتهم.
وبعد ذلك يتقاطر على المنزل الزبائن الجادون: رجل أعمال محترم، متحمس مستدير البطن وقدر هائل من اللحم يحيط بتجويف صدره؛ ثم موظف في أحد المحلات يضم الفتيات إليه كما لو كان يقيس القماش بالمتر، بعكس الطبيب الذي يبدو كما لو كان يفحص صدورهن بالسماعة، وصحافي يترك دائما شيئا وراءه كرهن حتى ولو كان قبعته. ومحام يشبه القط وزهرة الجيرانيوم في آن واحد بمظهره ووداعته المبتذلة غير المريحة. وريفي ذو أسنان بيضاء كالحليب. وموظف حكومي محني الكتفين غير جذاب للنساء، وتاجر بدين، وصانع يعبق برائحة جلد الماشية. والثري الذي يتلمس بين حين وآخر محفظته وساعته وخواتمه. وكيميائي يفوق الحلاق تحفظا وإن كان يقل عن طبيب الأسنان أدبا.
ومع انتصاف الليل تكون الحجرة في حالة هياج وفوران. فالرجال والنساء يستخدمون ألسنتهم لإذكاء عواطف الآخرين. قبلات. تلاق شهواني للأجساد والرضاب، بالتناوب مع العض، استئمان مع ضربات، ابتسامات مع قهقهات مفاجئة فجة، فرقعة فلينة زجاجات الشمبانيا مع فرقعة الرصاص حين يكون حاضرا شجاع مخمور.
وصاح رجل مسن وهو يرتكز بمرفقيه على منضدة، وعيناه تطوفان هنا وهناك، وقدماه تتحركان في قلق، وشبكة من العروق نافرة في جبهته المتوهجة: «هذه هي الحياة حقا!»
وزاد حماسه فسأل واحدا من ندمائه: هل أستطيع الذهاب مع تلك المرأة هناك؟ - لم لا أيها الشيخ، إنهن هنا لهذا الغرض. - وتلك الأخرى التي هناك، إنني أفضلها. - حسنا، بإمكانك الذهاب معها أيضا.
وكانت ثمة فتاة سمراء تعبر الحجرة عارية القدمين على نحو مثير. - وتلك التي تسير هناك؟ - أي واحدة؟ الخلاسية السمراء؟ - ما اسمها؟ - «أدلايدا»؛ إنهم يلقبونها بالخنزيرة. ولكني لم أكن لأذهب معها، لأنها فتاة الميجور «فارفان». أظن أنه يحتكرها.
ولاحظ الشيخ في صوت خفيض: الخنزيرة! انظر كيف تلاطفه!
كانت الفتاة تستغل كل فنون احتيالها كيما يفقد الميجور عقله؛ فهي تحدق إليه عن قرب بعينيها الساحرتين، اللتين زادهما التكحل جمالا، واستنفدت قواه بشفتيها الممتلئتين ولسانها، كأنما هي تلصق طوابع بريد، وبثقل ثدييها الدافئن وبطنها الرخو.
وهمست «الخنزيرة» في أذن الميجور فارفان: «اخلع عنك هذا العبء.» ثم خلعت عنه السيف دون انتظار جوابه، وأعطته للبارمان.
ومر قطار من الصيحات بأقصى سرعة عبر الحجرة من خلال أنفاق كل آذان الحاضرين فيها، وواصل سيره مسرعا ...
كان الأحباب يرقصون اثنين اثنين على وقع الموسيقى وخارج وقعها، بحركات حيوانات ذات رأسين. وكان ثمة رجل قد صبغ وجهه كالنساء يعزف على البيانو. كان فمه والبيانو على السواء ينقصهما بعض الأسنان. وكان يرد على من يسأله لماذا يصبغ وجهه: «لأنني لعوب، لعوب بصورة فظيعة، وفي غاية الرقة.» ويضيف كي يترك أثرا أفضل لدى سامعيه: «إن أصدقائي ينادونني «بيب» أما الفتيان فيسمونني «البنفسجة». وأنا أرتدي قميصا رياضيا مقور الصدر، رغم أنني لا ألعب التنس، كيما أظهر صدري الناعم، وأضع «مونوكلا» لزوم الأناقة، وسترة من الفراك لأنني شارد الذهن. وأستخدم الأصباغ وأحمر الشفاه (آه، ما أشد شرور الناس الذين يسيئون الظن) كيما أخفي بثور الجدري من على وجهي، فهي هناك وستبقى هناك كقصاصات الكرنفال الورقية. أوه، حسنا، لا أهمية لذلك، لأنني قد تعودت عليه!»
ومر بالحجرة قطار من الصيحات بأقصى سرعة. وتحت عجلاته القاطعة، بين الكباس والتروس، رقدت امرأة مخمورة تتلوى ألما، ووجهها بلون نخالة الخبز. كانت تضغط بيديها على حقويها في حين سالت دموعها فأزالت الأصباغ من على وجنتيها وشفتيها: آه يا مبايضي! آه يا مبايضي! آه يا مبااااايضي! آه ... مبايضي! آه ... مبايضي، آه!
وهرع كل شخص، عدا أولئك المخمورين إلى درجة لا تمكنهم من الحركة إلى الانضمام للمجموعة التي تحلقت لترى ما يحدث. وفي الفوضى التي ضربت أطنابها في المكان، حاول الرجال المتزوجون أن يروا ما إذا كان أحد قد هاجم المرأة، حتى يكون بإمكانهم الهرب قبل أن تأتي الشرطة، في حين لم ينظر الآخرون إلى الأمر بهذه الخطورة وجروا هنا وهناك حتى يحتكوا بالفتيات وسط الهرج والمرج.
وكانت المجموعة تتزايد حول المرأة التي رقدت تتلوى وترتجف وعيناها تدوران في محجريهما، بينما تدلى لسانها إلى خارج فمها. وفي قمة الأزمة، انخلعت أسنانها الصناعية، وسرى هياج محموم بين النظارة، بينما تعالت ضحكة حين سقطت أسنانها فجأة على الأرض العارية.
ووضعت السيدة «تشون» حدا لهذا المشهد الشائن. كانت مشغولة هناك في الداخل وهرعت للمساعدة كالدجاجة السمينة التي تقاقي خلف فراخها؛ وأمسكت بالمرأة المسكينة من أحد ذراعيها ومسحت بها الأرض وهي تجذبها حتى المطبخ، حيث تعاونت معها «مانويلا» في وضعها في مخزن الفحم، بعد أن عاجلتها الطباخة ببعض ضربات من السيخ الحديدي.
واستغل الشيخ الذي أغرم بالخنزيرة الفوضى التي دبت فانتزعها من الميجور، الذي كان مخمورا جدا لدرجة لم يشعر معها بأي شيء. وصاحت ذات السن الذهبية حين عادت من المطبخ: يا لها من كلبة قذرة، هه، أيها الميجور «فارفان». إن مبايضها لا تؤلمها حين يحين وقت الأكل والنوم طوال اليوم؛ إن ذلك مثل الجندي الذي يشعر عند بداية المعركة بالذات بآلام في ...!
وغرقت عبارتها في انفجار ضحكات مخمورة. كانوا يضحكون كأنما يبصقون عسلا مخلوطا ب «الأنيس». وفي هذه الأثناء، تحولت السيدة «تشون» إلى البارمان وقالت له: لقد أردت أن أستعيض عن هذه المتوحشة العنيدة بالفتاة الجميلة التي أحضرتها من سجن «كاسانويفا» أمس. يا للخسارة إنها قد راحت من بين يدي! - آه، أجل، إنها كانت فتاة رائعة! - لقد قلت للمحامي إن عليه أن يحمل المدعي العسكري العام على إعادة نقودي لي. لن يستولي ابن العاهرة هذا على العشرة آلاف بيزو التي أعطيتها له. لست أنا من يفعل معها ذلك، هذا المجنون! - إنك على حق تماما. ولكني علمت أن ذلك المحامي ليس فوق مستوى الشبهات. - إنهم كلهم جماعة من المجرمين القذرين! - وهو بارع جدا في أساليب المساومة! - قل فيه ما تشاء. ولكني أعدك بشيء واحد: لن يلدغني المدعي العام مرتين. لو أنه يظن أن بإمكانه أن «يلهف» النقود مني هكذا ...!
ولم تكمل عبارتها واتجهت إلى النافذة لترى من يطرق الباب. وصاحت بصوت عال للرجل الواقف على الباب، يستحم في ضوء القنديل الأرجواني، ولفاعه مرفوع حتى عينيه: «يا لجميع الملائكة القدسيين! تحدث عن الشيطان تره!»
ثم توجهت دون أن ترد على تحيته كي تخبر البوابة أن تفتح الباب على الفور. - أسرعي وافتحي الباب يا «بانشا». أسرعي! افتحي بسرعة، إنه السيد «ميغيل»!
كانت السيدة «تشون» قد عرفته بحدسها الفائق وأيضا من عينيه الشيطانيتين. - حسنا، يا لها من معجزة!
وبينما كان ذو الوجه الملائكي يحييها، جال بعينيه في الحجرة، واطمأن حين رأى شخصا قابعا عرف فيه الميجور «فارفان»، وثمة خيط من اللعاب يسيل من فمه المفتوح. - معجزة كبرى؛ لأنه ليس من عادتك أن تزورنا نحن البسطاء. - كلا يا سيدة «تشون»، لا تقولي ذلك. - لقد جئت في وقتك. إنني كنت أتضرع لتوي للقديسين كيما يساعدوني في ورطة وقعت فيها، ولقد أرسلوك لي! - حسنا، إنني دائما تحت أمرك كما تعلمين. - شكرا. سأحكي لك عن ورطتي، ولكن يجب أولا أن تشرب شيئا. - لا تتعبي نفسك ... - ليس هناك من تعب. كأس صغير ليس إلا، كأس صغير مما تحب، مما تريد. برهان على حسن النية! كيف تريد الويسكي؟ ولسوف أقدمه لك في جناحي الخاص؛ تعال معي.
وكان جناح ذات السن الذهبية منفصلا تماما عن بقية الدار، وبدا كأنه عالم بحاله. مناضد، صوانات بأدراج، بوفيهات، كلها مزدحمة باللوحات والتماثيل والصور والآثار الدينية. وكانت ثمة لوحة للعائلة المقدسة تلفت الأنظار بحجمها الهائل والمهارة التي رسمت بها. كان يسوع الطفل في طول زنبقة بيضاء، وكان ما ينقصه أن يتكلم. وكان على الجانبين صورة رائعة للقديس يوسف مع العذراء في رداء مرصع بالنجوم. وكانت العذراء مزدانة بالجواهر، في حين يرفع القديس كأسا مرصعة بياقوتتين، كل منهما تساوي ثروة. وفي داخل صندوق زجاجي، كان ثمة تمثال ليسوع أسمر البشرة يحتضر، مغطى بالدماء، وفي صندوق زجاجي آخر عريض محاط بالأصداف كان ثمة تمثال للعذراء صاعدة إلى السماء - وهي تقليد بالنحت للوحة «موريللو» المشهورة. وكان أثمن شيء في التمثال هو الأفعى المصنوعة من الزمرد، التي تقعي عند قدمي العذراء. وبين الصور المقدسة كانت هناك لوحات للسيدة «تشون» (والاسم تصغير لاسمها الحقيقي وهو «كونسبسيون») في سن العشرين، حين كان ثمة رئيس للجمهورية تحت قدميها، عارضا عليها أن يأخذها إلى «باريس»، فرنسا، وكذلك قاضيان من قضاة المحكمة العليا، وثلاثة جزارين يتقاتلون بالسكاكين في أحد المهرجانات من أجلها. وفي أحد الأركان، بعيدا عن الأنظار، صورة لمن صمد من عشاقها، وهو رجل كثيف الشعر، انتهى به الأمر أن أصبح زوجا لها. - اجلس هنا على الأريكة يا سيد «ميغيليتو»، ستكون مرتاحا هناك. - إنك تعيشين عيشة هنية يا سيدة «تشون». - إني أعمل على راحتي ... - إن المكان، كالكنيسة ... - لا تهزأ بي، لا تسخر من قديسي. - وماذا تريدين مني؟ - اشرب كأسك أولا. - حسنا جدا، في صحتك. - في صحتك يا سيد ميغيليتو. وأرجو أن تغفر لي عدم شربي معك؛ إذ إن معدتي ليست على ما يرام. ضع كأسك هنا، على هذه المنضدة الصغيرة. هنا، ناولني إياه. - شكرا. - حسنا؛ كنت أقول يا سيد «ميغيليتو» إنني في ورطة شديدة ويسعدني أن أسمع نصائحك، ذلك النوع الذي يمكنك وحدك أن تسديها لي. لقد حدث أن أصبحت إحدى النساء التي لدي هنا لا نفع فيها فجأة، لذلك فقد أخذت أبحث عن غيرها. وقال لي أحد أصدقائي إن ثمة سجينة في «كاسا نويفا» موضوعة هناك بأمر من المدعي العام، فتاة جميلة هي ما أبتغي بالضبط. حسنا، إني أعرف ما يجب عمله، لذلك فقد ذهبت مباشرة إلى محامي - السيد «خوان فيداليتاس» - الذي سبق أن تحصل على بعض النسوة لداري، وجعلته يحرر لي خطابا مناسبا للمدعي العسكري العام، عارضة عشرة آلاف بيزو ثمنا لها. - عشرة آلاف بيزو؟ - أجل. ولم يكذب المدعي العام خبرا، فقد أجابني على الفور أنه موافق، وحالما تسلم النقود (التي أحصيتها بنفسي أوراقا نقدية من فئة 500 بيزو على مكتبه) أعطاني أمرا كتابيا لسجن «كاسانويفا» لتسليمي الفتاة التي أريدها. وقالوا لي هناك إنها سجينة لأسباب سياسية. يبدو أنهم قبضوا عليها في منزل الجنرال «كاناليس». - ماذا تقولين؟
كان ذو الوجه الملائكي يتابع قصة ذات السن الذهبية بعدم اكتراث، مرهفا أذنيه للباب كيما يتأكد من عدم مغادرة الميجور «فارفان» للمكان دون علمه (ذلك أنه كان قد بحث عنه ساعات طويلة) ولكنه حين سمع اسم «كاناليس» بدا وكأن شبكة من الأسلاك الدقيقة قد نشرت فجأة أمامه. لا بد أن هذه المرأة التعسة هي المربية «تشابيلا» التي ذكرتها كميلة في هذيانها المحموم. - آسف أن أقاطعك ... ولكن أين هذه المرأة الآن؟ - سوف آتي لذلك، ولكن دعني أكمل قصتي. أخذت أمر المدعي العام وذهبت بنفسي مع ثلاث فتيات لإحضارها من «كاسانويفا». لم أكن أريد أن يخدعوني ويعطوني أخرى أقل منها شأنا. وقد ذهبنا في عربة أخرى حتى نكون مستريحات. وهكذا وصلنا، وأعطيتهم الأمر، وفحصوه وقرءوه جيدا، وأحضروا الفتاة، وسلموها لي، وباختصار، أحضرناها معنا هنا حيث كان الجميع في انتظارها وأحبوها لأول وهلة. كل شيء على ما يرام حتى الآن، هه، يا سيد ميغيليتو. - وأين وضعتموها؟
كان ذو الوجه الملائكي يود أن يأخذها من هنا في هذه الليلة ذاتها. وبدت له الدقائق أعواما إذ كانت هذه المرأة العجوز تحكي قصتها. - إنكم جميعا سواء أيها الشبان المغرمون! ولكن دعني أكمل لك. بعد أن تركنا «كاسانويفا» لاحظت أن تلك المرأة ترفض أن تفتح عينيها أو أن تنطق حرفا. كنا كأنما نتحدث إلى جدار صامت. ظننت أنها تلعب علينا لعبة أو شيئا من هذا القبيل. والأدهى أنني لاحظت أنها كانت تحتضن رزمة في حجم طفل صغير بين ذراعيها.
واستطالت صورة كميلة في ذهن ذي الوجه الملائكي إلى أن انقسمت نصفين كحرف ثمانية، بالسرعة التي تنفجر بها فقاعة الصابون عند لمسها. - طفل صغير؟ - أجل، واكتشفت طباختي «مانويلا كالفاريو كريستاليس» أن ما كانت المرأة التعسة تهدهده بين ذراعيها هو طفل صغير ميت قد بدأ يتعفن. ونادتني فجريت إلى المطبخ وتعاونا نحن الاثنتين في انتزاعه منها بالقوة، ولكن ما كدنا نفتح ذراعيها - وقد كادت «مانويلا» أن تكسرهما - ونأخذ الطفل الميت منها حتى فتحت عينيها على اتساعهما كالميت يوم القيامة، وأطلقت صرخة لا بد أنها وصلت حتى السوق، وسقطت سطيحة على الأرض. - ميتة ؟ - لقد ظننا ذلك برهة. ثم جاءوا وأخذوها، ملفوفة في إحدى الشراشف إلى مستشفى القديس «خوان الإلهي». لم أكن أريد رؤية ذلك المنظر، فقد أرعبتني حالتها. وقالوا إن الدموع أخذت تنسال من عينيها المغلقتين كأنها ذلك الفائض من المياه التي لا نفع فيها لأحد.
وتوقفت السيدة «تشون» لالتقاط أنفاسها ثم تمتمت: لقد سألت عنها الفتيات اللاتي كن في زيارة للمستشفى ذلك الصباح، ويبدو أنها في حالة سيئة. والآن، هذا هو ما يقلقني، فكما يمكنك أن تتصور، لا يمكنني أن أدع المدعي العام يحتفظ بالعشرة آلاف بيزو التي أعطيتها إياه، وإنني أفكر في طريقة أجعله يعيدها لي، فلماذا بحق السماء يستولي على ما هو حقي؟ لماذا بحق السماء؟ إنني أفضل ألف مرة أن أهب هذا المبلغ منحة لدار الفقراء. - يجب على محاميك أن يعيدها لك، أما بشأن هذه المرأة المسكينة ... - تماما! ولقد ذهب مرتين اليوم ... آسفة لمقاطعتك، لقد ذهب محامي فيداليتاس مرتين لمقابلته، مرة إلى بيته ومرة إلى مكتبه، وفي كل مرة قال نفس الشيء؛ إنه لن يعيد لي شيئا. ها أنت ترى كيف أن هذا الرجل لص حقير. إنه يقول لو أن بقرة نفقت بعد أن بيعت فإن الخسارة تقع على المشتري وليس على البائع. إنه يتحدث عن الناس كما لو كانوا حيوانات! هذا ما قال. أوه، حقا إنني أود أن ...
كان ذو الوجه الملائكي صامتا - من تكون هذه المرأة التي بيعت؟ من يكون ذلك الطفل الميت؟
وظهرت السن الذهبية للسيدة «تشون» وهي تقول متوعدة: آه، ولكن ما أنوي فعله هو أنني سأعطيه علقة لم ينلها في حياته، ولا من أمه. إذا سجنوني فسيكون لأمر رهيب. يعلم الله أن كسب العيش أمر شاق مع وجود هؤلاء الناس الذين يسرقون المرء هكذا! عليه اللعنة ذلك الصعلوك العجوز. لقد قلت لهم بالفعل هذا الصباح أن يلقوا طينا من المقبرة على عتبة دار المدعي العام. سنرى إن كان ذلك يجلب عليه النحس. - وهل دفنوا الطفل؟ - لقد أعددنا جنازا له هنا في هذا البيت. إن الفتيات عاطفيات جدا. وقدمن فطائر الذرة ... - حفل كبير؟ - بالضبط!
والشرطة؟ ماذا فعلت؟ - لقد دفعنا كيما يعطوننا شهادة وفاة. وفي اليوم التالي، دفنا الطفل في الجزيرة في كفن جميل مطرز بالساتان الأبيض. - ألا تخافين وجود أقارب للطفل يطالبون بالجثمان أو يشكون من عدم إبلاغهم بالأمر؟ - هذا يكون القشة التي تقصم ظهر البعير! ولكن ... من ذا الذي سيطالب به؟ إن الأب «روداس» في السجن، والأم في المستشفى كما قلت لك.
وابتسم ذو الوجه الملائكي في سريرته؛ فقد انزاح حمل ثقيل من على نفسه. لا علاقة لذلك الطفل ولا تلك المرأة بكميلة. - بماذا تنصحني يا سيد ميغيليتو؟ إنك ماهر جدا. كيف لي أن أمنع ذلك البخيل العجوز من الاحتفاظ بنقودي؟ إنها عشرة آلاف بيزو، أتذكر ذلك؟ إنه مبلغ ليس بالقليل! - إن نصيحتي هي أن تذهبي لرؤية السيد الرئيس وتشتكي له. اطلبي مقابلة وقصي عليه الحكاية. وثقي أنه سيصحح الوضع؛ إذ إن ذلك من سلطته. - هذا ما فكرت فيه، ولسوف أنفذه. سوف أرسل له غدا برقية عاجلة أطلب مقابلته. ونحن أصدقاء قدماء لحسن الحظ. كان يحبني حين كان لا يزال وزيرا فحسب. لقد كان هذا منذ وقت طويل. كنت شابة وجميلة آنذاك، دقيقة الخصر كعود الخيزران، مثل تلك الصورة التي هناك. أتذكر أنني كنت أسكن حي «سيليتو» مع أمي - عليها رحمة الله - حين نقر ببغاء عينها فأعماها، هلا سمعت عن مثل سوء حظ كهذا! لا بد أن أعترف أنني قد شويت ذلك الببغاء، وكنت سعيدة تماما بهذا، وأعطيته للكلب، وأكله ذلك الكلب الغبي وأصيب بالسعار لوقته. ولعل أكثر ما أتذكره من تلك الأيام بهجة هو أن البيت كان يقع في الطريق الذي يجب أن تمر به جميع الجنازات في طريقها إلى المقبرة. وكانت الجثث تمر بنا على الدوام كل يوم. لقد كان هذا هو السبب الذي قطع لأجله السيد الرئيس علاقته بي إلى الأبد. لقد كان يخشى الجنازات . أما أنا، فماذا يهمني من ذلك؟ إنها ليست غلطتي. لقد كان كالطفل الصغير، رأسه مليء بالأوهام . كان يصدق أي شيء يقوله له أي شخص، سواء بالخير أو بالشر. كنت في البداية حريصة عليه، واعتدت أن أواصل تقبيله طوال الوقت الذي تستغرقه الجنازات في المرور بمختلف ألوان النعوش أمام المنزل، حتى لا يلحظ مرورها. ولكني مللت من ذلك ولم أعد أفعله. كان أحب شيء إليه أن تلعق له إحداهن أذنه، رغم أن طعمها يكون كريها أحيانا. إن بإمكاني أن أراه الآن، جالسا حيث أنت جالس، ومنديله الحريري الأبيض معقود بعناية وإحكام حول عنقه، وقبعته العريضة، وغطاء حذائه بحوافه الوردية، وحلته الزرقاء. - وبعد ذلك، أظن أنه لا بد وكان قد أصبح رئيسا للجمهورية بالفعل حين كان شاهدا على عرسك؟ - كلا، بالمرة. إن المرحوم زوجي - رحمه الله - لم يكن يهتم بمثل هذه الأشياء. وكان يقول: إن الكلاب وحدها هي التي تحتاج إلى شهود وأناس تحملق فيها حين تتزوج، ثم ينطلق العروسان وخلفهما شريط من الكلاب الأخرى، وكلها سائلة اللعاب متدلية الألسن ...
الفصل الخامس والعشرون
حاجز الموت
وصل القس على جناح الطير. وقال في نفسه: ثمة أناس على استعداد لأن يهرعوا مقابل جزء من هذا. فماذا هناك أغلى من نفس إنسانية؟ وثمة أناس يفرغون من طعامهم ومعدتهم لا تزال تضج طلبا للمزيد مقابل جزء من هذا. مع ... دة! إني أؤمن بثلاثة أشخاص منفصلين في الثالوث، وإله حقيقي واحد. ضجيج المعدة ليس هناك، بل هو هنا، عندي، عندي، عندي، عندي، في معدتي، في معدتي، في معدتي ... من معدتك، يا يسوع، ... هناك المائدة جاهزة، المفرش الأبيض، الأطباق البورسلين الناصعة البياض، والخادمة العجفاء ...
وحين دخل القس - تتبعه بعض النسوة من الجيرة من المدمنات حضور مشاهد الاحتضار - انتزع ذو الوجه الملائكي نفسه من رأس السرير الذي تنام عليه كميلة، وبدت وقع خطواته كانتزاع الجذور العميقة من تربتها. وأحضرت صاحبة الحانة كرسيا للقس، ثم انسحب الجميع من الغرفة.
وبدأت تتمتم كلمات الاعتراف الأخير: أنا، الخاطئة، أعترف لله ب ... - باسم الأب والابن والروح القدس ... يا ابنتي، كم مضى عليك منذ أن اعترفت آخر مرة؟ - شهران. - وهل أديت طقوس التوبة؟ - أجل يا أبي ... - اسردي خطاياك ... - أعترف يا أبي، أني كذبت ... - بشأن موضوع خطير؟ - كلا. وإني عصيت والدي، و... «تك، تاك، تك، تاك، تك، تاك.» - وأعترف يا أبي، إنني ... «تك، تاك.» - لم أحضر بعض القداسات ...
وبدا كأن الفتاة المريضة والقس الذي تعترف له يتحادثان في قبو تحت الأرض. كان الشيطان والملاك الحارس والموت حاضرين الاعتراف. وأفرغ الموت نظرته الخاوية في عيني «كميلة»، بينما جلس الشيطان عند رأس السرير يبصق عناكب، وبكى الملاك في أحد الأركان، بنشيج طويل منتحب. - وأعترف يا أبي أنني لم أكن أواظب على تلاوة صلواتي في المساء والصباح، وأنني ... «تك، تاك، تك، تاك.» - ... تشاجرت مع أقراني من الفتيات! - حول أمور تتعلق بسمعتك؟ - كلا ... - يا ابنتي، لقد اقترفت إثما عظيما في حق الله ... - وأعترف يا أبي أنني ركبت الجياد كالرجال. - أكان ذلك أمام الناس، وهل سبب ذلك فضيحة؟ - كلا، لم يكن هناك سوى بعض الهنود. - إذن لقد شعرت أن بوسعك القيام بأي شيء يقوم به الرجال. إن هذا أيضا خطيئة كبرى؛ فإن الله تعالى خلق المرأة كي تكون امرأة، وعليها ألا تحاول أن تغير من طبيعتها وتقلد الرجال، فإن هذا هو السير في طريق الشيطان الذي أراد أن يكون مساويا لله جل شأنه.
وفي الجزء الآخر من الغرفة، أمام النضد الذي غطوه كيما يصبح كمذبح الكنيسة، بما عليه من زجاجات من كل صنف ولون، كان ذو الوجه الملائكي «ولامسكواتا» والجيران ينتظرون، لا ينطقون حرفا بل يتبادلون نظرات مليئة بالخوف والرجاء، ويزفرون سيمفونية من النهدات، ثقيلة بما تحمله من فكرة الموت الخانقة. وأظهر الباب الموارب لمحة من الطريق ساطع النور، وفناء كنيسة «لامرسيد»، وبعض المنازل وحفنة من المارة. وشعر ذو الوجه الملائكي بالألم لرؤية هؤلاء الناس يروحون ويغدون بلا اكتراث رغم أن «كميلة» تحتضر - وهم كحبات رمال ثخينة في غربال شمسي، أشباح تسيطر عليها روح التعقل، مصانع براز متنقلة ...
وجر صوت القس سلاسل صغيرة من الرنين خلال الصمت الذي يسود الحجرة. وسعلت المريضة. وقطع الهواء طبول رئتيها . - أبتاه، إني أعترف بكل الخطايا الصغيرة والكبيرة التي اقترفتها ونسيتها.
وتلا ذلك عبارات الغفران باللاتينية، واختفاء الشيطان مهطعا، وظهور الملاك كهالة من نور كيما ينشر جناحيه الأبيضين فوق «كميلة». وينهي غضب ذي الوجه الملائكي من المارة غير المبالين، ومن كراهيته الصبيانية الممزوجة بالحنان، ويجعله يفكر - إذ إن الرحمة لها دروب خفية - في أن يعمل على إنقاذ رجل يتهدده خطر الموت، فربما يمنحه الله حياة «كميلة» في مقابل ذلك، رغم أن الأمر يبدو مستحيلا من وجهة نظر العلوم الطبية.
وخرج القس في صمت، وتوقف على عتبة الباب ليشعل سيجارة من ورق الذرة ويلملم أطراف مسوحه الكهنوتي؛ فقد كان القانون يلزمه بأن يبقيه مختفيا تحت عباءته ما دام في الطريق. كان يبدو رجلا مسالما وديعا عذبا. وذاعت الأنباء بأنه قد استدعي كيما تعترف له امرأة تحتضر. وغادر الجيران البيت بعده، كما خرج ذو الوجه الملائكي كي ينفذ خطته في إنقاذ رجل. «حارة المسيح»، «الحصان الأبيض»، ثم «ثكنات الكلفاري». وهناك سأل ذو الوجه الملائكي العريف الذي يقوم بالحراسة عن الميجور «فارفان»، فقال له أن ينتظر، ودلف جندي إلى الداخل مناديا: الميجور «فارفان»! الميجور «فارفان»!
ومات صوته في الفناء الرحيب دونما جواب. ولم يرد عليه سوى أصداء صوته التي ترددت وسط المنازل البعيدة: جور فان فان! جور فان فان!
ووقف المحبوب ينتظر على بعد خطوات قليلة من الباب، دون أن يتجاوب مع ما كان يجري حوله. كانت الكلاب والنسور تتشاجر على قطة ميتة ملقاة وسط الطريق. وفي مقابل هذا المشهد مباشرة كانت ثمة نافذة ومن ورائها ضابط يتسلى بمراقبة المعركة الشرسة وهو يفتل طرفي شاربه. وكانت ثمة سيدتان تحتسيان عصير الفاكهة في حانوت صغير يموج فيه الذباب. ومن الباب الخارجي للمنزل التالي خرج خمسة صبية صغار يرتدون ملابس البحارة، يتبعهم سيد شاحب كالكرنبة وسيدة حبلى (بابا وماما). وشق جزار طريقه وسط الصبية وهو يشعل سيجارة؛ كانت ملابسه تغطيها بقع الدماء، وقد شمر عن ساعديه، وحمل ساطوره الحاد بالقرب من صدره. وكان الجنود يروحون ويغدون ، وثمة خيط متعرج من آثار أقدام حافية مبللة فوق القرميد الذي يغطي الصالة الداخلية ثم يختفي في الفناء. وصلصلت مفاتيح الثكنة وهي تصطدم ببندقية الحارس إذ كان واقفا انتباه إلى جوار ضابط الحراسة الذي كان يجلس على مقعد حديدي في وسط حلقة من كتل البصاق.
ودلفت إلى المكان عجوز بيضاء الشعر، تمشي الهوينا كالغزال الصغير، جلدها في لون النحاس المحروق بفعل الشمس وقد غضنته السنون، واتجهت إلى الضابط وغطت رأسها بشالها القطني في احترام وقالت له متضرعة: عفوا يا سيدي، إني أرجوك بحق الرحمة أن تدعني أتحدث مع ابني، وستكافئك العذراء على صنيعك.
وقبل أن يرد الضابط عليها أطلق سيلا من البصاق، تفوح منه رائحة التبغ وتسويس الأسنان. - ما هو اسم ابنك يا سيدتي؟ - إسماعيل يا سيدي. - إسماعيل ماذا؟ - «إسماعيل ميخو» يا سيدي.
وبصق الضابط مرة أخرى. - ولكن، ما هو لقبه؟ - «ميخو» يا سيدي. - اسمعي، من الأفضل أن تعودي يوما آخر فنحن مشغولون.
وانسحبت العجوز دون أن تنزل الشال من على رأسها، في بطء، وهي تحصي خطواتها كأنما هي تزن آلامها؛ وتوقفت برهة على حافة الطوار ثم عادت ثانية واقتربت من الضابط الذي كان لا يزال جالسا على مقعده. - اعذرني يا سيدي، ولكني لا أستطيع البقاء هنا أكثر من ذلك؛ إني آتية من بعيد جدا، على مسافة ستين كيلو مترا، لذلك فإني إذا لم أره اليوم فلا أعرف متى سأستطيع العودة. هلا استدعيته من فضلك؟ - لقد سبق أن قلت لك إننا مشغولون. اذهبي ولا تضايقيني.
وكان ذو الوجه الملائكي يشهد هذا المنظر، وثارت فيه مرة أخرى الرغبة في أن يفعل خيرا حتى يكافئه الله على ذلك بإنقاذ حياة كميلة، فقال للضابط في صوت خفيض: استدع الشاب أيها اللفتنانت، وهاك شيء حق السجائر.
وتناول الضابط النقود دون أن ينظر إلى الغريب وأصدر أوامره بإحضار «إسماعيل ميخو». ووقفت العجوز الضئيلة الحجم تحدق إلى من أحسن إليها كأنما هو ملاك.
ولم يكن الميجور «فارفان» موجودا في الثكنات. وظهر موظف في إحدى الشرفات وقلمه خلف أذنه، وأخبر المحبوب أن الميجور يكون عادة في هذه الساعة من الليل في دار «النشوة اللذيذة»؛ لأن ابن إله الحرب النبيل هذا يقسم وقته بين الواجب والهوى، ولكن لن يضر شيء أن يبحث عنه أولا في بيته. واستقل ذو الوجه الملائكي عربة أجرة. كان «فارفان» يسكن شقة مفروشة في ضاحية بعيدة. وكان باب الشقة ناحل اللون كثير الفروج بفعل الرطوبة فكان يبين عن داخل الشقة المظلم. ودق ذو الوجه الملائكي مرتين وثلاثا. لم يكن هناك أحد في الداخل. وعاد لتوه، ولكنه ذهب يرى كيف حال «كميلة» قبل أن يتوجه إلى دار «النشوة اللذيذة». ودهش لصوت العربة بعد أن تركت الطرق غير الممهدة إلى الطرق المرصوفة: حوافر الجياد والعجلات، العجلات وحوافر الجياد.
حين انتهت ذات السن الذهبية من حكاية غرامها مع الرئيس، عاد ذو الوجه الملائكي إلى الصالون. كان من الأهمية لديه بمكان ألا يغرب ميجور «فارفان» عن نظره، وأن يتحقق من قصة المرأة التي قبضوا عليها في منزل «كاناليس» وباعها المدعي العسكري العام النذل مقابل عشرة آلاف بيزو.
كان الرقص على أشده في الصالون، والراقصون يتمايلون على أنغام الفالس، يصاحبهم صوت «فارفان» الغارق في السكر، بغنائه:
لماذا هن البغايا،
مفتونات بي؟
لأني أغني لهن دائما؛
أغنية زهرة المقهى!
واعتدل في جلسته فجأة وأدرك أن الخنزيرة ليست معه، فتوقف عن الغناء وصاح بين نوبات الفواق: «إذن لقد ذهبت «الخنزيرة»، أليس كذلك أيها الأفاقون؟ إنها مشغولة، أليس كذلك أيها الأفاقون؟ إذن أنا ذاهب، أقول لكم إني ذاهب، أ ... قو ... ل لكم إني ... ذاهب، ذاهب ... حسنا، ولماذا لا أذهب؟ ... أقول لكم إني ذاهب ...»
ونهض بصعوبة وهو يستند إلى المنضدة التي قد تمدد عليها، وإلى المقاعد والجدران، ومشى مترنحا ناحية الباب. وجرت الخادمة تفتحه له. - «أقول ... لكم ... إني ذاهب! سوف تعود هذه العاهرة، أليس كذلك يا سيدة «تشون»؟ ولكني ذاهب! لم يعد أمامنا نحن العسكريين المحترفين إلا أن نموت من السكر، وعندها يكون بوسعهم أن يستقطروا الخمر منا بدلا من أن يدفنونا! يعيش يخني لحم الخنزير، وتعيش الجماهير!»
ولحق به ذو الوجه الملائكي على الفور. كان يسير على حافة الطوار مترنحا كالبهلوان، يقف مرة وقدمه اليمنى في الهواء، ومرة قدمه اليسرى، ثم مرة أخرى قدمه اليمنى، والآن قدماه الاثنتان ... ولحق نفسه قبل أن يقع وقال ملاحظا: «هكذا ... كما قال البغل للجام.»
وكانت ثمة نوافذ مفتوحة في ماخور آخر تلقي بأضوائها في الطريق، وعازف بيانو طويل الشعر يعزف صوناتة ضوء القمر لبيتهوفن. ولم يكن هناك من أحد ينصت له في الغرفة الخالية سوى المقاعد التي اصطفت كالنظارة من حول البيانو الضخم المتهالك، الذي لم يكن يزيد في ضخامته عن حوت يونس. وتوقف ذو الوجه الملائكي جامدا وقد بهرته الموسيقى. وأسند الميجور - ذلك الدمية المطواعة - إلى الحائط، واقترب كيما يخضع شذرات فؤاده المحطوم للألحان: كان يعود إلى الحياة وسط الأموات رجل ميت ذو عينين مشتعلتين معلق بعيدا بعيدا فوق الأرض، بينما كانت عيون مصابيح الطريق تنطفئ واحدة بعد أخرى، وقطرات الندى الليلي تتساقط من الأسطح كالمسامير التي تصلب السكارى أو التي تندق في ألواح النعش الخشبية. وكان كل مفتاح صغير داخل الصندوق المغناطيسي للبيانو يجذب رمال الألحان الموسيقية الدقيقة، وبعد أن يحبسها في جوفه فترة، يطلقها مرة أخرى على شكل أصابع للنغمات الوترية، مضاعفة كيما تسكر باب الحب المغلق على الدوام؛ نفس الأصابع دائما، ونفس اليد دائما. وكان القمر يجنح عبر سماء ممهدة تجاه الحقول الغافية، مخلفا وراءه أحراجا تخيم عليها الظلمة، مرعبة للطيور، ولأولئك الذين يجدون الدنيا قد انقلبت رحيبة واسعة كأنما بفعل السحر حين يولد الحب، وضيعة فارغة حين يموت الحب.
واستيقظ «فارفان» ليجد نفسه راقدا على نضد حانة صغيرة، تهزه يد أحد الغرباء كما يهزون الشجرة حتى تسقط ثمارها الناضجة. - ألا تعرفني يا ميجور؟ - أجل ... لا ... حالا، حالا سأعرفك ... - ألا تذكرني؟ - آ آ ... أوه. تثاءب فارفان وهو ينهض من على النضد الذي كان راقدا عليه، وقد بلله العرق كبغال الجمر. - «إني ميغيل ذو الوجه الملائكي، في خدمتك.»
وحياه الميجور بالتحية العسكرية. - «أرجو أن تعذرني، فإني لم أتعرف عليك. ولكن، أجل، بالطبع، إنك من يرى دائما مع السيد الرئيس.» - حسنا! لا تندهش لإيقاظي إياك، يا ميجور، على هذا النحو المفاجئ. - لا أهمية لذلك بالمرة. - ولكن لقد حان الآن وقت عودتك إلى الثكنات، وكان يجب أن أحادثك على انفراد، ومن المصادفة أن كانت صاحبة هذه ... فلنقل هذا المقهى، غائبة الآن. لقد بحثت عنك في كل مكان، كالإبرة في كومة من القش، أصيل أمس، في الثكنات، في شقتك. يجب أن تعدني بألا تبوح لشخص بما سوف أقوله لك الآن. - كلمة شرف.
وشد المحبوب على يد الميجور بحرارة وقال له بصوت خفيض وعينه على الباب: إنني في مركز يمكنني أن أعرف أنه قد صدرت أوامر بالتخلص منك. لقد أرسلت تعليمات إلى المستشفى العسكري بأن تعطي لك جرعة منومة قاتلة في أول مرة تدخل هذه المستشفى عقب إحدى سهراتك الصاخبة. لقد أبلغت العاهرة التي تصاحبها في دار «النشوة اللذيذة» السيد الرئيس عن نوباتك الثورية.
وتصلب «فارفان» في موضعه من وقع كلمات المحبوب إليه. ثم رفع قبضته في الهواء صائحا: آه، الكلبة!
وضرب الهواء بقبضته كأنما هو يضرب العاهرة، ثم أحنى رأسه كأنما هو قد انسحق. - يا إلهي، وماذا سأفعل؟ - لا تسكر في الوقت الحاضر، فهذا هو السبيل الوحيد لاتقاء الخطر الداهم، ثم لا ... - هذا ما كنت أفكر فيه، ولكني قد لا أتحمل ذلك، فهو شيء صعب جدا. ماذا كنت ستقول؟ - كنت سأقول لك أيضا إنه يجب ألا تتناول طعاما في الثكنات. - لا أعرف كيف أشكرك. - بالصمت ... - بالطبع. ولكن هذا لا يكفي. ومع ذلك، فلا بد أن تسنح لي فرصة أرد لك فيها هذا الجميل؛ ومن الآن؛ يمكنك أن تعتمد علي في أي شيء، فأنا مدين لك بحياتي. - ولسوف أعطيك نصيحة أخرى طيبة كصديق. حاول أن تعثر على طريقة تصبح بها من أتباع السيد الرئيس. - أجل، هذا هو طريق الخلاص، أليس كذلك ؟ - لن يكلفك هذا شيئا.
