السيف والنار في السودان

سلاطين باشا ت. 1351 هجري
166

السيف والنار في السودان

تصانيف

التفت إلي أحمد واد عبد الله بعد ذلك قائلا: «اتبعني». وحمل أحمد سرجا وحمل الرجل الرابع سرجا آخر، ثم سارا فتبعتهما، وبعد بضع دقائق وصلنا إلى شاطئ نهر النيل المقدس، حيث وجدنا في ركن صغير قاربا صغيرا يكفي بالجهد لحملنا، وقد صنع أصدقائي الجدد هذا القارب بأيديهم.

نزلنا إلى حافة النهر وركبنا القارب الصغير الذي أقلع بنا إلى حيث يريد بنا الله، وقد استغرقت عملية عبور المجرى أكثر من ساعة، وعندما وصل إلى الشاطئ الثاني صعدنا إلى الأرض، ورجع أحد الرفاق بالقارب الصغير، ثم صنع في قاع «القارب» ثقبا واسعا فغرق «القارب»؛ والغرض من ذلك هو إخفاء كل أثر لعبورنا النهر.

أما نحن فسرنا على الناحية البرية ما يقرب من نصف ساعة، وعندما وصلنا إلى بقعة خاصة طلب مني أحمد عبد الله انتظاره؛ لأنه ذهب لإحضار طبق مملوء باللبن ومقدار من الخبز.

قال لي أحمد بعد عودته بالطعام: «كل واشرب ولا تفكر في شيء؛ فقد اجتزنا الخطر. وأقسم لك بالله وبنبينا أنك ناج، وأن الله سيمتعك بملاقاة أحبائك جميعا. كنت عازما ومفكرا أن تتم رحلتك الليلة، ولكن أرى الوقت متأخرا جدا، فالخير في بقائك هنا إلى مساء الغد، وعلاوة على ذلك فإنا مضطرون إلى أن نسقي الجمال غدا. وبما أنا قريبان هنا من مساكن الناس، فسيسير بك ابن أختي «إبراهيم علي» إلى مكان بعيد نوعا لا تصل إليك فيه عيون الرقباء، فانتظرني هناك وسأحضر لك دابة تركبها. أما إذا كنت شاعرا بالقوة على قطع المسافة على قدميك، فإني أستغني عن إحضار الدابة.» فأجبته على الفور: «إني قوي ولا ريب في أني قادر على المشي فأين إبراهيم علي؟»

أجابني أحمد: «هو إلى جوارنا، وسيكون مرشدك في الصحراء المقفرة.»

كنا حقا في ليلة مظلمة يزيدها ظلاما ما في مخيلتي من وساوس أصرح بأنها ليست مرعبة كما كانت الحال قبل اجتياز النهر، والآن فلنترك الوساوس لنرجع إلى ما حدث في الرحلة، فأقول إن إبراهيم ذهب أولا بقربة فارغة في يده سائرا في طريق القوافل الموازية للنهر إلى أبي حمد، وقد تبعت صاحبي الجديد هذا. وبعد أن سرنا ما يقرب من ثلاثة أميال إنجليزية، نزل إبراهيم إلى النهر وملأ القربة، ثم غير خط السير بعد ذلك متجها إلى الطريق البرية، أما السير فكان شاقا جدا؛ لأن الحجارة الضخمة التي غطت التلال وقامت حواليها عاقت سيرنا السريع. أما عن شخصي، فكنت كاليائس في سيره أتخبط مرة نحو اليمين في ذلك الحجر وأتسكع أخرى نحو اليسار في ذلك التل، كأنما أنا في أقبح حالات السكر، وما زلنا في حالنا هذه حتى وصلنا إلى حفرة في الأرض، فأمرني إبراهيم بالوقوف عندها؛ حيث قال لي بعد صمته الطويل: «هذه هي البقعة التي عينها لي خالي، فانتظر هنا هادئا، وفي مساء الغد سأحضر الجملين لمواصلة الرحلة، وسأترك لك الخبز والماء، فأودعك الآن؛ لأني مضطر إلى القيام بجميع معداتنا، وأرجو أن ألقاك في خير غدا.» إذن بقيت وحدي مرة أخرى لا يرافقني سوى ضوء الشمس واختلاف الأفكار، ولكني على أية حال كنت محتملا ولم يكن الليل بساعاته القليلة الباقية وصباح اليوم التالي بالشيء الكثير غير المحتمل؛ لأني نجوت من الخطر بعد عبور النهر، واقتربت من الوصول إلى أحبائي ووطني. غربت شمس يومنا الجديد، وبعد غروبها بساعة سمعت صوت سير حيوانات مسرعة نحوي فنظرت بدقة، وإذا بي أجد أحمد عبد الله وفي صحبته رجلان على حمارين. أقبل أحمد مسرعا نحوي وضمني إلى صدره مبتسما، ثم قال: «الشكر لله الذي نجاك وينجيك، وأما الرجلان اللذان معي فهما شقيقاي، وقد حضرا معي ليسألا لك السلامة.»

حييت الرجلين الجديدين تحية إخلاص، ثم أدرت وجهي إلى أحمد وقلت له: «ولكني لا أفهم حقيقة ما جرى، وأدرك من شكركم المتكرر لله أني نجوت من خطر عظيم.» فأجابني أحمد: «بالطبع لم تعرف ما تم، ولم تسمع عن الخطر العظيم الذي نجوت منه بأعجوبة، فأصغ إلي أحدثك مليا! منذ ثلاثة أيام علم زكي عثمان أمير بربر - ولا نعرف المصدر الذي علم منه - أن الحامية المصرية في مورات حصلت على إمدادات جديدة كبيرة الأهمية وعظيمة الأثر رغبة في مهاجمة القوة المهدية في أبي حمد، فاضطر زكي عثمان إلى إرسال مدد يدفع غارات المصريين. وبالفعل قام اليوم من بربر ستون فارسا وثلاثمائة بيادة ومروا بمساكننا، ولا شك أنك تعرف المحاربين، إنهم يسمون الأنصار، وهم في مجموعهم ضخام الأجسام، مفترسون، أقرب إلى الوحوش - في الفتك بالناس - منهم إلى الآدميين.

أثناء مرور أولئك كنا نجهز لك قسما من خروف ذبحناه ليكون زادا لك في الطريق، فدهش الجنود عندما رأوا ما نقوم بتجهيزه، وبعد أن ارتابوا في عملنا تفرقوا ونهبوا ما نهبوا، وقد كنت حقا شديد الحذر من ناحيتهم وشديد الخوف على ما قد ينتابك من عسفهم إذا صادفوك في طريقهم، ولكني أحمد الله الآن؛ لأنهم اجتازوا الطريق إلى أبي حمد، ولتصحبهم لعنة الله وليصحبنا نصره وعونه، فلجلاله الشكر الدائم إزاء حمايته لنا.»

صحت بعد ذلك فترة هي فترة الذهول بعد نجاتي من ذلك الهول المروع، ثم سجدت في خشوع كامل للخالق الصمد الذي نجاني من ذلك الخطر العظيم بعد إذ لم نكن نتوقعه.

علمت بعد ذلك أن الجنرال كتشنر باشا رئيس أركان حرب الجيش المصري وصل إلى وادي حلفا للقيام بالمناورات المعتادة، وأن الضابط ماتشل بك قاد الأورطة السودانية الثانية عشرة ومائتين من الهجانة إلى حلفا من كورسكو عن طريق مورات، وهذا سبب الإشاعة عن تقوية حامية مورات وعن الهجوم المزعوم على أبي حمد.

صفحة غير معروفة