السيف والنار في السودان

سلاطين باشا ت. 1351 هجري
168

السيف والنار في السودان

تصانيف

جاء لي هذان الرجلان عصرا وذكرا لي المخاطر التي تتهددهما بغيابهما أياما كثيرة عن قبيلتهما. وبما أنه أصبح من المؤكد جدا وقوف الخليفة على خبر فراري وعلى قسم من الطريق التي اجتزتها، لم يكن لدي شك في أنه سيستجوب الكثيرين ممن يرتاب في مساعدتهم لي في الفرار، خصوصا من قبيلة أولئك الجدد؛ لانتمائها في الصداقة إلى الحكومة المصرية؛ وإذن ليس الخطر واقعا على هذين الرجلين فحسب، بل على صديقي المخلص أحمد عبد الله أيضا. وأخيرا اتفق رأيهما على الذهاب إلى شخص يعرفه كلاهما، وبواسطة هذا الشخص أتابع رحلتي بأمان.

تأكدت بعد ذلك أن الخير في رجوع هذين الرجلين؛ لأن بقاءهما معي مضطرين خائفين - فضلا عن عدم إخلاصهما الشديد في مهمتهما - قد يعرضني لخطر جسيم؛ وإذن قبلت بسرور طلب الرجلين. وإني لا أخفي عن القراء حقيقة كراهتي الشديدة لهما؛ لأنهما كانا مجردين عن الإخلاص غير مباليين بما قد يصيبني من شر ما داما واثقين من نجاتهما وحدهما؛ إزاء ذلك طلبت منهما الإسراع في الذهاب إلى المكان الجديد حتى يرجعا إلى قبيلتهما. ولا غرابة بعد ذلك أن يكون ابتعادهما عني فوزا جديدا لي ومصدر راحة تامة وهدوء فكري.

عند غروب الشمس حضر الرجل الجديد، وهو من قبيلة عرب أمرات، واسمه حامد جرهوش البالغ من العمر حوالي خمسين عاما. وعندما حياني حامد هذا قال لي: «يسعى كل رجل إلى مصلحته الخاصة، فمرشداك - إبراهيم ويعقوب اللذان أعرفهما معرفة تامة - يرغبان في أن أدلك على الطريق من مكاننا هذا إلى أسوان. وتأكد أني مستعد للقيام بذلك، ولكني أريد الوقوف على ما سأحصل عليه إزاء هذا العمل الشاق.» فأجبته على الفور: «سأعطيك يوم وصولنا إلى أسوان مائة وعشرين ريالا من عملة مارية تريزة ، علاوة على هدية خاصة أقدمها تبعا لما تقوم لي به في هذه الرحلة الجديدة.»

قدم لي حامد بعد ذلك يده وقال لي: «إني مرتاح إلى ذلك وأتقبل المهمة؛ فإن الله ونبينا شاهدان على صدق ما أقول. وأما عن وعدك، فإني أعرف عنصرك وأثق أن الرجل الأبيض لا يكذب، وإذن سأسير بك إلى عشيرتك في طرق جبلية غير مطروقة بأقدام الآدميين، ولا يعرفها من مخلوقات الله سوى الطير الذي يحلق في المعمور دون أن ينقل أسرار الناس إلى الناس، فاستعد للرحيل لأنا سنواصل عملنا بإذن الله بعد غروب الشمس.»

اخترت أقوى الجمال الثلاثة لمواصلة الرحلة، وأخذت قربتين مملوءتين بالماء والقسم الأكبر من البلح وكمية من الذرة، وعندما خيم الليل وصل حامد إلى المكان المعد لابتداء السفر، أما ابن حامد فسار راكبا الجمل الوحيد الذي يملكه للبحث عن غلال في روباطاب القريبة من النهر. وتبعا لذلك اضطر حامد لمرافقة ابنه سائرا على قدميه، ولم يساعده على عمله الشاق هذا سوى إرادته الصادقة وقدميه القويتين. أما إبراهيم ويعقوب فعادا إلى قبيلتهما، وبطبيعة الحال لم أودعهما وداع الحزن، ولم أذكر لهما في معرض الشكر سوى كلمات قلائل؛ لأني أكرر ما قلته قبلا عن سروري العظيم لابتعادهما عني.

بعد أن واصلنا سيرنا يومين اجتزنا في أثنائهما تلالا صخرية، وصلنا في صباح الأحد إلى بئر صغيرة تكاد تكون خالية من الماء، واسمها «شوف العين». وعلى الرغم من ظهور ابتعاد القادمين إليها، بقيت تبعا لرغبة مرشدي في مكان يبعد ساعة عن هذه النقطة.

كان طعامنا عبارة عن التمر وكمية من الخبز صنعناها بأيدينا، وأقصد بذلك أن هذا الخبز كان لوقايتنا من الهلاك جوعا؛ فإن أي مخبز أوروبي يعرض للخطر العام إذا وجد بين جدرانه رغيف من الأرغفة التي نعملها؛ لأنها في مجموعها كريهة في منظرها وطعمها؛ فطريقة صنع الخبز التي قام بها مرشدي هي جمع كمية من الحجارة حجم كل واحدة منها لا يزيد عن حجم بيضة الفرخة، وبعد تكوينها يضع عليها أفرادا صغيرة من الخشب، ثم يعجن الذرة في الماء ويضع في آنية خشبة، ثم يشعل النار في الحطب والحجارة الصغيرة بواسطة حك الصوفان على حجر الصوان.

بعد اشتعال النار في الحطب ينزع حامد الجمر من الحجارة الملتهبة ليضع عليه العجين، وبعد ذلك يرد الجمر إلى الحجارة، وبعد أن ينتهي من ذلك التقليب الناري يضرب العجين بالعصا الصغيرة حتى يزيل ما فيه من الرماد وآثار الحجارة الصغيرة.

هذا هو الخبز الذي نأكله، فإن لم نكن مدفوعين إلى أكله بلذة النظر إليه، فليس أقل من أن يدفعنا إلى تناوله جوعنا الشديد.

بعد أن ارتحنا قليلا على مقربة من البئر، واصلنا السير بضع ساعات، حتى انتهينا إلى المنحدرات الأولى لجبال عتابي الممتدة بين البحر الأحمر ونهر النيل، والتي يسكنها في ناحيتها الجنوبية عرب بشارن وأمران، وفي ناحيتها الشمالية قبيلة العبابدة.

صفحة غير معروفة