وعند طلوع الشمس أمرت بعرض الجيش وانتظاري، ثم أرسلت إلى زوجال لكي يبعث إلى القاضي أحمد واد بشير وأيضا التاجر المعروف محمد أحمد، فلما حضرا حادثتهما في الشئون العامة، ثم طلبت منهما أن يحضرا العرض معي داخل القلعة، ثم اتخذت القيادة في العرض وأمرت الجنود بأن يصطفوا في هيئة مربع، ثم امتطيت جوادي ودخلت المربع ومعي الضباط والموظفون ثم قلت: «أيها الجنود، لقد كابدنا المشاق العديدة معا ونزلت بنا الكوارث الفادحة، وما الكوارث إلا محك الرجال، ولقد جاهدتم وقاتلتم ببسالة الأبطال، وليس عندي شك في أنكم ستداومون على ذلك، فإننا نقاتل من أجل مولانا الخديو حاكم البلاد ومن أجل أنفسنا أيضا، ولقد اشتركت معكم في الأفراح والأتراح، وعندما كان يلوح الخطر كنت على الدوام معكم لا أخيم في اللقاء، وإني وإن كنت رئيسا فحياتي ليست أغلى من حياتكم.»
فصاح معظمهم: «الله يخليك».
فاستأنفت قولي: «وقد سمعت أن البعض يعدني أجنبيا غير مؤمن بالإسلام، ولكني أقول لكم إني مؤمن كما أنتم مؤمنون، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.»
وعندما نطقت بهذه الشهادة رفع الجنود بنادقهم ثم هزوا رماحهم وصاحوا بالتهنئة، وتقدم الضباط والموظفون لتهنئتي بالإسلام، ولما عاد النظام قلت إني سأصلي معهم، ثم أمرت فرج أفندي بإعادة الصفوف ثم صرف الجنود.
ولما انتهى كل شيء دعوت زوجال بك والضباط لكي يشربوا القهوة ويتناولوا الغذاء معي، وودعني الجميع وهم يؤكدون لي فرحهم وطاعتهم وأمانتهم، ولما غادروني أمرت فرج أفندي بأن يشتري عشرين ثورا وأن يوزعها بين رجالنا «كرامة»، وأن يعطي لكل ضابط ثورا، ودفعت أنا ثمن هذه الثيران.
وكان الأثر الذي أحدثه عملي في رجالنا أكبر مما انتظرت؛ فلم أعد أرى منهم ذلك الإكراه الذي كنت أراه منهم عندما أطلب منهم الخروج في التجريدات، وإن كان عدونا يزداد كل يوم في العدد والقوة.
وكان التجار الذين كنت أدفع لهم نقودا لكي يرسلوا إلي الأخبار قد أخبروني بأن الجيوش ترسل من القاهرة إلى الخرطوم، وأن الحكومة تتهيأ بسرعة لإرسال تجريدة بقيادة ضباط أوروبيين لاسترجاع كردوفان، أما الأهالي فقد انضموا جميعا بلا استثناء إلى المهدي، وكانوا مصممين على المقاومة.
وكانت جميع القبائل في جنوبي دارفور قد ثارت، ولكن الجزء الشمالي بالنسبة لمراكزنا الحربية وبالنسبة لاتصال قبائله بمصر واستفادتهم من القوافل الصادرة عن مصر إليهم؛ لم تكن قد بدت فيه بعد أمارة للثورة، ولم نجمع بالطبع أية ضرائب منذ وقت طويل؛ ولذلك كنا ندفع مرتبات جنودنا من المال الاحتياطي.
وبدأت انتصارات المهدي المتوالية تظهر أثرها في زوجال بك، ولاحظت تغيرا في سلوكه وإن كان على الدوام يراعي إظهار الولاء والطاعة، وقد وضح لي أنه في قلبه يحب الفوز للمهدي ابن عمه؛ لأنه كان يعرف أنه في مثل هذه الحالة سيعود فوز المهدي عليه بأكبر المنافع، وكان محبوبا لدى مرءوسيه، وكان بالنسبة إلى أهالي السودان يعتبر حاصلا على قسط من التربية والتعليم، وكان يخدم الناس ما دامت هذه الخدمة لا تمس جيبه، وكان يشاع عنه أنه سخي، وكان ثريا له منزل كبير ومائدة مبسوطة، وأظن أن سبب حب مرءوسيه له أنه كان يغتفر لهم ذنوبهم ويسمح لهم بملء جيوبهم بطرق خفية غير مشروعة، وقد توصل أكثر قرابته بواسطة نفوذه إلى الحصول على مناصب حسنة وصاروا بذلك أثرياء، وعلى ذلك رأيتني مضطرا إلى أن أحتاط له، فإن حب الجمهور له وموافقته على آرائي وإطاعته أوامري جعلتني أكره وجود شقاق صريح بيني وبينه، ومثل هذا الشقاق لو حدث كان يؤدي إلى نقض سلطتي، وعلى ذلك اضطررت وقتيا إلى أن أتركه وشأنه، والمثل السوداني يقول: «ابعد النار عن القطن وأنت ترتاح.» وكان هذا المثل ينطبق على حالتنا؛ ولذلك لزمته.
ثم طلبت فرج أفندي وواد عاصي وقاضي البشير، وكانوا كلهم يوالون الحكومة ويرجون بقلوبهم نجاحها، فأفضيت إليهم بالخطة التي انتويتها فأجمعوا على الموافقة، ولما خرجوا استدعيت زوجال بك وقلت له: «اسمع يا زوجال، أنت معي هنا ولا يشهدنا نحن الاثنين إلا الله، فابن عمك المهدي قد فتح كردوفان وقد سقطت الأبيض وانضم إليه جميع الأهالي، والبلاد التي بيننا وبين حكومتنا واقعة تحت يديه، وقد مال قلبك إليه عندما رأيت نجاحه، فهل نسيت كل ما صنعته لك الحكومة؟ وهل نسيت الوسام والرتبة اللذين منحكهما الخديو بوساطة حكومة السودان؟ وهل يمكنك أن تنسى واجباتك المكلف بها بحكم منصبك؟»
صفحة غير معروفة