وكان كل منهما يضيف إلى ذلك الكلام في سريرته:
إن أفضل وسيلة لكسب ثقة السيد الرئيس هي: ارتكاب جريمة، مثلا، أو الجور العلني على الناس الضعفاء العزل، أو إظهار تفوق القوة الغاشمة على الرأي العام، أو اكتساب الأموال على حساب الأمة، أو ... ... وأفضل وسيلة هي ارتكاب جريمة قتل، إن القضاء على أحد الزملاء هو أفضل برهان يقدمه مواطن على ولائه للسيد الرئيس. ثم يقضي شهرين في السجن حفاظا على المظاهر، ثم يتولى بعد ذلك مباشرة أحد المناصب العامة المخصصة لأهل الحظوة؛ مما لا تمنح إلا لمن له قضية معلقة أمام المحاكم لم يتم البت فيها؛ وذلك حتى يمكن الزج بهم في السجن مرة ثانية إذا هم لم يحسنوا السلوك. - لن يكلفك هذا شيئا. - إنك لفي غاية الكرم يا سيد «ميغيل». - كلا يا ميجور، لا تشكرني، إن قراري بإنقاذ حياتك هو قرباني إلى الله مقابل حياة مريضة في حالة خطرة. حياتك مقابل حياتها. - أهي زوجتك؟
وطافت أجمل كلمة في نشيد الإنشاد فترة سابحة في الهواء، كوشي سحري لطيف، وسط أشجار مليئة بالملائكة الصغار، وبراعم أزهار البرتقال.
وبعد أن خرج الميجور، قرص ذو الوجه الملائكي نفسه كيما يتأكد أنه هو بلحمه ودمه - الرجل الذي ساق الكثيرين إلى حتفهم - هو الآن بنفسه الذي يدفع رجلا إلى الحياة، في تلك الزرقة الصافية للصباح الطالع.
الفصل السادس والعشرون
زوبعة
وأزاح ذو الوجه الملائكي صورة الميجور البدين من ذهنه، ثم أغلق الباب وتسلل على أطراف أصابعه إلى الغرفة الداخلية المظلمة. كان يشعر وكأنما هو يحلم. إن الفرق بين الحقيقة والحلم هو فرق زائف تماما. نائم، مستيقظ، في أي الحالتين هو؟ وبدا في الغبشة كأنما يشعر بالأرض تميد تحت قدميه. وكانت الساعة والذباب يصحب كميلة إذ هي راقدة تحتضر، فالساعة - نابضة - تسقط حبات الأرز الصغيرة لتترك علامة على طريق العودة، حين تحل ساعة الموت. أما الذباب فهو يجري فوق الجدران، ينظف أجنحته الصغيرة من برودة الموت. وكانت ثمة ذبابات أخرى تطن وهي تطير هنا وهناك بسرعة. وتوقف ذو الوجه الملائكي أمام السرير في هدوء. كانت المريضة لا تزال سادرة تهذي ... ... لعبة الأحلام ... برك من زيت الكافور ... حوار النجوم البطيء ... الاتصال الخفي المالح العاري بالفضاء الخالي ... مفصلة اليدين المضاعفة ... عدم جدوى اليدين في اليدين ... صابون معطر ... الحديقة في كتاب المطالعة ... في بيت النمر ... في ما وراء عالم الببغاوات الفسيح ... في قبضة الإله ... في قبضة الإله ... في قداس منتصف الليل - المسمى قداس الديك - ديك على عرفه قطرة من القمر ... ينقر القربان المقدس ... يضيء وينطفئ، يضيء وينطفئ، يضيء وينطفئ ... إنه قداس إنشاد ... إنه ليس ديكا، إنه ومضة برق من السيلوليد في عنق زجاجة ضخمة يحيط بها جنود صغار ... برق حانوت الحلوى المسمى «الزهرة البيضاء» التي تضعها القديسة روزا ... رغوة بيرة الديك تقدم للديك الصغير ... للديك الصغير ...
سوف تسجيها،
جثة هامدة،
يا ملاك الموت، موت!
فهي ليست سعيدة هنا،
يا ملاك الموت، موت!
ثمة صوت طبول لا يسمع خلاله أحد يتمخط، طبول تقتفي أثر الدقات في مدرسة الريح ... قف! إنها ليست طبولا، بل هو باب يردد صدى مقرعة على شكل يد نحاسية. وتتردد الدقات كالنذير في كل ركن من أركان الصمت الداخلي للبيت ... رات تات تات ... طبول البيت. كل بيت له طبول على بابه تستدعي ساكنيه الذين هم عماد حياته، وحين يكون الباب مغلقا يكونون كالأحياء الأموات ... رات تات تات ... البيت ... الباب ... رات تات تات البيت ... وحين تسمع مياه النافورة صوت طبول الباب ترهف آذانها، ويقول الناس لخدمهم في غلظة: «أوه، الباب يقرع!» وترجع الجدران صدى يتردد مرارا وتكرارا: «الباب يقرع، اذهب وافتح الباب!» «أوه، الباب يقرع، اذهب وافتح الباب!» الرماد في قلق، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا (بينما القطة جالسة كالحارس اليقظ) إلا أن يبعث رجفة رقيقة عبر قضبان الموقد؛ وتخاف الورود - الضحايا البريئة للأشواك القاسية؛ وتتكلم المرايا، تلك الوسائط المشربة، بصوت هو روح من الأثاث الميت: آي ... يدقون، تعالوا افتحوا! ... البيت كله يرتج كأنما حدث زلزال، ويريد أن يذهب ليرى من يقرع الباب، يقرع ، يقرع، يقرع طبول الباب: وترقص الكسرولات، وتتهادى أصص الزهور، وتدق الأحواض الحديدية: «راتابلان، راتابلان!»، وتسعل الأطباق سعلة صينية، وتتناثر الأقداح وأدوات المائدة كالضحكة الفضية، وتتبع الزجاجات الفارغات الزجاجة التي زينت بدموع دهن الشمعة والتي يستخدمونها شمعدانا في الغرفة الخلفية؛ وكتب الصلوات من فروع النخيل تحاول عندما يقرعون الباب الدفاع عن البيت ضد العاصفة، والمقصات، والأصداف، واللوحات، وخصلات الشعر القديمة، ودنان الزيت، وصناديق الكرتون، وعيدان الثقاب، والمسامير. ... أعمامها هم الوحيدون الذين يتظاهرون بالنوم وسط الأشياء النائمة، في جزر أسرتهم العريضة، متسترين بالأغطية المحشوة بالقطن والتي تعبق برائحة عصير الأمعاء، وعبثا تقرض طبول الباب في الصمت العريض. وتغمغم واحدة من زوجات أعمامها، وأكثرهن نفاقا: «إنهما لا يزالان يقرعان الباب.» ويرد زوجها في الظلام: «أجل، ولكن من الخطر فتح الباب»، «كم الساعة الآن؛ آه يا عزيزي، لقد كنت مستغرقة في النوم ... إنهما لا يزالان يقرعان الباب»، «أجل، ولكن من الخطر فتح الباب»، «وماذا سيقول الجيران؟» «أجل، ولكن من الخطر فتح الباب. إذا كان الأمر يتعلق بنا نحن فقط لفتحنا الباب بالطبع، ولكن فكري فيما سيقول الناس عنا!» «إنهما لا يزالان يقرعان الباب»، «أجل ولكن من الخطر فتح الباب»، «إنه لأمر شائن، هل سمعت أبدا شيئا كهذا؟» «أجل ولكن من الخطر فتح الباب!»
ثم خفت صوت عمها الخشن وصدر الآن عن حلوق الخدم. ووصلت أشباح تعبق برائحة الخراف إلى حجرة نوم سيدها وهي تهمس: «سيدي، سيدتي. أنصتا كيف يدقان على الباب! ...» ثم تعود إلى أسرتها السفرية وإلى براغيثها وإلى أحلامها، وهي تردد مرارا وتكرارا: آه، ولكن من الخطر فتح الباب. آه، إن من الخطر فتح الباب!
رات تات تات على طبول البيت ... ظلمة الطريق ... الكلاب تغطي السماء بقرميد نباحها، باسطة سطحا للنجوم وللزواحف السوداء والغاسلات المجبولات من الطين، اللائي يدفعن أذرعتهن في أعماق رغوة البرق الفضي. «بابا ... عزيزي بابا ... بابا!»
ونادت على أبيها في غمرة هذيانها، وعلى مربيتها العجوز التي ترقد ميتة في المستشفى، وعلى أعمامها الذين لم يفتحوا لها أبواب منازلهم حتى وهي تحتضر.
ووضع ذو الوجه الملائكي يده على جبهتها. وجال في خاطره وهو يربت عليها: «إن شفاءها ضرب من المعجزة. آه لو كان بإمكاني فحسب أن أطرد عنها المرض بدفء يدي!» كان يعاني من ذلك الحزن الغامض الذي يصيب من يرقب مخلوقا فتيا يحتضر، تلك الرقة الراجفة التي بعثت بالشجن يزحف تحت جلده وخلال لحمه. ما بوسعه أن يفعل؟ وبدأ عقله يقحم آليا صلوات بين أفكاره: «لو كان بوسعي فحسب أن أزحف تحت جفنيها وأزيل دموع الحزن والوحدة من عينيها، من تلكما العينين اللتين بلون أجنحة الأمل. فليحفظك الله. نحن المحرومين نضرع إليك يا إلهي. إن الحياة كل يوم جريمة ... حين يحب المرء. امنحنا يومنا يا إلهي.»
وحين خطر بيته على باله كان كأنما يفكر في بيت غريب. إن بيته هنا، مع «كميلة»؛ صحيح إن هذا ليس منزله، ولكن «كميلة» فيه. وماذا يحدث لو لم تكن «كميلة» هنا؟ واخترق جسده ألم غامض طواف. ماذا يحدث لو لم تكن «كميلة» هنا؟
ومرت عربة نقل، فاهتز المنزل وارتجت الزجاجات على رفوف البار؛ ودقت مطرقة باب، واهتزت بيوت الحي. وأجفل ذو الوجه الملائكي إلى درجة شعر معها أنه لا بد وكان على وشك أن ينام وهو واقف. من الأفضل أن يجلس. كان ثمة مقعد إلى جوار منضدة الأدوية. وبعد لحظة كان هذا المقعد يستقبل جسده. تكات الساعة، رائحة الكافور، ضوء الشموع المضاءة قربانا ليسوع كنيسة «لامرسيد» ويسوع «كاندلاريا» المجيدين، المنضدة، المناشف، الأدوية، زنار رداء القديس فرانسيس الذي أعارته لهم إحدى الجارات كيما يطرد الشيطان، كانت كلها تتحلل تحللا فوريا في هدوء في إيقاع بطيء، في تدرج موسيقي يبعثه المخدر؛ عناء لذيذا به ثقوب أكثر مما في إسفنجة، خفي، نصف ذائب، مستور، تخترقه ظلال الأحلام المتقطعة: «من يعزف على الجيتار؟ ... عظام صغيرة تتكسر في القبو المظلم، الذي ترتفع منه أغنية المهندس الزراعي ... البرد القارس بين أوراق الشجر ... ومن جميع مسام الأرض ترتفع ضحكة متصلة شيطانية كالجناح المربع الأركان ... هل هم يضحكون، هل هم يبصقون، ماذا يفعلون؟ لم يهبط الليل بعد، ولكن الظلام يفصل بينه وبين كميلة، ظلام الجماجم التي تضحك في مقلاة المشرحة ... تصدر الضحكة عن أسنان سوداء مريعة، بيد أنها حين تبلغ الهواء تمتزج ببخار الماء وترتفع إلى أعلى كيما تصبح سحابا. وأسوارا مجبولة من أمعاء بشرية تقسم الأرض إلى نصفين. وضلوع جواد تصبح فيولينة يعزف الإعصار الهادر أنغامه عليها. ويرى جنازة «كميلة» تمر من أمامه، عيناها تسبحان في زبد لجام نهر من العربات السوداء ... لا بد أن للبحر الميت عيونا أيضا!»
عيناها الخضراوان ... لماذا يلوح السائقون بقفازاتهم البيضاء في الظلمة؟ ... ووراء موكب الجنازة، يغني هيكل عظمي مليء بعظام أفخاذ الأطفال: «أيها القمر، أيها القمر، خذ برقوقتك، وألق الحجر في البحيرة!» - وكل عظمة صغيرة رقيقة تغني هذه الأغنية: «أيها القمر، أيها القمر، خذ برقوقتك، وألق الحجر في البحيرة!» وعظام الحوض بعيون مستطيلة كالعراوي: «أيها القمر، أيها القمر، خذ برقوقتك، وألق الحجر في البحيرة! ... لماذا يتعين على الحياة اليومية أن تستمر؟ ... لماذا يستمر الترام يسير؟ ... لماذا لا يموت كل الناس؟ ... بعد جنازة «كميلة» لا يمكن أن تكون الأشياء على حالتها السابقة، كل شيء تافه، زائف، لا وجود له ... من الأفضل لو استطاع الضحك ... البرج ينحني من فرط الضحك ... وهم يفتشون جيوبها بحثا عن تذكارات ... التراب الذي خلفته أيام «كميلة» ... لا قيمة له ... خيط ... ينبغي أن تكون «كميلة» هنا الآن ... خيط ... بطاقة قذرة ... أوه، ووجنة ذلك الدبلوماسي الذي يأتي بالنبيذ والبضائع المعلبة دون رسوم جمركية ثم يبيعها لحانوت يملكه نمساوي من أرض «التيرول» ... دع العالم كله يغني ... حطام سفينة ... أطواق النجاة كالتيجان البيضاء ... دع العالم كله يغني ... كميلة، ساكنة بين ذراعيه ... مقابلة ... يد قارع الجرس ... إنهم يقلبون نواصي الطريق رأسا على عقب ... شاحبة من الانفعال ... تتميز غيظا، صامتة، متفسخة ... لماذا لا يقدمون لها ذراعهم؟ ... وتترك نفسها تهبط بنسيج حاسة اللمس لديها، تستند على الذراع التي تنقصها؛ وهي لا تمسك إلا بردن السترة الفارغ ... في أسلاك البرق ... لقد أضاع وقته ينظر إلى أسلاك البرق، ومن منزل ضخم في «حارة اليهود» يخرج خمسة رجال مجبولين من الزجاج المعتم، يعترضون طريقه، كل واحد منهم ينز من صدغه سيل من الدماء ... ويحارب يائسا ليصل إلى المكان الذي تنتظره فيه كميلة، يعبق برائحة صمغ طوابع البريد ... وبعيدا يرى جبل الكرمل.
ويحاول ذو الوجه الملائكي في حلمه المتقطع أن يشق طريقه إلى الخارج. إنه أعمى ... إنه يبكي ... ويحاول أن يعض خيط الظلمة الرفيع الذي يفصله عن حجر النمل البشري الذي يقام تحت تندات من القش على التل الصغير لبيع اللعب والفاكهة والحلوى ... ويشرع مخالبه ... وينتصب شعره ... وينجح في عبور جسر صغير ويجري لمقابلة كميلة، ولكن الرجال الخمسة المجبولين من الزجاج المعتم يعترضون طريقه ثانية. إنهم يقسمونها شرائح صغيرة لعيد القربان المقدس! ويصيح فيهم: «دعوني أمر قبل أن يدمروها كلية. إنها لا تستطيع الدفاع عن نفسها لأنها ميتة! ألا ترون؟ انظروا، انظروا! كل ظل له ثمرة فاكهة وثمة شذرة من «كميلة». مبثوثة في كل ثمرة!» كيف يصدق المرء عينيه؟ لقد رأيتها مدفونة وكنت على ثقة من أنها ليست هي، إنها هنا في عيد القربان المقدس، في هذه المقبرة، تعبق برائحة السفرجل والمانجو الكمثرى والخوخ؛ وصنعوا من جسدها حمائم صغيرة بيضاء، عشرات ... مئات من الحمائم القطنية البيضاء الصغيرة مربوطة بشرائط ملونة مطرز عليها عبارات مثل «اذكريني» «حب خالد» «أنت في بالي دائما» «حبني إلى الأبد» «لا تنسني». ويغرق صوته في صوت الأبواق الصبيانية الحاد، والطبول المصنوعة من أمعاء السنوات العجاف والخبز العفن؛ وفي جمهرة الناس (آباء يصعدون بخطى متثاقلة، وأطفال يطاردون بعضهم بعضا)؛ وفي صلصلة الأجراس في أبراج الكنائس، وفي حمأة الشمس، وفي دفء الشموع العمياء في الظهيرة، في وعاء القربان المقدس المتلألئ ... ويندمج الرجال الخمسة المجبولون من الزجاج المعتم في رجل واحد، شكل مجبول من دخان غاف ... ومن بعيد، لا يبدو لهم مظهر ملموس ... إنهم يشربون مياها غازية ... راية من المياه الغازية مرفوعة في الأيدي ترفرف كالصرخات ... متزلجون على الجليد ... «كميلة» تنزلق بين متزلجين خفيين، عبر مرآة عامة تعكس الخير والشر بلا محاباة . وشنفت الآذان برنة صوتها المعطر وهي تحاول أن تدافع عن نفسها بقولها: «كلا، كلا، ليس هنا !» «ولكن، لم لا هنا؟» «لأنني ميتة» «وماذا يهم ذلك؟» «ذلك ...» «ماذا؟ قولي ماذا؟» ومر بين الاثنين تيار من الهواء البارد من السماء الرحيبة وطابور من الرجال يرتدون بناطيل حمراء. وخرجت «كميلة» وراءهم. وبدافع المفاجأة يندفع هو وراءها ... ويقف الطابور فجأة مع آخر دقة من الطبول ... ويتقدم السيد الرئيس ... هيئته موشاة بالذهب ... «تانتارارا!» ويتقهقر الجمهور مرتعدا ... ويلعب الرجال ذوو البناطيل الحمراء برءوسهم.
برافو ... برافو! أعيدوا مرة ثانية! مرة أخرى، أحسنتم! ولكن الرجال ذو البناطيل الحمراء لا يطيعون أوامر رؤسائهم بل يطيعون صوت الجمهور ويستمرون في اللعب برءوسهم ... ثلاث مرات ... واحد: ارفع الرأس عاليا ... اثنان: اقذفها عاليا كيما تمشط بين النجوم ... ثلاثة: التقطها بين يديك وأعدها إلى مكانها ... برافو، برافو! أعيدوا مرة ثانية! مرة ثانية! أحسنتم! مرة ثانية! إن ذلك يقشعر البدن ... وتموت الأصوات تدريجيا ... وتسمع الطبول ... ويرى كل شخص شيئا لا يريد أن يراه. ويخلع الرجال ذوو البناطيل الحمراء رءوسهم ويقذفون بها في الهواء، ولكنهم لا يلتقطونها حين تهبط. وتتهشم الجماجم على الأرض أمام صفي الأشخاص الجامدين وأيديهم مقيدة وراء ظهورهم.
وأيقظت ذا الوجه الملائكي دقتان عاليتان على الباب. يا له من كابوس مريع! شكرا لله على أن الحقيقة مختلفة تماما. إن اليقظة من كابوس يخلف في النفس ذات الشعور الذي تخلفه العودة من جنازة. وجرى ليرى من يدق الباب. أهي أنباء عن الجنرال أو استدعاء عاجل من السيد الرئيس؟ - صباح الخير.
ووجد ذو الوجه الملائكي شخصا أطول منه، وردي الوجه، يحني رأسه لينظر إليه خلال عويناته السميكة. ورد ذو الوجه الملائكي: صباح الخير. - «معذرة. ربما يمكنك أن تخبرني ما إذا كانت السيدة التي تطبخ الطعام للموسيقيين تعيش هنا. إنها سيدة ترتدي السواد ...»
وأغلق ذو الوجه الملائكي الباب في وجهه. وكان الرجل قصير النظر لا يزال يتطلع حواليه باحثا عنه. ولما رأى أنه ليس هناك، دق على الباب التالي. - «وداعا «نينيا توماسيتا» حظا سعيدا!» - إني ذاهبة إلى الميدان الصغير.
كان الصوتان قد تكلما في نفس الوقت. وحين ذهب ذو الوجه الملائكي كي يفتح الباب، كانت «لامسكواتا» قد وصلت بالفعل.
وسأل ذو الوجه الملائكي «لامسكواتا» التي عادت لتوها من زيارة السجن: كيف الحال؟ - نفس الشيء. - ماذا قالوا؟ - لا شيء. - هل رأيت «فاسكيز»؟ - هل رأيته؟ لا أظن. لقد أخذوا سلة إفطاره ثم أعادوها ثانية، وهذا كل شيء. - إذن فهو ليس في السجن؟ - لقد كدت أصعق حين أعادوا السلة كما هي، بيد أن سيدا أخبرني أنه قد عاد لعمله. - مأمور السجن؟ - كلا. لقد وجهت إلى ذلك المتوحش ما فيه الكفاية. لقد كان يريد أن يخدعني. - كيف تظنين حال كميلة؟ - إن المرض يأخذ مجراه. أجل، إن المرض يأخذ مجراه! - إن حالتها في غاية السوء، أليس كذلك؟ - إنها محظوظة. ما أحسن أن يمضي المرء قبل أن يعرف ماهية الحياة! إني أشعر بالحزن لأجلك أنت. إن عليك أن تذهب وتصلي ليسوع في كنيسة «لامرسيد». من يدري، ربما يأتي بمعجزة من أجلك. هذا الصباح، قبل أن أذهب إلى السجن، أشعلت شمعة هناك وقلت له: اسمع يا صغيري الأسود، ها أنا آتية إليك، لأنك أبونا ويجب أن تصغي إلينا: إن بوسعك أن تنقذ حياة هذه الفتاة، لقد رجوت العذراء أن تنقذها قبل أن أنهض اليوم وها أنا أضايقك الآن لنفس السبب؛ سوف أترك لك هذه الشمعة وأذهب وأنا واثقة من قدرتك، ولكني سوف أعود سريعا كيما أذكرك برجائي!
وتذكر ذو الوجه الملائكي حلمه وهو لا يزال شبه نائم. ومن بين الرجال ذوي البناطيل الحمراء، كان المدعي العسكري العام - بوجه بومة - يتبارز مع رجل مجهول، ويقبله، ويلعقه، ويأكله، ويتبرزه، ثم يأكله مرة أخرى ...
الفصل السابع والعشرون
في طريق المنفى
تعثر بغل الجنرال «كاناليس» في ضوء الغسق الخافت، وقد أسكره التعب الذي يرزح فيه تحت الثقل المصمت للراكب الذي يتعلق في حافة السرج الأمامية. كانت الأطيار تحلق فوق الغابات، والسحب تعبر فوق الجبال، صاعدة هنا، هابطة هناك؛ هابطة هنا، صاعدة هناك، تماما كما كان الراكب يصعد ويهبط (قبل أن يتغلب عليه النوم والإجهاد) فوق تلال لا معابر فيها، وعبر أنهار فسيحة مليئة بالصخور أنعشت مياهها المتدفقة بغله، عبر منحدرات يبرقشها الطين وتنزلق عليها الحجارة فتتفتت نثارا على الوهاد، عبر أجمات مليئة بالعوسج، وعلى طول ممرات الماعز التي تعيد إلى الذهن ذكرى الساحرات وقطاع الطرق.
كان لسان الليل متدليا. عصبة من أرض المستنقعات. ثم برز شكل طيفي، ورفع الراكب من على بغله، وقاده إلى كوخ مهجور ثم رحل في صمت. بيد أنه عاد على الفور. لا بد أنه كان قد خرج بين طيور «الزيز» التي تغني: كوكوكوكو، كوكوكوكو، كوكوكوكوكو! وبقي برهة قصيرة في الكوخ ثم اختفى كالدخان. ثم عاد ثانية. وظل يدخل ويخرج، يدخل ويخرج. كان الأمر يبدو كما لو أنه يخرج ليعلن ما وجده، ثم يعود كيما يتأكد من وجوده. وبدت الطبيعة كأنما تتابع دخلاته وخرجاته التي تشبه دخلات السحلية وخرجاتها، كالكلب الأمين، يهز ذيلا من الأصوات «كوكوكوكو، كوكوكوكو، كوكوكوكو» في صمت الليل.
وفي النهاية، عاد إلى الكوخ ولم يرحل. كانت الريح تقفز وسط أفنان الأشجار. وكان النهار يطلع على المدرسة الليلية التي تتعلم فيها الضفادع مطالعة النجوم. جو من الهضم السعيد. حواس الضوء الخمس. وأخذت الأشياء تتخذ شكلا أمام عيني الرجل الذي كان يجلس القرفصاء على الباب، رجل طيب وجل، سكت إجلالا لطلعة الفجر وتنفس الراكب النائم البريء. في الليلة الماضية لم يكن إلا طيفا، وهو الآن رجل من لحم ودم، إنه هو الذي قاد بغل الراكب. وحين بزغ الضوء أشعل نارا، واضعا أحجار الموقد الداخنة غير المتساوية على هيئة الصليب، كاشطا الرماد المحترق بقطعة من الخشب، وجامعا ركية من الأغصان الجافة والخشب الطري. والخشب الطري لا يحترق في هدوء، إنما يتكلم كالببغاء، ويشتم، ويتقلص، ويضحك، ويبكي. واستيقظ الراكب وقد تجمد خوفا مما يراه، ولم يكن قد استجمع وعيه بعد. وقفز قفزة واحدة إلى الباب ومسدسه في يده، عازما على أن يدافع عن نفسه حتى النهاية. ولم يفزع الرجل الآخر من فوهة المسدس المصوب نحوه، بل أشار في صمت إلى إناء القهوة الذي يجيس بالغليان إلى جوار النار. ولكن الراكب لم يأبه له، وتقدم ببطء تجاه الباب - فقد ظن أن الكوخ لا بد محاصر بالجنود - ولم ير أمامه إلا سهلا فسيحا يستحم في ضوء الفجر الوردي. بعيدا. كالجلد الأزرق. أشجار. سحب. دغدغة زقزقة العصافير. وكان بغله غافيا تحت شجرة تين. ووقف يصغي دون أن تطرف عيناه كيما يختبر ما يراه أمامه، ولم يسمع شيئا على الإطلاق إلا الكونسير المتناغم للطيور والسريان البطيء لجدول رقراق، تركت مياهه الوفيرة هسيسا لا يكاد يسمع في الهواء النقي، كالسكر المسحوق الذي يسقط في قدح من القهوة الساخنة.
قال الرجل الذي قاد بغله، وهو يكوم وراءه أربعين أو خمسين كوز ذرة في حرص: إنك لست من رجال الحكومة؟
ورفع الراكب عينيه ونظر إلى رفيقه، ثم هز رأسه من جانب إلى آخر دون أن يحرك فمه عن قدح القهوة.
فغمغم الآخر بسيماء ماكرة، وهو يسرح الطرف في أرجاء الحجرة كعيني كلب ضال: تاتيتا!
1 - «إنني هارب ...»
وتوقف الآخر عن إخفاء أكواز الذرة وذهب يصب مزيدا من القهوة لرفيقه. لم يكن بوسع «كاناليس» الحديث عما وقع له من مصائب. - إنك مثلي يا سيدي! إنني هارب بسبب ما استولي عليه من أكواز الذرة. ولكني لست لصا. لقد كانت هذه الأرض أرضي إلى أن استولوا عليها مني، وبغالي أيضا ...
واهتم الجنرال كاناليس بما كان يقوله الهندي، وأراد أن يسمع تفسيره كيف يسرق المرء ثم لا يعد لصا. - «سوف أخبرك يا «تاتيتا» كيف أسرق رغم أنني لست لصا محترفا. لقد كنت قبل هذا مالكا لقطعة أرض صغيرة بالقرب من هنا، وثمانية بغال. كان لدي منزلي، وزوجتي وأولادي، وكنت شريفا مثلك تماما ...» - أجل، ثم ماذا حدث؟ - «منذ ثلاثة أعوام، جاء إلى هنا المندوب السياسي وأخبرني أن أقوم بنقل حمل من أخشاب الصنوبر على بغالي للاحتفال بعيد ميلاد السيد الرئيس. فأخذتها يا سيدي، وماذا كان بوسعي أن أفعل غير هذا؟ وحين وصل وشاهد بغالي، وضعني في السجن في زنزانة انفرادية، ثم اقتسم مع العمدة - وهو خلاسي - حيواناتي. وحين طالبت بما أستحق من نقود لديهما على عملي، قال لي المندوب إنني حيوان وإنني إذا لم أطبق فمي فورا فسوف يضعني في السجن مرة أخرى. فقلت له: «حسنا جدا يا سيدي المندوب، افعل معي ما تريد، ولكن البغال ملكي.» ولم أستطع أن أنطق حرفا أكثر من ذلك يا تاتيتا؛ لأنه ضربني ضربة عنيفة على رأسي بزناره حتى إنه كاد أن يقتلني.»
ولاحت ابتسامة مريرة ثم اختفت من تحت الشارب الأشهب للجندي العجوز الذي حلت به الكوارث. ومضى الهندي يقول بنفس اللهجة دون أن يرفع صوته: «وحين خرجت من المستشفى جاءوا يقولون لي إنهم قد وضعوا أولادي في السجن وإنهم لن يطلقوا سراحهم إلا إذا دفعت لهم ثلاثة آلاف بيزو. ولما كان أولادي صغارا ولا يحتملون الأذى، فقد هرعت من فوري إلى المحافظ وسألته أن يبقي عليهم في السجن ولا يبعث بهم إلى الخدمة العسكرية العاملة، وإنني سوف أرهن أرضي كيما أجمع لهم الثلاثة آلاف بيزو. وذهبت إلى العاصمة، واتفق لي المحامي هناك مع سيد أجنبي على توقيع ورقة تقول إنهما سيعطيانني ثلاثة آلاف بيزو رهنا للأرض. كان هذا ما قرأه لي من الورقة، ولكنه كان مخالفا لما كان في الورقة بالفعل. وبعد ذلك بعثوا رجلا من المحكمة يقول لي إن علي أن أترك أرضي لأنها لم تعد ملكي؛ لأنني قد بعتها للأجنبي لقاء ثلاثة آلاف بيزو. وقد حلفت بالله أن ذلك غير صحيح، ولكنهم صدقوا المحامي ولم يصدقوني، واضطروني إلى الرحيل عن أرضي. ورغم أنهم قد أخذوا الثلاثة آلاف بيزو مني فقد أرسلوا بأبنائي إلى الخدمة العسكرية: مات منهم واحد وهو يحرس الحدود؛ وأصيب الآخر بجراح رهيبة كان الأفضل معها لو أنه قد مات، ثم ماتت أمهما، زوجتي، بالملاريا. وهذا هو سبب لجوئي إلى السرقة رغم أنني لست لصا، يا تاتا، حتى لو أنهم ضربوني حتى الموت أو ألقوا بي في السجن.» - أهذا هو ما ندافع عنه نحن العسكريين ؟ - ماذا قلت يا تاتا؟
كانت ثمة عاصفة من الأحاسيس تضطرم في صدر «كاناليس» العجوز، من ذلك النوع من الأحاسيس التي تضطرم في قلب رجل طيب إزاء مظاهر الظلم. كان يتألم نيابة عن بلده، كما لو أن دماء ذلك البلد نفسها قد فسدت. كان يعاني الآلام في جلده، في نخاع عظامه وجذور شعره، تحت أظافره، بين أسنانه. أين الحقيقة؟ ألم يفكر أبدا بعقله قبل الآن وإنما بردائه العسكري؟ إن الأمر يكون أكثر مدعاة للاشمئزاز، وبالتالي للحزن إذا كان على المرء أن يكون عسكريا فحسب كيما يبقي السلطة في يد عصابة من الأفاقين المستغلين، المتشبهين بالآلهة، الخونة لأوطانهم، عن أن يموت المرء من الجوع في المنفى. أي حق يرغم العسكريين على الولاء لنظم لا تدين بالولاء لأي قيم ولا للعالم ولا للأمة؟
وكان الهندي يحدق في الجنرال كأنما هو صنم غريب، ولكن دون أن يفهم الكلمات القليلة التي ينطق بها. - عليك أن ترحل يا تاتيتا، قبل أن تصل شرطة الخيالة!
وطلب «كاناليس» من الهندي أن يرحل معه إلى الدولة المجاورة، ووافق الهندي، ذلك أنه كان كالشجرة التي لا جذور لها بعد أن استولوا على أرضه. وكان الأجر طيبا.
وغادرا الكوخ دون أن يطفئا النار. وشقا طريقهما وسط الغابة بفأسيهما. وكانت آثار أقدام فهد تبدو متعرجة أمامهما. ظلام. نور، ظلام. نور. شبكة من أوراق الشجر الملتفة. وشاهدا بعد فترة الكوخ يبرق وراءهما كالشهاب. الظهيرة. سحب جامدة. أشجار جامدة. كدر. بياض ناصع. أحجار ثم مزيد من الأحجار. حشرات. هياكل عظمية، خالية من اللحم ودافئة كالثياب التي تكوى لتوها. تحلل. طيور مضطربة تحلق فوقهما. ماء وعطش؟ تبدل لا نهاية له، ودائما، دائما، نفس الحرارة.
وكان الجنرال يرتدي منديلا يحمي به قذاله ورقبته من لسعة الشمس. وكان الهندي يسير إلى جواره، مواقعا خطاه على خطى البغل. - أعتقد أننا لو سرنا طوال الليل فقد نصل إلى الحدود صباح غد؛ ومن الأفضل أن نخاطر ونسلك الطريق الرئيسي لأن علي أن أتوقف لدى بيت بعض الصديقات في منطقة «لاس ألدياس». - الطريق الرئيسي يا تاتا! ماذا تظن؟ لسوف نصادف هناك شرطة الخيالة. - تعال، اتبعني! إذا لم تخاطر لن تحصل على شيء، كما أن صديقاتي هؤلاء قد يكن ذوات نفع لنا. - أوه، كلها يا تاتا. - وأجفل الهندي بغتة وقال: ألا تسمع، ألا تسمع يا تاتا؟
كانت تسمع مجموعة من الجياد تقترب، بيد أن الرياح سكنت بعد ذلك، وبدا كأن الصوت قد تراجع إلى الوراء، كأنما الجياد تبتعد. - صمتا! - إنها شرطة الخيالة يا تاتا. إني أعرف ما أقول. والآن يجب علينا أن نعبر هذا الممر، رغم أنه الطريق الأبعد للوصول إلى «لاس ألدياس».
وهبط الجنرال عبر طريق جانبي خلف الهندي. وتعين عليه أن يترجل ويقود البغل. وحين ابتلعهما الأخدود الضيق شعرا وكأنهما في داخل صدفة حلزون، مستورين من الخطر الذي يتهددهما.
وأطبقت الظلمة بغتة. وكانت الظلال تتجمع في أعماق الوهدة الغافية. وبدت الأشجار والأطيار كالنذر الملغزة في وسط النسمات اللطيفة المتماوجة دوما. ولم يريا من مخلفات شرطة الخيالة إلا سحابة من الغبار الاحمراري توسطت بينهما وبين النجوم، وذلك حين كانا يخبان في المكان الذي غادرته الشرطة لتوها.
واستمرا يسيران طوال الليل. - «حين نصل إلى أعلى التل سنرى «لاس ألدياس» يا تاتا.»
وسبق الهندي قدما مع البغل ليعلن وصولهما لصديقات «كاناليس»، وهن ثلاث أخوات غير متزوجات يقسمن حياتهن بين الصلوات وآلام احتقان اللوز، والتاسوعيات وآلام الأذن، وآلام الوجه والظهر والجنبين. والتهمن النبأ، وكاد أن يغمى عليهن من فرط المفاجأة. واستقبلن الجنرال في حجرة النوم؛ ذلك أن حجرة الاستقبال لم تكن توحي لهن بالثقة.
وفي الريف، يدخل الزوار المنزل دون استئذان ويتوجهون لتوهم إلى المطبخ: السلام لك يا مريم، السلام لك يا مريم.
وحكى لهن الجنرال قصة نكبته في رنة بطيئة هادئة، وذرف عدة دمعات حين أتى على ذكر ابنته.
وبكت صديقاته من الحزن، وكان حزنهن عظيما لدرجة نسين معه آلامهن، ووفاة والدتهن، التي كن يرتدين السواد الكامل حدادا عليها. - ولكنا سوف نرتب أمر فرارك وعبورك الحدود بأي ثمن، سوف أذهب لأسأل الجيران. لقد حان الوقت كيما نتذكر من فيهم يعمل بالتهريب. ذلك إني أعرف أن كل المعابر الممكنة تقريبا تحرسها السلطات.
كانت كبراهن هي التي قالت ذلك، وتطلعت متسائلة إلى الأخريين.
وقالت الوسطى، التي سكنت آلام أسنانها بفعل مفاجأة وصول الجنرال «كاناليس»: أجل، سوف نرتب أمر فرارك كما قالت أختي، يا جنرال. ولما كنت أعتقد أنك ستكون بحاجة إلى بعض المؤن، فسوف أذهب وأجهزها.
وقالت الصغرى: ولما كنت ستمضي اليوم معنا فسوف أبقى لأحادثك وأسليك شيئا ما.
ونظر الجنرال بامتنان إلى الأخوات الثلاث - فقد كانت الخدمة التي يقدمنها له فريدة - ورجاهن في صوت خفيض أن يغفرن له ما سببه لهن من متاعب. - لا شيء من هذا يا جنرال. - كلا يا جنرال، لا تقل هذا. - إني أدرك مدى طيبتكن وشفقتكن يا عزيزاتي، ولكني أعرف أنني أورطكن معي بوجودي في المنزل. - ولكنا صديقاتك مع كل هذا. لك أن تتصور أنه منذ ماتت أمنا ... - ولكن، قولي لي، كيف ماتت والدتكن؟ - سوف تحكي لك أختي هذا، سوف نذهب نحن ونجهز الأشياء.
قالت الأخت الكبرى هذا، ثم تنهدت. كانت تحمل مشد الخصر ملفوفا في شالها، وتوجهت لترتديه في المطبخ، حيث كانت الأخت الوسطى تجهز بعض المؤن للجنرال، تحيط بها الخنازير والدواجن. - لم يكن ممكنا نقلها إلى العاصمة، ولم يفهموا علة مرضها هنا، وأنت تعرف الأمر يا جنرال. وقد ساءت حالتها شيئا فشيئا، المسكينة، وماتت وهي تبكي لأنها تتركنا وحدنا في الدنيا. لم يكن هناك سبيل لتفادي ذلك. ولكن تصور أنه لم يكن معنا نقود ندفع منها أجر الطبيب، الذي أرسل إلينا فاتورة بخمس عشرة زيارة يصل ثمنها إلى حوالي قيمة هذا المنزل، وهو الشيء الوحيد الذي خلفه لنا والدنا. اسمح لي بدقيقة، سأذهب لأرى ما يحتاج إليه خادمك.
وحين خرجت الأخت الصغرى، استغرق «كاناليس» في النوم. عينان مغلقتان. جسد في خفة الريشة. - ماذا تريد أيها الفتى؟ - بحق السماء، أخبريني أين أستطيع أن أقضي حاجتي ...؟ - هناك، في زريبة الخنازير!
ونسج سلام الريف خيوطه في أحلام الجنرال النائم. امتنان حقول الذرة، ورقة المراعي بأزاهيرها الصغيرة البسيطة. وسرعان ما انطوى الصباح، بعدما اشتمل على خشية طيور الحجل ترشقها طلقات الصيادين؛ والخوف المدلهم الذي تثيره مراسم دفن والقس يرش المياه المقدسة؛ وهياج ثور فتى نشيط. وفي أبراج الحمام في فناء الأخوات العوانس وقعت أحداث هامة: موت حبيب، وخطبة، وثلاثون زيجة تحت أشعة الشمس. أي لا شيء على الإطلاق!
لا شيء على الإطلاق! هكذا قالت الحمائم وهي تطل من نوافذ بيوتها الصغيرة. لا شيء على الإطلاق.
وفي الساعة الثانية عشرة، أيقظوا الجنرال لتناول طعام الغداء. أرز متبل. مرق اللحم. يخنة. دجاج. بازلاء. موز. قهوة. - «السلام لك يا مريم!»
وأطبق صوت المندوب السياسي عليهم وهم يتناولون الغداء. وشحبت وجوه العوانس ولم يعرفن كيف يتصرفن. وتوارى الجنرال وراء أحد الأبواب. - لا تنزعجن يا عزيزاتي، فأنا لست الشيطان ذا الأحد عشر ألف قرن! يا إلهي، كيف تخفن مني هكذا، خاصة بعد أن تصرفت معكن تصرفا رحيما؟!
كانت المسكينات قد فقدن القدرة على الكلام. - ثم، ألن تطلبن مني الدخول والجلوس، حتى ولو كان ذلك على الأرض؟
وأحضرت الصغرى مقعدا لأهم موظف في القرية. - شكرا جزيلا. ولكن، من كان يتناول الطعام معكن؟ إني أرى طبقا رابعا.
