عند ذلك الصوت وقفت فوجدت إلى جانب محمد الهادئ الصامت حمارا معدا لركوبي، فامتطيت الدابة وأسرعت في مسيري الخطير في ذلك الليل البهيم. ومن أحسن ما أذكره من دلائل توفيقي في هروبي الأخير، أن الريح الباردة الشمالية اشتدت إلى حد اضطر معه كل الآدميين إلى الانزواء في بيوتهم الصغيرة اتقاء خطر البرودة القارصة.
سرنا في طريقنا (أنا ومحمد) فلم نصادف من الناس أحدا حتى وصلنا إلى الطرف الأخير من أم درمان، وفي قسم من ذلك الطرف وجدنا بيتا صغيرا مخربا قائما على زاوية من الطريق الشمالية، ومن تلك الدار الصغيرة خرج رجل عربي ومن ورائه جمل معد للسفر، لم تكد تقع عينا الرجل علي حتى بادرني بقوله: «سيعينك ذلك الجمل في رحلتك وسأرشدك في الطريق إلى مصر.»
قال لي محمد بعد ذلك: «اسم هذا الدليل زكي بلال، وسيسير معك أولا إلى الجمال المعدة لاجتياز الصحراء بالراكبين في بقعة خاصة، فأسرع تلق النجاة، وإني شخصيا أتمنى لك سفرا سعيدا، وأسأل لك من الله الوقاية والأمن.» ذكر زكي بضع كلمات للجمل دعته (الجمل) إلى البروك على الأرض، فامتطى «زكي» صهوته ودعاني إلى الجلوس على جزء من السرج وراءه مباشرة لعدم وجود جملين في تلك اللحظة. وبعد ساعة من رحلتنا وصلنا إلى بقعة اختبأ فيها بعض الجمال تحت الأشجار الصغيرة، وعلى أية حال كان كل شيء على استعداد تام، وكنت أنا شخصيا خاضعا لأي أمر يصدر لي من زكي؛ مرشدي في تلك السبيل الخطيرة، وإذن سمعت كلامه عندما أشار علي بركوب جمل خاص.
قلت لزكي قبل متابعة رحلتنا: «هل أعطاك محمد الدواء؟» فأجابني «زكي»: «لم أستلم شيئا، وأي دواء تعني؟» فأجبته بأن الدواء الذي أعنيه هو ما يسمونه أقراص الأثير، التي تمكن المسافر من مطاردة النوم وتمنحه قوة على مواصلة السفر الطويل الشاق.
ضحك زكي بعد ذلك وقال لي: «النوم! النوم! لا تفكر في هذا الموضوع؛ فإن النوم لا يجد إلى عيني سبيلا، وإن الله من فوقنا رحيم قدير يمكننا من مطاردة النوم دون الاستعانة بدواء إنساني.»
لم أجد جوابا على ذلك سوى قولي: «لقد أصبت أيها الصديق كبد الصواب، وإني مشترك معك في الدعاء إلى الله بمد العون الأعلى.»
واصلنا السير في طريق شمالية، وقد كان من الممكن أن تسرع بنا الجمال في طريقنا، إلا أن أمرين حالا دون ذلك؛ هما: شدة ما في الليل من حلوكة وبرودة من ناحية، وانتشار أعشاب الحلفا وشجر الميموسا في طريقنا من الناحية الأخرى. وعلى أية حال لم يقف بنا جملانا طول الليل، وظللنا ندعو الله أن يمن علينا بالسلامة حتى أشرق نور الصباح البهيج، فوجدنا أننا (أنا وزكي) عند أول وادي بشرة؛ حيث يجد المسافر واديا ممتدا إلى ما لا يقل عرضه عن ثلاثة أميال، وتلك الناحية مزروعة ببذور الدخنة من فصل الشتاء؛ حيث يجد أفراد قبيلة الجعليين الساكنون على شاطئ النيل ريا كافيا من مطر السماء.
انضم إلينا بعد أن غادرنا طرف أم درمان الشرقي قائد آخر صغير السن اسمه حامد بن حسين. وإذن وصلت إلى وادي بشرة، فتمكنت من ضوء الصباح من مشاهدة زكي بلال؛ فإذا به شاب صغير السن مسترسل اللحية، وإلى جواره حامد بن حسين وهو شاب في مقتبل العمر. عندما وقفت الجمال الثلاثة صباحا سألت الرجلين قائلا: «من أية قبيلة أنتما؟»
فأجابا متضامنين: «نحن من جبال جيليف أيها السيد، ولتكن واثقا أن إرادة الله وحدها هي التي تساعدنا على ارتياحك إلينا.»
طال الحديث بيننا نحن الثلاثة بعد أن اطمأننت إلى ذينك الرفيقين، وانتهز أكبر المرشدين سنا ما لقيه في من صراحة وبساطة، فقال لي: «إلى أي مدى بعدنا عن أعدائنا؟ وبعد كم من الزمن نصل إلى الجهة التي يضل فيها أعداؤنا عن الوصول إلينا؟»
صفحة غير معروفة