وأرسلت الحكومة تجريدة بقيادة علي بك لطفي لرفع الحصار عن بارة والأبيض، ولكن بينما كان الجنود يسيرون وقد بلغ بهم العطش أغار عليهم عرب الجوامة يقودهم فقي رحمة، وكان عدد الجنود ألفين، ولم ينج منهم سوى مائتين تمكنوا من الوصول إلى بارة، وبعد ذلك هوجمت بارة وكانت بها حامية صغيرة فصمدت وقاومت مدة، ولكنها اضطرت في نهاية سبتمبر إلى التسليم.
وسقطت بارة بعد حصار طويل منظم، وكانت الحامية قد أوقعت بالمحاصرين وكلفتهم خسارة جمة، ولكن شبت نار في مخازن الحبوب ثم فعل الجوع والمرض أفاعيلهما، ولم يكن هناك أمل في المعونة فطلبت جنود الحامية من مسرور أفندي الحكمدار ونور أنجرة ومحمد أغا جابو أن يسلموا، فسلموا المدينة في يناير سنة 1388 لعبد الرحمن واد النجومي الذي ساقهم إلى جانزارة.
واحتفل المهدي بسقوط بارة فأطلق مائة مدفع، وسمعت الحامية في الأبيض إطلاق النار فظنت أن الحكومة أرسلت جيشا لرفع الحصار، ولكن عندما عرف الجنود الحقيقة وأن بارة قد سقطت تراخت عزائمهم وفت في أعضادهم؛ فقد مضت عليهم أشهر وهم يعانون فتك الجوع؛ فقد ارتفعت أسعار الأقوات بحيث إن ثمن الدخن كان قبل تسليم المدينة بشهر قد بلغ أربعمائة ريال للأردب، وثمن الجمل 1500 ريال، وثمن الفروج 30 أو 40 ريالا، وثمن البيضة ريالا أو ريالا ونصفا، ولست أحتاج إلى وصف هذه الحالة؛ فقد أغناني عن ذلك أخواي في الأسر الأب أوهروالدر والأب وسنيولي، اللذان وصفا فظائع هذه الأيام فلن أعيد ما قالاه، إنما يكفي أن أقول إنه بعد حصار دام خمسة أشهر ذاق فيه المحصورون أنواع الحرمان ومات فيه عدد عظيم من الأهالي ومن الحامية جوعا، اضطر محمد باشا سعيد إلى التسليم، وكان يرغب في إحراق مخازن البارود، ولكن الضباط رجوه ألا يفعل ذلك؛ ضنا بحياة زوجاتهم وأولادهم، فكتب إلى المهدي يقول إنه مستعد لتسليم المدينة، فأجاب المهدي بأنه لا خوف عليه هو وسائر الضباط، وفي صباح اليوم التالي أرسل وفدا مؤلفا من التجار برياسة محمد واد عريف إلى سعيد باشا؛ يطلب منه ومن كبار الضباط أن يحضروا لديه.
وقد أحضر الوفد معه أكسية من المرقعات وهي لباس الدراويش المؤلف من رقع مختلفة لكي يلبسها سعيد باشا وضباطه، فلبسوها وركبوا جميعهم الخيول وساروا والحزن مخيم على وجوههم، وغادروا تلك القلعة التي دافعوا عنها دفاع الأبطال. وكان مع سعيد باشا محمد بك إسكندر الحكمدار ونسيم أفندي وأحمد بك ضيف الله ومحمد بك يس وعدة ضباط آخرين.