وحملقن جميعا ناحية طبق الجنرال.
فتلعثمت الأخت الكبرى قائلة وهي تلوي أصابعها من فرط اليأس. إنه، كما تعرف ...
وأنقذتها الوسطى قائلة: من الصعب شرح الأمر، ولكن برغم وفاة والدتنا فإننا نهيئ لها مكانا معنا دائما، حتى لا نشعر بالوحدة. - أوه، يبدو أنكن تتحولن إلى مجال الروحانيات. - ألا تتناول شيئا أيها المندوب؟ - شكرا لك، ولكني تناولت طعامي بالفعل. لقد جهزت لي زوجتي الغداء، ثم لم أستطع أن أغفي إغفاءة الظهر لأنني تلقيت برقية من وزير الداخلية يخطرني فيها أن أتخذ الإجراءات ضدكن إذا لم تدفعن للطبيب أجره. - ولكن يا سيادة المندوب، هذا ليس عدلا، أنت تعرف أنه ليس ... - قد يكون ذلك صحيحا، ولكن صوت القانون هو كل شيء.
فهتفت الأخوات الثلاث والدموع في مآقيهن: «طبعا!» - إنني جد آسف أن آتي وأسبب لكن هذا الإزعاج، ولكن هكذا هي الأمور كما تعرفن، تسعة آلاف بيزو، أو المنزل، أو ...
وقد تبدى عناد الطبيب الكريه بوضوح في الطريقة التي دار بها المندوب على عقبيه، وأعطاهن ظهره؛ ظهر بدا مماثلا لجذع الشجرة.
وسمعهن الجنرال يبكين. وأغلقن الباب الخارجي بالمفتاح والمزلاج خشية أن يعود المندوب. وتناثرت دموعهن فوق طبق الدجاج. - يا لقسوة الحياة يا جنرال. إنك سعيد الحظ إذا تغادر هذا البلد نهائيا.
فسأل «كاناليس» مخاطبا الأخت الكبرى: بماذا كان يهددكن؟
وقالت الكبرى لأختيها دون أن تجفف دمعها: فلتقل له إحداكما.
فقالت الصغرى في لعثمة: بأن يخرج ماما من قبرها.
فحملق «كاناليس» في الأخوات الثلاث كلهن وتوقف عن الأكل. - ماذا تقولين؟ - تماما هكذا، بأن يخرج ماما من القبر. - ولكن هذا ظلم. - قولي له. - حسنا. ولكن عليك أن تعلم يا جنرال أن طبيب قريتنا هو واحد من أسفل أوغاد أهل الأرض طرا، لقد قالوا لنا ذلك من قبل، ولكن المرء لا يتعلم إلا بالتجربة. وماذا كنا سنفعل؟ من الصعب تصديق أن الناس يمكن أن يكونوا بهذا الشر. - هل لك في بعض الفجل يا جنرال؟
وناولته الوسطى الطبق، وبينما كان الجنرال يتناول منه بعض الفجل، واصلت الصغرى قصتها: لقد وقعنا في مصيدته. هذه هي لعبته: حين يسقط أحد زبائنه فريسة مرض خطير، ويكون آخر ما يفكر فيه الأقارب ترتيبات الجنازة، يأمر بإعداد مقبرة للدفن. ثم حين يحم القضاء، يضرب ضربته؛ وهذا ما حدث لنا، إذ بدلا من أن نترك ماما تدفن في الأرض الجرداء، قبلنا مكانا لها في المقبرة التي أعدها دون أن ندرك ما نحن مقبلات عليه من جراء ذلك.
وقالت الكبرى ملاحظة وسط الشهقات: «وهو يعلم أننا نسوة لا عائل لنا.» - أقول لك يا جنرال، إنه في اليوم الذي أرسل إلينا الفاتورة، صعقنا كلنا: تسعة آلاف بيزو لقاء خمس عشرة زيارة؛ تسعة آلاف بيزو أو هذا المنزل، لأنه يريد فيما يبدو أن يتزوج، أو ... - أو، إذا لم ندفع، كما قال لأختي، ويا للبشاعة، «بوسعكن أن تأخذن قمامتكن من مقبرتي .»
وضرب «كاناليس» المائدة بقبضة يده. - يا للسافل القذر!
وقرع المنضدة مرة أخرى، مما جعل الأطباق وأدوات المائدة والأكواب تصلصل، وفتح أصابعه ثم أغلقها كأنما يريد أن يخنق هذا الوغد ويدمر جماع النظام الاجتماعي الذي أفرز مثل هذه الأمور المسيئة المخجلة واحدة وراء أخرى.
وجال في خاطره: «هل وعد الناس البسطاء مملكة السماء على الأرض - هذا اللغو الريائي - لمجرد أن يحتملوا مثل هؤلاء الأوغاد. كلا! كفانا من حكم الجمال هذا! إني أقسم على العمل في سبيل الثورة الشاملة، يجب قلب كل شيء ظهرا لبطن. يجب أن يثور الناس ضد الطفيليين، ضد من يستغلون مناصبهم الحكومية، والعاطلين الذين يحسن إرسالهم لفلاحة الأرض. لا بد أن يأخذ كل واحد نصيبه من الدمار! الدمار! الدمار! لن يحتفظ أي عميل منهم برأسه.»
وحدد لرحيله الساعة العاشرة من مساء تلك الليلة، وفقا لترتيب اتخذ من مهرب من أصدقاء عائلة الأخوات الثلاث. وحرر الجنرال خطابات عدة، منها خطاب عاجل إلى ابنته. واتفق على أن يحمل الهندي الخطاب ثم يعود من الطريق الرئيسي. ولم يقل أحد وداعا. ومضت الجياد وحوافرها ملفوفة بالخرق، بينما وقفت الأخوات عند الحائط، يبكين بحرقة في عتمة حارة مظلمة. وحين بلغ الجنرال الطريق الواسع شعر بيد تمسك بلجام جواده. وسمع وقع أقدام. وهمس له المهرب: «لشد ما أفزعوني. لقد ضاعت أنفاسي. ولكن لا تقلق، إنهم بعض الرجال يصحبون الطبيب للغناء تحت شرفة خطيبته!»
وكان ثمة مشعل مضاء عند نهاية الطريق، يرسل ألسنة من اللهيب تنضم على نورها ثم تتفرق أشكال البيوت والأشجار وخمسة أو ستة رجال يقفون معا تحت إحدى النوافذ.
وسأل الجنرال ومسدسه في يده: «من فيهم الطبيب؟» وشد المهرب عنان جواده، ورفع ذراعه وأشار إلى رجل يحمل جيتارا. وشقت طلقة رصاص الهواء، وسقط رجل على الأرض كما تسقط موزة من قرطها. - يا إله السماوات! انظر ماذا فعلت! لا بد أن نهرب، سريعا، وإلا قبضوا علينا! هيا، اهمز حصانك! - إن هذا ... هو ما يجب ... على كل شخص أن يفعله ... يحرر الشعب!
نطق «كاناليس » بهذه الكلمات بصوت متقطع بين خبب حصانه الراكض. وأيقظت جلبة حوافر الجوادين الكلاب، وأيقظت الكلاب الدجاج . وأيقظ الدجاج الديكة، وأيقظت الديكة الفلاحين، الذين عادوا إلى الحياة في تثاقل، يتثاءبون ويتمطون ويشعرون بالخوف.
ورفعت جماعة المغنين الليليين جسد الطبيب الميت. وخرج الناس بقناديلهم من المنازل المجاورة. ولم تستطع الفتاة التي كانوا يغنون لها البكاء، بل وقفت مشدوهة من فعل الصدمة في ملابس نومها تمسك بقنديل صيني في يدها البيضاء، ونظراتها ضائعة في الظلمة القاتلة. - نحن الآن محاذون للنهر يا جنرال، ولكن علي أن أقول لك إنه لا يقدر على عبوره في المكان الذي نريد عبوره فيه إلا الرجال الشجعان. آه أيتها الحياة، لو أنك تدومين إلى الأبد!
فرد «كاناليس» الذي كان يركب جوادا أسود وراءه: ومن يخاف؟ - برافو! إن المرء يحس بشجاعة الأسود لو أن ثمة رجلا وراءه. أمسك بي جيدا، جيدا، وإلا ضللت طريقك.
كان كل شيء مبهم المعالم حولهما، وكان الهواء دافئا، وإنما تجري فيه تيارات ثلجية. وكانا يسمعان النهر جائشا خلال أعواد البوص.
وترجلا وقفزا إلى المجرى. وعقل المهرب الجوادين في مكان يعرفه جيدا حتى يمكنه أخذهما عندما يعود. ووسط الظلال، عكست رقاع النهر السماء المرصعة بالنجوم. وكانت تطفو على صفحته نباتات غريبة تتساقط من أشجار خضراء، لها عيون بلون التلك وأسنان بيضاء. وقرقرت المياه عبر الضفاف الدهنية الغافية، تعبق برائحة الضفادع.
وطفق المهرب والجنرال يقفزان من جزيرة إلى أخرى في صمت، وكل منهما حامل مسدسه في يده. وتبعهما ظلاهما كالتماسيح، وتبعتهما التماسيح كظليهما. ووزخزتهما سحائب من الحشرات، وكان ثمة سم مجنح يحلق في الهواء. وعبقت في الجو رائحة البحر، البحر واقعا في شبكة الغابة، بكل سمكاته، ونجومه، ومرجانه، وشعابه، وبأعماقه وتياراته. وكانت الطحالب تتدلى فوق رأسيهما كأنها مجسمات مخاطية لأخطبوطات تحتضر. وحتى الوحوش المتوحشة لم تكن تجرؤ على الذهاب حيثما كانا ذاهبين. وطفق «كاناليس» يدير رأسه في كل اتجاه، ضائعا في هذه الطبيعة المشئومة التي لا يصل إليها أحد والمتوحشة توحش روح حيواناتها. وهاجم تمساح المهرب، وبدا واضحا أنه قد ذاق طعم اللحم البشري من قبل، ولكن المهرب قفز من طريقه في الوقت المناسب. بيد أن الجنرال لم يكن سعيد الحظ بالمثل؛ إذ استدار يدافع عن نفسه وجمد مصعوقا إذ وجد تمساحا آخر ينتظره فاغر الفكين. لقد كانت لحظة حاسمة. وشعر برعشة مميتة تسري في عموده الفقري، وانتصب شعره، وفقد النطق من فرط الهلع. وشد على قبضتيه. ودوت ثلاث طلقات متتابعة رددها الصدى، قبل أن ينتهز الجنرال فرصة هروب الوحش الجريح كيما يقفز إلى مكان آمن. وأطلق المهرب طلقة أخرى. وحين استعاد الجنرال توازنه جرى إلى الأمام وصافح المهرب، مما أحرق أصابعه من جراء لمسه فوهة المسدس.
وكانت الشمس تشرق حين افترقا عند الحدود. وفوق الحقول اللازوردية، وفوق الجبال بقممها الكثيفة المغطاة بأشجار تحيلها الطيور إلى صناديق موسيقية، وفوق الغابة، كانت سحب على شكل التماسيح تطفو في السماء، تحمل كنوزا من النور على ظهرها.
الجزء
أسابيع، وشهور، وسنوات ...
الفصل الثامن والعشرون
حديث في الظلام
الصوت الأول: أي يوم نحن فيه؟
الصوت الثاني: أجل، أي يوم نحن فيه؟
الصوت الثالث: انتظرا ... لقد قبضوا علي يوم الجمعة: الجمعة، السبت، الأحد، الإثنين ... الإثنين ... ولكن، كم انقضى علي وأنا هنا؟ حقا، أي يوم نحن فيه؟
الصوت الأول: أحس أنني في مكان قصي سحيق. ألا تحسون بنفس هذا الشعور؟
الصوت الثاني: لقد نسونا في قبر من قبور المقبرة العتيقة، مدفونين إلى الأبد ... - يجب ألا تتحدث هكذا!
الصوتان الأولان: يجب ألا. - ... نتحدث هكذا!
الصوت الثالث: ولكن، لا تتوقفا عن الكلام. إنني أخاف من الصمت، إني خائف. إنني أتخيل يدا تمتد نحوي في الظلام لتقبض على عنقي وتخنقني.
الصوت الثاني: تحدث بحق الإله! قل لنا عما يحدث في المدينة، إنك آخر من رآها فينا. ماذا يفعل الناس؟ ما حال كل شيء؟ ... أحيانا أتصور المدينة كلها مدفونة في الظلال مثلنا، سجينة بين جدران عالية جدا، بينما الشوارع قابعة في الوهدة وسط طين الشتاء الميت. لا أعرف إذا كنتما تشعران كما أشعر! ولكني في نهاية الشتاء لا أحتمل أن أفكر بأن الطين يتيبس وحين أتحدث عن المدينة، ينتابني اشتياق لعين إلى الطعام، إنني أشتهي بعض تفاحات كاليفورنيا.
الصوت الأول: أو ربما البرتقال. أما أنا فأفضل قدحا من الشاي الساخن.
الصوت الثاني: ثم التفكير بأن كل شيء يسير كالمعتاد في المدينة، كما لو لم يحدث شيء، كما لو أننا لسنا مدفونين هنا أحياء. ولا بد أن الترام يسير كالمعتاد. كم الساعة يا ترى مع كل هذا؟
الصوت الأول: حوالي ...
الصوت الثاني: ليست لدي أي فكرة ...
الصوت الثالث: تكلما! استمرا في الكلام! لا تتوقفا بحق السماء! إنني أخاف من الصمت، إني خائف. إنني أتخيل دائما يدا تمتد نحوي في الظلام لتقبض على عنقي وتخنقني.
ثم أضاف في صوت حزين: لم أحب أن أقول لكما ذلك، ولكني أخشى أنهم قد يجلدوننا!
الصوت الأول: لا تتحدث عن ذلك! لا شك أن ضرب المرء شيء مرعب.
الصوت الثاني: حتى أحفاد الرجال الذين جلدوا يشعرون بالخزي من ذكري ذلك.
الصوت الأول: إنك لسان شر! من الأفضل أن تلزم الصمت.
الصوت الثاني: كل شيء يبدو شرا في نظر رجل الكنيسة.
الصوت الأول: لا شيء من هذا القبيل. أي أساطير خرقاء قد حشوا بها رأسك؟
الصوت الثاني: أقول لك إن أي شيء يقوم به الآخرون يعتبره رجل الكنيسة شرا.
الصوت الثالث: تكلما! استمرا في الكلام! لا تتوقفا بحق من تحبانه أكثر من غيره في هذه الدنيا! إن الصمت يملؤني بالرعب، إني خائف إنني أتخيل دائما أن يدا تمتد نحوي في الظلام لتقبض على عنقي وتخنقني.
كان الطالب ومساعد القس لا يزالان محبوسين في السجن الذي قضى فيه الشحاذون ليلة واحدة، بيد أنه كان معهما الآن المحامي «كرفخال».
قال كرفخال: لقد تم إلقاء القبض علي بطريقة مرعبة جدا. ذلك أن الخادمة التي خرجت في الصباح لتبتاع بعض الخبز عادت لتقول لنا إن المنزل محاط بالجنود. قالت ذلك لزوجتي وزوجتي قالت لي: بيد أنني لم أهتم بالأمر، وتصورت أنهم يبحثون عن أحد مهربي البراندي أو غيره من المجرمين. وأنهيت حلاقة ذقني، وأخذت حمامي وتناولت إفطاري، وارتديت ملابسي كيما أتوجه لتهنئة رئيس الجمهورية - كنت في «آخر أبهة» كما يقولون. «أهلا يا صديقي، يا لها من مفاجأة!» هكذا قلت للمدعي العسكري العام حين وجدته على عتبة بابي مرتديا زيه الرسمي الكامل. فرد علي قائلا: «لقد حضرت هنا من أجلك. هيا بنا فقد تأخرنا بالفعل.» وسرت معه بضع خطوات، وحين سألني عما إذا كان لدي فكرة عن سبب محاصرة الجنود للمنزل، قلت له: كلا. فقال: إذن سأقول لك أيها الجرذ الصغير. لقد حضروا للقبض عليك. «ونظرت إلى وجهه ورأيت أنه لا يمزح، وعند ذاك أمسك أحد الضباط بذراعي واصطحبني الجميع خارجا مرتديا سترتي الصباحية وقبعتي العالية، وألقوا بجثتي في هذا السجن.»
وأضاف بعد فترة صمت: والآن، تكلما أنتما الاثنان. إنني أرتعد من الظلام، إني خائف!
وهتف الطالب: آه يا عزيزي، آه يا عزيزي! ماذا حدث؟ إن رأس مساعد القس بارد كالثلج. - ماذا تعني؟ - إنني ألمسه، ولكنه لم يعد يشعر بأي شيء، و... - إنه لست أنا، حاذر مما تقول! - من هو إذن؟ أنت يا كرفخال؟ - كلا. - إذن ... هل هناك رجل ميت بيننا؟ - كلا، إنه ليس رجلا ميتا ... إنه أنا.
فقال الطالب: ولكن، من أنت؟ إنك تبدو باردا جدا. ورد صوت بالغ الضعف: إنني واحد منكم.
وصاحت الأصوات الثلاثة الأولى: أووووه!
وحكى مساعد القس لكرفخال قصة مأساته: لقد غادرت «الكنيسة»، وتصور نفسه خارجا من غرفة مقتنيات الكنيسة التي تفوح منها رائحة المجامر المطفأة، والأثاث الخشبية العتيقة والزخارف الذهبية وجذاذات شعر الموتى، و«اخترقت صحن الكنيسة»، ورأى نفسه يخترق بهو الكنيسة الداخلي ممتلئا رهبة من وجود سر الأسرار فيه، وسكون الشموع وحركة الذباب، «وتوجهت لأنزع عن لوحة الإخطارات إعلانا عن تاسوع العذراء - لأن أحد الإخوة قال لي إنه قد انتهى. ولكن المشكلة هي أنني لا أعرف القراءة، فنزعت بدلا من ذلك، عن طريق الخطأ، إعلانا عن الاحتفال بذكرى والدة السيد الرئيس، وكان معروضا بأمر منه. ولم يكن في الإمكان أن أقترف أسوأ من ذلك الخطأ. وقبضوا علي ووضعوني في هذا السجن بوصفي أحد الثوريين»!
وكان الطالب هو الوحيد بينهم الذي لم يبح بسبب القبض عليه. وكان الحديث عن رئتيه الممروضتين أهون عليه من ذكر وطنه بسوء. وركز على علته الجسمانية حتى ينسى أنه قد رأى النور أثناء غرق السفينة، وأنه رأى النور وسط الجثث، وأنه قد فتح عينيه في مدرسة لا نوافذ لها، حيث أطفئوا بصيص الإيمان في نفسه حالما وصل، دون أن يستبدلوا به شيئا سوى الظلمة والفوضى والاضطراب وكآبة الخصيان الفلكية. وفي صوت خفيض، بدأ يتلو قصيدة الأجيال الضائعة التالية رويدا رويدا.
إننا نسير في موانئ العدم.
دونما ضوء يلتمع على ساريات أذرعتنا.
تغرقنا الدموع المالحة.
كالملاحين العائدين من البحر.
شفتاك هما ملاذي ومأواي.
فقبليني طويلا ...
يدي في يدك ... منذ الأمس.
آه، عبثا تنبعث الحياة.
في مسرى قلبينا البارد.
لقد انكسر الإبريق وأريق العسل.
بينما النحلات تهرب بعيدا في الفضاء.
كأنها الشهب. لم يحن الوقت بعد.
لقد سقطت ورقات وردة الرياح.
بينما الفؤاد موثوق إلى أحجار القبور.
آه، طم طم طم، العربة تدمدم في سيرها.
وتمضى الجياد في الليل الذي لا يطلع له قمر.
تملأها الورود إلى أخمص حوافرها.
كأنها تعود من رحلة إلى النجوم.
وليس من المقبرة.
آه، طم طم طم، العربة تدمدم في سيرها.
قاطرة بحرا من الدموع، طم طم طم.
بين حاجبين من الريش، طم طم طم.
أحجيات الفجر في وسط النجوم.
ثنايا الوهم في عرض الطريق.
كم هو بعيد عن العالم، وكم هو باكر.
موجات من الدموع تجاهد وسط المحيط.
كيما تصل إلى شاطئ الجفون.
قال كرفخال بعد صمت طويل: تكلموا، استمروا في الكلام، استمروا في الكلام!
فتمتم الطالب: فلنتكلم عن الحرية.
فقاطعه مساعد القس قائلا: يا لها من فكرة! تصوروا أن نتكلم عن الحرية ونحن في السجن! - ألا تفترض أن المرضى يتحدثون عن الصحة وهم في المستشفى؟ وغمغم الصوت الرابع في وهن: لا أمل لنا في الحرية يا أصدقائي؛ علينا أن نحتمل ما يحدث لنا إلى ما شاء الله. إن الرجال الذين كانوا يخلصون النية لوطنهم قد أصبحوا بعيدا الآن ؛ بعضهم يتسول أمام المنازل في بلاد أخرى. وآخرون يتحولون إلى تراب في مقابر جماعية. سوف يأتي اليوم الذي لن يجرؤ فيه أحد على السير في شوارع هذه المدينة. ولم تعد الأشجار تطرح ثمارا كما كان الأمر من قبل. والذرة لم تعد تشبع المرء كما كانت قبلا. والنوم أقل راحة. والمياه أقل إرواء. وقد أصبح استنشاق الهواء مستحيلا. ويأتي الطاعون بعد الأوبئة، وبعد الطاعون تأتي الأوبئة، وسرعان ما سيقع زلزال يقضي علينا جميعا. إن عيني تخبراني أن جنسنا محكوم عليه بالفناء. والرعد هو صوت آت من السماء يقول: إنكم أشرار فاسدون، أنتم شركاء في الشر! لقد ألهبت الرصاصات الغادرة رءوس مئات من الناس على جدران سجننا هذا. وقصورنا المرمرية مخضبة بالدماء البريئة. أين إذن يمكن للمرء أن يتجه بحثا عن الحرية؟
مساعد القس: إلى الله العلي القدير.
الطالب: ما جدوى ذلك، إذا كان لا يجيب.
مساعد القس: لأن ذلك إرادته المقدسة.
الطالب: وا حسرتاه!
الصوت الثالث: تكلموا، استمروا في الكلام بحق السماء! لا تتوقفوا إني أرتعد من الصمت، إني خائف. إني أتخيل دائما أن يدا تمتد نحوي في الظلام لتقبض على رقابنا وتخنقنا! - من الأفضل أن نصلي ...
ونشر صوت مساعد القس إذعانا مسيحيا في طول زنزانة السجن وعرضها. وتمتم كرفخال، الذي عرف عنه في الجوار أنه ليبرالي يكره القس. - فلنصل ...
بيد أن الطالب هتف يقاطعه: ما جدوى الصلاة! ينبغي لنا ألا نصلي. ينبغي لنا أن نسعى إلى تحطيم هذا الباب ونخرج لننضم إلى الثورة!
وامتدت ذراعا شخص لم يكن بمستطاعه أن يراه، وطوقه في حرارة، وشعر على خده بالملمس الخشن للحية صغيرة مخضلة بالدموع، وصوت يقول: بإمكانك الآن أن تموت في سلام أيها القائد السابق لمدرسة «سان خوسيه» للمشاة، فلا يزال ثمة أمل في بلد يتحدث شبابه على هذا النحو!
الصوت الثالث: تكلموا، استمروا في الكلام، استمروا في الكلام!
الفصل التاسع والعشرون
مجلس عسكري
بلغ نص اللائحة الجنائية التي تتهم «كاناليس» و«كرفخال» بالعصيان والتمرد والخيانة، بكل ما يحمله ذلك من ظروف مشددة ممكنة، صفحات عديدة لدرجة لم يكن معها ممكنا تلاوته حتى آخره في جلسة واحدة. وقد قرر أربعة عشر شاهدا بالإجماع بعد حلف اليمين أنهم في ليلة 21 أبريل كانوا موجودين في «رواق الرب» حيث تعودوا قضاء الليل نظرا لفقرهم الشديد، وأنهم رأوا الجنرال كاناليس والمحامي قابيل كرفخال يهجمان على ضابط، عرفوا فيما بعد أنه الكولونيل خوسيه بيراليس سونرينتي، ويخنقانه بالرغم من المقاومة الباسلة التي أبداها لهما، فقد ناضل ضدهما يدا بيد كالليث الهصور، بيد أنه كان عاجزا عن استعمال أسلحته للدفاع عن نفسه ضد قوتهما الغاشمة. وقرروا أيضا أنه حالما تمت الجريمة، خاطب «كرفخال» «كاناليس» بالعبارات التالية أو بما يفيد معناها: «الآن وقد قتلنا» «الرجل ذا البغل الصغير»، يتعين على القادة العسكريين أن يسلموا أسلحتهم ويعترفوا بك يا جنرال رئيسا أعلى للجيش. سيطلع الفجر بعد برهة، فلنسرع بنقل الأنباء إلى الذين تجمعوا في منزلي، حتى يمكنهم المضي في اعتقال رئيس الجمهورية وإعدامه وتشكيل حكومة جديدة.
وذهل كرفخال. لقد كانت ثمة مفاجأة في انتظاره في كل صفحة من صفحات الاتهام. ولو لم يكن الاتهام خطيرا للغاية لكان الأمر مدعاة للضحك. ومضى يقرأ. كان يقرأ على الضوء المترامي من نافذة تطل على فناء مغلق، في الغرفة الصغيرة العارية المخصصة للمحكوم عليهم بالإعدام. وكان المجلس العسكري الذي سيحقق في الموضوع سينعقد في تلك الليلة، وقد تركوه وحيدا مع صفحات الاتهام كيما يعد دفاعه. ولكنهم أخروا ذلك حتى اللحظة الأخيرة. كان يرتجف من قمة رأسه إلى أخمص قدميه، ويقرأ دونما وعي أو توقف، تعذبه فكرة أن الظلام قد أخذ يقرض الأوراق التي كانت تبدو كأنما هي تذوب إلى رماد رطب بين يديه. ولم ينجح في قراءة الكثير منها. كانت الشمس تغرب، ونورها يتحول إلى العتمة؛ وكان الأسى يظلل عينيه لفقدانها. سطر أخير، كلمتان، ضربة قلم، تاريخ، رقم صفحة ... وجاهد عبثا كيما يقرأ رقم الصفحة؛ كانت الظلمة تفيض على الصفحة كلطلخة حبر أسود. بيد أنه تشبث بالملف في لهفة كأنما، بدلا من اضطراره إلى قراءاته، سوف يلف حول عنقه كالحجر قبل إلقائه إلى الهاوية. وكانت تسمع صلصلة قيود السجناء غير السياسيين على طول الأفنية غير المرئية، وفيما وراءها أيضا تأتي الأصوات المختنقة لجلبة المرور في شوارع المدينة. «آه يا إلهي ... إن جسدي المتجمد البائس في حاجة إلى الدفء، وعيني تحتاجان للنور احتياجا أمس من حاجة جميع سكان نصف الكرة التي تشرق الشمس عليهم الآن مجتمعين. لو أنهم علموا معاناتي لكانوا أشفق علي منك، يا إلهي ولردوا علي الشمس حتى أتمكن من إنهاء القراءة.»
وأعاد إحصاء الصفحات التي لم يقرأها مرات ومرات، باللمس فحسب، واحدة وتسعين. مرات ومرات مر بأصابعه على سطح الصفحات خشنة الملمس، محاولا القراءة كما يفعل الأعمى في مداومة اليأس. كانوا قد نقلوه في الليلة الماضية في أوائل المساء، في عربة مغلقة، وسط مظاهر استعراض كبير للقوات من مركز الشرطة الثاني إلى السجن المركزي. ورغم ذلك، كان سروره عظيما بمشاهدة الشارع من حوله وسماعه والإحساس به، حتى لقد شعر برهة أنهم إنما يقودونه إلى منزله: وماتت الكلمات على شفتيه في بحر من الدموع والاشتياق.
ووجده رجال الأمن وصحيفة الاتهام الجنائي بين ذراعيه والمذاق العذب للطرق المبتلة في فمه، فنزعوا الوثائق منه ودفعوه دونما كلمة إلى الحجرة التي كان المجلس العسكري منعقدا بها.
واستجمع كرفخال شجاعته ليقول للجنرال الذي كان يترأس المجلس «ولكن، سيدي الرئيس، كيف يمكنني الدفاع عن نفسي وأنتم لا؟ لمجرد قراءة لائحة اتهامي؟»
فرد رئيس المجلس: «هذا لا علاقة له بنا. إن الفترات التي تتخلل الجلسات قصيرة، والوقت يمر، وهذه القضية عاجلة. لقد استدعينا ها هنا كي نصدر الحكم.»
وما تبع ذلك كان بالنسبة لكرفخال حلما، نصفه مراسم، ونصفه الآخر مهزلة. كان هو الممثل الرئيسي، يواجههم جميعا من مكانه على أرجوحة الموت، وسط فراغ عدائي. بيد أنه لم يشعر بالخوف، لم يشعر بأي شيء، بل نامت مخاوفه تحت جلده الخدر. وأبدى شجاعة عظيمة. وكانت المنضدة التي جلست هيئة المحكمة حولها مغطاة بعلم الدولة، كما تقضي اللوائح. أزياء عسكرية. قراءة الوثائق . وثائق عديدة. حلف اليمين. وكتاب القانون العسكري يرقد كالحجر على المنضدة فوق العلم. وكان الشحاذون جالسين في مقاعد الشهود. جلس «ذو القدم المسطوحة» منتصب الظهر، بوجهه الثمل البشوش الخالي من الأسنان وشعره المصفوف بعناية، لا تفوته كلمة مما كان يتلى ولا تعبير يرتسم على سيماء رئيس المحكمة. أما سلفادور النمر «فقد تابع سير المحاكمة بهيبة الغوريلا، وهو يحفر في أنفه المفرطحة، أو في الأسنان القليلة المنتشرة في فمه العريض الذي يمتد من الأذن إلى الأذن الأخرى.» أما «فيودا» الطويل الأعجف ذو الهيئة الشريرة، فقد لوى وجهه وخلع على نفسه هيئة الجثة كيما يبتسم لأعضاء المحكمة. وعمد «لولو» القزم السمين المتجعد الوجه إلى الانخراط في نوبات فجائية من الضحك أو الغضب، من الود أو من الكراهية، وبعدها يغلق عينيه ويسد أذنيه حتى يعلم الجميع أنه لا يريد أن يرى أو يسمع شيئا مما يجري في القاعة. والتف «دون خوان دي لا ليفاكوتا» بمعطفه الفراك العتيق الذي لا يرى دونه، ضئيلا، شارد الذهن، تشي ملابسه المستعملة بأنه ينحدر من أسرة برجوازية: ربطة عنق عريضة ملطخة بعصير الطماطم، حذاء من الجلد الأصلي ملتوي الكعبين، ردنان صناعيان، صديري منفصل للقميص؛ بينما خلعت عليه قبعته المصنوعة من القش، وصممه الثقيل مظهرا رشيقا. وأخذ دون خوان، الذي لم يكد يسمع أي شيء، يحصي الجنود المنتشرين أمام جدران القاعة على مسافة خطوتين من أحدهما الآخر. وإلى جواره جلس «ريكاردو» العازف يغطي رأسه وجزءا من وجهه بمنديل ملون، محمر الأنف، ولحيته الشائكة عليها بقايا من طعام. وكان ريكاردو العازف يكلم نفسه، وعيناه مثبتتان على بطن الصماء البكماء المنتفخ، التي كانت جالسة معهم إلى جواره يسيل اللعاب من فمها وتحك القمل تحت إبطها الأيسر. وبعدها كان يجلس «بيريكي»، وهو زنجي ذو أذن واحدة على شكل المبولة. وبعد بيريكي، «ميونا» الصغيرة وكانت بالغة النحافة، عوراء، لها شارب خفيف، وتنبعث منها رائحة الحشايا العتيقة.
وبعد تلاوة لائحة الاتهام، نهض المدعي، وهو عسكري قصير الشعر تبرز رأسه الصغيرة من صدار عسكري ذي بنيقة بالغة الضخامة بالنسبة إليه، وطالب بالحكم على المتهم بالإعدام. والتفت كرفخال يتطلع إلى أعضاء المحكمة باحثا عن أي دلائل على الحكمة والنجابة. وكان أول عضو وقعت عليه عيناه ثملا كأشد ما تكون الثمالة. وكانت يداه تقعيان على العلم أمامه. كيدي فلاح يمثل في رواية في حفل ريفي. وإلى جواره كان ثمة ضابط أسمر البشرة، ثم هو الآخر. أما رئيس المحكمة، الذي كان يفوقهما ثمالة، فقد بدا وكأنه على وشك أن يغمى عليه من فرط السكر.
ولم يستطع أن يقول كلمة واحدة دفاعا عن نفسه. لقد حاول النطق ببعض العبارات، ولكنه تلقى على الفور انطباعا بأن ما من أحد ينصت إليه، والواقع أنه فعلا لم يكن هناك أحد ينصت. وتجعدت كلماته في فمه كأنها خبز رطيب.
كان الحكم قد صدر وصيغ سلفا؛ وكان ثمة شيء فخم فيه يتناقض مع بساطة أولئك الذين ينفذونه ويصدقون عليه؛ دمي من اللحم المقدد ومن الذهب، تستحم من أعلى إلى أسفل بالضوء المنهل من المصباح الزيتي؛ أو يتناقض كذلك مع الشحاذين بعيونهم الضفدعية وظلالهم الثعبانية التي تنطرح على الأرض البرتقالية كأنها أقمار سوداء؛ أو مع الجنود الصغار الذين يلهون في سيور بذلاتهم؛ أو مع أثاث القاعة الذي ينتصب صامتا كأنما هو في منزل ارتكبت فيه جريمة قتل. وصاح كرفخال بأعلى صوته: إنني سأستأنف الحكم.
فبرطم رئيس المحكمة قائلا: دعك من هذا، فلا يوجد هنا استئناف ولا استنكاف، أو أي كلام فارغ من هذا القبيل.
وساعد كرفخال كوب من الماء هائل الحجم، استطاع الإمساك به على ضخامته لأن الهول كله كان في يديه، على ازدراء ما كان يحاول أن يطرده من جسده: فكرة المعاناة، آلية الموت، وقع الرصاص على العظام، الدماء على الجلد الحي، تجمد العينين، الملابس الدافئة، الأرض. وغلبه الفزع فأعاد الكوب وبقي ذراعه ممتدا إلى أن استجمع شجاعته وسحبه إلى جانبه. ورفض سيجارة قدموها له. وتحسس رقبته بأصابع مرتجفة بينما راحت عيناه، بعكس وجهه الشاحب شحوب الإسمنت، تتجولان دونما قيد بين جدران القاعة الناصعة البياض.
ودفعوا به وهو أقرب إلى الموت منه إلى الحياة عبر ممر يعصف فيه الهواء، ومذاق حريف في فمه، وساقاه لا تقويان على حمله، وعبرة في كل عين.
وقال له ضابط ذو عينين كعيني مالك الحزين: «هاك ... خذ جرعة»! ورفع الزجاجة التي شعر بها مائلة إلى فمه وشرب.
وصاح صوت من الظلمة: «أيها الضابط، عليك أن تلتحق بفرقتك العاملة غدا. لدينا أوامر بعدم التسامح بأي صورة من الصور مع المجرمين السياسيين.»
وبعد بضع خطوات أخرى، دفنوه في جب تحت الأرض، طوله ثلاثة أمتار في مترين ونصف، وبه اثنا عشر رجلا محكوما عليهم بالإعدام، لا يتحركون لعدم وجود أي مكان، الواحد منهم إلى جوار الآخر كالسردين، يقضون حاجاتهم وهم وقوف، ويطئون فضلات أجسامهم مرارا وتكرارا. وكان «كرفخال» رقم 13. وبعد رحيل الجنود، ملأت الأنفاس الأليمة لتلك الجمهرة من المعذبين صمت الجب الذي كانت تعكره على البعد صرخات أحد المسجونين.
ووجد «كرفخال» نفسه مرتين أو ثلاث مرات يحصي في آلية صرخات ذلك التعس المحكوم عليه بالموت عطشا. اثنتان وسبعون. ثلاث وسبعون. أربع وسبعون ... وجعلته نتانة البراز الموطوء بالأقدام ونقص الهواء يشعر بالإعياء، وحملاه بعيدا عن هذه المجموعة من البشر ليجول على شفا جرف جهنمي من اليأس، محصيا صرخات السجين.
وكان «لوسيو فاسكيز» يروح جيئة وذهابا في زنزانة أخرى مجاورة، وقد كساه مرض الصفراء لونا معصفرا، وأظافره ومقلتاه بلون الجانب السفلي من ورقة أشجار البلوط الخضراء. وكان الشيء الوحيد الذي يسري عنه في شقائه هو أنه يوما ما سينتقم من «خينارو روداس»، الذي كان يعتبره مسئولا عما يلقاه من رزايا. كان هذا الأمل البعيد هو ما يبقى عليه الحياة، أمل مدلهم اللون وحلو المذاق كالعسل الأسود. إن بإمكانه أن يحتمل البقاء هنا إلى الأبد لو كان بمستطاعه أن ينفذ انتقامه فحسب. لقد عشت الليالي الحالكة السوداء في صدره الخسيس، لدرجة لم يعد معها من شيء يدخل بصيصا من النور على أفكاره الشريرة إلا صورة السكين وهي تقطع أحشاء «روداس» تاركة فيه جرحا كالفم الفاغر . وقضى «فاسكيز» ساعة وراء ساعة، ويده متقلصتان من البرد، يتذوق طعم انتقامه، كدودة مجبولة من الطين الأصفر. اقتله! اقتله! ... وكان يمد ذراعه في الظلمة، كأنما عدوه قد بات بالفعل في متناول يده، ويتحسس في خياله سكينه البارد كالثلج، ويهجم على «روداس» كأنه شبح يقوم بحركاته المعهودة. وأعادته إلى الواقع صرخات السجين، الذي كان يردد في صراخه بعض كلمات بالإيطالية: بحق الله، من فضلكم ... ماء! ماء! ماء! ماء! أيها الضابط ... ماء! ماء! بحق الله، من فضلكم ... م ... ا ... ء، ماء! ماء.
وألقى السجين بنفسه على باب زنزانته، التي عزلت تماما من الخارج بطبقة من الطوب الأحمر المثبت إلى الأرض بالأسمنت وغطيت جدرانها بالأسمنت أيضا. - «ماء، أيها الضابط، ماء، أيها الضابط، ماء! بحق الله، من فضلك أيها الضابط!»
وظل السجين، وقد نفدت منه الدموع، واللعاب، وكل ما هو رطب أو بارد، وقد استحال حلقه أكمة شوك حارقة، مترددا بين عالم من نور ورقاع من ظلمة، يقرع صرخاته التي لا تنقطع: «ماء، أيها الضابط! ماء، أيها الضابط! ماء أيها الضابط!»
وكان ثمة رجل صيني على وجهه علائم الجدري معنى بشئون السجناء. وكان يأتيهم «كل بضعة قرون» كأنما هو آخر نفس في الحياة. هل كان ذلك المخلوق شبه الإلهي يوجد حقا، أم كان خيالا من خيالات أحلامهم؟ كانت رائحة البراز الموطوء وصرخات السجين تجعل رءوسهم تدور؛ كما أنه من الممكن أن ذلك الملاك الحنون لم يكن سوى رؤيا خيالية من بنات أفكارهم. - ماء أيها الضابط! ماء أيها الضابط! بحق الله، من فضلكم، ماء! ماء! ماء! ماء!
وكان ثمة جنود يروحون ويجيئون، تدق كعابهم على الأرض المغطاة بالقرميد وهم يرتدون صنادلهم الجلدية، وكان البعض منهم يزأر بالضحك ويرد على السجين الصارخ بقوله: «أيها التيرولي، أيها التيرولي، لماذا قتلت الطائر الذي يتحدث كالإنسان.» - «ماء، بحق الله، من فضلكم، ماء، أيها السادة ماء من فضلكم!»
وكان «فاسكيز» يتدبر انتقامه، بينما تركت صرخات الإيطالي الهواء جافا عطشا كغلاف قصب السكر. وجعله صوت طلقة رصاص يحبس أنفاسه. لقد بدأ تنفيذ أحكام الإعدام. لا بد أن الساعة الآن الثالثة صباحا.
الفصل الثلاثون
زواج في ظلال الموت
- «ثمة مريضة تحتضر في حينا.»
وخرجت عانس من باب كل منزل. - «ثمة مريضة تحتضر في حينا».
وخرجت من منزل «المائتين» امرأة تدعى «بترونيلا»، وجهها وجه جندي وحركاتها حركات دبلوماسي، ولو خيروها لاختارت على الأقل أن تدعى «برتا» تدليلا، لعدم وجود مغريات أخرى فيها. وبعدها، جاءت صديقة من منزل «المائتين» أيضا تدعى «سيلفيا»، وجهها كالعدساية وملابسها على الطراز الميروفينياني؛
1
ثم إحدى معارف «سيلفيا» وتدعى «إنغراسيا»، ترتدي كورسيها يضغط على جسدها حتى ليصح نعته بالدرع. وحذاء ضيقا عند كعبيها، وسلسلة ساعة تتدلى حول عنقها كأنها حبل مشنقة؛ ثم ابنة عم «إنغراسيا»، ذات رأس على هيئة القلب كرأس الأفعى، وكانت أجشة الصوت، مدملجة، ذات مظهر رجولي، لا تكاد تجاوز إحدى سيقان إنغراسيا حجما ومدمنة على التنبؤ بالكوارث واستطلاع ظهور الشهب، أو المسيح الدجال، أو العصر الذي سيلجأ فيه الرجال إلى قمم الأشجار هربا من مطاردة النساء، والذي ستصعد النساء فيه إلى تلك الأشجار لإعادتهم إليهن ثانية!
ثمة مريضة تحتضر في حينا. يا له من نبأ! كان الأمر لا يبين عن سرورهم بتلك الفكرة، بيد أنه كان يبين في الطريقة التي حاولت بها أصواتهن الخافتة إخفاء حبورهن بذلك الحدث الذي قد يهيئ للكثيرات منهن العمل بمقصاتهن، بل ويخلف كثيرا من القماش لهن جميعا بحيث تأخذ كل واحدة لنفسها ثوبا منه.
كانت «لامسكواتا» في انتظارهن. وأعلنت «بترونيلا» الآتية من منزل «المائتين»: «إن أخواتي جاهزات.»
ولم تبين لأي شيء هن جاهزات.
وقالت «سيلفيا»: فيما يتعلق بالملابس، يمكنك طبعا الاعتماد علي. إذا لزمك شيء منها.
أما «إنغراسيا»، إنغراسيا الصغيرة، التي تعبق برائحة مرق اللحم حين لا تفوح منها رائحة دهان الشعر، فقد أضافت، وهي تنطق بنصف الكلمات من فرط ما يضغط الكورسيه على جسدها: «لقد فكرت فيها وتلوث صلاة على أرواح المحتضرين بعد أن فرغت من صلواتي.»
كن متجمعات في الغرفة الواقعة وراء الحانة، يتكلمن في صوت خفيض، ويحاولن ألا يعكرن الصمت الذي كان يجلل سرير المريضة كأنه دواء طبي، أو يضايقن السيد الذي كان يجلس إلى جوارها ليل نهار. إنه سيد أصيل حقا. كن يتوجهن إلى السرير على أطراف أصابعهن، مدفوعات بالرغبة في إلقاء نظرة على وجهه أكثر منه بالنظر إلى «كميلة» الراقدة هناك كالشبح، بأهدابها الطويلة، وعنقها النحيل النحيل، وشعرها المهوش. وحين شممن رائحة سر في الموضوع (أليس ثمة سر دائما حيثما كانت قصة حب). لم يهدأ لهن بال حتى استخلصن مفتاح السر من صاحبة الحانة. إنه خطيبها! خطيبها! خطيبها! خطيبها! طبعا! إنه خطيبها! ورددن جميعا الكلمة السحرية، كلهن ماعدا سيلفيا، التي خرجت دون أن يلحظها أحد حالما عرفت أن «كميلة هي ابنة الجنرال كاناليس»، ولم تعد ذلك. كانت ترى من الأفضل عدم الاختلاط بأعداء الحكومة. وقالت لنفسها إن الشخص الذي يعودها ربما يكون خطيبها أي نعم، وقد يكون أيضا من أصدقاء السيد الرئيس، «ولكني شقيقة أخي، وأخي نائب في البرلمان، وربما أضر به اختلاطي بهم. لا بد لنا أن نضع ثقتنا في الله!» ورددت حين خرجت إلى الطريق: ولا بد لنا أن نضع ثقتنا في الله!
ولم يكد ذو الوجه الملائكي يشعر بهؤلاء النسوة، رغم أنهن كن حريصات على إتمام مجاملتهن للفتاة المريضة بمواساة خطيبها. وشكرهن دون أن يسمع ما يقلنه - مجرد كلام - وروحه بكاملها منتبهة لأنين كميلة المؤلم الذي يصدر عنها برغمها، ولم يستجب لمظاهر العطف الذي أبدينه وهن يصافحنه. وشعر بجسده يبرد، مسحوقا تحت وطأة البؤس الذي انتابه. وتملكه إحساس بأن الدنيا تمطر، وأن أطرافه قد خدرت، وأنه مشتبك مع أطياف غير مرئية في حيز أكبر من الحياة، حيز من الفراغ بدا فيه الهواء والنور والظلال والأشياء منفصلة عنه وحيدة.
وكسر الطبيب سلسلة أفكاره. - ما العمل إذن يا دكتور ...؟ - لن ينقذها سوى معجزة! ... - سوف تعود، أليس كذلك؟
لم تهدأ صاحبة الحانة لحظة، ورغم ذلك لم يبد عليها أي تعب. كانت تغسل الثياب لبعض الجيران، ولذلك نقعت الثياب في الصباح الباكر قبل أن تذهب بطعام الإفطار إلى فاسكيز في السجن، ولم تكن قد سمعت أنباء عنه مؤخرا. وحين تعود، كانت تغسل الثياب وتعصرها وتعلقها لتجف، ثم تهرع إلى أداء بعض الأعمال المنزلية في بيتها خلف الحانة، وغير ذلك من الأشياء: العناية بالمريضة، إشعال الشموع أمام ثور القديسين، محاولة حمل ذي الوجه الملائكي على تناول بعض الطعام، انتظار الطبيب، الذهاب إلى الصيدلية، تحمل ثقل ظل «القسيسات» كما تسمى هؤلاء النسوة العوانس، والشجار مع صاحب محل حشايا الأسرة المجاورة لها. وصاحت من على عتبة الباب وهي تتظاهر بأنها تهش الذباب بعيدا بخرقة ثياب: «حشايا للخنازير الكسولة! حشايا للخنازير الكسولة!» لن ينقذها سوى معجزة!
ردد ذو الوجه الملائكي عبارة الطبيب. معجزة، الاستمرار التعسفي لما هو قابل للموت، انتصار جزء من الإنسانية على المطلق العقيم. وشعر برغبة جارفة في التضرع إلى الله لإنجازه معجزة؛ بيد أن العالم في تلك الأثناء كان يدور ويلف بعيدا عن متناوله - بلا فائدة، معاديا، مضطربا، لا هدف له.
كانوا جميعا في انتظار المأساة من لحظة إلى أخرى. نباح كلب، طرقة قوية على الباب، دقات أجراس كنيسة «لامرسيد»، كانت تدفع الجيران إلى رسم علامة الصليب والتنهد قائلين: «لقد استراحت أخيرا! أجل، لقد حانت ساعتها. يا للرجل المسكين. إنه المصير المحتوم. إنها إرادة الله. إنه مصيرنا جميعا.» وأخذت «بترونيلا» تقص ما جرى لصديقة لها: «إنه أحد هؤلاء الرجال الذين لا يظهر عليهم أي تقدم في السن، يدرس الإنكليزية ومواد أخرى أكثر غرابة، ويعرف عادة بلقب المعلم.»
كانت تريد أن تعرف ما إذا كان ممكنا إنقاذ حياة كميلة عن طريق الشعوذة، ولا بد للمعلم أن يعلم، فبالإضافة إلى دروس اللغة الإنكليزية التي يعطيها، كان يكرس وقت فراغه لدراسة التصوف، والروحانيات، والسحر، والتنجيم، والتنويم المغناطيسي، وعلوم الباطن؛ بل وكان قد اخترع طريقة سماها: «مستودع السحر النافع في العثور على الكنوز المخبوءة في المنازل المسكونة بالأشباح.» ولم يستطع المدرس مطلقا أن يعلل أسباب إدمانه لعلوم المجهول، فقد كان في مطلع شبابه ميالا إلى الكنيسة، ولكن امرأة متزوجة، أكثر منه تجربة وتسلطا ، تدخلت يوما حين كان متوجها لإنشاد صلوات الكنيسة، فكانت النتيجة أن خلع مسوحه وغيرها من أردية القسس، وظل هكذا يبدو عليه البله والوحدة وترك كلية اللاهوت إلى كلية التجارة، وكان سيتخرج فيها بنجاح لو لم يضطر إلى الهروب من أستاذة المحاسبة التي وقعت في غرامه. وفتحت له بعد ذلك أبواب عالم الميكانيكا، في صورة الحدادة الشاقة، والتحق بورشة قريبة من منزله لينفخ في كير الحداد، بيد أنه لم يكن معتادا على العمل الشاق ولا هو متين البنية بما فيه الكفاية له، فترك ذلك العمل أيضا. ولماذا يتعين عليه أن يعمل وهو ابن الأخ الوحيد لسيدة بالغة الثراء كانت قد كرسته للكنيسة، ولم تفقد بعد أملها في أن يصبح قسا؟ وكانت تقول له: «عد إلى الكنيسة بدلا من أن تجلس هنا تتثاءب، عد إلى الكنيسة. ألا ترى أنك قد ضقت ذرعا بالدنيا، وأنك نصف أحمق وضعيف كقالب الزبد، وأنك قد جربت كل شيء ولم ترض أبدا عن شيء: جندي، موسيقى، مصارع ثيران؟! وإذا لم تكن تريد أن تصبح قسا، فلماذا لا تصبح مدرسا - تعطي دروسا في الإنكليزية مثلا؟ إذا لم تكن من الصفوة التي اختارها الله، فلماذا لا تختار أنت التلاميذ؟ إن الإنكليزية أسهل من اللاتينية وأكثر نفعا منها، وأنت إذا أعطيت دروسا في اللغة الإنكليزية فسيفترض تلاميذك أنك تتحدث الإنكليزية رغم أنهم لا يفهمونك، فإذا كانوا لا يفهمون فهذا أفضل!
وخفضت «بترونيلا» من صوتها كما تتحدث دائما عن أمور تسحق فؤادها: إنه محب يعبدها، يتعبد في محرابها أيها المعلم؛ ورغم أنه قد اختطفها، فقد عالجها باحترام ويأمل أن تبارك الكنيسة اتحادهما الأبدي. إن المرء لا يرى مثل هذه الأمور كل يوم.
وقالت أطول ساكنة في منزل «المائتين»، وهي امرأة تبدو وكأنما قد صعدت عدة درجات من سلم جسدها ذاته، وهي تدخل إلى الغرفة حاملة باقة ورد: إنها تحدث الآن أقل من أي وقت مضى يا طفلتي. - ولقد غمرها هذا المحب بكل ألوان العطف أيها المعلم، وبالتأكيد إنه سوف يموت معها ... آه.
وقال المعلم في بطء: أتقولين يا بترونيلا إن السادة الأطباء قد أعلنوا أنه ليس بإمكانهم عمل شيء لإنقاذها من يدي القدر؟
أجل يا سيدي، إنهم عاجزون. لقد أعلنوا ثلاث مرات أن لا أمل البتة. - وهل تقولين يا بترونيلا إن معجزة فحسب قادرة على إنقاذها؟ - هو ذاك. وإن قلبي يدمي من أجل ذلك الشاب المسكين. - حسنا، إن عندي الحل. لسوف نعمل على أن تحل تلك المعجزة. إن الشيء الوحيد الذي يمكنه مكافحة الموت هو الحب؛ لأن الحب والموت، كما يخبرنا «نشيد الإنشاد» لهما قدر مماثل من القوة: وإذا كان حبيب هذه الفتاة - كما تقولون - يعبدها، ويحبها حبا عميقا، أعني بكل فؤاده وجوارحه ويريد الزواج منها، لذا فبإمكاننا أن ننقذ حياتها عن طريق مراسم الزواج المقدسة. وطبقا لنظريتي في التطعيم، فإن هذا هو ما يجب فعله في هذه الحالة.
وكاد أن يغمى على «بترونيلا» بين ذراعي المعلم. وأيقظت المنزل كله، وذهبت مرة أخرى إلى منازل الصديقات، وأرسلت «لامسكواتا» كيما تحدث القس. وفي نفس ذلك اليوم تم زواج ذي الوجه الملائكي وكميلة، على أعتاب العالم الآخر. وأمسك ذو الوجه الملائكي يدا طويلة رقيقة، باردة كسكين ورق عاجية، في يده اليمنى المحمومة، بينما تلا القس عبارات مراسم الزواج الديني باللاتينية. وكان سكان منزل «المائتين» حاضرين: إنغراسيا، والمدرس يرتدي ملابس سوداء. هتف المعلم بالإنكليزية حين انتهت مراسم الزواج: اخلقي لنفسك روحا جديدة، من أجلي!
الفصل الحادي والثلاثون
حراس من جليد
كان يرى في مدخل السجن صفان من سيوف البنادق اللامعة؛ وكان الجنود القائمون بالحراسة يجلسون في مواجهة أحدهم الآخر كأنهم المسافرون في عربات السكة الحديد المظلمة وفجأة، توقفت إحدى العربات المارة أمام الباب. وانحنى السائق إلى الخلف كي يسيطر على الزمام على نحو أفضل، وهو يهتز من جانب إلى آخر كالدمية المصنوعة من الخرق القذرة، ويطلق السباب. لقد كاد يفقد توازنه ويسقط. ووصل صوت احتكاك عجلات العربة بالأرض من جراء إيقافها بغتة إلى داخل المبنى المشئوم ذي الجدران الملساء العارية، وترجل من العربة ببطء رجل مستدير البطن لا تكاد ساقاه تصلان إلى الأرض. وشعر السائق بأن عربة الأجرة قد استراحت من ثقل وزن المدعي العسكري العام، فوضع سيجارته المطفأة بين شفتيه الجافتين ... يا لها من راحة أن يبقى وحده مع جياده! وأرخى الزمام وساق العربة كيما ينتظر في مواجهة المنزل، إلى جانب حديقة صخرية كقلب الخونة المقدود من صخر، في نفس اللحظة التي ألقت فيها إحدى النسوة بنفسها أمام قدمي المدعي العام، راجية منه في صوت عال أن يستمع إلى شكواها. - «انهضي يا سيدتي؛ لا يمكنني أن أستمع إليك على هذا النحو! كلا، انهضي أرجوك؛ لم أتشرف بعد بمعرفتك.» - إنني زوجة كرفخال المحامي. - انهضي.
ولكنها انفجرت مرة أخرى: لقد كنت أبحث عنك طوال الليل والنهار يا سيدي، في كل ساعة، في كل مكان؛ في منزلك، في منزل والدتك، في مكتبك، بلا جدوى. إنك الشخص الوحيد الذي يعرف ماذا حدث لزوجي؛ إنك الوحيد الذي يعرف؛ إنك الوحيد الذي يمكنه أن يدلني. أين هو؟ ماذا حدث له؟ قل لي يا سيدي إن كان لا يزال حيا؟ قل لي يا سيدي إنه لا يزال على قيد الحياة ... - الواقع يا سيدتي أن المجلس العسكري الذي سينظر في قضية زميلي المحامي قد تلقى أمر استدعاء عاجلا للاجتماع هذه الليلة.
آآآآآ ... ه!
وارتعشت شفتاها اللتان لم تستطع إطباقهما من الفرحة. إنه لا يزال حيا! ومع هذا النبأ جاءها الأمل.
حيا! ... ربما إنه بريء ... فسيطلقون سراحه ... بيد أن المدعي العام أضاف دون أن يغير نبرته الباردة: إن الوضع السياسي للبلد لا يسمح للحكومة أن تتهاون بأي حال من الأحوال مع أعدائها يا سيدتي. هذا هو كل ما أستطيع أن أقوله لك. اذهبي إلى السيد الرئيس واستسمحيه للإبقاء على حياة زوجك، فقد يحكم عليه بالموت ويعدم رميا بالرصاص، وفقا للقانون، بعد أربع وعشرين ساعة. - آه، آه، آه ... - إن القانون فوق الأشخاص يا سيدتي، وما لم يعف السيد الرئيس عنه ... - آه، آه، آه ...
ولم تستطع الحديث، ووقفت هناك وقد غاض اللون من وجهها وصار أبيض كالمنديل الذي كانت تقطعه مزقا بأسنانها، ساكنة، بلا حراك، تائهة الفكر، تلوي أصابعها.
واختفى المدعي العسكري العام بين صفي السونكي. وبعد فترة من النشاط، امتلأ فيها الطريق بعربات بها سيدات وسادة متأنقون في طريق عودتهم إلى بيوتهم بعد استمتاعهم بالنزهة الرئيسية في المدينة، بقى بعدها مستنفدا قفرا. وأطلت عربة ترام صغيرة تصفر وتبرق من شارع جانبي، ومضت بعيدا تعرج على قضبانها ... - آه، آه، آه ...
لم تستطع كلاما. كانت ثمة كماشة باردة كالجليد تقبض على عنقها ويستحيل عليها الفكاك منها؛ وشعرت بجسدها ينزلق من كتفيها إلى الأرض. لم تعد سوى رداء خاليا، برأس ويدين وقدمين فحسب. وتردد في سمعها صوت عربة أجرة تقترب عبر الطريق. وأوقفتها واستقلتها. وبدت الجياد منتفخة كالدموع حين لوت عنقها واستدارت على أعقابها ثم توقفت. وقالت للسائق أن يحملها إلى منزل رئيس الجمهورية الريفي بأسرع ما يمكن. ولكنها كانت في عجلة ولهفة، لهفة يائسة، إلى درجة أنه رغم أن الجياد كانت تجري بأقصى سرعتها، فإنها لم تتوقف عن الإلحاح على السائق بأن يجعلها تجري أسرع ... كان عليهم أن يكونوا هناك الآن بالتأكيد ... أسرع ... لا بد لها أن تنقذ زوجها ... أسرع، أسرع، أسرع ... واختطفت السوط من السائق ... لا بد لها أن تنقذ زوجها ... وزادت الجياد من سرعتها بفعل ضربات السوط القاسية ... كان السوط يشوط جوانبها ... تنقذ زوجها ... كان عليهم أن يكونوا هناك الآن ... ولكن العربة لا تتحرك ... كان بوسعها أن تشعر أنها لا تتحرك، كانت العجلات تدور حول المحاور النائمة دون أن تتقدم على الإطلاق؛ كانوا متوقفين في مكانهم ... ولكن عليها أن تنقذ زوجها ... أجل، أجل، أجل، أجل، أجل ... وتهدل شعرها - تنقذه - وانحلت أزرار بلوزتها - تنقذه ... ولكن العربة لم تكن تتحرك ... كان بوسعها أن تشعر أنها لا تتحرك، العجلات الأمامية فقط هي التي تدور، ولكن كان بوسعها أن تشعر بالعجلات الخلفية تتلكأ بطريقة جعلت العربة تتطاول كمنفاخ الكاميرا؛ وكانت ترى الجياد تتصاغر وتتصاغر على البعد ... كان السائق قد استعاد سوطه منها ... لا يمكنهم المضي على هذا المنوال ... أجل، أجل، أجل، أجل يمكنهم ... كلا، لا يمكنهم ... أجل. كلا، أجل ... كلا ... ولكن، لم لا؟ لم لا؟ أجل ... كلا، أجل ... كلا ... وخلعت عنها خواتمها، ومشبك صدرها، وأقراطها، وسوارها، ووضعتها كلها في جيب سترتها ثم ألقت بها إلى السائق، راجية منه ألا يتوقف. لا بد لها أن تنقذ زوجها. ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد ... لا بد أن تصل إلى هناك، تصل إلى هناك، تصل إلى هناك، ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد ... لا بد لها أن تصل إلى هناك، وترجو الإبقاء على حياة زوجها، وتنقذه ... ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد. حجارة، أخاديد، طين جاف، عشب أخضر، ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد ... إنهم ثابتون كأسلاك أعمدة البرق، أو بالأحرى يرجعون القهقري كأسلاك أعمدة البرق، كالأشجار المزروعة، كالحقول اليباب، كالسحب الموشاة بأشعة الشمس الغاربة، كتقاطع الطرق المقفرة، كالنيران الساكنة.
وأخيرا دلفوا إلى الطريق المؤدي إلى منزل الرئاسة، عبر شريط يختفي وسط الأشجار والأحراج. كان قلبها يخفق في اختناق. واتخذ الطريق مسرى وسط بيوت صغيرة لقرية مقفرة نظيفة. وهنا بدءوا يصادفون عربات عائدة من ضيعة الرئيس - طراز «لانداو» و«سلكي» و«كالانش» يشغلها أناس ذوو وجوه وكملابس تشبه بعضها بعضا. وتقدمت جلبة العجلات وحوافر الجياد على الطريق المرصوف، ولكنهم رغم ذلك لم يصلوا بعد، لم يصلوا بعد ... وبالإضافة إلى أولئك العائدين في عرباتهم - موظفون سابقون بالحكومة، وضباط سمان متأنقون - كانوا يصادفون أناسا آخرين سائرين على الأقدام: أصحاب أراض سبق استدعاؤهم لمقابلة الرئيس بصورة عاجلة منذ شهور مضت؛ ومزارعون يرتدون أحذية كالحقائب الجلدية؛ ومدرسات يتوقفن كل بضع دقائق لالتقاط أنفاسهن وعيونهن يعصف بها التراب وقد تقطعت أحذيتهن من وقع الطريق وارتفعت تنوراتهن، إلى ركبتهن؛ وفرق من الشرطة الهنود لا يفقهون إلا قليلا مما يجري حولهم. لا بد لها أن تنقذه ... أجل، أجل ... ولكن هل يصلون أبدا إلى هناك؟ أول شيء هو الوصول إلى هناك، والرجاء ، وإنقاذه. ولكنهم لم يصلوا حتى الآن. لم يبق هناك الكثير عبور القرية ليس إلا. كان يجب أن يكونوا هناك الآن، ولكن القرية لا تبدو لها نهاية! إن هذا هو نفس الطريق الذي مرت به صور يسوع وعذراء الآلام محمولة على الأكتاف في يوم الخميس المقدس، وعوت الكلاب عند سماعها موسيقى الطبول الحزينة حين كان الموكب يمر أمام الشرفة التي يقف فيها الرئيس تحت ظلة من قماش أرجواني موشحة برسوم الزهور، ومر يسوع وقد انحنى ظهره من ثقل الصليب الخشبي، أمام قيصر، ولكن نظرات الإعجاب من الرجال والنساء اتجهت إلى قيصر وليس إلى يسوع. لم تكن الآلام بكافية، لم يكف البكاء ساعات وساعات، لم يكف أن تشيخ والعائلات والمدن من وطأة اليأس؛ بل كان لزاما لمضاعفة الإثم أن تعبر عينا السيد الرئيس بصورة المسيح وهو يتألم، ومر بالفعل وعيناه غائمتان تحت ظلة ذهبية شائنة، بين صفين من الأفاقين وعلى وقع صلصلة موسيقى وثنية.
وتوقفت العربة أمام المنزل الفاخر. وأسرعت زوجة «كرفخال» تجري عبر الطريق من أشجار مقطوعة الساق. وتوجه إليها أحد الضباط يقطع عليها الطريق: سيدتي، سيدتي ... - لقد أتيت لمقابلة الرئيس. - السيد الرئيس لا يقابل أحدا يا سيدتي، عودي أدراجك. - بلى، بلى، سيقابلني، أنا، إنني زوجة المحامي «كرفخال» ... ومضت قدما إلى الأمام، متملصة من أيدي الجنود الذين أسرعوا خلفها ينادون عليها، حتى وصلت إلى منزل صغير تسطع أنواره الباهتة في ظلال الغسق ... «إنهم سيعدمون زوجي أيها الجنرال»!
كان ثمة رجل طويل القامة، داكن البشرة، مرصع بالنياشين الذهبية، يمشي في ردهة ذلك المنزل الدمية. وتوجهت إليه وقالت له بشجاعة: «إنهم سيعدمون زوجي أيها الجنرال!» وظل الضابط الذي تبعها من الخارج يردد أنه من المستحيل عليها أن تقابل الرئيس.
وبالرغم من حسن خلق الجنرال، فقد رد عليها بفتور: السيد الرئيس لا يمكنه مقابلة أحد يا سيدتي. لا بد لك من الذهاب. - آه يا جنرال! آه يا جنرال! ماذا سيكون حالي بدون زوجي؟ ماذا سيكون حالي بدون زوجي؟ كلا، كلا يا جنرال! إنه سيقابلني ، دعني أدخل، دعني أدخل! قل له إنني هنا! إنهم سوف يعدمون زوجي!
كانت دقات قلبها تسمع عبر ردائها. ولم يدعوها تركع على ركبتيها. وكانت أغشية أذنيها تطوفان وقد اخترقها الصمت الذي واجهوا به طلباتها.
وطقطقت أوراق الأشجار الذابلة في الغسق من خشية الرياح التي تهب عليها فتطيرها من على الأرض. وتهالكت على أحد المقاعد. إن الجنود مجبولون. من جليد أسود. متصلبو الشرايين. وارتفع نشيجها إلى شفتيها بصوت حفيف الثياب المنشاة، يكاد يماثل صوت السكاكين. وكان اللعاب ينبجس من ركني فمها مع كل دفقة أنين. وتهالكت على المقعد بعد أن روته بأنينها كأنما هو حجر لشحذ السكاكين. لقد أبعدوها عن المكان الذي كان يمكن أن تعثر فيه على الرئيس. ومرت دورية حراسة جعلتها ترتعد من البرد. كانت تفوح منها رائحة مقانق الثوم والعسل الأسود وخشب الصنوبر المنزوع اللحاء. واختفى المقعد في الظلمة كاللوح الخشبي في وسط البحر. وتحركت من مكان إلى آخر حتى لا تغرق في مقعدها وسط الظلمة، حتى تبقى على قيد الحياة، واستوقفها حراس منبثون وسط الأشجار مرتين، ثلاث مرات، مرات عديدة. كانوا يرفضون بأصوات أجشة أن يدعوها تمر، ويهددونها إذا ألحت بكعب أو ماسورة بنادقهم. وحين صادفت الإحباط عن الشمال، جرت ناحية اليمين. وتعثرت في الأحجار، وأصابتها الأجمات المليئة بالأشواك بالجراح، كان طريقها يسده مزيد من حراس من جليد. وتضرعت، وناضلت، ومدت يدها كالمتسولة؛ وحين لم يصغ أي واحد منهم إليها. أخذت تجري في الاتجاه المقابل.
وجرفت الأشجار ظلها ناحية عربة الأجرة، ظلها الذي ما كاد يضع قدميه على سلم العربة حتى عاد مرة أخرى كالمجنون ليرى ما إذا كان يجدي الاسترحام مرة أخيرة. واستيقظ السائق وكاد أن يطوح الحلى الصغيرة الراقدة في دفء جيبه حين جذب يده بسرعة كيما يمسك اللجام. كان الوقت يمر في بطء شديد بالنسبة إليه، وكان تواقا إلى العودة والمباهاة وسط أقرانه، ولديه أسلحته لذلك الغرض: أقراط، خواتم، أساور، بوسعه رهنها والانتفاع بالنقود. وحك إحدى قدميه بالأخرى، وجذب قبعته فوق عينيه، وبصق. ماذا كان يحدث هنا في الظلام؟ وعادت زوجة «كرفخال» إلى عربة الأجرة كالسائرة في نومها. واتخذت مقعدها في العربة وقالت للسائق أن ينتظر برهة، فربما يفتحون الباب ... نصف ساعة ... ساعة ...
وسارت العربة دون أن يصدر عنها أي ضجيج، فإما أنها لم تسمع جيدا، وإما أنهم لم يتحركوا بعد ... وكان الطريق يهوي إلى قاع وهدة عبر تل شديد الأغوار؛ وبعد ذلك، يصعد مرة أخرى إلى المدينة. أول جدار مظلم. أول بيت أبيض. وفي فجوة حائط ثمة إعلان عن «أونوفرف» ... وشعرت كأنما كل شيء يلتحم بحزنها ... الهواء ... كل شيء ... ثمة مجموعة شمسية في كل دمعة تذرفها ... ومئات من قطرات الندى تسقط من الأسطح على الأفاريز الضيقة ... لم تكن الدماء تكاد تجري في عروقها ... كيف حالك؟ إنني مريضة، مريضة، مريضة جدا ... وغدا، كيف سيكون حالك؟ على نفس المنوال، واليوم الذي يليه كذلك ... كانت ترد على أسئلتها هي نفسها ... واليوم الذي يلي الغد أيضا ...
إن ثقل الموتى يجعل الأرض تدور ليلا، وهي تدور بالنهار بفعل ثقل الأحياء ... وحين يزيد عدد الموتى على عدد الأحياء، سيصبح الليل أبديا، لا نهاية له؛ ذلك أن الأحياء لن يكون لهم الثقل الكافي لإعادة النهار.
وتوقفت العربة. وكان الطريق منبسطا، ولكن ليس لها؛ لأنها توقفت عند باب السجن الذي لا بد يقينا أن ...
وسارت قدما في بطء، خطوة خطوة، ملتصقة بالجدار. لم تكن ترتدي ثياب الحداد، ولكنها اكتسبت قدرة الخفافيش على اللمس في الظلام ... الخوف، البرد، الاشمئزاز، قهرتها جميعا كيما تلصق نفسها بالجدار الذي سيردد صدى طلقات الرصاص ... وعلى أية حال، فهم لن يستطيعوا إطلاق الرصاص على زوجها، هكذا، بينما هي واقفة هناك. كيف يحدث هذا لرجال مثله، أناس مثله، لهم أعين، وفم، وأيد، وشعر على رءوسهم، وأظافر على أصابعهم، وأسنان في أفواههم، ولسان، وحلق ... ليس ممكنا أن يطلقوا النار على أناس هكذا، أناس لهم نفس لون الجلد، لهم نفس رنة الصوت، نفس طريقة الإبصار، والسمع، والإيواء إلى الفراش، والنهوض، والحب، وغسل الوجه، والأكل، والضحك، والسير، لهم نفس المعتقدات والشكوك ...
الفصل الثاني والثلاثون
السيد الرئيس
بعد أن تم استدعاء ذي الوجه الملائكي على جناح السرعة إلى القصر الجمهوري، أخذ يفكر بقلق في حالة كميلة، وقد ارتسم في نظراته الحائرة شيء من المرونة كان أمرا جديدا عليها؛ كما انعكس في عينيه تعبير إنساني جديد. وكان يتقلب ويتحول في دوامة شكوكه، كالثعبان الجبان الذي يتعثر في ذيله؛ هل يذهب أم لا يذهب؟ الرئيس أو كميلة؟ كميلة أو الرئيس؟
كان لا يزال يشعر بدفعات صاحبة الحانة في ظهره تستحثه على الذهاب ورنة صوتها المتضرع؛ إذ كانت ترى في ذهابه فرصة للتوسط من أجل فاسكيز. «اذهب أنت، وسأبقى أنا هنا أرعى المريضة.» وفي الطريق، استنشق الهواء بعمق. كان يركب عربة تتجه إلى القصر الجمهوري. ضربات حوافر الجياد على الأرض الصخرية ... دفق العجلات السائل. وأخذ يقرأ أسماء الحوانيت بعناية وهي تمر أمام ناظريه: «القفل الأحمر» ... «خلية النحل» ... «البركان» ... وكانت العناوين تبدو أشد وضوحا في الليل عنه في النهار ... «السكة الحديد» ... «الدجاجة والكتاكيت». وأحيانا، كانت عيناه تقعان على أسماء صينية ... «لون لي لون وشركاه» ... «كوان سي شان» ... «فو كوان ين» ... «شون شان لو» ... «سي يون سي». ومضى يفكر في الجنرال كاناليس. لا بد أنهم بعثوا في طلبه كيما يحيطونه علما بآخر الأنباء ... مستحيل! ... لماذا مستحيل؟ ... لقد قبضوا عليه وقتلوه ... أو ربما لم يقتلوه بل أعادوه سجينا. وهبت سحابة من الغبار فجأة. كانت الريح تلعب مصارعة الثيران مع العربة. كل شيء جائز! وحين وصلوا إلى خارج المدينة، سارت العربة في سلاسة، كالجسم الصلب الذي يتحول فجأة إلى سائل. وأمسك ذو الوجه الملائكي ركبتيه بيديه وتنهد. وضاعت جلبة العربة وسط آلاف من أصوات الليل الذي يزحف ببطء، حثيثا، كرويا. وظن أنه سمع جناحي طائر يرفرفان. ومروا على بضعة منازل متفرقة. ونبحتهم كلاب شبه ميتة.
وكان وكيل وزارة الحربية في انتظاره على باب مكتبه، ولم يكد يمر وقت كاف للمصافحة حتى وضع سيجارة على حافة منفضة السجائر وقاده مباشرة إلى جناح السيد الرئيس. وأمسك ذو الوجه الملائكي بذراع وكيل الوزارة وقال له: جنرال، هل تعلم لماذا استدعاني الرئيس؟ - كلا يا سيد ميغيليتو، إني «أجهل» ذلك .
وعرف عند ذاك الموضوع. وأكدت ضحكة قصيرة، تكررت مرتين أو ثلاث مرات، ما جعله الرد المراوع لوكيل الوزارة يحتسب. وحين وصل إلى غرفة الرئيس رأي غابة من الزجاجات فوق منضدة مستديرة، وإلى جوارها طبق من اللحوم الباردة مع ثمار الأفوكاتو وسلطة الفلفل الأخضر. وتمت اللوحة بوجود المقاعد مقلوبة على الأرض هنا وهناك. وجاهدت النوافذ بأفاريزها المصنوعة من الزجاج الأبيض المعتم، والتي يعلو كلا منها عرف أحمر، كيما تحجب الضوء المتسلل من المصابيح التي في الحديقة. وكان الضباط والجنود القائمون بالحراسة شاكي السلاح، ضابط على كل باب، وجندي عند كل شجرة. وتقدم السيد الرئيس من الطرف الأقصى للغرفة؛ وبدت أرضية الغرفة كأنما تتقدم تحت خطواته والسقف من فوق رأسه.
وحياه المحبوب بقوله: «سيدي الرئيس» وأسرع يضع نفسه تحت إمرته، حين قاطعه ذاك قائلا: ني ... نير ... يرفا!
1 - هل يشير السيد الرئيس إلى إلهة الجمال «منيرفا»!
واقترب فخامته من المائدة بخطوات قافزة، وصاح بالمحبوب دون أن يلقي بالا لكلامه عن «منيرفا»: هل تعرف يا ميغيل أن من اكتشف الخمر إنما كان يبحث أصلا عن مشروب إطالة الحياة.
فأسرع المحبوب يقول: كلا سيدي الرئيس، لم أكن أعرف ذلك. - هذا غريب؛ لأن ذلك مذكور في دائرة المعارف. - إن الأمر يكون غريبا حقا لو كان عدم معرفة ذلك من جانب رجل له مثل سعة اطلاعك سيدي الرئيس، ومن له حق اعتبار نفسه أحد أبرز ساسة العصر الحديث. ولكن ليس غريبا أن يكون مني أنا.
وأرخى فخامته جفنيه فوق عينيه حتى يخفي عن نظاريه حالة الفوضى الضاربة أطنابها فيما حوله من أشياء على النحو الذي صورتها له في تلك اللحظة حالة السكر البين التي كان واقعا تحت تأثيرها. - إه، أجل، إني أعرف الكثير!
قال ذلك ثم أرخى يده وسط غابة زجاجات الويسكي السوداء، وصب كأسا لذي الوجه الملائكي. - اشرب يا ميغيل.
وغص حلقه بالكلام. كان ثمة شيء قد انحشر في حلقه ، ودق على صدره ليتخلص منه، في حين انشدت عضلات رقبته النحيلة وانتفخت عروق جبهته. وجعله المحبوب يبتلع بعض المياه الغازية، وبعد بضع تكريعات استعاد قدرته على الكلام.
وانفجر ضاحكا وهو يشير إلى ذي الوجه الملائكي: «ها ها! ها ها! ها ها! على حافة الموت! ها ها! ها ها!»
وشحب وجه المحبوب، وارتجف في يده كأس الويسكي الذي شرب منه لتوه نخب الرئيس. - السيد ... فقاطعه فخامته قائلا: ... الرئيس يعرف كل شيء. ها ها! ها ها! ... على حافة الموت، وبنصيحة أحد المتخلفين عقليا، كما هم كل الروحانيين! ها ها! ها ها!
ووضع ذو الوجه الملائكي الكأس على فمه وضغط عليه وهو يشرب حتى يمنع نفسه من الصياح غضبا. لقد رأى الضوء الأحمر لتوه، فقد كان على وشك أن يهجم على سيده ويخنق ضحكاته البائسة في صدره؛ ورأى شعلة دمائه المشربة بالخمر. ولو كان ثمة قطار قد مر على جسده، لما سبب له من الآلام أكثر مما كان يشعر به الآن. كان يشعر بالقرف، ولكنه استمر يتصرف كالكلب المتمرن الذكي، السعيد بنصيبه من القاذورات، والمشبع بغريزة حب البقاء. وابتسم كيما يخفي عداءه، بيد أن الموت كان مرتسما على عينيه المخمليتين، كشارب السم الذي يشعر بوجهه آخذا في الاحتقان. وكان فخامته يطارد ذبابة. - ألا تعرف لعبة الذبابة يا ميغيل؟ - كلا سيدي الرئيس. - آه حقا إنك ... على حافة الموت! ها ها! ها ها! ... هي هي! هي هي! هو هو! هوو. هوووه!
واستمر مقهقها يطارد الذبابة وهي تطير من مكان إلى آخر، وقد خرج قميصه من زنار بنطاله، وانتفخت أزرار بنطاله، وانحلت سيور حذائه، وسال اللعاب من فمه، بينما عيناه تشعان ضوءا أصفر كمح البيضة.
قال وقد توقف لاهثا عن مطاردة فريسته: ميغيل، إن لعبة الذبابة هي أحسن تسلية وأسهل لعبة في العالم؛ إن الشيء الوحيد الذي تحتاجه فيها هو الصبر. لقد كنا نلعب لعبة الذبابة لقاء الملاليم في قريتي حين كنت صبيا.
وعبس حين ذكر قريته، وظللت وجهه سحابة سوداء؛ وتحول لينظر في خريطة للجمهورية كانت معلقة خلفه، وصوب ضربة بقبضته إلى اسم القرية.
وأبصر في مخيلته الطرق التي جابها طولا وعرضا حين كان صبيا فقيرا، فقرا ظالما، والتي جابها شابا مرغما على كسب قوته بينما الخلاسيون المنحدرون من عائلات ثرية يقضون وقتهم متنقلين من قصف إلى قصف. ورأى نفسه ضئيلا، يقعي في ظلال أقرانه، منعزلا عن الجميع، جالسا تحت مصباح الطريق الذي تعود أن يستذكر على ضوئه، بينما أمه تنام على سرير من الخرق البالية، والرياح تصفع الطرق المهجورة بهبات من الهواء المحمل برائحة الأغنام. ثم رأى نفسه لاحقا في مكتبه كمحام من محامي الدرجة الثالثة، وسط العاهرات والمقامرين وبائعي الفضلات ولصوص الجياد، محتقرا من بقية زملائه الذين يتناولون قضايا هامة.
وابتلع الكثير من كئوس الشراب، الواحد تلو الآخر. وكانت عيناه الجاحظتان تلمعان وسط وجهه المخضوضر، وأظافره المجللة بالسواد تحدد إطار يديه الصغيرتين. - يا لهم من جحدة!
وأسنده المحبوب من ذراعه. وبدأ كأن الرئيس يرى أمامه أشخاصا وهو يمر بعينيه عبر الحجرة المشوشة، وقال ثانية: «يا لهم من جحدة!» ثم أضاف بصوت خفيض: «لقد أحببت «باراليس سونرينتي» وسأظل أحبه دائما؛ وكنت على وشك أن أرفعه جنرالا، لأنه داس على أهل موطني وأذلهم، ولو لم تتدخل أمي لكان قد قضى عليهم كلية وانتقم لي من كل ما أحمل تجاههم من ضغائن، وهي أشياء أنا وحدي الذي أعرفها. يا لهم من جحدة! والأفظع أنهم قتلوه الآن والناس يخططون من كل جانب لاغتيالي، وأصدقائي يتخلون عني، وأعدائي يزدادون و... كلا، كلا! لن يبقى من «رواق الرب» حجر واحد.»
كانت الكلمات تتدفق من شفتيه كالعربة التي تجري فوق طريق زلق. وانحنى فوق كتف المحبوب، ويده الأخرى تضغط على بطنه، ورأسه يدور، وعيناه منطفئتان، وأنفاسه باردة كالثلج، وسرعان ما تقيأ فيضا من سائل برتقالي اللون. وهرع وكيل الوزارة إلى داخل الغرفة يحمل إناء من الميناء مطبوعا على قاعه شعار الجمهورية؛ وحين انتهى الطوفان - وقد ذهب أغلبه فوق ملابس المحبوب - تعاون الاثنان على حمله وسحبه إلى سريره.
كان يبكي ويردد مرارا وتكرارا: «يا لهم من جحدة! يا لهم من جحدة!» وهمس وكيل الوزارة للمحبوب وهما خارجان : «تهاني يا سيد ميغيليتو، تهاني. لقد أصدر السيد الرئيس أمره بنشر خبر زواجك في جميع الصحف، مع إدراج اسمه على رأس قائمة المحتفلين.»