واستقبلهم المهدي وهو قاعد على عنجريب قد فرش بجلد جدي وبسط يده لهم لكي يقبلوها وعفا عنهم، وقال لهم إنه يعرف أنهم لم يقاوموه إلا لأنهم كانوا مخدوعين لا يعرفون أنه المهدي الذي جاء يؤدي رسالة إلهية، وهو يعفو عنهم الآن ويطلب منهم أن يقسموا له يمين الولاء ويطيعوه في جهاده، ولما انتهى من ذلك أعطاهم ماء وبلحا وحضهم على الزهد في الدنيا والإقبال على الآخرة، ثم التفت إلى سعيد باشا وقال: «لست ألومك باعتبارك تركيا لدفاعك عن المدينة، ولكنك لم تحسن في قتل الرسل؛ لأن الرسول لا يقتل.»
وقبل أن يجيب سعيد باشا أسرع إسكندر بك وقال: «مولاي المهدي، إن سعيد لم يأمر بقتل الرسل ولكني أنا الذي فعلت ذلك بصفتي حكمدارا للقلعة؛ وذلك لأني اعتبرتهم ثائرين، وإني أقر بأني لم أحسن في عملي هذا كما قلت.»
فقال المهدي: «لم أقصد بكلامي إلى أن تبرر عملك، فإن الرسل قد نالوا كل ما كانوا يرغبون فيه، فإنهم لما أخذوا الخطابات مني كانوا يرغبون في الاستشهاد وقد تحققت رغبتهم، وقد أنعم الله عليهم بالنعيم، ولعل الله يمنحنا ما نالوه.»
وفي أثناء المحادثة كان أبو النجا ورجاله قد احتلوا القلعة بتدبير سابق واحتلوا أيضا مباني الحكومة ومخزن البارود، أما الأمراء فقد احتلوا مساكن الضباط، وأمر المهدي واد العريف - وكان صديقا سابقا لسعيد باشا - بأن يأخذه هو والضباط إلى منازلهم، ولكنهم عندما بلغوها علموا أن الأمراء قد احتلوها وأن أملاكهم قد صودرت، وبعد قليل دخل المهدي المدينة وأمر بخروج الحامية من الخنادق، أما النساء والأولاد الذين كانوا ينتظرون إسعافهم فقد أمروا بأن يخرجوا من المدينة ويذهبوا إلى معسكر المهدي وألا يأخذوا شيئا معهم، وفتشت النساء تفتيشا يثير النفس؛ إذ كن يعرين من ملابسهن! وكل ما وجد معهن أرسل إلى بيت المال؛ حيث وزعت الأموال بين الأمراء وسائر الأعيان، وكانت مناظر التفتيش تؤلم النفس؛ فإن جنود المهدي كانوا في طلب الذهب يجلدون الأهالي لكي يعترفوا بما عندهم!
وطلب أمير بيت المال أحمد واد سليمان سعيد باشا لكي يسلمه ما عنده من الأموال، فأجاب سعيد باشا بأنه لا يملك شيئا، وكان المشهور أنه رجل غني ولكنه أنكر وكابر، وبلغ إنكاره المهدي فاستدعى واد سليمان وطلب منه أن يبحث مع خدم سعيد باشا، ثم طلب هو سعيد باشا وأخذ يحادثه عن الدين، وكان كثيرا ما يسأله أمام المجتمعين من الناس لماذا لا يدلهم على خزانته التي يحفظ فيها أمواله، وكان سعيد باشا ينكر ويلح في الإنكار ويقول إنه لا يملك شيئا، ومضي وقت ثم جاء واد سليمان الذي كان قد نجح في أن يحمل إحدى الخادمات على أن تعترف بالمكان الذي خبأ فيه مولاها أمواله، وأسر إلى المهدي حتى لا يسمع الناس بأنه وجد الأموال مخبوءة في حائط!
أما المهدي فأشار عليه بالجلوس ثم أخذ يعظ الجموع أمامه عن غرور الدنيا وضرورة الزهد، ثم التفت فجأة إلى سعيد باشا وقال: «لقد حلفت يمين الولاء فلم تخفي أمر أموالك؟ المال أصل البلاء فهل تنتظر أن تجمع أكثر مما جمعت؟»
صفحة غير معروفة