ودلفا إلى البهو، ورفع وكيل الوزارة صوته قائلا: وذلك على الرغم من أنه لم يكن راضيا عنك في البداية؛ فقد قال لي: «لم يكن ينبغي لأحد أصدقاء «باراليس سونرينتي» أن يفعل ما فعل ميغيل؛ كان يجب على الأقل أن يلتمس إذني قبل أن يتزوج من ابنة أحد أعدائي.» ثمة أناس يريدون إلحاق الأذى بك يا سيد ميغيليتو، أجل، يريدون إلحاق الأذى بك. طبعا، لقد حاولت أن أجعله يفهم أن الحب عاطفة عنيدة جامحة حاسمة خادعة. - شكرا جزيلا يا جنرال.
فاستطرد وكيل الوزارة في صوت مرح، وهو يدفع ميغيل دفعات ودية رقيقة تجاه مكتبه وهو يضحك طول الوقت: حسنا، تعال إذن وانظر إلى هذا. تعال انظر إلى الصحف! لقد حصلنا على صورة السيدة من عمها «خوان». رائع يا صديقي العزيز، رائع!
ودس المحبوب أصابعه في كوم الصحف الخفيض. وإلى جواره صورة الشاهد الرئيس، كانت ثمة صورة للسيد خوان كاناليس، المهندس وأخيه السيد خوسيه أنطونيو. «عرس في الطبقة الراقية. تم في الليلة الماضية الاحتفال بزواج الآنسة الفاضلة كميلة كاناليس والسيد ميغيل ذي الوجه الملائكي. والعروسان ...» وجرت عيناه إلى سطور شهود العقد ... «وكان شهود العقد فخامة رئيس الجمهورية الدستوري، الذي جرت مراسم الاحتفال في قصره، ووزارة الدولة، الجنرالات ...» وعبر فوق سطور قائمة الأسماء ... «وعما العروس المحترمان، السيد خوان كاناليس المهندس، والسيد خوسيه أنطونيو كاناليس.» وفي نهاية الفقرة: «وهناك صورة للآنسة كاناليس في عمود الاجتماعيات من طبعة اليوم لجريدة «الناسيونال». ونحن نتشرف بإزجاء التهاني للطرفين متمنين لهما كل سعادة في بيتهما الجديد.»
ولم يدر ذو الوجه الملائكي أن يتوجه ببصره ... «معركة القردان مستمرة. من المتوقع أن يشن الألمان هجوما يائسا الليلة.»
وأزاح عينيه عن صفحة الأخبار الخارجية وأعاد قراءة الكلام المكتوب تحت صورة كميلة. ها قد أقحم الشخص الوحيد الذي أحبه في هذه المهزلة الشائهة التي يشتركون فيها جميعا، وتناول وكيل الوزارة الصحيفة منه. - إنك لا تكاد تصدق عينيك، آه، أيها الرجل المحظوظ!
وابتسم ذو الوجه الملائكي. - ولكنك في حاجة إلى تغيير ملابسك يا صديقي. خذ عربتي. - شكرا جزيلا يا جنرال. - انظر ... إنها هناك. قل للسائق أن يأخذك إلى منزلك بأسرع ما يمكن ثم عد إلى هنا مرة أخرى. مساء الخير ... وتهاني ... أوه، وبالمناسبة، خذ هذه الصحيفة لكي تراها زوجتك، وانقل لها التهاني من خادمك المطيع. - إنني ممتن لك على كل شيء، مساء الخير.
وسارت العربة وبها المحبوب، دون صوت كأنها سهم أسود يجره جوادان مجبولان من الدخان. وشكلت أغاني الجداجد سطحا فوق عزلة الحقول الفواحة بعبير الخزامى، وعزلة حقول الذرة التي بكرت في الظهور، والمراعي المخضلة بالندى، وسياج الحدائق المحملة بالياسمين.
وقال في سريرته: «أجل، إذا واصل الهزء مني فسوف أخنقه.» وأخفى وجهه في المقعد الخلفي خشية أن يقرأ السائق ما ارتسم في عينيه: كتلة لحم متجمد على صدر الوشاح الجمهوري، والوجه المفلطح جامد ساكن، واليدان تغطيهما الأردان حتى لا يبين منهما سوى الأصابع، والحذاء الجلدي مغطى بالدماء.
ولم تتفق حالته العدائية الجياشة مع هزات المركبة. كان يود لو كان جالسا ساكنا سكون القاتل الذي يستعيد جريمته في السجن، سكونا ظاهريا، خارجيا، يمثل تعويضا ضروريا عن الثورة الجياشة التي تعتمل في أفكاره. كانت دماؤه تغلي في عروقه. وأخرج وجهه من نافذة العربة في الليل البارد بينما كان ينظف ثيابه مما علق بها من قيء سيدة بمنديل بلله العرق والدموع. كان يسب ويلعن ويبكي من الغيظ ... «آه لو كان بإمكاني فحسب أن أنظف الضحكات التي أفرغها فوق روحي!»
ولحقت بهم عربة أخرى بداخلها ضابط، ثم سبقتهم على الطريق. وومضت السماء فوق لعبتها الشطرنجية الأبدية. وكانت الجياد تخب في وحشية تجاه المدينة في سحابة من الغبار. وقال ذو الوجه الملائكي لنفسه: «كش ملك!» إذ كان ينظر إلى سحابة الغبار التي يهرع في وسطها الضابط ليحضر للسيد الرئيس واحدة من محظياته. كان يبدو وكأنه رسول الآلهة.
وفي المحطة المركزية للسكك الحديدية، كان العمال يفرغون البضائع بضوضاء سريعة، وسط نخير القاطرات التي يتصاعد منها البخار. وكانت الطرقات يظللها وجود زنجي يطل من شرفة بيت عال خضراء، وخطوات السكارى المترنحة، ورجل غبي الهيئة يجر وراءه أرغنا هائل الحجم، كأنه مدفع يسحب بعد الهزيمة العسكرية.
الفصل الثالث والثلاثون
النقاط فوق الحروف
أخذت أرملة «كرفخال» تهيم من منزل إلى منزل، حيث استقبلوها ببرود في كل مكان؛ ولم يكن يجرؤ إلا القليل من الناس على إظهار حزنهم على وفاة زوجها خوفا من اعتبارهم أعداء للحكومة. وفي بعض الحالات أطل الخدم من النوافذ ليصيحوا بها دون لياقة: «من تريدين؟ أوه، لا أحد في المنزل.»
وذاب الجليد الذي هطل عليها من جراء تلك الزيارات حالما وصلت إلى منزلها. وعادت تذرف فيضانات من الدموع أمام صورة زوجها، دونما رفيق سوى ابنها الصغير، وخادمة صماء ظلت تصيح بالطفل بأعلى صوتها: «إن حب الأب هو أعظم نعمة في الوجود!» وببغاء يردد مرارا وتكرارا: «بغبغان ملوكي من البرتغال، ملابسه خضراء وليس معه مليم! صباح الخير أيها المحامي. صافحيني يا بولي. النسور في المغسلة. رائحة ملابس تحترق. مبارك هو سر القربان المقدس، ملكة الملائكة الطاهرة، العذراء التي حملت دون دنس. آي، آي ...»
كانت قد خرجت ترجو الحصول على توقيعات على ملتمس إلى الرئيس لتسليمها جثة زوجها، بيد أنها لم تجرؤ على ذكر الموضوع في أي من البيوت التي زارتها؛ ذلك أنهم استقبلوها دون أي ترحاب، في تردد، بين نوبات سعال وفترات صمت مشئوم؛ ومن ثم فقد أحضرت معها الورقة تحت شالها الأسود لا تحمل أي توقيع غير توقيعها هي: كانوا يشيحون برءوسهم جانبا، متظاهرين أنهم لم يروها، واستقبلوها على عتبة الباب دون العبارة المعهودة: «تفضلي بالدخول.» وبدأت تشعر كأنما تعاني من مرض معد خفي، شيء أفظع من الفقر، من الكوليرا، من الحمى الصفراء؛ ورغم ذلك فقد تلقت وابلا من «الخطابات الغفل» كما تقول الخادمة الصماء كلما عثرت على خطاب ملقى من تحت فرجة باب المطبخ الصغير الذي يطل على زقاق مظلم مهجور، وهي أوراق مطوية مكتوبة بخط مرتعش توضع هناك تحت ستار الليل؛ وكان أقل وصف يخلعونه عليها في ذاك الخطاب هو القديسة، الشهيدة، الضحية البريئة، بالإضافة إلى رفع مكانة زوجها التعس إلى السماء، ووصف الجرائم التي ارتكبها الكولونيل «باراليس سونرينتي» بتفاصيلها البشعة.
وفي صباح اليوم التالي، كان هناك خطابان بدون توقيع تحت عتبة الباب، وأحضرتهما الخادمة ملفوفين في ميدعتها؛ لأن يديها كانتا مبتلتين. وكان نص الخطاب الأول كما يلي:
سيدتي: إن هذه ليست أفضل طريقة أنقل بها لك ولأسرتك المحزونة الاحترام العميق الذي أكنه لشخصية زوجك، مواطننا المبجل السيد «قابيل كرفخال»، ولكن اسمحي لي أن ألجأ إلى هذه الطريقة من باب الحرص، ذلك أن بعض الحقائق لا يمكن استئمانها للورق، ويوما ما سأقول لك اسمي الحقيقي. لقد كان والدي أحد ضحايا ذلك الرجل الذي تنتظره كل أهوال جهنم - الكولونيل «باراليس سونرينتي» - ذلك القاتل المأجور الذي سوف تسطر أفعاله يوما ما في صفحات التاريخ، إذا كان يوجد من هو على استعداد لأن يغمس قلمه في سم الثعابين ليكتبها. لقد قتل هذا الرجل الجبان والدي في طريق مهجور منذ سنوات عديدة. ولم يثبت شيء بالطبع، وكانت الجريمة ستظل لغزا لو لم يتقدم أحد الغرباء الذي كتب إلى أسرتي، دون توقيع، يصف الجريمة البشعة بالتفصيل. وإنني لا أعلم ما إذا كان زوجك، هذا الإنسان المثالي، هذا البطل الذي له في قلوب مواطنيه تمثال من المجد، هو في الحقيقة من انتقم من جرائم «باراليس سونرينتي»، ذلك أن هناك عددا من القصص المختلفة متداولة حول هذا الموضوع؛ ولكن على أية حال فإني أرى من واجبي أن أعبر لك عن خالص عزائي، وأن أؤكد لك يا سيدتي أننا قد بكينا جميعا معك لخسارة رجل خلص بلده من أحد رجال العصابات المتعددين الذين يسيئون إليه، والذين يستغلون ذهب أمريكا الشمالية لإخضاعه لحكم الحديد والنار.
وتقبلي تحياتي! (صليب قلعة رافا)
كانت الأرملة مستنزفة فارغة، قد شلها قصور عميق عن الحركة جعلها تبقى راقدة في سريرها ساعات طويلة كالجثة أو هي أشبه، فعصرت أنشطتها على مجال منضدة مجاورة لسريرها (وعليها الأشياء التي تحتاج إليها دائما حتى تتجنب النهوض) وعلى هجمات من الهستيريا تنتابها إذا حاول أي شخص فتح الباب أو استخدام مكنسة أو صدر عنه أي صوت بالقرب منها. وخلعت الظلمة والصمت والقذارة هيبة على عزلتها، على رغبتها في أن تكون وحيدة مع حزنها، مع ذلك الجزء منها الذي مات مع زوجها والذي كان يسيطر تدريجيا على جسدها وروحها.
وبدأت تقرأ الخطاب الآخر الغفل من التوقيع بصوت عال:
سيدتي المحترمة المبجلة: سمعت من بعض الأصدقاء أنك قد وضعت أذنك على جدران السجن ليلة إعدام زوجك رميا بالرصاص. وحتى لو أنك سمعت وأحصيت الطلقات التسع، فإنك لن تعرفي أيها اختطفت المحامي «كرفخال»، رحمة الله عليه، من بين الأحياء.
وبعد كثير من التردد خوفا من أن أسبب لك ألما، قررت أن أكتب إليك باسم مستعار - فمن الخطورة استئمان الخطابات هذه الأيام - لأنقل إليك كل ما أعرف عن الموضوع، فقد شهدت الإعدام. كان ثمة رجل نحيف أسمر البشرة وذو شعر أشيب يغطي جبهته العريضة، يمشي أمام زوجك. ولم أفلح في معرفة اسمه.
وبرغم المعاناة التي تبدت في دموعه، كانت عيناه الغائرتان تشعان بشعور دافق من الرحمة الإنسانية، وكان بوسع المرء أن يقرأ فيهما أن صاحبهما رجل نبيل وكريم. وكان المحامي يتعثر خلفه دون أن يرفع عينيه عن الأرض - وربما أيضا لم يكن يراها - يبلل العرق جبهته، وإحدى يديه على صدره ربما ليمنع قلبه من أن ينفجر. وحين خرج إلى الفناء ورأى نفسه محاطا بالجنود، حك عينيه بظهر يديه كأنما هو لا يصدق ما يراه. كان يرتدي حلة ناحلة صغيرة عليه بحيث لا تصل أكمام السترة إلا إلى مرفقيه، ولا يصل البنطال إلا إلى ركبتيه، ملابس قديمة مجعدة قذرة مهلهلة، ككل الملابس التي يرتديها السجناء المحكوم عليهم بالإعدام، بعد أن يعطوا ملابسهم الأصلية إلى أصدقائهم الذين يخلفونهم وراءهم مقبورين في زنزانات السجن التحتية، أو إلى حراس السجن مقابل بعض الخدمات الخاصة. كانت فتحة قميصه لا يقيمها سوى زر واحد من العظم. ولم يكن يرتدي ربطة عنق ولا حذاء. بيد أن وجود رفاقه في الكارثة معه، أنصاف عرايا مثله، أنعش شجاعته. وبعد أن فرغوا من قراءة حكم الإعدام، رفع رأسه ونظر في حزن إلى صف حراب السونكي، وقال شيئا غير مسموع. وحاول الرجل الهرم الذي كان بجواره الكلام هو الآخر، ولكن الضباط أسكتوه بتهديده بسيوفهم. كانت أيدي الضابط ترتعش من جراء الخمر التي شربوها، وبدت سيوفهم كالشعلات الزرقاء للكحول المحترق في ضوء الفجر الشاحب. وفي تلك الأثناء، ارتج صوت مصطدما بصداه المتردد من الجدران وهو ينطق عبارة: «من أجل الأمة»! وتبع ذلك واحد، اثنان، ثلاث، أربع، خمس، ست، سبع، ثمان، تسع دورات من الرصاص. وكنت أعدها على أصابعي، دون أن أشعر بما أفعل، ولذلك فقد تولد لدي منذ ذلك الوقت انطباع غريب بأن عندي إصبعا زائدة. وأغلق الضحايا عيونهم وثنوا أجسادهم كأنما ليتحسسوا طريقهم بعيدا عن مرمى الموت. وارتفع نقاب من الدخان فاصلا بيننا وبين هذه الحفنة من الرجال الذين جاهدوا عبثا أن يمسك الواحد منهم بالآخر إذ هم يسقطون بدلا من أن يهووا وحدهم إلى الفراغ. وارتجت طلقات الرحمة كانفجار الصواريخ الرطبة التي يتأخر مفعولها وتنفجر على نحو رديء. وكان من حسن حظ زوجك أن قتلته أول دورة من الرصاص. وكان يسمع عاليا، في السماء الزرقاء البعيدة المنال، صوت الأجراس والأطيار والأنهار، خافتا لا يكاد يبين. وقد قيل لي إن المدعي العسكري العام قد اضطلع بدفن الجث ...»
وقلبت الصفحة في لهفة، «الجث ...»، بيد أن بقية الكلمة لم يكن لها وجود، ولا أي صفحات أخرى؛ فقد انقطع الخطاب فجأة، ولم يكن هناك من بقية له وأعادت قراءة الخطاب، ولكن عبثا، وبحثت داخل المظروف، وقلبت الفراش، وبحثت في الوسائد، وعلى الأرض، وعلى المائدة، وقلبت كل شيء رأسا على عقب في لهفتها لأن تعرف أين دفن زوجها. وفي الفناء، كان الببغاء يهذر: «بغبغان ملوكي من البرتغال، ملابسه خضراء وليس معه مليم! آه، ها هو المحامي يأتي، مرحى أيها البغبغان الملوكي ! قال لي الكذوب! إني لا أبكي ولكني لا أنسى!» •••
تركت خادمة المدعي العسكري العام أرملة «كرفخال» واقفة على عتبة الباب والتفتت إلى امرأتين تتحدثان بأعلى صوتيهما في ردهة المدخل.
كانت إحداهما تقول: اسمعي، اسمعيني فحسب، اذهبي وقولي له إنني لن أنتظره أكثر من ذلك. إنني لست من الهنود، عليه اللعنة، حتى يتركني «وقفاي يقمر عيشا» على هذا المقعد الحجري! إنه يذكرني بوجهه القبيح! قولي له إنني قد جئت أرى ما إذا كان سيرد لي أخيرا العشرة آلاف بيزو التي اختلسها مني لقاء امرأة من سجن «كأسا نويفا» ظهر أنها لا نفع منها لدي؛ لأنه في اليوم الذي أحضرتها فيه إلى منزلي وقعت فريسة نوبة صرع. ثم، اسمعي، قولي له إنها آخر مرة سأزعجه فيها؛ لأن ما سأفعله الآن هو الذهاب للشكوى إلى السيد الرئيس.
وقالت لها المرأة الأخرى: لا تعكري دمك يا سيدة «تشون»، اطرحي عنك هذا الوجه الغاضب البا ... ئس.
وحاولت الخادمة الكلام إلى المرأة الأخرى: ... آنستي ... ولكن الآنسة قاطعتها قائلة: اخرسي أنت. - قولي له ما قلت لك، ولا تقبلي منه الزعم بأنني لم أعطه فسحة من الوقت: قولي له إن السيدة «تشون» قد جاءت لتراه مع إحدى الفتيات، وحين علمتا أنه ليس هنا، ذهبتا قائلتين إنه سوف يرى من أي معدن هما.
ولم تدرك أرملة «كرفخال» شيئا مما يجري حولها، إذ كانت مستغرقة في أفكارها. كانت تبدو في ثيابها السوداء، لا يظهر منها إلا وجهها، مثل الجثة المسجاة في نعش ذي نافذة. وربتت الخادمة على كتفها - وبدت أصابع المرأة العجوز كأنما هي مغطاة بخيوط العنكبوت - ودعتها إلى الدخول ... ودخلتا المنزل. ولم يكن بوسع الأرملة التحدث بوضوح، بل كانت تهمهم كامرئ، قد تعب من طول القراءة بصوت مسموع. - أجل يا سيدتي اتركي خطابك معي. وحين يحضر - ولن يطول ذلك كثيرا إذ إنه كان يجب أن يكون هنا الآن بالفعل - سوف أعطيه له وأقول له ما تريدين - بحق الله.
وفي اللحظة التي كانت أرملة «كرفخال» تغادر فيها المكان، ظهر شخص يرتدي حلة قطنية بلون القهوة، يتبعه جندي قد علق بندقيته «الرمنغتون» فوق كتفه وخنجرا في زناره، ونطاقا مليئا بخراطيش الرصاص حول عجيزته.
وقال ذلك الشخص للخادمة: من فضلك، هل المدعي العسكري العام موجود؟ - كلا، إنه ليس هنا. - وأين أستطيع أن أنتظره؟ - اجلس هنا، والجندي أيضا.
وجلس السجين وحارسه في صمت على المقعد الحجري الذي أشارت إليه الخادمة لهما من غير رقة.
إن الفناء يعبق برائحة زهور رعي الحمام والبيغونيا. وكانت ثمة قطة تمشي على سطح المنزل، وعصفور يحاول الطيران داخل قفصه الخيزراني. ومن بعيد، كان يسمع صوت خرير المياه التي تنساب في خمول إلى النافورة كأنما يصيبها الدوار من السقوط.
وأغلق المدعي العسكري العام الباب في صلصلة من المفاتيح، ثم وضعها في جيبه وتوجه إلى السجين والجندي، ووقف كلاهما.
وتساءل وهو يشن بأنفه: «خينارو روداس»؟ كان البيت، في كل مرة يدخل من الخارج، يعبق برائحة مخلفات القطط. - أجل يا سيدي، في خدمتكم. - هل يفهم حارسك اللغة الإسبانية؟
فرد روداس: «قليلا جدا منها». والتفت إلى الجندي وأضاف: ما قولك؟ هل تفهم القشتالية؟ - نصف نصف.
فقال المدعى العام: حسنا جدا. يحسن أن تبقى هنا. وسوف أتحدث معه. ابق هنا إلى حين أن يعود، سوف يتحدث معي.
وتوقف روداس على باب حجرة المكتب. وطلب إليه المدعي العام الدخول، ووضع الأسلحة التي كانت معه على منضدة مغطاة بالكتب والأوراق، مسدس، وخنجر، وحزام يد معدني، وهراوة قصيرة. - أظن أنهم قد أخطروك بالحكم؟ - أجل يا سيدي. - ست سنوات وثمانية شهور، على ما أذكر. - ولكن يا سيدي، إني لم أكن شريكا للوسيو فاسكيز؛ لقد فعل ما فعل دون أي مساعدة مني؛ وحين وصلت إلى ذلك المكان، كان الأبله يتدحرج بالفعل على سلالم الرواق مغطى بالدماء وشبه ميت. ماذا كان بوسعي أن أفعل؟ كانت أوامر. قال لي إنها أوامر صادرة إليه. - حسنا، لقد نفذ فيه حكم الله بالفعل.
والتفت «روداس» لينظر إلى المدعي العام، كما لو لم يكن بإمكانه أن يصدق ما كانت سيماء وجهه الشريرة تؤكده، وظلا صامتين. ثم تنهد «روداس» قائلا: «لقد كان شابا طيبا.» ثم خفض صوته وهو يقول العبارات التالية في ذكرى صديقه، وكان قد تلقى النبأ بين دقتين من دقات قلبه وها هو يشعر به في دمائه: «حسنا، لا فائدة ترجى الآن! لقد كنا ندعوه «بالقطيفة» لأنه كان دائما يعرف من أين تقطف الثمرة.» - لقد حكم عليه طبقا لعريضة الاتهام على أساس أنه مقترف الجريمة، وعليك بوصفك شريكا له. - ولكني وكلت محاميا عني. - لقد كان المحامي بالذات في الواقع، وهو يعرف رأي السيد الرئيس من القضية، هو الذي طلب الإعدام لفاسكيز وأقصى عقوبة لك. - يا للشاب المسكين! إني على قيد الحياة على الأقل، أحكي القصة. - وبإمكانك أن تصبح حرا على الفور إذا أنت رغبت؛ لأن السيد الرئيس بحاجة إلى شخص مثلك، شخص جرب السجن فترة لأسباب سياسية. إن الموضوع يتعلق بمراقبة واحد من أصدقائه، لديه من الأسباب ما يجعله يعتقد أنه يخونه ... - هل تعني ...؟ - هل تعرف ميغيل ذا الوجه الملائكي؟ - بالاسم فقط. إنه ذلك الذي اختطف ابنة الجنرال كاناليس، أليس كذلك؟ - أجل، إنه هو. إنك ستتعرف عليه بسهولة لأنه وسيم للغاية: رجل طويل، حسن البنية، أسود العينين، شاحب الوجه، حريري الشعر، رشيق الحركة. إنه عميل خطير، وتريد الحكومة أن تعرف كل شيء يقوم به، والناس الذين يزورهم أو يتحدث معهم في الطريق، والأماكن التي يتردد عليها في الصباح وفي الظهيرة وفي الليل، ونفس الشيء بالنسبة إلى زوجته. سوف أعطيك تعليمات كاملة ونقودا كافية لذلك الغرض.
وتابع السجين حركات المدعي العام في بلاده؛ إذ تناول بعد كلماته تلك ريشة من على المنضدة وغمسها في محبرة كبيرة عليها تمثال للإلهة «تيميز» واقفة بين بئرين من الحبر الأسود، وأعطاها إلى «روداس» قائلا: وقع بإمضائك هنا، وسأصدر أوامري غدا بإطلاق سراحك. جهز أشياءك كيما تخرج غدا.
ووقع «روداس» باسمه كان السرور يرقص في ثنايا جسده كالثور الصغير الهائج.
وقال وهو يخرج : «إنني ممتن جدا، جدا.» وكاد أن يقبل الجندي الذي كان بانتظاره، وعاد إلى السجن كرجل ذاهب إلى الجنة.
بيد أن المدعي العسكري العام كان أشد سرورا بالورقة التي وقع عليها «روداس» بإمضائه، والتي كان نصها كما يلي:
تسلمت من السيدة «كونسيسيون غاموسينو»، ولقبها «ذات السن الذهبية»، صاحبة محل الدعارة المسمى «النشوة اللذيذة»، مبلغ عشرة آلاف بيزو بالعملة المحلية، وهو مبلغ أعطته لي كتعويض جزئي عن الضرر الذي سببته لي بإغواء زوجتي - السيدة «فيدينا دي روداس» - بأن استغلت حسن نيتها وطيبتها، واستغلت السلطات بأن عرضت عليها العمل كخادمة لديها، ثم أدرجتها، دون أي تصريح بذلك، في عداد الفتيات اللائي يعملن في بيت الدعارة.
خينارو روداس
وسمع صوت الخادمة تقول من وراء الباب: هل يمكنني الدخول؟ - أجل، ادخلي.
لقد أتيت لأرى ما إذا كنت تحتاج لأي شيء. إنني ذاهبة إلى الحانوت لشراء شمع، ولا بد أن أقول لك إنه قد حضرت إلى هنا امرأتان من بيت الدعارة، قالتا لي أن أقول لك إنه إذا لم تعد إليهما العشرة آلاف بيزو التي سرقتها منهما، فسيذهبان ويشكوان للرئيس.
وتمتم المدعي العام وقد بدا عليه الضيق وهو ينحني ليلتقط طابع بريد من على الأرض، وماذا أيضا؟ - كما حضرت سيدة في ملابس الحداد تريد رؤيتك، وأظن أنها زوجة الرجل الذي أعدم ... - أي واحد فيهما؟ - السيد «كرفخال». - حسنا، وماذا كانت تريد؟ - لقد أعطتني المسكينة هذا الخطاب. أظن أنها تريد أن تعرف أين دفن زوجها.
وبينما المدعي العام يتطلع في تردد إلى الورقة المحاطة بالسواد، استطردت الخادمة تقول: علي أن أقول لك إنني قد وعدتها بأن أبذل جهدي لمساعدتها لأنني أشعر بالأسف من أجلها، فخرجت المسكينة وهي تؤمل خيرا. - لقد قلت لك مرارا وتكرارا إنني لا أحب أن تتعاطفي مع الناس. يجب عليك ألا تشجيعهم على الأمل خيرا. متى ستفهمين أن عليك ألا تشجعي الناس على الأمل خيرا؟ في بيتي، أول شيء يجب على الجميع، حتى القطة، أن يتعلموه هو أنه لا توجد أسباب لأي أمل من أي صفة لأي شخص. إن المرء لا يمكنه الاحتفاظ بمنصب مثل منصبي إلا إذا أطاع الجميع أوامره ؛ والقاعدة التي استنها السيد الرئيس هي عدم إشاعة أي أمل، وينبغي ركل الناس وضربهم والدوس عليهم إلى أن يتبينوا ذلك. حين تأتي تلك السيدة، عليك أن تعيدي إليها خطابها، مطويا كما هو، وتقولي لها إنه لا سبيل لها إلى معرفة المكان المدفون فيه زوجها. - لا تغضب هكذا وإلا فسوف تقع فريسة للمرض. سأقول لها ذلك. رعاك الله وسدد خطاك.
وخرجت تحمل الخطاب وتجر قدميها، واحدة بعد الأخرى، واحدة بعد الأخرى، تحت تنورتها المنشاة.
وحين بلغت المطبخ، جعدت الخطاب بين أصابعها وألقت به وسط الفحم، وتغضنت الورقة بين النيران كأنها جسم حي، ثم تحولت فجأة إلى كتلة من الديدان الصغيرة المصنوعة من أسلاك الذهب. ومشت قطة سوداء عبر الرفوف حيث اصطفت مرطبانات البهارات، منبسطة كالجسور، ثم قفزت على المقعد الحجري إلى جوار المرأة العجوز، وحكت نفسها على بطنها العقيم، وهي تهر كصوت تطاول إلى أن أصبح ذا أقدام أربع؛ ثم ثبتت عينيها الذهبيتين، في حب استطلاع شيطاني، على قلب النيران التي كانت الآن قد أتت على الخطاب وأحالته رمادا منثورا.
الفصل الرابع والثلاثون
نور للعميان
كانت «كميلة»، تقف في وسط الحجرة، معتمدة على ذراع زوجها وعلى عصا للمشي. وكان الباب الرئيسي للحجرة يطل على فناء تفوح منه رائحة القطط والجراء، أما النافذة فهي تطل على المدينة التي أحضروها إليها في دور النقاهة على كرسي ذي عجلات؛ وكان ثمة باب آخر صغير يفضي إلى حجرة مجاورة. وبرغم الشمس التي تغرب على طول نيران عينيها الخضراوين، والهواء الذي يملأ رئتيها كالسلسلة الثقيلة، فقد تساءلت كميلة متعجبة: إذا كانت هي التي تسير على قدميها ثانية. وبدت لها قدماها أكبر من المعتاد، وساقاها كعكازين. كانت تبدو وكأنها تسير في عالم آخر وعيناها مفتوحتان على وسعهما؛ كانت مولودة من جديد، دونما وجود، تحيط بها الأشباح التي تسير في زبد من خيوط العنكبوت. كانت تشعر كأنما قد ماتت مع احتفاظها بوجودها ، كما يحدث في الأحلام، ثم عادت إلى الحياة لتجد أنها تجمع بين واقعها وبين الحلم. كان والدها، وبيتها، ومربيتها، يشكلون جزءا من وجودها الأول. أما زوجها، والمنزل الذي يقطناه مؤقتا، والخدم، فهم وجودها الجديد. كانت من تسير هي وليست هي. الإحساس بالعودة إلى الحياة في حياة جديدة. وكانت تتكلم عن نفسها كأنها تتكلم عن شخص يعتمد على عصا من حياتها السابقة؛ وكانت تتفهم أشياء غير منظورة؛ فإذا تركوها وحدها غرقت في ذلك العالم الآخر، جالسة تسرح بعيدا بأفكارها، جامدة الشعر، ويداها ترقدان في حجر تنورتها الطويلة التي تدل على عرسها الذي تم قريبا، بينما الضجيج يصطخب في أذنيها.
وسرعان ما كان بوسعها أن تتجول في البيت، ورغم ذلك فقد ظلت عليلة، أو قل إنها ظلت غارقة في تقييم الأشياء المهولة التي وقعت لها منذ طبع زوجها أول قبلة له على خدها. كان الأمر أكثر مما تستطيع احتماله، بيد أنها تشبثت به بوصفه الشيء الوحيد ملك يمينها حقيقة في عالم غريب عنها. كانت تستمتع بمنظر القمر، في عليائه وفي ظلاله المنسكبة على الأرض، أمام البراكين التي يظللها غمام السحب، تحت النجوم المتلألئة كأنها حشرات ذهبية في برج حمام سامق خال.
وأحس ذو الوجه الملائكي أن زوجته ترتعد داخل ثيابها الصوفية البيضاء، لا من البرد، لا كما يرتعد الناس عادة، بل كما ترتعد الملائكة، فقادها من يدها خطوة خطوة إلى حجرة نومها. تمثال الرأس الهائل الحجم فوق النافورة ... السرير المعلق الساكن، والمياه ساكنة سكون السرير المعلق ... أصص زهور رطيبة ... زهور صناعية ... ممرات يصل بينها ضوء القمر ...
وأويا إلى فراشيهما، يتحادثان من غرفة إلى الأخرى. كان ثمة باب يصل ما بين حجرتيها. وخرجت الأزرار من عراها في وسن بصوت رقيق يحاكي صوت زهرة تقطع، وسقطت الأحذية على الأرض، كسقوط المرساة في عرض البحر، وانسلخت الجوارب من على السيقان كما ينسلخ الدخان من المدخنة. وتحدث إليها ذو الوجه الملائكي عن أدوات الزينة الخاصة به المصفوفة على منضدة إلى جوار حامل المنشفة، كيما يخلق جوا عائليا في هذا المنزل الضخم الذي يبدو مهجورا، وكيما يقصي أفكاره عن ذلك الباب الصغير الضيق ، كبوابة السماء، الذي يفصل بين حجرتي نومهما.
ثم دلف إلى فراشه بكل ثقله، ورقد فيه فترة طويلة دون أن يتحرك، يرفل في المد الغريب، محللا العلاقة التي تنمو ثم تتحطم باستمرار فيما بينهما. لقد اختطفها كيما يستحوذ عليها بالقوة؛ ثم نما الحب بينهما بدافع الغريزة العمياء، فهجر خطته الأولى وحاول أخذها إلى بيت عمها، ولكن الباب هناك يوصد دونهما. ولذلك فقد عادت إلى حوزته مرة أخرى، ولا شك أنه لم تكن ثمة مخاطرة في الاستحواذ عليها آنذاك، طالما أن الجميع يظنون فيه هذا الظن. بيد أنها تعلم حقيقة الأمر وتحاول تجنبه. ووقف مرضها عقبة أمام استحواذه عليها. وساءت حالتها في ساعات قليلة. لقد كانت تموت. سوف يأتي الموت ويحل المشكلة. وهو يعلم ذلك ويبدو أحيانا مستكينا للأمر رغم أنه يتمرد على هذه القوى العمياء في أغلب الأحيان. وتحبط دعاوى الموت أعز آماله، والقدر ينتظر حتى آخر لحظة كيما يجمع بينهما.
كانت كالطفلة أولا حين لم تكن تستطيع المشي بعد، ثم في طور المراهقة بعد أن نهضت ومشت خطواتها الأولى؛ وبين ليلة وضحاها، استردت شفتاها لون الدماء، وامتلأ مشد صدرها بما يحمله من ثمرة؛ وكانت تحس بالاضطراب ويندى منها العرق حين يقترب منها الرجل الذي لم تتصور أنه سيكون زوجها.
وقفز ذو الوجه الملائكي من الفراش. وشعر بأن ما يفصل بينه وبين كميلة خطأ لم يقترفه أي منهما، بزواج لم يوافق عليه أي منهما.
وأغلقت كميلة عينيها. وابتعدت خطواته ناحية النافذة.
كان القمر يختفي ويظهر من ثنايا أركان السحب السابحة، والطريق ينساب كنهر من عظام بيضاء تحت جسور من الظلال. ومن حين لآخر، يمحي كل شيء، كالصدأ الذي يعلو الآثار القديمة، ثم يظهر بعد ذلك موشحا بندف من الذهب. وتدخل جفن أسود عريض وقطع أستار هذه الرؤيا التي تتبدى خلال أجفان خافقة. وبدت رموشه الهائلة وكأنما تبزغ من أعلى البراكين قاطبة، وتنتشر بخطى العنكبوت الهائل فوق هيكل المدينة، دامغة إياها بظلال الحداد. وهزت الكلاب آذانها كمقابض الأبواب، وحلقت طيور ليلية في أفق السماء، وانتقلت آهة من شجرة سرو إلى شجرة سرو، وسرت أصوات ملء الساعات الدقاقة. واختفى القمر كلية وراء قمة فوهة بركان عالية، وهبط ضباب كنقاب العروس فوق أسطح المنازل. وأغلق ذو الوجه الملائكي النافذة. وكانت كميلة في غرفة نومها تزفر أنفاسا بطيئة ثقيلة كأنما هي قد نامت ورأسها تحت الأغطية، أو كأن ثمة شبحا يرقد على صدرها.
وكانا يذهبان أحيانا في تلك الأيام للاستحمام. وكانت ظلال الأشجار ترقط القمصان البيضاء التي يرتديها الباعة الجوالون، الذين يحملون الأوعية الفخارية، والمكانس، وطيور الزينة في أقفاصهما الخيزرانية، وأكواز الصنوبر، والفحم، وأخشاب التدفئة، والذرة. كانوا يتنقلون في مجموعات تغطي ساحات شاسعة، يمشون على أطراف القدم دون أن يريحوا كعوبهم أبدا على الأرض. وكانت الشمس تعرق منهم. وكانوا يلهثون، ويلوحون بأذرعتهم، ثم يختفون كالطيور المهاجرة.
وتوقفت كميلة في ظل كوخ ترقب عملية جمع حبات البن. كانت أيدي القاطفين تتحرك وسط العناقيد المعدنية كأنها الحيوانات النهمة، فوق، تحت، ثم تلتقي في جنون كأنها تدغدغ الشجرة، ثم تتباعد كأنها تفك أزرار قميصها.
وأحاط ذو الوجه الملائكي بخصرها ثم قادها عبر ممر ينبسط تحت أحلام الأشجار الدافئة. كانا يشعران برأسيهما وجذعيهما، أما ما تبقى، الساقان واليدان، فكانت تطفو معهما وسط زهور الأوركيد والسحالي ذات الألوان البراقة، في نور فاتر تحول تدريجيا إلى ظلمة عسلية إذ هما يمضيان قدما داخل الغابة. وكان يشعر بجسد كميلة من خلال بلوزتها الرقيقة كما يحس المرء بحبات الذرة الناعمة الحريرية الرطبة من خلال الأوراق الناضرة: وكان الهواء يعبث بشعريهما. وحين وصلا إلى مكان الاستحمام كانت الشمس غافية علي صفحة المياه، وثمة مخلوقات خفية تطفو وسط ذؤابات أعشاب السرخس الظليلة. وخرج ملاحظ الحمامات من كوخ ذي سطح من الزنك وهو يأكل حبات الفاصولياء، وحياهما بإيماءة من رأسه، وابتلع حفنة الفاصولياء التي كانت بين شدقيه، وأخذ يتطلع إليها بنظرة فاحصة تدل على الاعتداد بالنفس. وطلبا حمامين. وذهب لإحضار المفاتيح، وفتح لهما كبينتين يفصل بينهما حاجز. وتبادلا قبلة سريعة قبل أن يذهب كل منهما إلى كبينته. وكان ملاحظ الحمامات يعاني من ألم في إحدى عينيه ولذلك فقد غطى وجهه لحمايتها.
وشعرا بالغربة، بعيدين أحدهما عن الآخر، ضائعين وسط همهمات الغابة. وخلع ذو الوجه الملائكي ملابسه أمام مرآة محطومة بعجلة الشباب الوثاب. لماذا يتعين على المرء أن يكون رجلا؟! حين يكون من الأفضل له أن يكون شجرة، سحابة، يعسوبة، فقاعة، أو طائرا مغردا؟ وصرخت كميلة حين لمست قدماها المياه الباردة وهي تقف على أول درجة في سلم حوض الاستحمام؛ وصرخت مرة أخرى حين نزلت إلى الدرجة الثانية، وعلا صراخها مع الدرجة الثالثة، واشتد حدة مع نزولها إلى الدرجة الرابعة ... ثم ... «سبلاش»! وانتفخ قميصها الهندي كأنه البالونة، ولكن المياه غمرته في نفس لحظة امتلائه بالهواء تقريبا، فصاغت جسدها في ألوان القماش الغامقة من زرقاء وخضراء وصفراء: نهدان متوثبان، وبطن خمصاء، وانحناءة رقيقة عند الفخذين؛ ظهر أملس، وكتفان نحيلان نوعا ما. وبعد أن أتمت «الغطس»، خرجت ثانية من الماء وقد أحست بالاضطراب شيئا ما من الصمت الذي ران على أعشاب البوص، والذي بدا كأنه يمد يدا إلى شخص مختف هناك، روح غريب يحوم فوق الحمامات، أفعى ملونة بأوان الفراشات. ولكنها سمعت صوت زوجها يسأل من وراء الباب عما إذا كان بوسعه الدخول، وأحست بالأمان.
وتقافزت المياه معهما كأنها حيوان سعيد. ووسط نسيج العنكبوت المضيء للظلال الممتدة فوق جدران الحمامات، شاهدا ظلال جسديهما كأنهما عنكبوتان هائلتان. وكان الهواء يعبق برائحة النباتات المائية، وبوجود البراكين القصية، ورطوبة بطن الضفادع، وأنفاس العجول الصغيرة وهي تمتص المراعي الخضراء بعد أن تحولت إلى ذلك السائل الأبيض في ضروع أمهاتها، وبرودة شلالات المياه التي تنبجس وهي تضحك، وطيران الذباب الأخضر في قلق. وغمرها نقاب هلامي من فئوس خرساء، وصوت شخص يغني في الوهاد، ورفرفة جناحي طائر.
وأطل ملاحظ الحمامات كي يسأل عما إذا كان الجوادان اللذان وصلا من قرية «لاكبراديتاس» لهما. لقد حان الوقت لارتداء الملابس ومغادرة الحمامات .
وشعرت كميلة بدودة تتثنى في المنشفة التي ألقتها حول كتفيها لحماية ملابسها من شعرها المبلل. ولم يستغرق إحساسها بها، وصرختها، وإسراع ذي الوجه الملائكي لنجدتها وقتل الدودة، سوى ثوان معدودات. بيد أنها لم تعد تحس بالمتعة بعد ذلك؛ فقد بدأت تشعر بالخوف من الغابة، وبدا كأنما هي تغرق في لهاث رطيب، وسبات بلا أحلام، تنفض عنها الدود.
وكان الجوادان يذبان عنهما الذباب بطرفي ذيلهما تحت شجرة تين. وهرع السائس الذي أحضرهما نحو ذي الوجه الملائكي وقبعته في يده. - آه، أهو أنت. صباح الخير! ماذا تفعل هنا؟ - إني أعمل. إني هنا منذ تفضلت علي وأخرجتني من معسكر الجيش، منذ عام تقريبا. - أرى أن الوقت قد سرقنا. - يبدو هذا سوف تغرب الشمس عما قليل يا سيدي، وأمامنا مشوار طويل.
وسأل ذو الوجه الملائكي كميلة ما إذا كانت تريد العودة الآن. وتوقف كي يدفع الحساب لملاحظ الحمامات. - كما يحلو لك. - «ولكن، ألا تشعرين بالجوع؟ ألا ترغبين في تناول شيء من الطعام؟ ربما كان بوسعنا شراء شيء من الملاحظ.»
واقترح عليهما السائس قائلا: «ألكما في بعض البيض؟» واستخرج من جيب سترته، التي امتلأت بالأزرار التي فاقت عدد عراها، منديلا ملفوفا به ثلاث بيضات. قالت كميلة: شكرا جزيلا. يبدو أنها طازجة للغاية. - الشكر لك يا عروسة. أما عن البيض، فهو طازج جدا، فقد وضعته الدجاجات لتوها هذا الصباح، وقد قلت لزوجتي: اتركي هذه، على حدة فإني أزمع حملها إلى السيد الملائكي.
وودعا ملاحظ الحمامات، الذي كان لا يزال يمسح عينيه التي تؤلمه، ويأكل حبات الفاصولياء.
ومضى السائس قائلا: وكنت أفكر أن من الأفضل أن تبتلع السيدة البيض نيئا؛ لأن المسافة طويلة منا وربما شعرت بالجوع.
فردت كميلة قائلة: كلا، فإني لا أحب البيض النيئ. وربما أصابني بالمرض. - إني أظن أن السيدة معتلة بعض الشيء. - ذلك أنني قد غادرت فراش المرض لتوي.
فقال ذو الوجه الملائكي: أجل، لقد كانت مريضة جدا.
فقال السائس وهو يشد أحزمة السرجين: ولكنك ستتحسنين الآن. فالنساء كالورود، في حاجة إلى السقي والرعاية؛ وسيصلح الزواج الآن من حالتك.
وأرخت كميلة جفنيها وقد احمرت وجنتاها وغمرهما الاضطراب، كالنبات الذي تطلع له بدلا من الأوراق عيون من كل جانب؛ وتبادلت نظرة مع زوجها، نظرة مليئة برغبة متبادلة، ووقعا بذلك على الاتفاق الضمني الذي كانا يفتقدان وجوده حتى الآن.
الفصل الخامس والثلاثون
نشيد الأنشاد
وكانا يقولان، أحدهما للآخر: «ماذا يكون عليه الحال لو لم يجمع بيننا القدر؟!» ذلك أن فكرة المخاطرة التي مرا بها كانت تملؤها بالرعب، لدرجة أنه إذا حدث وافترقا، فإن كلا منهما يأخذ في البحث عن الآخر؛ وإذا كانا معا تعانقا؛ وإذا كان الواحد منهما في أحضان الآخر ضمه إلى حضنه أكثر وأكثر، ولا يكتفي بذلك بل يقبله بحرارة ويغرق نظراته في عينيه، ثم يغرقان في خضم من السعادة يحملهما إلى حالة شفافة من الذهول، في وفاق نشوان مع الأشجار الممتلئة بالعصارة الجديدة، ومع ندف اللحم الصغيرة المغطاة بريش متلألئ الألوان، والتي تطير في خفة تضارع خفة الصدى.
ولكن الثعابين بحثت في ذلك السؤال. لو أن القدر لم يجمع بينهما، أكانا سيشعران بالسعادة؟ وطرح حق تدمير هذه الجنة الساحرة عديمة الجدوى في المزاد بين الأشباح الجهنمية؛ وبدأت الأرواح الشريرة تترقب، وانبجس صوت الشك من بين لقاح الإثم الرطيب، في حين نسجت الأيام خيوطا عنكبوتية في جوانب الزمن.
ولم يكن بمستطاعه ولا بإمكانها أن يتجنبا حضور الحفلة التي يقيمها رئيس الجمهورية في منزله الريفي هذه الليلة. وبدا بيتهما غريبا عليهما فجأة. كانا حائرين كيف يتصرفان. وجلسا في حزن يحيط بهما أريكة ومرآة للزينة وأثاثات أخرى، بدلا من العالم الساحر الذي كان يحيط بهما في شهور زواجهما الأولى. كان كل منهما يشعر بالأسف من أجل الآخر، وبالخجل من كونهما على ما هما عليه.
وكان ثمة ساعة حائط تدق في حجرة الطعام. ولكنهما شعرا أنهما بعيدان جدا لدرجة يحتاجان معها إما إلى قارب أو بالون ليذهبا إلى مكان الحفلة. وجلسا في حجرة الطعام ... وأخذا يأكلان في صمت وأعينهما على رقاص الساعة الذي يقربهما مع كل حركة منه إلى موعد الحفل. ونهض ذو الوجه الملائكي كيما يرتدي سترة السهرة. وشعر بالبرودة وهو يدخل ذراعيه في الأكمام، كشخص يلف نفسه في أوراق الموز. وحاولت كميلة أن تطوي منشفة المائدة، ولكن المنشفة كانت هي التي طوت يديها عوضا عن ذلك؛ وجلست بين المائدة ومقعدها، لا تشعر بأي قوة للقيام بالخطوة الأولى في الاستعداد للذهاب إلى الحفل. وعاد ذو الوجه الملائكي ليرى الوقت، ثم رجع إلى حجرته ليحضر قفازيه. ووصل إليها وقع أقدامه على مبعدة كأنما هو يمشي في نفق. وقال شيئا. شيئا. وبدا صوته غير واضح. وعاد إلى الظهور بعد برهة في حجرة الطعام يحمل مروحة زوجته. ولم يكن بوسعه أن يتذكر ما هو الشيء الذي ذهب لإحضاره من غرفته وكان يبحث عنه في كل الأنحاء في إبهام. وتذكر آخر الأمر، بيد أن قفازيه كانا في يديه بالفعل!
وقالت كميلة للخدم الذين كانوا يرقبون خروجهما من الباب إلى الممشى: تأكدوا من إطفاء جميع الأنوار، ثم أغلقوا الباب بعناية، وبعد ذلك يمكنكم الذهاب إلى الفراش.
وانطلقا في عربة تجرها جياد حسنة التغذية، تخب في نهر من العملات الفضية المجلجلة المعلقة في السرج. ودفنت كميلة نفسها في ركن العربة؛ لم يكن بوسعها أن تنفض عنها ذلك الخدر الذي يجثم فوقها؛ والتمع الضوء الميت لمصابيح الطريق في عينيها. ومن آونة لأخرى، كانت العربة ترتج بحركة مفاجئة تهزها عن مقعدها، قاطعة حركة جسدها الذي أخذ يتابع إيقاع العربة. وكان أعداء ذي الوجه الملائكي يشيعون أنه لم يعد بعد محبوب السيد الرئيس ولا من الأثيرين لديه، وأخذوا يلمحون في «نادي أصدقاء السيد الرئيس» إلى أنه ينبغي الآن أن يدعى ميغيل كاناليس بدلا من لقبه الحقيقي. وكان جالسا في العربة تهزه عجلاتها وهو يستطيب مقدما مذاق الدهشة التي سيسببها لهم ظهوره في حفل الرئيس هذه الليلة.
وخلفت العربة الطرق المرصوفة وانحرفت إلى ربوة رملية جعلت العجلات تئن بصوت أجوف. وشعرت كميلة بالخوف، فلم تكن ترى شيئا في الظلمة من الريف حولها، بل النجوم فحسب ، ولم تكن تسمع شيئا من الحقول المغطاة بالندى إلا صرير الجنادب، وشعرت بالخوف وارتدت إلى الخلف كأنما هي مساقة إلى حتفها عبر ممشى «أو شبه ممشى» على إحدى جانبيه هوة تفغر فاها، وفي الجانب الآخر جناح الشيطان منبسطا كالصخرة في وسط الظلمة.
وقال ذو الوجه الملائكي لزوجته وهو يأخذها برفق من كتفيها بعيدا عن الباب: ما الخبر؟ - إني خائفة. - هس، اهدئي. - إن ذلك الرجل سيقلب العربة بهذه السرعة التي يسوق بها، قل له أن يبطئ قليلا. أرجوك! آه يا عزيزي، ألم تسمع ما قلت؟ قل له! لماذا أنت صامت؟
فقال ذو الوجه الملائكي: إن هذه العربات ...
ولكنه قطع عبارته، لأن زوجته أمسكت به حين حدثت هزة عنيفة غير متوقعة من عجلات العربة. وشعرا كأنهما يتدحرجان إلى الهوة.
قال وهو يلملم أطراف نفسه: خلاص، لقد مر الأمر. لا بد أن العجلات قد وقعت في حفرة عميقة.
وكانت الريح تهب على أعالي الصخور بقسوة محدثة صريرا كصوت تمزيق القماش. وأخرج ذو الوجه الملائكي رأسه من طاقة العربة ليصيح بالسائق أن يكون حريصا بعض الشيء. وأدار إليه السائق وجهه الأسمر المنقور ببثور الجدري وأبطأ جياده حتى أصبحت كأنها تسير بخطى جنائزية.
وتوقفت العربة في الطرف الأقصى لقرية صغيرة. وتقدم نحوهم ضابط يرتدي معطفا فضفاضا يصلصل مهمازه، وتعرف عليهم وسمح للسائق بمواصلة السير. وهمهمت الريح وسط أوراق عيدان الذرة الجافة المقطوعة. ولاح شبح بقرة مربوطة أمام أحد المنازل. وكانت الأشجار غافية. وعلى مبعدة مائتي ياردة، تقدم ضابطان ليريا من القادم، ولكن العربة لم تكد تتوقف. والآن، وقد كانوا على وشك الترجل أمام بيت رئيس الجمهورية، تقدم ثلاثة كولونيلات إلى الأمام لتفتيش العربة.
ورحب ذو الوجه الملائكي بضابط أركان الحرب (كان جميلا وماكرا كالشيطان). وكان ثمة حنين للبيت الدافئ يحوم في رحابة الليل الغريبة، ونور قنديل في الأفق يدل على موقع ثكنة مدفعية تقوم على حراسة رئيس الجمهورية.
وخفضت كميلة عينيها أمام رجل ذي تكشيرة شيطانية، وكتفين مائلين، وعينين مستطيلتين، وساقين نحيلتين طويلتين. وحين دخلا ، مد هذا الرجل ذراعه ببطء وفتح يده كأنما هو على وشك أن يطلق حمامة منها بدلا من أن يتحدث إليهما.
قال: «لقد أسر «بارثينيوس البيتاني» في حروب «ميتريدانس» وحمل إلى روما حيث أشرف على تدريس البحر الشعري الإسكندري. لقد تعلمه منه «بروبرنيوس» و«أوفيد» و«هوراس» وأنا ...»
وكانت ثمة سيدتان متقدمتا السن تتحادثان عند باب الصالة التي كان الرئيس يستقبل فيها ضيوفه. وكانت إحداهما تقول وهي تمرر يدها على تسريحة شعرها: «أجل، أجل، لقد قلت لهم إنهم لا بد أن يعيدوا انتخابه.» - وماذا قال؟ إنني متشوقة بالفعل إلى سماع ذلك ... - لقد اكتفى بالابتسام؛ ولكني أعلم أنه سيعاد انتخابه. إنه أفضل رئيس للجمهورية عرفناه يا «كانديديتا». هل تعلمين أنه منذ أن تولى الحكم، فإن زوجي «مونتشو»، قد تقلد أفضل المناصب؟
وخلف هاتين السيدتين، كان «المعلم»، يتكلم في ثقة واعتداد وسط مجموعة من الأصدقاء.
وقال المدعي العسكري العام، وهو يلتفت يمينا ويسارا إذ كان يسير وسط الحلقة: «لقد سأل السيد الرئيس عنك، لقد سأل السيد الرئيس عنك، لقد سال السيد الرئيس عنك ...»
فرد عليه المعلم: شكرا لك!
فقال أحد أصحاب المناصب السود، مقوس الساقين، ذهبي السن، وهو يظن أن الشكر موجه إليه: «عفوا.»
كانت كميلة تود ألا يلاحظها أحد في هذا الجمع الحاشد. ولكن ذلك كان مستحيلا. ذلك أن جمالها النادر المثال، وعينيها الخضراوين الصافيتين الهادئتين، وجسدها الرقيق المغلف في ردائها الحريري الأبيض، وصدرها النحيل، وحركاتها الرشيقة، وفوق كل شيء: كونها ابنة الجنرال كاناليس، قد جعلها محط الأنظار. ولاحظت إحدى سيدات الجماعة قائلة: إنها لا تستحق كل هذا. امرأة لا ترتدي «كورسيها» مشدها بوسع أي شخص أن يرى أنها عادية!
وهمست أخرى: «كما أنها قد أعادت تجهيز ثوب عرسها حتى ترتديه في الحفلات ...» - ورأت سيدة ناحلة الشعر الفرصة مواتية لتضيف: «أنتم تعرفون أن الناس الذين لا يحسنون التصرف هم دائما من يصبحون عرضة للأنظار.» - أوه، كم نحن قساة القلوب. إنما قلت تلك الملاحظة بشأن الثوب لأنه من الواضح أنهم في حالة عسر مادي!
فلاحظت السيدة ناحلة الشعر قائلة: «بالطبع هم معسرون، ونحن جميعا نعلم السبب.» ثم أضافت في صوت خفيض: «يقولون إن السيد الرئيس لم يعد يعطيه شيئا منذ زواجه من تلك الفتاة!» - ولكن ذا الوجه الملائكي يكن له ولاء خالصا. - بل كان يكن له ولاء خالصا بالأحرى. لأنه كما يشاع، فإن ذا الوجه الملائكي هذا قد اختطف زوجته الحالية حتى يعمي أنظار الشرطة عن هروب حميه الجنرال من المنزل؛ وإنه لولا ذلك لما تمكن الجنرال من الفرار!
وتقدمت كميلة وذو الوجه الملائكي وسط المدعوين إلى الطرف الأقصى من الصالة التي كان بها الرئيس. وكان فخامته يتحادث مع أحد فقهاء القانون الدكتور «إريفرا غابلي»، وسط مجموعة من السيدات اللائي، حين اقترب الرئيس منهن، خرست الكلمات على ألسنتهن، كمن ابتلع شموعا مشتعلة، ولم يجرؤن على التنفس أو على فتح شفاههن. وكان هناك رجال مصارف سبق القبض عليهم وخرجوا بكفالة ولا تزال قضاياهم أمام المحاكم، وسكرتيرون ذوو ميول تقدمية لم يرفعوا أعينهم عن السيد الرئيس دون أن يجرءوا على توجيه التحية له حين ينظر إليهم، ولا على الانسحاب حين يحول بصره عنهم؛ وأعيان القرى، ممن انطفأ حماسهم السياسي، ولكنهم لا يزالون يبدون شيئا من عزة الكرامة الإنسانية حين يعاملون كالجراذين بينما هم ليوث في الحقيقة.
وتوجهت كميلة وذو الوجه الملائكي إلى الرئيس لتحيته. وقدم ذو الوجه الملائكي زوجته. وقدم الرئيس يده اليمني الصغيرة إلى كميلة، واستقرت عيناه عليها وهو ينطق باسمه، كأنما هو يقول لها «تصوري من أكون!» وفي هذه الأثناء كان الفقيه القانوني يحيي ظهور إحدى الحسناوات ممن يحملن نفس اسم عشيقة «البانيو» وشخصيتها الفريدة، بتلاوة بعض أبيات من شعر غارسيلاسو:
1 «لقد نشدت الطبيعة.
خلق صورة واحدة فريدة من هذا الجمال.
لذلك، بعد أن خلقتك. حطمت سريعا القالب الذي صبتك فيه.»
وكان الخدم يروحون ويغدون حاملين صحافا عليها كئوس الشمبانيا، وفطائر صغيرة، ولوز مملح، وحلوى، وسجائر. وأوقدت الشمبانيا النار التي لم تكن بعد موقدة في هذه الحفلة الرسمية، فبدا كل شيء، كما بفعل السحر، حقيقيا إذ ينعكس في المرايا الهادئة، وخيالا في الصالون، وكذلك الصوت الورقي لآلة موسيقية بدائية مصنوعة من جرة فخارية أضيفت عليها سمة حضارية بتعليق آلات صغيرة من حولها.
ورن صوت الرئيس قائلا: أيها الجنرال، خذ السادة خارجا، فإني أود أن أتناول العشاء وحدي مع السيدات ...
وأخذ الرجال يخرجون من الأبواب التي تطل على الليل البارق في جماعة واحدة، ودونما كلمة، وبعضهم متلهف إلى تنفيذ رغبة سيده، والبعض الآخر يحاول إخفاء غضبه بالإسراع في الخروج. وتطلعت السيدات إلى بعضهن البعض، ولم يجرؤن حتى على إخفاء أقدامهن تحت مقاعدهن.
وألمح الرئيس قائلا: بإمكان الشاعر أن يبقى ...
وأغلق الضباط جميع الأبواب. وأحس الشاعر بالحرج من وجوده وسط هذا الحشد من السيدات.
وأمر الرئيس قائلا: أنشد أيها الشاعر، شيئا لطيفا، نشيد الأنشاد مثلا ...
وراح الشاعر يتلو ما كان عالقا بذهنه من ذلك السفر من شعر سليمان: «نشيد الأنشاد الذي لسليمان ...
آه، ليقبلني بقبلات من فمه!
أنا سوداء يا بنات أورشليم ولكني جميلة،
كخيام سليمان.
لا تنظرن إلي لكوني سوداء؛
فإن الشمس قد لوحتني ...
حبيبي بالنسبة لي،
فننا من المر.
يبيت بين ثديي ...
تحت ظل حبيبي جلست،
وكانت ثمرته حلوة في فمي،
أدخلني إلى بيت الخمر،
وعلمه فوقي محبة ...
أستحلفكن يا بنات أورشليم،
ألا توقظن الحبيب ولا بالنهدات،
إلى أن يشاء،
إلى أن يشاء ...
ها أنت جميلة يا حبيبتي
ها أنت جميلة ...
عيناك حمامتان من تحت نقابك؛
شعرك كقطيع ماعز؛
أسنانك كقطيع نعاج،
صادرة من المغسل،
كل واحدة تحمل توائم،
وليست فيهن عقيم ...
لهن ستون ملكة وثمانون سرية ...»
ونهض الرئيس وعلى وجهه نذر شؤم. وترددت وقع أقدامه كخطوات فهد يفر على صخور قاع نهر جاف، واختفى عبر الباب بعد أن ارتدت إلى ظهره الستائر التي جذبها عند خروجه.
وبقي الشاعر وجمهرة السيدات في ذهول، يحسون بالضآلة والخواء، محاطين بجو من القلق كالجو الذي تخلفه الشمس بعد أن تغرب. وأعلن أحد المساعدين أن العشاء جاهز. وانفتحت الأبواب؛ وبينما كان الرجال الذين كانوا ينتظرون في الممر يعودون مرتعدين من البرد، توجه الشاعر إلى كميلة وطلب منها أن تتناول العشاء معه. ونهضت، وكانت على وشك أن تتناول ذراعه حين أوقفتها يد امتدت من خلفها. وكادت تصرخ من المفاجأة. لقد كان ذو الوجه الملائكي مختفيا طوال الوقت وراء إحدى الستائر بالقرب من زوجته، ورآه الجميع يخرج من مخبئه.
وبدأت طبول «الماريمبا» تدق وتتصاعد نغماتها في الهواء، بينما اهتزت الجلاجل الصغيرة المعلقة تحتها كأنها الأكفان.
الفصل السادس والثلاثون
الثورة
لم يكن ثمة شيء يرى على البعد. وكان الرجال يخلفون وراءهم خطا بآثار أقدامهم كأنه ثعبان صامت طويل يبسط تعاريجه اللدنة المرنة المتجمدة. كان يمكن عد أضلاع الأرض في النذر اليسير من المستنقعات الجافة التي لم يمسها الشتاء بسوء. ورفعت الأشجار نفسها إلى أعلى فروعها الكثيفة المترعة بالعصارة كيما تستطيع التنفس. وكانت النار التي يحملونها معهم تبهر عيون الجياد المتعبة. وأدار جندي ظهره ليتبول. لم تكن ترى ساقاه. كان الوقت قد حان كيما يعرف الرفاق حقيقة الموقف، بيد أنهم كانوا مشغولين بتنظيف بنادقهم بالشحم وخرق فساتين لا تزال تعبق برائحة النساء. كان الموت يحصدهم ويختطفهم من مضاجعهم واحدا واحدا، دون أن يخلفوا وراءهم ذكرا لأولادهم ولا لأي شخص آخر. كان الأفضل لهم أن يخاطروا بحياتهم ويروا أي شيء ينجم عن ذلك. إن الرصاصات لا تحس بشيء وهي تخترق جسد الإنسان. فاللحم بالنسبة لها يماثل الهواء الدافئ العذب، هواء ذو كثافة معينة. وهي تصفر كالطيور. لقد حان الوقت لتدبر موقفهم، بيد أنهم كانوا مشغولين بشحذ المديات التي ابتاعها قادة الثورة من أحد تجار الحديد أتت النار على حانوته. وكان النصل المشحوذ يماثل ابتسامة على وجه زنجي.
وصاح صوت: أنشد يا رفيق. لقد سمعتك تغني منذ برهة! «لماذا عشقتني يا قاسي القلب،
وأنت لك فتاتك؟
كان يحسن بك أن تتركني،
وحدي كالشجرة الذابلة.» - استمر يا رفيق، أنشد. «ذهبنا إلى البحيرة،
وهرعنا إلى مكان الاحتفال،
ولكن لم يطلع القمر هذه المرة،
ولم يكن هناك من يكن أحد.» - أنشد يا رفيق، أنشد. «إن اليوم الذي ولدت فيه،
كان هو يوم مولدي،
وعم الفرح في السماء،
وابتهجت الملائكة وصدحت.»
أنشد يا رفيق أنشد. كان نور القمر القلوي ينتشر فوق الأشجار وكانت الأوراق ترتجف في أعاليها. كانوا ينتظرون عبثا الأمر بالهجوم. كانت الشمس تشرق. وشعرت القوات إذ هي تنتظر في استعداد ساكن للهجوم على أول حصن للحكومة، هذه الليلة نفسها، كأن ثمة قوة غريبة خفية تسرق منها قدرتها على الحركة وتحولها إلى حجارة. وأحالت الأمطار الصباح الذي لم تشرق شمسه بعد إلى حساء، وانسال فوق وجوه الجنود وظهورهم. وترددت أصداء الكلام بصوت أكثر ارتفاعا عن طريق دموع الإلهة المنهالة. وكانت الأنباء الأولى التي وصلتهم مقتضبة ومتضاربة، كأنما تنقلها أصوات صغيرة تخاف ان تصرح بكل ما تعرف. وبدأ الجنود يشعرون كأن ثمة قضيبا من حديد أو قطعة عظم تستقر في أعماق أفئدتهم. وكان المعسكر بكامله يدمى كأنما من جرح واحد. لقد مات الجنرال «كاناليس». وتجسدت الأنباء في مقاطع وعبارات. مقاطع من كتاب ألف باء، وعبارات من الخدمات الجنائزية. واصطبغ مذاق السجائر والبراندي بالغضب وصيحات الحزن. كان مستحيلا تصديق الكلمات التي تقال، بيد أنها لا بد أن تكون هي الحقيقة. وصمت المسنون فيهم، ينتظرون في نفاد صبر سماع الحقيقة العارية، بعضهم واقف، وآخرون ممددون أو مقعون على الأرض؛ ونزعوا قبعات القش من على رءوسهم وألقوا بها إلى جوارهم وهم يهرشون رأسهم في غضب. وهرع الشبان منهم إلى الوادي بحثا عن مزيد من الأنباء. وأعمتهم حرارة الشمس المتلألئة. وثمة سرب طيور يخفق في الهواء على مبعدة. ومن وقت لآخر دوي طلقة رصاص. وبدأ الليل يطبق عليهم. سماء من قروح تحت عباءة سحب ممزقة. وأطفئت نيران المعسكر ولم يعد هناك سوى ظلمة داكنة لا شكل لها، عزلة سوداء تتكون من سماء وأرض وحيوانات ورجال. ثم قطع الصمت خبب فرس بوقع حوافره: راتابلان، راتابلان، الذي ردده الصدى مستخدما جدول الضرب. واقترب الصوت شيئا فشيئا، من حارس إلى آخر، وسرعان ما أصبح وسطهم، وظنوا أنهم يحلمون حين سمعوا ما قاله الفارس القادم . لقد مات الجنرال كاناليس فجأة، بعد أن تناول وجبة طعام لتوه، وهو على وشك قيادة قواته إلى القتال. والأوامر الآن هي الانتظار. وقال أحدهم ملاحظا: «لا بد أنهم دسوا له شيئا في الطعام، ربما بعض نباتات «تشيلتب»، وهو سم زعاف لا يترك أثرا وراءه، حتى يموت على هذا النحو.» وتمتم آخر: «كان يجب عليه أن يكون أكثر حذرا! آآآآآ ... ه!» ... وصمتوا جميعا في تأثر بالغ طال أطرافهم العارية المدفونة في التراب ... وابنته؟
وأضاف صوت آخر بعد برهة طالت شأنها شأن كل المحن. «إن باستطاعتي أن أنزل عليها اللعنة إن شئتم. إني أعرف صلاة علمني إياها ساحر هناك عند الساحل؛ فقد حدث يوما ما نقص في الذرة في الجبال، وهبطت إلى الساحل لشراء شيء من هناك حين قابلته وتعلمتها منه. هل تحبون ذلك؟»
ورد عليه صوت آخر في الظلمة: حسنا، إني أوافق من جهتي، فهي قد قتلت أباها.
ومرة أخرى، سمع خبب فرس عبر الممر، راتابلان، راتابلان، راتابلان. ومرة أخرى سمع صياح الحراس، ومرة أخرى ساد الصمت. وارتفع عواء الذئاب كأنه سلم صاعد إلى القمر الذي بزغ في بطء تحوط به هالة كبيرة. وأعاد الصدى الصوت مرة أخرى.
وفي كل مرة يحكي فيها أحد ما حدث، كان الجنرال كاناليس يخرج من قبره ويموت مرة أخرى: لقد جلس يأكل على ضوء قنديل إلى مائدة لا مفرش عليها؛ وسمعوا صوت الملاعق والسكاكين والأطباق، ووقع أقدام مساعده، وكوب ماء يصب وصحيفة تفتح؛ ثم ... لا شيء بعد ذلك، ولا حتى الأنين. لقد وجدوه ملقى عبر المائدة ميتا، وخده مستقر على نسخة من صحيفة «الناسيونال»، وعيناه نصف مغلقتين، زجاجيتين، تحدقان في شيء غير موجود.
وعاد الرجال في تردد إلى مهامهم اليومية. كانوا قد تعبوا من العيش كالحيوانات المستأنسة، فانضموا إلى ثورة «تشاماريتا» وكان هذا هو اللقب المفضل الذي خلعوه على الجنرال كاناليس - لإحداث تغيير في طريقة حياتهم، ولأن «تشاماريتا»، قد وعد بإعادة حقول الكروم إليهم، وكانت قد اغتصبت منهم بحجة إلغاء التجمعات، ووعد بتوزيع حصص المياه بينهم بالعدل، وإلغاء التعذيب، وفرض الخدمة الإجبارية لمدة سنتين، وإنشاء تعاونيات زراعية لاستيراد الآلات الحديثة وتوفير البذور الجيدة والحيوانات والأسمدة والفنيين، وتسهيل وسائل الانتقال وتخفيض أسعارها، وتسهيل التصدير وبيع المنتجات، وقصر السلطة على من ينتخبه الشعب ويكون مسئولا أمام الشعب فقط، وإلغاء المدارس الخاصة، وفرض الضرائب التصاعدية، وخفض أسعار العلاج وتوفير خدمات الأطباء والمحامين للمجتمع، والعمل بحرية العقيدة، حتى يتمكن الهنود من عبادة آلهتهم وإعادة بناء معابدهم في أمان من الاضطهاد.
وعلمت كميلة بموت والدها بعد عدة أيام؛ فقد نقل إليها صوت مجهول النبأ على الهاتف. - «لقد مات أبوك حين قرأ في الجريدة أن رئيس الجمهورية كان شاهدا على عقد زواجك.» فصاحت: هذا غير صحيح!
فقال الصوت المجهول وهو يضحك بصورة كريهة: ما هو غير الصحيح؟ - هذا غير صحيح؛ إنه لم يكن شاهدا. ألو ... الو ...
بيد أن المتحدث المجهول كان قد وضع سماعة الهاتف في بطء شديد كشخص يتسلل خارجا خفية.
وغاصت كميلة في مقعد من الخيزران. كانت تشعر بصدمة. وبدا لها بعد لحظة أن الغرفة قد فقدت مظهرها السابق وأصبحت مختلفة، ذات لون مختلف، وجو مختلف. مات! مات! مات! ولوت كميلة يديها كأنما لتكسر شيئا، ثم انفجرت في ضحكة هستيرية وفكاها مضمومان بينما عيناها مفعمتان بدموع لا تجد لها منفذا.
وكانت عربة رش المياه تمر عبر الطريق، وصنبورها يبكي بينما خزاناتها المعدنية تضحك.
الفصل السابع والثلاثون
رقصة «توهيل»1
- ماذا تطلبون أيها السادة؟ - بيرة. - ليس لي، أنا سآخذ «ويسكي». - إذن واحد ... - واحد بيرة وواحد ويسكي وواحد براندي. - وبعض المأكولات الخفيفة! - إذن واحد بيرة وواحد ويسكي وواحد براندي وبعض المأكولات الخفيفة.
وترامى صوت ذي الوجه الملائكي عائدا من المرحاض يقول وهو يغلق أزرار بنطاله في شيء من العجلة: هاللو! - ماذا تطلب؟ - أي شيء. أحضر لي بعض المياه المعدنية. - آه، إذن واحد بيرة وواحد ويسكي وواحد براندي وواحد مياه معدنية.
وجذب ذو الوجه الملائكي مقعدا وجلس إلى جوار رجل يبلغ الستة أقدام طولا، له مظهر الزنوج وحركاتهم رغم أنه أبيض البشرة، وظهره سوي كالقضيب الحديدي، ويداه كالسندان المزدوج، وثمة ندبة بين حاجبيه الشقراوين.
قال له ذو الوجه الملائكي : افسح لي مكانا يا مستر «جنكيز»، فإني أود أن أجلس إلى جوارك. - بكل سرور أيها السيد ... - سوف أتناول شرابي وأذهب لأن الرئيس في انتظاري. فقال مستر جنكيز: أوه، إذا كنت ذاهبا للقاء الرئيس فلا بد أن تكف عن حماقتك وتبلغه بأن الشائعات التي تتردد عنك غير صحيحة، غير صحيحة على الإطلاق.
فقال واحد من الأربعة، وهو الشخص الذي طلب البراندي: هذا لا شك فيه.
فتدخل ذو الوجه الملائكي قائلا للمستر جنكيز: وهل أنا الذي تقول له ذلك؟
فقال الأمريكي وهو يضرب رخام المائدة براحة يديه: وأقوله للجميع بالطبع! لكني كنت هناك تلك الليلة وسمعت بأذني المدعي العسكري العام يقول إنك تعارض انتخاب رئيس الجمهورية، وإنك نصير «للثورة مثل المرحوم الجنرال كاناليس».
وحاول ذو الوجه الملائكي عبثا أن يخفي القلق الذي يحس به. ذلك أن الذهاب لمقابلة الرئيس في ظل هذه الظروف شيء يثير الخوف.
وجاء النادل بطلباتهم. كان يرتدي سترة بيضاء عليها اسم المحل «غامبريتوس» مطرزا عليها بخيوط حمراء. - واحد ويسكي، واحد بيرة ...
وابتلع مستر «جنكيز» الويسكي دفعة واحدة دون أن تطرف له عين، كشخص يشرب مطهرا معويا، ثم أخرج الغليون وحشاه بالتبغ. - أجل يا صديقي، إن هذه الأشياء تصل إلى سمع الرئيس بطريقة أو بأخرى، وهي ليست بالأمر المحبب لديك. والآن حان دورك كيما تقول له بصراحة حقيقة الأمور. إن الموقف دقيق جدا. - شكرا على نصيحتك يا مستر «جنكيز»، وسلاما، سوف أذهب للبحث عن عربة للذهاب سريعا. شكرا، هه؟ ومع السلامة للجميع.
وأشعل «مستر جنكيز» غليونه.
وتساءل أحد الرجال الملتفين حول المائدة: كم كأسا من الويسكي شربت يا مستر جنكيز؟
فرد الأمريكي وغليونه في فمه وإحدى عينيه نصف مغلقة، والأخرى، زرقاء ناصعة، تحدق في شعلة الكبريت الصفراء الصغيرة: ثمانية عشر. - وإنك محق تماما في ذلك، فالويسكي مشروب رائع، أليس كذلك؟ - لا علم لي! عليك أن توجه هذا السؤال إلى الناس الذين لا يشربونه انطلاقا من يأسهم الكامل مثلي. - لا تقل هذا يا مستر جنكيز. - لماذا لا أقول ذلك ما دمت أعتقده حقا؟ في بلادي، كل شخص يقول ما يراه حقا. تماما. - إن هذا ميزة رائعة. - أوه كلا، إني أفضل ما تسيرون عليه هنا. إنكم تقولون ما لا تعتقدون، ما دام أنه جميل جدا. - إذن ففي بلادك لا تتداولون الحكايات؟ - أوه كلا، على الإطلاق، ما عدا حكايات الإنجيل! - كأس آخر يا مستر جنكيز؟ - أجل، أظن أنني سآخذ كأسا آخر من الويسكي! - برافو! إني أحب ذلك، إنك رجل على استعداد لأن تموت من أجل مبادئك. - كيف هذا؟ - لقد قال صديقي إنك رجل على استعداد للموت. - أجل، لقد فهمت ما قال عن الموت في سبيل المبادئ. كلا، إنني رجل يعيش في سبيل مبادئه. إن الحياة تضطرم في عروقي. أما الموت فلا أهمية له عندي، فسوف أموت حين يشاء الله. - إن المستر جنكيز يريد أن تمطر السماء «ويسكي»! - «كلا، كلا، لماذا؟ حينئذ لن يبيع أحد مظلات بل سيبيعون أقماعا!» ثم أضاف بعد فترة جذب فيها أنفاس غليونه وتنفس في رقة بينما ضحك الآخرون: «إن ذا الوجه الملائكي شاب طيب، ولكنه إذا لم يفعل ما قلت له فلن يغفر له، بل سيقضى عليه بدلا من ذلك».
وفجأة، دخلت البار جماعة من الرجال في صمت. كانوا مجموعة كبيرة لدرجة تعذر معها دخولهم جميعا من الباب مرة واحدة. وبقي معظمهم واقفا لدى الباب أو بين المناضد أو بالقرب من حافة البار. لن يطول مقامهم في البار لذلك فالأمر لا يستحق الجلوس. وصاح رجل قصير نوعا ما، مسن نوعا ما، أصلع نوعا ما، عليه دلائل الصحة نوعا ما، مجنون نوعا ما، غليظ الصوت نوعا ما، قذر نوعا ما: «صمتا!»، ثم بسط إعلانا مطبوعا كبيرا، وعاونه اثنان آخران من تثبيته على إحدى المرايا بالشمع الأسود. أيها المواطنون:
إن مجرد النطق باسم السيد رئيس الجمهورية هو بمثابة إلقاء نور مشاعل السلام على المصالح المقدسة للأمة التي غزت تحت حكمه الحكيم وستظل تغزو - أوجه التقدم في جميع المجالات، والنظام في كل شكل من أشكال التقدم! وبوصفنا مواطنين أحرارا، واعين بالتزامنا بالسهر على مصيرنا (الذي هو مصير الأمة أيضا)، وبوصفنا رجالا نقف في صف الخير ونعادي الفوضوية، فإننا نعلن: إن خير الأمة هو في إعادة انتخاب رئيسنا العظيم ولا شيء غير إعادة انتخابه. إذ لماذا تخاطر بسفينة الحكم في بحار مجهولة، حين يكون قائما على دفتها أكمل رجل دولة في عصرنا، ذلك الذي سيضعه التاريخ عظيما بين العظماء، حكيما بين الحكماء، حرا، مفكرا، ديمقراطيا؟ إن مجرد تصور وجود شخص غيره في هذا المنصب الخطير يصل إلى حد التعرض لمصير الأمة (الذي هو مصيرنا نحن أيضا)، وإن من يجرؤ على ذلك بافتراض وجوده يستحق عزله بوصفه مجنونا خطيرا، فإذا لم يكن مجنونا، فهو يستحق أن يقدم للمحاكمة بوصفه خائنا لوطنه طبقا للقانون! أيها الأخوة المواطنون: إن صناديق الانتخاب تنتظركم.
انتخبوا! مرشحنا! الذي! سيعيد الشعب! انتخابه!
وأثارت قراءة هذا المنشور بصوت عال كثيرا من الحماس العام في البار؛ وانبعثت صيحات وتصفيق. وبناء على طلب الجمهور، نهض رجل لا أثر للعناية في ملابسه، طويل الشعر أسود، جامد العينين، لإلقاء كلمة: «أيها المواطنون: إنني أفكر كشاعر ولكني أتحدث كمواطن وطني! الشاعر هو رجل اخترع سماء، ولذلك يجب عليكم الاستماع إلى خطبة لا نظام فيها من الرجل الذي اخترع ذلك الشيء الجميل الذي لا نفع فيه والذي نسميه «سماء». حين كتب ذلك الألماني الذي لم يفهمه الألمان، كلا إني لا أعني بذلك «جيته» ولا «كانط»، ولا «شوبنهاور»، عن الرجل الخارق (السوبرمان) فإنه كان يتنبأ بلا شك بأنه سيولد في أمريكا، من الأب الكون ومن الطبيعة الأم أول «سوبرمان» حقيقي على الأرض. إنني أتحدث أيها السادة عنه، عمن يفوق الفجر إشراقا، عن الذي خلع الوطن عليه لقب «صاحب الجدارة والاستحقاق»، عن رئيس الحزب وحامي حمى الشباب المجتهد. إن من أتكلم عنه أيها السادة، كما لا شك قد أدركتم، هو رئيس الجمهورية الدستوري، الذي أشير إليه بوصفه «سوبرمان»، المخلوق الخارق الذي كتب عنه «نيتشه» ... إني أقول وأردد ذلك من على هذه المنصة». وحين قال هذه العبارة، دق على نضد البار بقبضة يده. «ولهذا أيها المواطنون، فرغم أنني لست ممن اتخذ السياسة معاشا، فإنني أؤمن إيمانا موضوعيا تاما مخلصا بأنه نظرا لعدم وجود «سوبرمان» أو «سوبر مواطن» آخر بيننا، فإنا نكون مجانين أو عميانا، عميانا أو مجانين على نحو إجرامي، إذا نحن سمحنا بأن تنتقل أعنة الحكم من يد ذلك «السوبر قائد» الذي يقود وطننا الحبيب الآن وإلى الأبد، إلى يد مواطن آخر، مواطن عادي، إلى مواطن، أيها الأخوة المواطنون، حتى لو كان يتمتع بكل الخصال الحميدة على الأرض، فلا بد أنه لا يزال مجرد إنسان. وهناك في قارة أوروبا العتيقة المستنفدة، قضت الديمقراطية على كثير من الأباطرة والملوك، ولكن علينا أن ندرك - وإننا لندرك - أنه وقد انتقلت الديمقراطية إلى قارة أمريكا. فهي: قد حقنت بطعم «السوبرمان»، الذي يكاد يكون إلهيا، وأنها تتبنى شكلا جديدا للحكومة هو «السوبر ديمقراطية». والآن، أيها السادة، سأتشرف بأن أنشد لكم ...».
وصاح صوت: «أنشد أيها الشاعر، ولكن شيئا غير القصيدة!» - «... ليلية»، من «سي مايو»، موجهة إلى «السوبر فريد».
وتبع قطعة الشاعر الرائعة خطب أخرى أكثر حماسة منها، تهدف إلى الهجوم على الحزب الآخر «الشائن»، الذي يساند أمية «سان خوان»، ونظام التعاويذ والسحر وغيرهما من الملطفات الدينية. وأخذ أنف أحد الخطباء ينزف، وصاح عاليا بين الكلمات كيما يحضر له أحدهم «قالب آجر»، منقوع في الماء حتى يشمه ويوقف النزيف بذلك.
قال «مستر جنكيز»: الآن يكون ذو الوجه الملائكي بين الحائط والرئيس. إني أحب الطريقة التي يتحدث بها هذا الشاعر، غير أني أعتقد أن كون المرء شاعرا هو أمر محزن للغاية؛ أما أن يكون المرء محاميا فهو أشد الأمور بعثا للحزن في الدنيا. والآن، سأطلب كأسا آخر من الويسكي. وصاح: «ويسكي آخر لهذا «السوبرمان»!»
وحين كان ذو الوجه الملائكي يغادر مقهى «غامبريناس»، قابل وزير الحربية. - إلى أين أنت ذاهب يا جنرال؟ - لمقابلة السيد الرئيس ... - إذن فلنذهب معا. - أأنت ذاهب إلى هناك أيضا؟ إذن فلننتظر عربتي فلن يطول غيابها. بيني وبينك، لقد كنت الآن لدى إحدى الأرامل . - إني أعرف أنك مغرم بالأرامل الطروبات يا جنرال. - هيه، هيا، دعك من مداعباتك تلك. - لم أكن مداعبا، بل هي ملاحظة بسيطة. - إنها ليست بالبسيطة، بل هي جديرة بالملوك! - حقا؟
وسارت العربة في سكون كما لو كانت مصنوعة من ورق النشاف. كان الحراس مزروعين في أركان الطرقات، وسمعاهم ينقلون الإشارة فيما بينهم: «وزير الحربية»، «وزير الحربية».
كان الرئيس يذرع حجرة مكتبه بخطوات قصيرة، مرتديا قبعة تغطي جبهته، وياقة سترته مرفوعة إلى أعلى فوق لفاع رقيق، وأزرار صداره مفكوكة. حلة سوداء، قبعة سوداء، حذاء أسود. - كيف حال الجو يا جنرال؟ - بارد يا سيدي الرئيس. وهاك ميغيل بدون معطف! - سيدي الرئيس ... - كلام فارغ. إنك ترتجف، وستقول لي إنك لا تشعر بالبرد. إنك غير حكيم بالمرة. يا جنرال، أرسل أحدهم إلى منزل ميغيل ليحضر له معطفا على الفور.
وخرج وزير الحربية مؤديا التحية العسكرية، وكاد يتعثر في سيفه المتدلي على جانبه، في حين جلس السيد الرئيس على أريكة من الخيزران وقدم لذي الوجه الملائكي مقعدا مجاورا له.
وقال وهو يجلس: «كما ترى يا ميغيل، علي أن أقوم بكل شيء بنفسي وأشرف على كل شيء، لأني أحكم أمة من «أصحاب النوايا». وحين لا أباشر الأمور بنفسي، لا بد أن أعتمد على أصدقائي». وصمت برهة ثم استطرد قائلا: «إني أعني بتعبير «أصحاب النوايا» أولئك الذين ينوون القيام بشيء أو عدم القيام بشيء، ثم لا ينفذون هذا ولا ذاك نتيجة لافتقارهم إلى قوة الإرادة. وهم بهذا لا في العير ولا في النفير. فمثلا، يمضي أصحاب الصناعة عندنا حياتهم مرددين مرارا وتكرارا: إني أنوي بناء مصنع، إني أنوي تركيب آلات جديدة، إني أنوي هذا، إني أنوي ذاك، وهكذا إلى ما لا نهاية. وأصحاب الزراعة يقولون: إني أنوي تجربة وسائل جديدة، إني أنوي تصدير منتجاتي؛ ويقول الكاتب: إني أنوي تأليف كتاب؛ والأستاذ: إني أنوي تأسيس مدرسة؛ وأصحاب الأعمال: إني أنوي القيام بهذه الصفقة أو تلك؛ والصحفيون - أولئك الخنازير ذوو كتل الدهن التي تغرق فيها أرواحهم - إني أنوي تحسين حالة المجتمع. ولكن، كما قلت لك، لا أحد ينفذ شيئا، ولهذا فمن الطبيعي أنه يجب علي أنا - رئيس الجمهورية - أن أقوم بكل شيء، وأتحمل كل لوم إلى جانب ذلك. ولك حتى أن تقول إنه لولاي لما كان هناك حظ ونصيب، إذ إن علي أن أقوم بدور إلهة الحظ في سحب الأرقام الفائزة في اليانصيب ...».
ومر على شاربه بأطراف أصابعه الشفافة الرقيقة النحيلة البنية اللون. واستطرد قائلا في نبرة صوت مختلفة: «وكل هذا يفضي بي إلى القول بأن الظروف تضطرني إلى الاستفادة من خدمات رجال مثلك، من النافع وجودهم إلى جواري، ولكنهم أشد نفعا خارج الجمهورية، حيث مخططات أعدائي ومؤامراتهم وكتاباتهم الدنيئة تهدد حملة إعادة انتخابي بالخطر ...»
وخفض عينيه كأنهما بعوضتان محتقنتان بالدماء، واستطرد يقول: «إنني لا أتحدث عن «كاناليس» وأتباعه، فالموت دائما كان أصدق حلفائي يا ميغيل! إني أتحدث عن الناس التي تحاول التأثير على الرأي العام في أمريكا الشمالية، أملا في إثارة الشبهات حول صورتي في «واشنطون». وحين يبدأ حيوان متوحش سجين في قفص في تبديل شعره، فإن ذلك لا يعني أنه يريد من الآخرين نزع ما تبقى له من شعر بالقوة، أليس كذلك؟ حسنا، إذن؛ هل أنا إنسان عجوز ذو عقل مخمور وقلب كالأبنوس في صلابته، كما يشيعون عني؟ دع السفلة يقولون ما يشاءون! أما أن يقوم الشعب نفسه، لأسباب سياسية، باستغلال ما قمت به كيما أنقذ وطني من مذابح هؤلاء الكلاب، فهذا شيء لا يمكن قبوله! إن إعادة انتخابي في كفة الميزان، وهذا هو السبب الذي أرسلت إليك من أجله يا ميغيل. عليك أن تذهب إلى «واشنطن» وتحضر لي من هناك تقريرا مفصلا عن سحب الكراهية والشكوك تلك، وعن المراسم الجنائزية التي تدور هناك والتي ليس فيها من دور محترم إلا دور الجثمان نفسه، كما يحدث في كل الجنازات».
فقال ذو الوجه الملائكي متلعثما، وهو مشطور بين رغبته في اتباع نصيحة «المستر جنكيز» بإلقاء أوراقه على المائدة، وبين خوفه من أن يفقد - نتيجة أي زلة لسان - فرصة قيامه بسفرة أدرك منذ البداية أنه قد يكون فيها خلاصه: «سيدي الرئيس، إنكم تعلمون أنني تحت أمركم دون قيد ولا شرط لأي غرض كان؛ ومع ذلك، أرجو أن تسمحوا لي بأن أقول كلمتين نظرا لأنني أردت دائما أن أكون أشد خدمكم إخلاصا وتكريسا. ذلك أنني أود - قبل أن أضطلع بهذه المهمة الدقيقة - أن أطلب من السيد الرئيس أن يتعطف - إذا لم ير مانعا - ويأمر بإجراء تحقيق في الاتهامات الباطلة التي ترميني بأنني عدو للسيد الرئيس، والموجهة لي من جانب المدعي العسكري العام من ناحية ...». - ولكن، من ذا الذي يلقي بالا إلى هذه الترهات؟ - إن السيد الرئيس لا يمكن أن يشك في ولائي المطلق لشخصه ولحكومته، بيد أني لا أريده أن يوليني ثقته الكاملة قبل أن يكتشف ما إذا كانت اتهامات المدعي العسكري العام صحيحة أم باطلة. - «إني لم أطلب منك النصيحة فيما يجب أن أفعل يا ميغيل! كفاك هذا! إني أعلم كل شيء عن هذا الموضوع، بل سأمضي قدما وأخبرك أن في مكتبي هذا الاتهام الذي صاغه المدعي العسكري العام ضدك وقت فرار الجنرال «كاناليس»؛ بل وأكثر من ذلك: بوسعي أن أقول لك إن عداوة المدعي العام لك ناتجة عن ظرف ربما تجهله تماما. لقد وضع المدعي العسكري العام، بالاتفاق مع الشرطة، خطة لخطف السيدة التي هي الآن زوجتك لبيعها إلى صاحبة بيت للدعارة، كان قد تلقى منها عشرة آلاف بيزو مقدما ثمنا للتنازل لها عنها. وقد اضطر إلى الاستعاضة عنها بامرأة مسكينة هي الآن علي وشك الجنون من جراء ما تعانيه في ذلك البيت».
وجلس ذو الوجه الملائكي ساكنا تماما، محاذرا أن يظهر أمام سيده أقل تغيير في ملامحه، دافنا مشاعره في أعماق فؤاده وراء حاجز عينيه القطيفتين السوداوين. كان يحاكي كرسيه الخيزراني في شحوبه وبرودته. «إذا سمح لي السيد الرئيس، فإني أفضل البقاء إلى جواره أدافع عنه بدمي». - أتعني أنك لا تقبل ما أعرضه عليك؟ - كلا، إني أقبله قبولا مطلقا يا سيدي الرئيس. - حسنا جدا إذن. كل هذا لا لزوم له أبدا، مجرد كلمات. ستنشر صحف الغد خبر رحيلك الوشيك، ولا يمكنك أن تخذلني. ولدى وزارة الحربية أوامر بإعطائك اليوم ما تحتاج إليه من نقود للاستعداد. وسأرسل إليك نفقات الرحلة والتعليمات في محطة القطار.
وبدأ ذو الوجه الملائكي يشعر بدقات ساعة في باطن الأرض تشير إلى مرور الوقت المحتوم. ومن خلال نافذة مفتوحة على مصراعيها، مدت عيناه، تحت حاجبيه السوداوين، نظرهما ورأتا ركية نيران تتوقد إلى جوار دغل من أشجار السور الخضراء الداكنة وجدرانا من الدخان الأبيض، في وسط فناء شبه مطموس المظهر وسط الظلمة المطبقة. وكانت ثمة مجموعات من الحراس واقفة هناك تحت النجوم البازغة. ووقف أربعة أطياف لقسس في جوانب الفناء، الأربعة يرتدون طحالب كالعرافين الباطنيين، والأربعة ذوو أياد مغطاة بجلد الضفادع الأخضر الصفراوي، والأربعة عيونهم مغلقة في الجانب المشرق من وجوههم، ومفتوحة في جانبه المظلم. وفجأة، دوي قرع طبول: طم طم، طم طم، طم طم، وظهر عدد كبير جدا من الرجال متخفين في صورة حيوانات، يتقافزون في صف يسير الواحد منهم فيه خلف الآخر. ومن وسط عصا الطبول النابضة الملطخة بالدماء، هبطت سرطانات البحر من الهواء الساقط وجرت الديدان من النيران الساقطة. ورقص الرجال، حتى لا يظلوا مزروعين في الرياح، على إيقاع الطبول، وهم يغذون ركية النار بزيوت «التربنتينا» الساقطة من جباههم. ومن وسط الظلال التي لها لون الروث، بزغ رجل ضئيل الحجم ذو وجه يماثل الفاكهة المجففة، ولسانه مدلى بين فكيه، والأشواك على جبهته، وليس له آذان، يرتدي حول سرته حبلا من الصوف تتدلى منه رءوس محاربين وأوراق القرع العسلي. وذهب ينفخ في النيران المتجمعة، وبعث بهجة عمياء في نفوس الرجال الحيوانات إذ تناول بعض النار في فمه ولاكها بين أسنانه كما لو كانت قطعا من اللادن دون أن يحترق. وصدرت صيحة من الظلمة التي تلف الأشجار، وارتفعت من هنا ومن هناك أصوات الحداد من القبائل التي كان رجالهم يتحاربون ويتقاتلون فيما بينهم منذ الميلاد: بأحشائهم، فقد كانوا رجالا حيوانات؛ وبجلودهم، فقد كانوا طيور العطش ؛ وبخوفهم، وبقيئهم، وبحاجاتهم الجسمانية، ضارعين إلى «توهيل» - واهب النار - أن يرد عليهم شعلة النار الموقدة. ووصل «توهيل» ممتطيا نهرا من صدور الحمامات يفيض كاللبن. وهرعت الغزلان إليه حتى لا يتوقف سيل المياه، وكانت قرونها في رقة الأمطار، وسقطت حوافرها الصغيرة على الرمال البهيجة في خفة الهواء. وهرعت الطيور إليه حتى لا يتوقف خيالها السابح على صفحة المياه طيور عظامها أرق من الريش الذي يغطيها. وترددت وقع أقدام من أعماق الأرض: راتبلان ... راتبلان ... راتبلان!
وطلب «توهيل» قرابين بشرية. وعرضت القبائل أمهر صياديها في محضره، وسهامهم مشرعة في الهواء ومقاليعهم معبأة.
وسأل «توهيل»: وهل يصطاد هؤلاء الرجال رجالا آخرين؟
وترددت وقع الأقدام من أعماق الأرض: راتبلان ... راتبلان ... راتبلان!
وردت القبائل: «سننفذ ما تطلب على شرط أن تقوم يا واهب النار بإعادة النار إلينا، حتى لا يتجمد بعد الآن لحمنا، ولا الهواء، ولا أظافرنا، ولا ألسنتنا، ولا شعرنا! على شرط ألا تمضي في تدمير حياتنا وإخضاعنا إلى حياة هي الموت ذاته!» وقال «توهيل» «إني راض!»
وتردد وقع الأقدام من أعماق الأرض: راتبلان ... راتبلان ... راتبلان! - «إني راض! إني أستطيع أن أسود الرجال الذين يصيدون رجالا. ولذلك فلن يكون هناك لا موت حقيقي ولا حياة حقيقية. والآن، ارقصوا رقصة الأبواق من أجلي!»
وتناول كل محارب صياد بوقه ونفخ فيه نفخا متواصلا دون أن يتوقف لالتقاط أنفاسه، على إيقاع الطبول والصدى ونغمات الهواء، مما جعل عيني «توهيل» ترقصان.
وبعد هذه الرؤيا العجيبة التي ليس لها ما يفسرها، استأذن ذو الوجه الملائكي من الرئيس، وعند خروجه، ناداه وزير الحربية وناوله رزمة أوراق مالية ومعطفه. قال بصعوبة: ألست خارجا يا جنرال؟ - وددت لو استطعت. ولكن ربما لحقت بك هناك، وإلا فسنتقابل يوما آخر، علي أن أكون هنا الآن، كما ترى، ولوى رأسه فوق كتفه الأيمن «أستمع إلى صوت سيدي».
الفصل الثامن والثلاثون
الرحلة
وذلك النهر الذي كان يتدفق فوق السطح حينما كانت هي تحزم الأمتعة لم يصب في داخل المنزل، بل بعيدا جدا، في الفضاء الواسع المفضي إلى الريف، أو ربما إلى البحر. وهبت ريح قوية فتحت النافذة، وانهل المطر كما لو كان الزجاج قد انصدع نثارا، وتطايرت الستائر والأوراق، وانصفقت الأبواب، ولكن كميلة مضت في مهمتها، معزولة وسط الحقائب التي كانت تملأها. ورغم أنها أحست بالبرد حتى نخاع عظامها، فلم يبد شيء في عينيها لا مكتملا ولا مختلفا، فكل شيء بدا لها خاويا، متقطعا، لا وزن له، هلاميا، لا روح فيه، تماما مثلها هي نفسها.
قال ذو الوجه الملائكي وهو يغلق النافذة: أمن الأفضل البقاء هنا، أم في مكان آخر بعيدا عن متناول ذلك الوحش؟ ما رأيك؟ لقد أردت ذلك تماما، ولكني ربما أكون أهرب بعيدا! - ولكن ... بعد الذي رويته لي عن أولئك السحرة الأطباء المتوحشين الذين يرقصون في بيته ...
فرد بينما قعقعة الرعد تغطي على صوته: هذا لا يستحق أن يكون مدعاة للقلق. ومع ذلك، فما الذي يمكن أن يكتشفوه عني بسحرهم وتنجيمهم؟ فعلى كل حال، إنه هو نفسه الذي يبعث بي إلى واشنطن، وهو الذي يتكفل بنفقات رحلتي. آه يا إلهي! قد يبدو كل شيء مختلفا تماما حين أكون بعيدا. كل شيء محتمل. إنك سوف تلحقين بي، بحجة أنك مريضة، أو أنني أنا نفسي مريض؛ وبعد ذلك، بوسعه أن يبحث عنا كيفما شاء! - ولكن، افرض أنه منعني من السفر إليك؟ - حسنا، حينئذ سوف أعود أدراجي وأبقي فمي مغلقا، ولن يكون الوضع أسوأ حالا! ذاك عما هو عليه الآن، أليس كذلك؟ إننا لا نخاطر بشيء ... - إنك دائما تظن كل شيء سهلا! - إن لدينا ما يكفينا للعيش في أي مكان نختاره، وأعني العيش، العيش بحق وليس مجرد القيام طوال اليوم بترديد: أنا أفكر بعقل السيد الرئيس إذن فأنا موجود، إني أفكر بعقل السيد الرئيس إذن فأنا موجود ...
وحدقت كميلة فيه بعينين مليئتين بالدموع. كان فمها كأنما قد أفعم بالشعر وأذناها بالمطر. - ولكن ... لماذا تبكين؟ ... لا تبكي ... - وماذا تريدني أن أفعل؟ - إن النساء جميعا سواء! - دعني ... - سوف تعتل صحتك إذا واصلت البكاء هكذا، بحق السماء! - كلا، دعني ... - كأنما أنا ذاهب إلى حتفي أو أنهم سيدفنونني حيا. - دعني!
وأخذها ذو الوجه الملائكي بين أحضانه. وعلى خديه الجامدين الرجوليين، اللذين لم يألفا البكاء، جرت دمعتان متعرجتان حارقتان، كأنهما مسماران لم يسهل اقتلاعهما.
وهمست كميلة: ولكنك ستكتب لي ... - بالطبع ... - وكثيرا أرجوك. إنك ترى أننا لم نفترق أبدا قبل الآن. لا تتركني دون خطابات، سيكون عذابا لي أن تمر الأيام دون أن أتلقى أنباء عنك. واعتني بنفسك! لا تثق بأحد، أتسمعني؟ لا تلق بالا لما يقوله أي شخص، خاصة من أبناء بلدك، فهم في غاية السوء. وفوق كل شيء، أرجوك (وهنا قاطعتها قبلات زوجها) ... أرجوك ... أن ... أرجوك ... أن تكتب لي دائما.
وأغلق ذو الوجه الملائكي الحقائب دون أن يرفع عينيه عن عيني زوجته الحنونتين المشتاقتين. كان المطر يهطل بشدة. وتدفقت المياه عبر الميازيب كالسلاسل الثقيلة. كانت فكرة أصيل الغد وقد اقترب جدا تخنقهما؛ وحين أصبح كل شيء جاهزا، خلعا ملابسهما في صمت، ودلفا إلى الفراش، بين دقات الساعة التي كانت تفتت الساعات الباقية ... تك ... تاك ... تك ... تاك ... ... تك ... تاك ... وطنين البعوض الذي لم يدعهما ينامان. - لقد خطر لي الآن أنني قد نسيت أن أقول لهم أن يغلقوا الأبواب حتى لا يدخل البعوض. يا إلهي، يا لي من بلهاء!
وكان رد ذي الوجه الملائكي الوحيد هو أن احتضنها بشدة أكثر، كانت كالحمل الصغير الذي لا يقدر بعد على الثغاء.
ولم يجرؤ على إطفاء النور، ولا على إغلاق عينيه، ولا على أن ينبس ببنت شفة. كانا أشد التصاقا، الواحد منهما بالآخر تحت الضوء، كما أن الصوت الإنساني يخلق مسافة تفصل بين المتكلمين، والجفنان المغلقان ما هما إلا حاجز منيع، والبقاء في الظلمة شكل من أشكال الفراق. وكان هناك الكثير مما يريدان قوله لأحدهما الآخر في هذه الليلة الأخيرة، حتى أن أطول حديث بينهما كان سيبدو كالبرقية الخاطفة.
وملأت الفناء ضجة الخدم يطاردون دجاجة وسط أحواض النباتات. كان المطر قد توقف، والمياه تقطر في الميازيب كأنها ساعة مائية. وجرت الدجاجة، وهفت ورفت، ساعية إلى الهرب من الموت الذي ينتظرها. وهمس ذو الوجه الملائكي في أذن كميلة وهو يسوي بطنها المستدير بيده: يا طاحونتي الصغيرة ... وقالت وهي تضغط بجسدها على جسده: يا حبيبي ...
وتحركت ساقاها تحت الغطاء كأنهما مجدافان يضربان المياه المترقرق في بحر لا قاع له.
كان الخدم لا يزالون يجرون ويصيحون. كانت الدجاجة قد هربت منهم، نابضة فزعة، وعيناها تكادان تقفزان من محجريهما، فاغرة المنقار، ناشرة جناحيها كأنهما الصليب، وقد تقطعت أنفاسها.
وتلاطفا، إذ هما متعانقان، بأصابع مرتجفة أصابع نصف ميتة ونصف نائمة، هلامية.
قالت له: «يا حبيبي». وقال لها: «يا جنتي». وقالت له: «يا جنتي» ...
واصطدمت الدجاجة بالحائط أو اصطدم الحائط بها، فهي قد شعرت بالأمرين يحدثان في وقت واحد. وقطعوا رقبتها. ورفرفت بجناحيها كأن بوسعها أن تطير حتى وهي ميتة. وصاحت الطباخة وهي تنفض عنها الريش الذي لطخ ميدعتها: «لقد لطخت نفسها، الدجاجة المسكينة!» وذهبت لتغسل يديها في النافورة التي امتلأت بمياه الأمطار. وأغلقت كميلة عينيها ... ثقل زوجها ... رفرفة الأجنحة ... اللطخة ...
ومضت الساعة في دقاتها، بسرعة أبطأ الآن تك ... تاك ... تك ... تاك ... تك ... تاك ... تك ... تاك ... •••
نظر ذو الوجه الملائكي بسرعة في الأوراق التي سلمها له أحد الضباط في المحطة. وبدت المدينة له، وهو يخلفها وراءه، تخمش صفحة السماء بأظافر أسطحها القذرة. وكان للوثائق التي تسلمها أثر ملطف في نفسه، لقد حالفه الحظ إذ هو يسافر الآن بعيدا عن ذلك الرجل، في عربة قطار من الدرجة الأولى، محاطا بالعناية والرعاية، دونما جاسوس يتعقبه، وجيبه ملأن بالشيكات النقدية وأرخى جفنيه كيما يركز أفكاره على نحو أفضل. واكتسبت الحقول حركة من عبور القطار وسطها، وأخذت تجري هي أيضا كالأولاد الصغار، واحدا وراء الآخر، واحدا وراء الآخر، واحدا وراء الآخر: أشجار، بيوت، جسور ... ... يا لحسن حظي أن ابتعدت عن ذلك الرجل في عربة من الدرجة الأولى! ... ... واحدا وراء الآخر، واحدا وراء الآخر، واحدا وراء الآخر ... كان البيت يطارد الشجرة ، والشجرة تطارد السياج، والسياج يطارد الجسر، والجسر يطارد الطريق، والطريق يطارد النهر، والنهر يطارد الجبل، والجبل يطارد السحاب، والسحاب يطارد حقل الذرة، وحقل الذرة يطارد الفلاح، والفلاح يطارد حيواناته ... ... محاطا بالعناية والرعاية دونما جاسوس يتعقبني ... والحيوانات تطارد البيت، والبيت يطارد الشجرة، والشجرة تطارد السياج، والسياح يطارد الجسر، والجسر يطارد الطريق، والطريق يطارد النهر، والنهر يطارد الجبل والجبل يطارد السحاب ...
وسرت الصورة المنعكسة لقرية على طول سطح غدير شفاف مظلم كقاع الجرة الضخمة. ... والسحاب يطارد حقول الذرة، وحقول الذرة تطارد الفلاح، والفلاح يطارد حيواناته ... ... دونما جاسوس يتعقبني، والشيكات النقدية في جيبي ... ... والحيوانات تطارد البيت، والبيت يطارد الشجرة، والشجرة تطارد السياج، والسياج ...
وشيكات نقدية كثيرة في جيبي!
وومض جسر عبر النافذة كأنه مسند عصا بلياردو ... ضوء وظل، سلالم، جافة من الصلب، أجنحة عصافير ... ... السياج يطارد الجسر، والجسر يطارد الطريق، والطريق يطارد النهر، النهر يطارد الجبل، والجبل ...
وترك ذو الوجه الملائكي رأسه يسقط على ظهر المعقد المبطن بالقش. وتابعت عيناه الغافيتان الشريط الساحلي الخفيض المنبسط، الحار، الرتيب، بشعور مضطرب بوجوده في القطار، وعدم وجوده في القطار، وتخلفه وراء القطار، ومع كل لحظة يزداد تخلفه عن القطار، يزداد تخلفا، يزداد تخلفا، يزداد، يزداد، يزداد ...
وفجأة فتح عينيه. كان قد استغرق في النوم، النوم القلق لشخص هارب، قلق شخص يعرف أن الخطر قد يكون سابحا في الهواء ذاته الذي يتنفسه؛ وبدا له أنه قد قفز لتوه في مقعده بالقطار من خلال ثقب خفي. كان عنقه يؤلمه، والعرق ينفصد من وجهه، وثمة سحابة من ذباب تحوم حول جبهته.
وفوق الخضرة العابرة أمامه، كانت سحب ساكنة تتجمع، منتفخة بالمياه التي امتصتها من البحر، وعروق البرق تنبجس كالمخالب من وراء مراكزها الرمادية القطيفية.
وتراءت قرية ثم اختفت، قرية يبدو أنها مهجورة، مجموعة من المنازل محاطة بأوراق الذرة الجافة، متجمعة ما بين الكنيسة والمقبرة. وجال في خاطر ذي الوجه الملائكي: «كم أود أن يكون عندي الإيمان الذي شيد هذه الكنيسة في هذا المكان. الكنيسة والمقبرة، لم يكن باقيا حيا من القرية الآن سوى الإيمان والموتى!» وغشيت عينيه سعادة الهروب. بيد أن هذا البلد بربيعه المتثاقل هو بلده، هو حنانه، هو أمه، ومهما كانت الحياة الجديدة التي يبعثها فيه تركه هذه القرى وراءه، فإنه حين سيكون وسط أناس من بلدان أخرى، فسيكون دائما ميتا وسط أحياء، يتوالى خلف الحضور الخفي لهذه الأشجار وشواهد القبور.
وتتابعت محطة وراء أخرى. وجرى القطار بلا توقف، يصلصل فوق القضبان المتخلخلة. صفارة هنا، وصرير مكابح هناك، ووراء ذلك تل ترصعه حلقة من الدخان القذر. وأخذ الركاب يروحون بالقبعات والصحف والمناديل، مختنقين في الهواء الساخن الذي ترويه آلاف القطرات من عرقهم؛ كانوا يشعرون بالضيق من خشونة مقاعدهم، ومن الضجيج، ومن الطريقة التي تنخزهم بها ملابسهم كأنما ثمة حشرات تقفز بأقدامها على جلودهم، ورءوسهم تحرقهم كأنما لهم شعر حي؛ وكانوا عطشى كأنما هم تناولوا مطهرا للأمعاء، وحزانى كالموت ذاته.
وأتى الغسق في أعقاب ضوء النهار، واعتصرت السحب رذاذا من المطر، وبدأ الأفق الآن يتفسخ؛ وبعيدا بعيدا جدا التمعت علبة سردين صفيحية يحيط بها زيت أزرق.
ودخل أحد موظفي القطارات ليضيء مصابيح المقصورة. وسوى ذو الوجه الملائكي بنيقته وربطة عنقه ونظر في ساعته. كان من المتوقع أن يصلوا إلى الميناء في بحر عشرين دقيقة، بدت له قرنا على ضوء نفاد صبره وشوقه لأن يجد نفسه سليما معافى على ظهر السفينة. وألصق وجهه في زجاج النافذة محاولا أن يميز شيئا في الظلمة. كان ثمة رائحة خضروات. وسمع نهرا يجري. وسمع نفس الخرير بعد مسافة أخرى، ربما هو نفس النهر.
وأبطأ القطار من سيره وسط طرقات قرية صغيرة، معلقة كشبكات النوم في الظلام، ثم توقف شيئا فشيئا؛ وبعد أن هبط ركاب الدرجة الثانية يحملون رزمهم، مضى في سيره بخطى أبطأ تجاه أرصفة الميناء. بوسعه الآن أن يسمع تكسر الموجات ويميز الشكل الشاحب الطامس لمكتب الجمرك تعبق منه رائحة القار، وبوسعه أن يسمع الزفير النعسان لملايين المخلوقات العذبة المملوحة.
ولوح ذو الوجه الملائكي محييا من بعيد للرجل الذي كان في انتظاره على المحطة، لقد كان الميجور «فارفان». وشعر بالسرور إذ يلتقي في هذه اللحظة الحاسمة من حياته بصديق سبق له هو أن أنقذ حياته. وصاح به: «ميجور فارفان!»
وحياه «فارفان» من على مبعدة، ثم اقترب من النافذة وأخبره ألا يشغل نفسه بأمتعته، ذلك أن بعض الجنود سيحضرون لحملها إلى السفينة. وحين توقف القطار، صعد وصافح ذا الوجه الملائكي بحرارة. وغادر الركاب الآخرون القطار مسرعين. - حسنا، ما هي أحوالكم؟ - وأحوالك يا عزيزي الميجور؟ ولكن لا داعي للسؤال، فإني أرى من وجهك ... - لقد أبرق لي السيد الرئيس بأن أعتني بكم وأن أرى ألا ينقصكم شيء. - هذا كرم منك يا ميجور.
ولم يستغرق خروج الركاب من المقصورة سوى دقائق معدودات، وأطل «فارفان» برأسه من إحدى النوافذ وصاح: أين هم القادمون لحمل الحقائب أيها اللفتنانت؟ ما معنى هذا التأخير؟
ومع كلامه، ظهرت مجموعة من الجنود المسلحين عند الباب. ولم يدرك ذو الوجه الملائكي الشرك إلا بعد فوات الأوان.
قال «فارفان» ومسدسه في يده: إني أقبض عليك بأمر من السيد الرئيس. - ولكن أيها الميجور ... إذا كان الرئيس هذا مستحيل! تعال معي، تعال معي من فضلك ودعني أرسل برقية! - إن الأوامر التي لدي صريحة يا سيد ميغيل، وأفضل لك أن تأتي معي في هدوء! - كما تشاء، ولكن يجب ألا تفوتني السفينة. إني في مهمة.
لا أستطيع ... - اسكت من فضلك، وسلمني كل ما تحمل معك على الفور. - «فارفان!» - أقول لك سلمني ما معك. - كلا، استمع إلي يا ميجور! - هيا، نفذ ما أقوله لك، نفذ ما أقوله لك. - من الأفضل أن تستمع أنت لي يا ميجور. - فلتكف عن وعيدك هذا! - إني أحمل معي تعليمات سرية من السيد الرئيس ... وأنت ستكون المسئول ... - فتشه أيها العريف! سيرى حالا من هو السيد هنا!
وظهر في الظلام شخص معصوب الوجه. كان في نفس طول قامة ذي الوجه الملائكي، وفي نفس شحوبه، وله نفس لون شعره البني الفاتح. وأخذ كل ما كان العريف يستولي عليه من جيوب ذي الوجه الملائكي الحقيقي وما يرتديه (جواز السفر، الشيكات النقدية، خاتم الزواج المحفور عليه اسم زوجته - وقد انتزع منه هذا الخاتم بعد أن بلل الإصبع برضاب فمه، أزرار القميص، المناديل) واختفى على الفور.
وبعد ذلك بفترة، رنت في الفضاء صفارة السفينة. وغطى السجين أذنيه بيديه. كانت الدموع تعمي عينيه. كان يود لو أمكنه أن يكسر الباب ويهرب، يجري، يطير، يعبر البحر، يتوقف عن أن يكون الرجل الذي كانه يا للبحر الهائج الذي يهدر تحت جلده، ويا للندبة التي تحترق في لحمه، وأن يصبح ذلك الرجل الآخر الذي يرحل الآن إلى نيويورك حاملا أمتعته ومنتحلا اسمه في القمرة رقم 17.
الفصل التاسع والثلاثون
الميناء
كان كل شيء هادئا وسط السكون الذي يسبق تغيير المد، ما عدا أصوات الجداجد (الرطيبة من رذاذ البحر والنجوم تتوهج على أغلفة أجنحتها)، وصورة المنارة منعكسة على صفحة المياه كدبوس المشبك في وسط الظلمة، والسجين يذرع مقصورة القطار جيئة وذهابا وقد غطى شعره جبهته وتهدلت ملابسه، كما لو كان قد اشترك لتوه في أعمال شغب. لم يكن يستطيع الجلوس؛ وطفق يصدر إيماءات وحركات تماثل أفعال نائم يدفع عن نفسه - بالآهات والشكايات - يد الإله التي تجذبه نحو المصير المحتوم: إما أن تثخنه الجراح، أو يموت موتا مفاجئا، أو يكون ضحية من ضحايا الجرائم، أو يبقر بطنه.
وطفق يردد: «إن «فارفان» هو أملي الوحيد. لو لم يكن الكولونيل فارفان هنا، من يعرف ماذا كان يحدث! إنه على الأقل سوف يخطر زوجتي إذا هم قتلوني ودفنوني».
وانبعث صوت ضربات ثقيلة، كما لو أن هناك قدمين تركلان عربة القطار، التي وقفت ساكنة على القضبان تحيط بها ثلة من الحرس المسلحين. بيد أن ذا الوجه الملائكي كان يطير بفكره بعيدا هناك، بين القرى الصغيرة التي مر عليها القطار لتوه، غارقة في حمأة الظلمة أو في غبار الأيام المشمسة الذي يعمي الأبصار، والتي تتغذى على الخوف من الكنيسة والمقبرة. لم يكن هناك من حي سوى الإيمان والموتى.
ودقت ساعة الثكنة العسكرية الواحدة صباحا. واهتزت شبكات العنكبوت. لقد أتم عقرب الساعة الكبير دورة منتصف الليل. ودفع الميجور «فارفان» ذراعه اليمنى أولا في كسل في سترته، ثم الذراع اليسرى ، وبدأ يفك أزرارها ببطء مماثل، بادئا بالزر الذي فوق السرة؛ لم يكن يرى شيئا مما أمامه على الجدار: خريطة للجمهورية على صورة فم يتثاءب، ومنشفة يغطيها مخاط جاف وذباب نعسان، وسرج، وبندقية، وجربندية.
1
ومضى يفك زرا زرا حتى وصل إلى البنيقة. وحين وصل إلى البنيقة ألقى برأسه إلى الوراء، فوقعت عيناه على شيء لا يستطيع أن يراه دون أن يؤدي التحية العسكرية: صورة السيد الرئيس.
وفرغ من فك أزرار السترة، وأطلق ريحا، وأشعل سيجارة من المصباح، وتناول سوط الركوب وخرج. ولم يشعر به الجنود وهو خارج، فقد كانوا نياما على الأرض، متدثرين بعباءاتهم الصوفية كالموميات؛ أما الحراس فقد حيوه ببنادقهم؛ ونهض الضابط المناوب وهو يبصق بعض الرماد هو كل ما تبقى من سيجارته التي نام وهو يدخنها، ولم يكد يجد متسعا من الوقت إلا كي يمسح شفتيه بظهر يده وهو يحيي الميجور قائلا: كل شيء على ما يرام، يا سيدي.
كانت الأنهار تصب في البحر، كشوارب القطط وهي تنصب في وعاء اللبن. وكان ظل الأشجار السيال، وثقل السحالي في نزوها، والماء في المستنقعات التي تحوم الملاريا فوقها، والدموع المتعبة، كل ذلك كان يتحرك كيما يصب في البحر.
وانضم رجل يحمل قنديلا إلى «فارفان» حين دخل إلى عربة القطار مرة أخرى. وتبعهما جنديان باسمان انهمكا في حل العقد من الحبل الذي سيقيدان به السجين. وأمرهما «فارفان» أن يقيدا ذا الوجه الملائكي، ومضيا به تجاه القرية، يتبعهم الحراس الذين كانوا يحرسون عربة القطار. ولم يبد ذو الوجه الملائكي أي مقاومة. لقد ظن أنه قد اكتشف في طريقة الميجور وصوته والعنف الذي طلب به تنفيذ الأوامر إلى الجنود، وهم الذين كانوا سيعاملونه معاملة خشنة على كل حال دون تحريض منه، ظن أنه اكتشف في كل هذا خطة يدبرها صديقه كيما يساعده بعد ذلك حين يذهبون إلى مقر الحراسة دون أن يورط نفسه أمام الجنود. وحين غادروا المحطة ، اتجهوا إلى أقصى نقطة في خط السكة الحديد، حيث أرغموه بالضربات على الصعود إلى عربة قطار بضاعة غطيت أرضيتها بروث السماد. كانوا يضربونه دونما سبب، كأنما لديهم أوامر بذلك. وصاح ذو الوجه الملائكي بالميجور الذي كان يتبعهم منهمكا في حديث مع حامل القنديل: ولكن ... لماذا يضربونني يا «فارفان»؟
وكان الرد الوحيد على سؤاله ضربة بكعب البندقية، ولكن بدلا من أن تسدد الضربة إلى ظهره، وجهوا الضربات إلى رأسه، مما جعل إحدى أذنيه تدمى، وألقت به أرضا على السماد.
والتقط أنفاسه، ثم بصق الروث الذي التصق بفمه من وقع السقطة. كانت الدماء تقطر على ملابسه. وحاول الاحتجاج، فصاح به «فارفان» وهو يرفع صوته في الهواء: «اخرس! اخرس!»
فصاح ذو الوجه الملائكي دون أن يسقط: «ميجور فارفان!» كان مهتاجا. وعبق الهواء برائحة الدم.
وكان «فارفان» خائفا مما قد يقوله ذو الوجه الملائكي، فضربه بالسوط. وترك السوط علامة على خد الرجل التعس، وناضل مرتكزا بإحدى ركبتيه على الأرض كيما يحرر يديه من الأغلال.
وقال في صوت يرتجف بالمرارة الجامحة. لقد فهمت. لقد فهمت. إن هذا العمل قد يجعلك تفوز بترقية، بنجمة أخرى ...
فقاطعه «فارفان» وهو يرفع سوطه مرة أخرى: اخرس، إلا إذا كنت تريد ...
وأمسك الرجل الذي يحمل القنديل بذراع الميجور مهدئا إياه. - هيا، اضربني، لا تتوقف، لا تخف. إني رجل، والخصيان وحدهم هم الذين يستخدمون السياط.
وسقط السوط على وجه الضحية مرتين، ثلاث، أربع، خمس مرات في أقل من ثانية.
وتدخل الرجل الذي يحمل القنديل قائلا: اهدأ يا ميجور، اهدأ! - كلا، كلا. سوف أجعل ابن الكلب هذا يعض التراب. لن يذهب ما قاله في حق الجيش هكذا دون عقاب: الحيوان ... القذر!
وانكسر السوط من الضربات، فواصل الميجور ضرباته على ذي الوجه الملائكي بكعب مسدسه مما انتزع قطعا من الشعر والجلد واللحم من وجه السجين ورأسه، وكان يردد مع كل ضربة: «الجيش ... النظام ... أيها الحيوان القذر، خذ هذه ...».
وسحبوا جسد ضحيتهم الساجي من وسط الروث الذي سقط فيه، وحملوه من طرف خط السكة الحديد القصي إلى طرفه الآخر، إلى أن اصطفت عربات قطار البضاعة، الذي سيحمله مرة أخرى خفية إلى العاصمة، في أماكنها.
وصعد الرجل الذي يحمل القنديل إلى إحدى العربات يصحبه «فارفان». كانا قد أمضيا الوقت يتحادثان ويشربان في مقر الحراسة إلى أن حان وقت الرحيل.
كان رجل القنديل يقول: أول مرة حاولت فيها الالتحاق بالشرطة السرية، كان بها أحد أعز أصدقائي ويدعى «لوسيو فاسكيز» - الملقب بالقطيفة ...
فقال الميجور: أظن أنني سمعت عنه. - لم يقبلوني آنذاك؛ وكان صديقي ذاك رجلا داهية - لذلك سموه بالقطيفة؛ وبدلا من ذلك، وقعت في مصيبة وفقدت كذلك ما كنت أنا وزوجتي - فقد كنت متزوجا آنذاك - قد وضعناه من أموالنا في تجارة صغيرة. بل إنهم قد أخذوا زوجتي إلى دار «النشوة اللذيذة»، تلك المسكينة ...
وتنبه «فارفان» عند ذكر اسم «النشوة اللذيذة»، بيد أن ذكرى «الخنزيرة» - رمز جنسها الذي يحمل رائحة المراحيض - والتي أثارت غريزته يوما ما، لم تبعث فيه الآن إلا القشعريرة. كان كرجل يسبح تحت الماء، يصارع طوال الوقت «ذا الوجه الملائكي» خياليا يردد على الدوام: «نجمة أخرى، نجمة أخرى!» - وما هو اسم زوجتك السابقة؟ إني أكاد أعرف كل الفتيات في دار «النشوة اللذيذة». - لن يفيد معرفة اسمها، فهي قد رحلت عن تلك الدار في نفس يوم التحاقها بها. كان لدينا وليد مات هناك وكاد ذلك يسلبها عقلها. لم يكن بالمكان المناسب لها. إنها الآن في مغسل المستشفى مع الراهبات. لم تكن لتصبح عاهرة أبدا! - ولكن أعتقد أنني أعرفها. لأنني كنت الشخص الذي حصل على تصريح الشرطة للجناز الذي أقامته السيدة «تشون» للطفل الوليد، ولكن لم يكن عندي فكرة أنه ابنك الصغير! - أما أنا فقد أصبحت معدما مفلسا. كلا، شكرا ... إذا بدأ المرء يفكر في كل ما مر به، فإن كل ما يورده هو أن يطلق ساقيه للريح وينجو بجلده. - أما أنا فإني كنت سادرا في جهلي إلى أن حاولت إحدى العاهرات أن تشي بي لدى السيد الرئيس.
وقد كان ذلك الشاب، ذو الوجه الملائكي، متورطا مع الجنرال «كاناليس». كان غارقا حتى ناصيته في حب ابنة الجنرال، التي تزوج منها فيما بعد - ولم ينفذ أوامر السيد الرئيس، كما يقولون. إني أعرف كل هذا لأن «لوسيو فاسكيز» - القطيفة - قابله في حانة تدعى «الخطوتين» قبل ساعات قليلة من فرار الجنرال.
فرد الميجور وهو يفتش في ذاكرته: «الخطوتان؟» - إنها حانة في ناصية الشارع. وصدق أو لا تصدق: كان مرسوما على واجهتها رجل وامرأة، كل منهما على أحد جانبي الباب. كانت المرأة تقول - وأنا لا أزال أذكر الكلمات - «تعال، ارقص في حانة «الخطوتان».» أما الرجل فقد كان يحمل زجاجة في يده ويقول: «كلا شكرا، إني أفضل رقصة الزجاجة!»
ومضى القطار في طريقه ببطء. كانت ثمة رقعة صغيرة من نور الفجر تطفو على البحر الأزرق. وبالتدريج، من وسط الظلمة، بدأت تظهر أكواخ القش في القرى، والجبال القصية، وسفن البضاعة الصغيرة البائسة؛ ومقار الثكنات كعلب ثقاب مليئة بجداجد ترتدي الملابس العسكرية.
الفصل الأربعون
دجاجة عمياء
- «ولقد مضت ساعات كثيرة على رحيله».
في يوم الرحيل، يبدأ الشخص الآخر يحسب كل ساعة إلى أن يمر ما يكفي كي يقول: لقد مضت أيام كثيرة على رحيله! ولكن بعد أسبوعين ينقضي حساب الأيام ويصبح الأمر: لقد مضت أسابيع كثيرة على رحيله! ثم شهر كامل. ثم ينقضي حساب الشهور. ثم عام كامل. ثم ينقضي حساب السنين ...
كانت كميلة تنتظر ظهور ساعي البريد عند إحدى نوافذ غرفة الاستقبال، وهي تختبئ وراء الستائر بحيث لا يراها أحد من الطريق؛ كانت حبلى وتخيط ثياب المولود.
وأعلن ساعي البريد عن مقدمه بالدق كالمجنون على جميع الأبواب الخارجية. ودقة فدقة، وصل إلى مستوى النافذة التي تقف وراءها كميلة. وتركت كميلة ما تخيط لتنصت وتنظر، وقلبها يكاد يقفز من صدرها من فرط الاضطراب والسرور. «أخيرا سأتسلم الخطاب الذي أشتاق إليه! «حبيبتي كميلة» بالخط العريض ...».
ولكن ساعي البريد لم يدق بابها. ربما كان السبب هو ... ربما فيما بعد ... وتناولت ما تخيط ثانية وهي تهمهم أغنية تطرد بها أفكارها الحزينة.
وعاد ساعي البريد مرة أخرى في الأصيل. وكان من المستحيل عليها أن تخيط غرزة واحدة في الزمن الذي استغرقته في الانتقال من النافذة إلى الباب. ووقفت تنتظر دقته، مقرورة، لاهثة الأنفاس، غارقة في دموعها؛ وحين أدركت أخيرا أن صمت المنزل لم تقطعه أي دقة على الباب، أغلقت عينيها في هلع، وأخذت تنتفض بالبكاء والقيء المفاجئ والنهدات. لماذا لا أخرج إلى عتبة المنزل؟ ربما ... يكون ساعي البريد قد نسي - إنه رجل لطيف - وسيحضر الخطاب غدا كأنما لم يحدث شيء.
وفي اليوم التالي، كادت تخلع الباب من مفصلاته وهي تفتحه على مصراعيه. وجرت تنتظر ساعي البريد حتى لا ينساها هذه المرة، وكذلك كيما تجلب الحظ السعيد. ولكنه كان ماضيا في طريقه كالمعتاد، متحاشيا أسئلتها، يرتدي ملابس خضراء زاهية (لون الأمل) بعينيه الصغيرتين الضفدعيتين، وأسنانه عارية كأسنان الدمية العظمية في كليات التشريح.
شهر، شهران، ثلاثة، أربعة ...
ولم تعد تذهب إلى الحجرات التي تطل على الطريق، بل جذبها حزنها العميق إلى القسم الخلفي من المنزل. وشعرت بنفسها كأنما هي إحدى أدوات المطبخ، أو قطعة فحم أو خشب، أو جرة فخارية، مجرد شيء لا قيمة له.
قالت إحدى جاراتها من العارفات بأمور الولادة، حين استشارتها الخادمات في شأن حالة كميلة: «إن هذا ليس مجرد نزوات بل هو «وخم» «الحمل».» وقد قالت ذلك لمجرد المتعة في الحديث أكثر منه بحثا عن علاج للحالة. ذلك أنه كانت هناك علاجات كثيرة أمام الخادمات: فقد أضأن شموعا للقديسين، وخففن من حدة فاقتهن بما أخذن يحملنه من أشياء غالية خفيفة من المنزل.
وفي أحد الأيام المباركة، خرجت المريضة من المنزل، ذلك أن الجثث تطفو إلى السطح أيضا. وجلست مقعية في عربة أجرة، تتحاشى عين أي شخص تعرفه؛ وقد أشاح هؤلاء بوجوههم بعيدا عنها بدلا من أن يحيوها؛ وانطلقت وكلها تصميم على مقابلة الرئيس بأي ثمن. وكان إفطارها وغداءها وعشاءها منديل مبلل بالدموع. وكانت لا تزال تعض عليه بنواجذها حين كانت تجلس في غرفة الانتظار. يا لكثرة الشقاء والمشكلات، إذا حكم المرء على ذلك بالحشد الذي كان ينتظر مقابلة الرئيس! أهل الريف يجلسون على حافة المقاعد المذهبة، وأهل المدينة يغوصون فيها ويستندون إلى ظهورها. وكانوا يشيرون للسيدات إلى الكراسي ذات المرفقين في صوت خفيض. وكان ثمة شخص يتكلم في الردهة الخارجية. السيد الرئيس! وتقلصت أعصابها بمجرد التفكير فيه، وركلها طفلها في أحشائها كأنما يقول: فلنخرج من هنا!
وانبعثت همهمة أناس يغيرون من جلستهم. تثاؤبات. همهمة ملاحظات. خطوات أقدام ضباط أركان الحرب. حركات جندي يحاول تنظيف إحدى النوافذ. ذباب. ركلات الطفل الصغير في أحشائها. «لا تكن عنيفا هكذا! لماذا تتصرف بمثل هذه الخشونة؟ إننا سنقابل الرئيس لنسأله ماذا حدث لشخص لا يعرف أنك موجود، ولكنه سيحبك حبا عارما حين يعود إلى المنزل! آه، إذن أنت تتعجل الخروج كيما تشارك في ما يدعوه الناس بالحياة! إنني لا أعارض في هذا، ولكنك أفضل حالا وأمنا حيث أنت الآن!»
ولم يقابلها الرئيس. قال لها أحدهم إنه يحسن بها أن تطلب مقابلة رسمية. برقيات، خطابات، محررات رسمية، بلا جدوى؛ لم تكن تتلقى أي رد عليها.
ومرت ليال، وجاءت أيام، وغارت عيناها من الأرق أو طفتا في بحيرات من دموع. فناء رحيب. وهي ترقد على سرير معلق، تتلهى بحلوى من ألف ليلة وليلة وتلعب بكرة في يدها. وأخذت تنقل قطعة الحلوى من خدها إلى خدها الآخر، فسقطت الكرة الصغيرة من يدها وتقافزت على أرض الممر الذي يقع تحت السرير المعلق وتدحرجت إلى الفناء بعيدا، بعيدا، وأخذت تصغر إلى أن تلاشت تماما، في حين نما حجم قطعة الحلوى في فمها. لم تكن نائمة كلية. وكان جسدها يرتعش لملمس الشراشف. كان حلما تضيئه أنوار الحلم والأنوار الكهربائية على السواء. وأفلتت قطعة الصابون من بين يديها عدة مرات كالكرة المطاطية الصغيرة، وبدت فطيرة إفطارها - وكانت تأكلها من فرط ما حل بها من جوع - كأنما تتضخم في فمها كقطعة الحلوى.
كانت الشوارع كلها خالية والناس كلهم في القداس، حين تتوجه هي إلى اوين الحكومة، واحدا إثر الآخر، في انتظار وصول الوزراء. ولم تكن تعرف كيف تكسب عطف الحراس العجائز الشكسين، الذين لم يكونوا يردون عليها حين تكلمهم، ويطردونها بلا رحمة - أولئك الكتل الشائهة من اللحم البشري - حين تلح في طلبها.
ولكنها الآن تتذكر بقية حلمها. لقد جرى زوجها والتقط الكرة الصغيرة. الفناء الرحيب. الكرة السوداء الصغيرة. وزوجها يتضاءل حجمه شيئا فشيئا، ويبتعد عنها رويدا رويدا كأنما هو يتبدى في الطرف المصغر للتلسكوب، إلى أن يختفي خارج الفناء وراء الكرة، في حين تضخمت قطعة الحلوى في فمها، ولم تعد تفكر في طفلها المنتظر.
وكتبت إلى قنصل بلدها في نيويورك، وإلى الوزير المفوض بالسفارة في واشنطن، وإلى صديقة إحدى صديقاتها، وإلى صهر أحد أصدقائها، تطلب أنباء عن زوجها، ولكنها كانت كأنما تلقي خطاباتها في سلة المهملات وليس في صناديق البريد. وسمعت من بقال يهودي أن السكرتير المحترم للمفوضية الأمريكية - وهو مخبر سري إلى جانب عمله كدبلوماسي - لديه أنباء مؤكدة عن وصول ذي الوجه الملائكي إلى نيويورك. ولم يقتصر الأمر على وجود سجلات رسمية في الميناء والفندق وملفات الشرطة تثبت وصوله إلى نيويورك، بل إن الصحف قد نشرت أنباء وصوله، وأكد ذلك الناس الذين عادوا مؤخرا من هناك.
وقال لها اليهودي: «إنهم يبحثون عنه الآن، ولا بد أن يعثروا عليه، حيا أو ميتا، رغم أنه قد استقل فيما يبدو سفينة أخرى من نيويورك إلى سنغافورة».
وسألت: وأين تقع هذه السنغافورة؟
فأجاب اليهودي بتكة من أسنانه الصناعية: «وأين تظنينها تقع؟ إنها في الهند الصينية».
فاستطردت تلح قائلة: وكم يستغرق الخطاب في الوصول من هناك إلى هنا؟ - لا أعرف بالضبط، ولكن لا أكثر من ثلاثة شهور.
وأحصت على أصابعها. لقد رحل ذو الوجه الملائكي منذ أربعة شهور.
إنه في نيويورك أو في سنغافورة. لقد انزاح حمل ثقيل من على ذهنها. يا لها من راحة كبرى أن تفكر فيه بعيدا، وأن تعرف أنه لم يقتل في الميناء كما أشاع البعض، وأنه رغم كونه بعيدا عنها في نيويورك أو في سنغافورة فإنه يفكر فيها طول الوقت!
وأمسكت بالحافة في حانوت اليهودي حتى لا يغمى عليها. كان فرحها جعلها تشعر بالدوار. وخرجت كأنها تمشي على الهواء، أو كأنها بين ذراعي زوجها في بلد جديد، مخلفة وراءها لحم فخذ خنزير ملفوفة في الورق المفضض، والزجاجات وسط القش الإيطالي، وعلب المربى، والشيكولاتة، والتفاح، والرنجة، والزيتون، والسمك المجفف، والعنب الموسكاتي، مع خروجها من محل البقال. «كم كنت بلهاء أن أعذب نفسي على هذا النحو! إني أفهم الآن السر في عدم كتابته لي، ويجب علي أن أمضي في تمثيل دور المرأة التي هجرها زوجها والتي أعمتها الغيرة وتسعى إلى العثور على الرجل الذي تركها، أو دور الزوجة التي تريد زوجها إلى جوارها خلال محنة الولادة الصعبة».
وحجزت قمرة في إحدى السفن وحزمت حقائبها. وكان كل شيء جاهزا لسفرها حين رفضوا إعطاءها جواز سفر. ثمة فتحة ممتلئة بالأسنان الملطخة بالنيكوتين محاطة بإطار من اللحم المنتفخ تحركت من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، لتخبرها أن أوامر قد صدرت بعدم إعطائها جواز سفر. وحركت هي شفتيها من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، في محاولة لتكرار العبارة كأنما هي قد سمعت خطأ.
وأنفقت مالا وفيرا على برقيات بعثتها إلى الرئيس. ولم يصل رد. ولم يقدم لها المسئولون الحكوميون أية معونة. ونصحها وكيل وزارة الحربية، وهو رجل سمح بطبعه مع النساء، بألا تلح في هذا الموضوع، فليس هناك من جهد يمكن أن يسفر عن إعطائها جواز سفر، وقال إن زوجها قد حاول اللعب على السيد الرئيس، وأن الأمر ميئوس منه.
ونصحوها بالذهاب لمقابلة قس ضئيل الحجم ذي نفوذ، أو إحدى عشيقات الرجل الذي يزود الرئيس بجياده. ولما ترددت الشائعات حينئذ بأن ذا الوجه الملائكي قد مات بالحمى الصفراء في «بناما»، فقد وجدت كميلة كثيرين على استعداد لاصطحابها إلى جلسات تحضير الأرواح كيما تحسم الشك باليقين. وهناك، لم ينتظروا حتى تكرر سؤالها لهم. ولكن الوسيطة الروحانية بدت مترددة، إذ قالت وساقاها الضافرتان تهتزان تحت ثيابها الجامدة: «إني لا أحب أن تحل في جسدي روح شخص كان من أعداء السيد الرئيس». ولكن الضراعة. مقرونة بالمال، تهز الجبال، فوافقت الوسيطة بعد أن أفعموا جيبها بالنقود. وأطفئت الأنوار. وارتعبت كميلة حين سمعتهم يستدعون روح ذي الوجه الملائكي، واضطروا أن يجروها خارج الحجرة وهي تكاد تكون غائبة عن وعيها. وقالوا لها بعد ذلك إنها سمعت صوت زوجها، الذي مات في أعالي البحار، وهو الآن في برزخ لا يمكن الوصول إليه، راقدا في سرير مترف مرفه، على حشية من الماء، محاط بجداول مليئة بالأسماك، علاوة على أفضل وسادة: انعدام الوجود.
كانت قد أصبحت نحيفة مغضنة كالقطة العجوز وهي لم تتعد العشرين من عمرها، ولا شيء يبين في وجهها سوى عينيها - عينان خضراوان تحيط بهما هالات سوداء في حجم أذنيها الشفافتين، وذلك حين وضعت طفلا صغيرا. وبناء على نصيحة طبيبها، فإنها حالما نهضت من الفراش، سافرت إلى الريف لتمكث هناك بعض الوقت. وتعلقت بالحياة من أستار واهية، إذ كانت مهددة بالإصابة بالأنيميا الخبيثة، والسل، والجنون، وهي تتلمس طريقها وطفلها بين ذراعيها بلا أنباء عن زوجها، باحثة عنه في المرآة: المكان الوحيد الذي يعود فيه الناس الذين غرقوا، وفي عيني طفلها، وفي نفسها حين تنام وتحلم به في نيويورك أو في سنغافورة.
وأخيرا، جاء يوم ألقى ضوءا على ليل حزنها المدلهم، حين كانت تتجول كالطيف بين أشجار الصنوبر وبساتين الفاكهة والأشجار السامقة في الحقول. كان يوم «الأحد الأبيض»، حين مسحوا طفلها بالملح والزيت والماء ورضاب القس، وخلعوا عليه اسم «ميغيل». كانت العصافير تتلاطف بمناقيرها - أوقيتان من الريش تغرد إلى ما لا نهاية. وكانت الأغنام منهمكة في لعق صغارها. يا له من إحساس كامل بالخير والرفاه خلقته حركات لسان الأم في الحمل الرضيع، الذي أخذ يرفرف بأهدابه الطويلة تحت وقع ملاطفتها له! وتسابقت الأمهار جريا وراء الفرسات ذوات العيون الرطيبة. وثغت العجول الصغيرة ببهجة واللعاب يبرق بين فكيها وهي تحكهما بالضروع المترعة باللبن. وبدون أن تدرك سببا لذلك، ضمت كميلة طفلها إلى صدرها حين انتهت موسيقى التعميد، كما لو أن الحياة قد عادت إليها من جديد.
ونشأ «ميغيل» الصغير في الريف وأصبح مزارعا. ولم تطأ «كميلة» المدينة بقدمها بعد ذلك أبدا.
الفصل الحادي والأربعون
كل شيء على ما يرام
مرة كل اثنتين وعشرين ساعة، ينفذ الضوء ما بين خيوط العنكبوت وأعمدة النافذة الحجرية إلى السرداب الأرضي؛ ومرة كل اثنتين وعشرين ساعة تتدلى إلى أسفل صفيحة غاز قديمة صدئة من حبل معقود نتن بالطعام للسجناء في الزنزانات السردابية. وعند مرأى الصفيحة مليئة بمرق الدهن وبها مزق من اللحم الدهني وقطع العجين، كان السجين رقم 17 يشيح بوجهه عنها. كان يفضل أن يموت على أن يأكل ولو ملعقة واحدة منها. ويوما بعد يوم، تدلت الصفيحة ثم ذهبت دون أن تمسها يد السجين. ولكن الحاجة كانت تلتهم عزمه تدريجيا، فقد تركه الجوع بلا إرادة ولا تصميم، وانتفخت عيناه وغطت بؤبؤيه مسحة زجاجية، وطفق يتكلم بصوت عال حديثا مشوشا إذ هو يذرع زنزانته الضيقة جيئة وذهابا، ويحك أسنانه بأصابعه، ويلوي أذنيه الباردتين. وجاء أخيرا يوم اندفع فيه إلى الصفيحة المدلاة كما لو كان يخاف أن ترفع عنه في أية لحظة وغمس فيها فمه وأنفه ووجهه وشعره وهو يكاد يغرق من الجهد الذي يبذله في البلع والمضغ في آن واحد. وأنهى الحصة المخصصة له، وحين جذب الحبل إلى أعلى راقب الصفيحة الفارغة ترتفع بسرور الحيوان الذي أشبع نهمه. ولم يستطع أن يمنع نفسه من مص أصابعه ولعق شفتيه. بيد أن شبعه كان قصير الأمد، إذ سرعان ما تقيأ كل ما أكله وسط لعناته وآهاته. والتصق اللحم والعجين بمعدته ورفضا أن يتزحزحا، ولكن كل تشنج معوي كان يضطره إلى الانحناء على الجدار فاغر الفم كشخص ينحني فوق هوة عميقة. وأخيرا انتظمت أنفاسه، ولكن رأسه كان لا يزال يدور. ومشط شعره الرطب بأصابعه، وهبط بها فيما وراء أذنيه كيما ينظف لحيته من القيء. كانت أذناه تصفران، ووجهه غارقا في عرق بارد لزج حريف، كمياه البطارية الكهربائية. وكان الضوء قد أخذ ينحسر بالفعل - إذ هو ما يكاد يأتي حتى ينحسر. وعمد إلى التشبث بما بقي له من قوة جسدية، كأنما هو يصارع نفسه، فنجح في الجلوس القرفصاء، ثم مد ساقيه وأراح رأسه على الجدار ، واستسلم لثقل جفنيه كأنما هو قد تعاطى مخدرا قويا. بيد أنه لم يسترح في نومه، ذلك أن صراعه كيما يتنفس رغم عدم كفاية الهواء تبعته حركات يديه القلقة على جسده، وقيامه بسحب إحدى ساقيه ثم الأخرى، ثم مدهما ثانية في حركة لا إرادية، وجهوده المحمومة كي يقتلع الفحم الحي الذي بدا كما لو كان يحرق حلقه، بخوذات أظافره الصغيرة. وحالما أصبح نصف مستيقظ بدأ يفتح فمه ويغلقه كالسمكة خارج الماء، كيما يتذوق الهواء المثلج بلسانه الجاف؛ وحالما اكتمل استيقاظه أخذ يصيح في هذيان محموم، واقفا على أطراف أصابعه وجاذبا قامته إلى أقصى حد لها، حتى يستطيع كل شخص أن يسمعه. وأخذت صيحاته تضعف شيئا فشيئا إذ يتردد صداها وسط أقبية السراديب. وقرع بقبضتيه على الجدران، ودق بقدميه على الأرض، وصاح عاليا مرة أخرى وأخرى، إلى أن تحولت صيحاته إلى صراخ ... «ماء، مرق، ملح، دهن، أي شيء، ماء، مرق ...».
وسقط على يده خيط من الدماء ... دماء عقرب مهروس ... أو عقارب ... ذلك أن الدماء استمرت تسيل ... دماء كل العقارب المهروسة في السماء وقد تحولت إلى أمطار ... وأطفأ عطشه دون أن يعرف من أين تنهال عليه تلك الهبة السائلة، التي أصبحت بعد ذلك مصدر عذاب له. ذلك أنه أمضى ساعات وساعات مقعيا على الحجر الذي اتخذه وسادة، حتى يقي قدميه من بركة المياه التي تكونت في زنزانته حين حل الشتاء، ساعات وساعات، مبللا حتى قمة رأسه، يقطر بالمياه، مبللا حتى نخاعه، يتثاءب ويرتجف، يعاني عذابات الجوع كلما تأخرت الصفيحة الصغيرة في المجيء. وكان يأكل بنهم النحيفين من الرجال كيما يغذي أحلامه، ثم يستغرق في النوم واقفا بعد آخر قضمه. وبعد ذلك، كانت تدلى إليه صفيحة أخرى يقضي السجناء الانفراديون حاجاتهم البدنية فيها. وفي أول مرة سمع السجين رقم 17 تلك الصفيحة تدلى إليه، ظن أنها وجبة غذاء أخرى، وذلك في الوقت الذي دأب فيه على رفض الطعام، فكان يتركها تصعد إلى أعلى دون أن يخطر بخياله أنها تحتوي على براز، ذلك أن رائحتها الكريهة كانت هي نفس رائحة المرق. وكانت هذه الصفيحة تنتقل من زنزانة إلى أخرى، وحين تصل إلى رقم 17، تكون نصف ملآنة. ويا لقسوة مشاعره حين يسمعها تدلى إليه حين لا يحتاج إليها، ثم لا تأتي حين تمس حاجته إليها ويصم أذنيه بقرعه على الحائط كلسان الجرس المصمت! وأحيانا يشتد به العذاب فتموت رغبته بمجرد التفكير في الصفيحة؛ متسائلا هل يا ترى تأتي أم لا تأتي، أو تتأخر أو ينسونها كلية (وهو ما كان يحدث أحيانا) أو ينقطع حبلها (وكان ذلك يكاد يحدث كل يوم) فتعطي أحد السجناء دشا ثقيلا. لقد كان مجرد التفكير في الأبخرة التي تتصاعد منها، والدفء البشري، والأطراف الحادة للصفيحة المستديرة، والجهد المطلوب، كافيا كيما يقطع رغبته، ثم يكون عليه إذن أن ينتظر المرة القادمة، وأن يحتمل اثنتين وعشرين ساعة من المغص، وعسر التبول، والدموع، والتقلصات، والشتائم، وطعم النحاس في رضابه، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يقضي حاجته على الأرض، مفرغا المحتويات النتنة لمعدته كالكلاب أو الأطفال، وحده مع الموت.
ساعتان من الضوء، واثنتان وعشرون ساعة من الظلام الحالك؛ صفيحة مرق، وصفيحة براز؛ عطش في الصيف، وفيضان في الشتاء: هذه هي الحياة في الزنزانات السردابية.
وقال السجين رقم 17 لنفسه بصوت لم يكد يتعرف عليه: «إن وزنك يتناقص كل يوم، وسرعان ما تستطيع الريح أن تحملك إلى حيث كميلة تنتظر عودتك إلى المنزل! لا بد أنها قد تعبت من طول الانتظار، لا بد أن الحزن قد جعلها نحيلة كعود الخيزران! ماذا يهم لو نحلت يداك؟ إنها سوف تعيد إليهما الدفء بضمهما إلى صدرها. قذرتان؟ إنها سوف تغسلهما بدموعها! عيناها الخضراوان! أجل، مثل صور الحقول الخضراء في التيرول النمساوي التي تظهر في مجلة «الستراسيون»، أو في خضرة أعواد القصب المبرقشة بالأصفر الفاقع واللون النيلي. ومذاق كلماتها، ومذاق شفتيها، ومذاق أسنانها ... ومذاق مذاقها ... وجسدها، كرقم ثمانية بخصرها النحيل، أو سحابة الدخان على شكل القيثارة التي تخلفها الصواريخ النارية حين تنطلق وتفقد قوة دفعها. لقد خطفتها من براثن الموت في ليلة كانت الصواريخ النارية تنطلق إلى السماء ... كانت الملائكة تتهادى، والسحب تتهادى، والأسطح تتهادى، بخطوات قصيرة تشبه خطوات الحارس الليلي، والبيوت، والأشجار، كل شيء كان يتهادى في الهواء معها ومعي».
وكان يشعر بكميلة إلى جواره، كالبودرة الحريرية الملمس، في كل نسمة يتنفسها، في أذنيه، بين أصابعه، تجاه ضلوعه التي تهز عيني أحشائه العمياء كالأهداف الراجفة ...
وكان يمتلكها ...
كانت الرعشة تأتي في رفق، دون أدنى تقلص؛ تمر رجفة خفيفة على طول أشواك عموده الفقري الملتوية، ثم تنقبض فتحة الحبال الصوتية في سرعة، ثم تسقط ذراعاه على الأرض كأنما هما قد بترا ...
وكان التقزز الذي يسببه له إرضاء حاجته في الصفيحة، مضاعفا للإثم الذي يقرضه من جراء إرضاء حاجاته الغريزية بهذه الطريقة العقيمة بذكرى زوجته، يتركه دون أية قدرة على الحركة.
وبالأداة المعدنية الوحيدة التي كانت في متناوله، وهي قطعة صغيرة جدا من النحاس الأصفر انتزعها من أحد شريطي حذائه، قام بحفر اسم كميلة واسمه متشابكين على الجدار، واستغل وجود الضوء الذي يزور زنزانته كل اثنتين وعشرين ساعة، فأضاف إلى الرسم قلبا. وخنجرا، وتاجا من الشوك، وهلبا، وصليبا، وقاربا صغيرا، ونجما، وعصفورين صغيرين كالشرطة التي على حرف النون بالإسبانية، وقطارا للسكة الحديد يخرج منه شريط حلزوني من الدخان.
ولحسن الحظ، أعفاه ضعفه من عذابات الجسد. فقد فكر في كميلة وقد عاث الدمار في بدنه، كما يشم المرء زهرة أو يسمع قصيدة. كان يفكر فيها كالوردة التي كانت تزهر كل أبريل ومايو في شرفة غرفة الطعام التي كان يتناول فيها الإفطار كل صباح مع والدته أيام طفولته: فرع صغير غريب من فروع شجرة الورد. وخلفته سلسلة من الصباحات الصبيانية حائرا. كان النور يخفت ... يخفت ... كان النور يخفت حالما يجيء. وابتلعت الظلمة الجدران السميكة كأنها قطع من البسكويت، وسرعان ما ستصل بعد ذلك صفيحة البراز. آه لتلك الوردة! صوت الحبل الخشن، والصفيحة معلقة في خبل بين جدران الأقبية المتعرجة . وارتجف من ذكر النتانة التي تصاحب هذا الزائر الهام. أواها لوردته، ناصعة البياض كالحليب في طبق إفطاره!
وعلى مر السنين، أصاب السجين رقم 17 الهرم، من المعاناة أكثر منه من مرور الزمن. وحفرت غضون عميقة لا حصر لها أخاديد في وجهه، ونبت له شعر أبيض كما تنبت للنمل أجنحة في الشتاء. ولم يبق شيء من هيئته ... ولم يبق شيء من جسده ... دونما هواء، دونما شمس، دونما حركة، يعاني من الدوسنطاريا والروماتزم والخور العصبي، يكاد لا يرى، لم يعد حيا فيه سوى الأمل في أن يرى زوجته مرة ثانية، ذلك الحب الذي يدعم القلب في مواجهة الآلام والشقاء. •••
أزاح رئيس الشرطة السرية مقعده إلى الخلف، وعقد قدميه تحته، واستند بمرفقيه على المنضدة السوداء السطح، وأدنى قلمه من الضوء، وشد على أسنانه إذ مد فجأة إصبعين في حركة قارصة نجح بها في استخلاص شعرة من سن القلم كانت تخلع على الحروف التي يكتبها شوارب كشوارب الجمبري. ثم مضى يكتب: «... وبناء على التعليمات الواردة» وشق القلم طريقه على سطح الورقة من ضربة لأخرى: «عمل المدعو «فيش» على كسب صداقة السجين نزيل الزنزانة رقم 17، بعد أن أودع الحبس معه لمدة شهرين، وتظاهر بالبكاء طوال النهار والليل، صائحا على الدوام ومحاولا الانتحار بين وقت وآخر. وتطورت صداقتهما إلى تبادل الكلام، فسأله السجين رقم 17 عن الجريمة التي ارتكبها في حق السيد الرئيس حتى يرسل به إلى هذا المكان الذي ينقطع فيه كل رجاء. ولم يجب المدعو «فيش»، بل اكتفى بدق رأسه على الأرض وإطلاق سيل من السباب القبيح. ولكن السجين رقم 17 أصر على سؤاله إلى أن أطلق لسان «فيش» من عقاله فحكى له قصته: لقد ولد في بلد يتقن كل أهله الحرفة التي أصبح يعتاش منها، لذلك فقد سافر إلى البلد الذي هما فيه الآن، والذي يعاني نقصا في أهل حرفته. الرحلة. الوصول. بلد مثالي للأجانب. عمل هنا، أصدقاء هناك، مال، كل شيء. ثم رأى فجأة امرأة في الطريق؛ تتبعها مترددا، ضد رغبته. متزوجة؟ عزباء؟ أرملة؟ لم يدر إلا شيئا واحدا، هو أن عليه أن يتتبعها. يا لهاتين العينين الخضراوين الساحرتين! فم كالوردة . وهي تمشي كالغزال الرشيق. ويصمم على الاتصال بها، ويسير قبالة منزلها، وينجح في الدخول، ولكن عندما حاول التحدث إليها لم يرها بعد ذلك أبدا، وأخذ رجل مجهول يتتبع خطواته بعد ذلك كظله أينما ذهب. ما معنى ذلك يا أصدقائي؟ ويدير أصدقاؤه وجوههم. ما معنى ذلك يا أحجار الطريق؟ وترتجف الجدران من سماع سؤاله. والشيء الوحيد الذي يصبح واضحا جليا هو أنه قد اندفع وتجرأ إلى حد أنه قد أراد أن يحب عشيقة السيد الرئيس - وهي ابنة أحد الجنرالات، استسلمت للرئيس انتقاما؛ لأن زوجها قد هجرها، كما قالوا له قبل أن يقبضوا عليه ويلقوا به في السجن بتهمة الفوضوية.»
ويذكر المدعو «فيش» أنه عند هذا الحد من القصة سمع صوتا يشبه صوت فحيح الثعابين وسط الظلام، وأن السجين رقم 17 الذي يشاركه الزنزانة توجه إليه ورجاه في صوت ضعيف ضعف زعنفة السمك أن يخبره باسم تلك السيدة، وكرر المدعو «فيش» اسمها له مرتين: كميلة كاناليس، كميلة كاناليس. ومن هذه اللحظة، بدأ السجين يخمش نفسه كأنما جسده كله مصاب بالحكة الجلدية، رغم أنه لم يعد يحس بأي شيء فيه؛ ومزق وجهه كيما يمسح دموعه التي سالت حيث لم يعد فيه سوى جلد جاف، ورفع يده إلى صدره ولكنه لم يستطع أن يعثر عليه، وكان كنسيج عنكبوتي من التراب الرطيب وقد سقط على الأرض ... «ووفقا للتعليمات، قمت بنفسي بتسلم المدعو «فيش»، الذي حاولت أن أنقل شهادته حرفيا في هذا التقرير، سبعة وثمانين دولارا، تعويضا عن الفترة التي قضاها في الحبس، وحلة مستعملة من الكشمير، وتذكرة سفر إلى «فلاديفوستوك». وقد؟ حررت شهادة وفاة السجين رقم 17 على النحو التالي: وفاة نتيجة زحار أي إسهال معد. «هذا هو كل ما أتشرف بإبلاغه إلى السيد الرئيس ...».
خاتمة
ظل الطالب واقفا مشدوها على حافة الطوار كما لو أنه لم ير في حياته رجلا في مسوح القسس من قبل. ومع ذلك، لم يكن ثوب القس هو الذي أدهشه، بقدر ما أدهشه ما همس به مساعد القس في أذنه إذ هما يحتضن أحدهما الآخر ببهجة حين التقيا بعد أن أفرج عنهما: «لقد تلقيت أوامر بأن أرتدي هذا الثوب!» وكان سينهي كلامه عن ذاك، ما لم ير في هذه اللحظة صفا من السجناء يمرون وسط صفين من الجنود في وسط الطريق. وتمتم مساعد القس في حين صعد الطالب إلى الطوار: «يا للتعساء المساكين، هذا هو الثمن الذي يجب أن يدفعوه لقاء هدم «رواق الرب»! ثمة أشياء يجب رؤيتها عيانا كيما يصدقها المرء».
وهتف الطالب متعجبا: «إننا نراها، ونلمسها، ثم لا نصدقها! إنني أتحدث عن «البلدية»». - ظننتك تعني ثياب القس التي أرتديها ... - إنهم لم يكتفوا بإرغام الأتراك على دفع نفقة تجديد طلاء الرواق، بل امتد غضبهم من اغتيال «الرجل ذي البغل الصغير» إلى هدم البناء نفسه. - احذر أن يسمعك أحد أيها الثرثار. اصمت بحق الله! هذا ليس مؤكدا ...
وكان لدى مساعد القس المزيد من القول، بيد أن رجلا ضئيل الحجم كان يجري وسط الميدان عاري الرأس، توجه نحوهما وزرع نفسه فيما بينهما وأخذ يغني بأعلى صوته:
أيتها الدمية الصغيرة
أي نحات ماهر صنعك؟
هذا الوجه اللطيف؟
وصاحت امرأة تجري وراءه وهي ترى على وشك الانفجار في البكاء في أية لحظة: «بنيامين»! «بنيامين»!» - إنه ليس «بنيامين» الأراجوز.
لا، ليس هو،
الذي جعل منك شرطيا،
ودمية لطيفة!
وصاحت به المرأة وهي تكاد تبكي الآن: بنيامين! بنيامين! أرجوكما، لا تهتما به، لا تلقيا بالا إليه؛ لقد جن تماما؛ إنه لا يستطيع أن يفهم أن «رواق الرب» لم يعد له وجود الآن!
وبينما كانت زوجة الأراجوز تقدم الاعتذارات عنه لمساعد القس والطالب، هرع السيد «بنيامين» بعيدا كيما يغني أغنيته لشرطي منحرف المزاج:
أيتها الدمية الصغيرة،
أي نحات ماهر صنعك؟
أي صانع أعطاك ...
هذا الوجه اللطيف؟
إنه ليس بنيامين الأراجوز،
لا، ليس هو؛
الذي جعل منك شرطيا،
ودمية لطيفة!
وتضرعت زوجة السيد بنيامين الأراجوز وهي تقف بينه وبين الشرطي: أرجوك ألا تقبض عليه، إنه لا يقصد شرا؛ ألا ترى أنه مجنون؟ إنه مجنون أقول لك، لا تقبض عليه ، كلا، أرجوك ألا تضربه. لقد بلغ به جنونه أنه يقول إنه يرى المدينة كلها ترقد حطاما كالرواق المهدوم!
وكان السجناء لا يزالون سائرين. كيف يكون الحال لو أن المرء كان واحدا منهم وليس مجرد شخص ينظر إليهم وهم يعبرون؟
ووراء موكب الرجال الذين يدفعون عربات يد صغيرة، جاء رجال يحملون معاول ثقيلة فوق أكتافهم كأنها الصليب، ووراءهم أيضا صفان من الرجال يجرون قيودهم بحلبة رنين كالجلاجل.
وتملص السيد «بنيامين» من يدي الشرطي الذي كان يجادل زوجته بحدة متزايدة، وجرى يرحب بالسجناء بأية عبارات بلهاء وردت على ذهنه ساعتها: «انظر ماذا صنع الدهر بك يا «بانشو تونانشو»، وسكينك تلك التي تأكل الجلد وتحب صنع الخروق في حجرة النوم الفلينية! انظر ماذا حل بك الآن يا «لولو كوشولو»، بمنجلك ذي الذيل المروحي! انظر كيف تمشي الآن يا «مكستو ملندريس» بينما أنت معتاد على ركوب الحصان، مياه جديدة لخنجرك، أيها اللوطي الخائن! من رآك ومعك مسدسك حين كان اسمك «دومنغو»، ومن يراك الآن بدونه حزينا كيوم من أيام الأسبوع. لقد نقلت إليهم القمل، فعليها هي أن تفليهم. إن البمبار المغطى بالأسماك لا يمكن أن يصنع يخنة للجنود! أي شخص لا يملك قفلا لإغلاق فمه يحسن به أن يضع في يديه القيود!»
كان صبية الحوانيت عائدين إلى بيوتهم، وعربات الترام مكتظة إلى آخرها. وثمة عربة أجرة، أو عربة، أو دراجة ... دفقة من الحياة لبرهة قصيرة، دامت الوقت الذي استغرقه مساعد القس والطالب في عبور ميدان الكتدرائية، ملجأ الشحاذين ومستودع الملحدين، وتوديع الواحد منهما للآخر أمام باب قصر كبير الأساقفة.
ونظر الطالب باحتقار إلى أطلال الرواق من على جسر من الألواح الخشبية التي نصبت على الحطام. وكانت ثمة نفحة ريح ثلجية قد أثارت سحابة كثيفة من الغبار، كالدخان بلا نار أو بقايا انفجار قصي. وهبت نفحة ريح أخرى فأثارت وابلا من قطع أوراق رسمية، لم تعد لها فائدة الآن ، تمطر على الموضع الذي كان يوما ما غرفة الاجتماعات في البلدية. وتماوجت بقايا اللوحات القماشية المعلقة على الجدران الساقطة، كالرايات في مهب الريح. وفجأة، ظهر ظل الأراجوز يركب مكنسة، منعكسا على صفحة خلفية زرقاء مليئة بالنجوم، وخمسة براكين صغيرة من الحصى والحجارة عند قدميه «طش!» وقفزت الدقات التي تعلن تمام الثامنة مساء في وسط الصمت - «طش! طش!»
ووصل الطالب إلى بيته في نهاية شارع مسدود، وحين فتح الباب، سمع صوت أمه (يقطعه سعال الخدامة إذ هما يستعدان لتلاوة صلاة المساء) تتلو على مسبحتها: «... للمحتضرين وللمسافرين؛ كيما يحل السلام بين الحكام المسيحيين؛ لمن يقاسي من اضطهاد العدالة؛ لأعداء الدين الكاثوليكي؛ لاحتياجات الكنيسة المقدسة المسيحية، ولاحتياجاتنا؛ للأرواح المباركة في المطر القدسي ... ارحمنا يا رب».
صفحة غير معروفة