بقيت طيلة الليل أفكر في غبائي وتسرعي، ثم أرسلت له رسالة حددت له مطعما صغيرا في بلدتي وذلك عند الساعة السادسة مساء، ولم أحدد لنفسي ماذا أود أن أقول له.
ذهبت إلى الموعد بهيئتي المعتادة، لم أبالغ بشيء، فأنا لست في موعد غرامي أو ما شابه ذلك. أنا سأذهب لسبب أجهله، ربما أود أن أحدثه عما يدور في ذهني. وصلت فرأيته جالسا على إحدى الطاولات، تلك الطاولة تم تزيينها بالورود، لا بد أنه قد طلب من صاحب المطعم أن يجهز الورود. شكرته وجلست، ولم أبالغ في مدح ما فعل، مع أن قلبي طار من فرحته. كم هو جميل أن يهتم أحدهم بتفاصيل صغيرة فقط لأجلك! لكن في الوقت نفسه لم أستطع ألا أعبر له عن مدى حبي للورود. فأنا حقا أحب الورود بشكل كبير، ثم بدأت حديثي معه: هيروكي، أنا أشعر بحيرة شديدة، أرجوك، لا أريد أن تسيء فهم موعد اليوم، لا أريد أن أتلاعب بمشاعرك، أنا لست هنا لأخبرك أن هناك أملا لعلاقتنا، لست هنا لأخبرك أنني سأفكر أو أوافق، أنا هنا فقط لأحكي لك عما في داخلي، أشعر بالاختناق! - ساي! لا تقلقي، أخبريني ما بك؟ - لا أعلم ماذا علي أن أفعل، أشعر بالاضطراب والخوف من أن أنجرف بسعادتي حيال مشاعرك، أنا لست مرتاحة لفرحتي بأن أراك، أن أقرأ رسائلك، أن أسمع كلماتك. لم تفعل هذا هيروكي؟ لقد كنت مرتاحة لمدة عشر سنوات، كنت أعيش بهدوء وسلام.
قاطعني وهو يضحك بصوت منخفض، وقال لي: لومي نفسك أولا قبل أن تلوميني، أنا كنت أعيش في هدوء لخمسين عاما، ثم جئت واستطعت أن تستحوذي على تفكيري، وقلبي، ومشاعري. إذن من عليه أن يلوم الآخر؟ ساي! أرجوك لا تنظري للأمر على هذا النحو، ما علاقة تلك السنين بارتباط جديد؟ - أنا حقا لست مستعدة لأي شيء، ليست المشكلة في مشاعرك فحسب، أود أن أتأكد إن كان قلبي مستعدا لخوض تجربة جديدة، تجربة قد تحمل السعادة له أو التعاسة، فكلا الاحتمالين وارد، أنا لا أعلم كيف سأتصرف حيال الأمر. - أتودين نصيحتي؟ - نعم أرجوك. - على الأقل، عودي إلى المركز، دعينا نتقابل بشكل أكبر، حينها على الأقل تستطيعين تقدير الأمور بناء على حقائق وليس على تخيلات ورسائل عن بعد.
أعجبتني فكرة هيروكي، هو محق، كيف سأتخذ أي قرار سواء بالنفي أو بالإيجاب إن كنا لا نرى بعضنا؛ لذا قررت أن أعود إلى المركز، وحين عدت عرفت تماما، كيف يولد الحب! لم يكن إدراكي لحقيقة مشاعري سريعا، بل أخذ الأمر مني عدة شهور إلى أن اكتشفت حقيقة مشاعري تجاه هيروكي. في الأسابيع الأولى بت أراقب تحركاته، أراقب كل ما يثبت لي أنه ينظر اتجاهي، يفكر بي، يود أن يرضيني، يتحايل لمحادثتي. كل تلك الأمور كانت ترضي الأنثى التي في داخلي. في المركز عدت كما أنا ساي الشقية، العفوية، ذات الصوت العالي والضحكة التي لا تتوقف. وهو يراقبني، يراقب كل تحركاتي وأرى عينيه كم ترسل كلمات حب لي. في المقابل، منذ أن رجعت إلى المركز لم يرسل لي أي رسالة خاصة ولم يتحدث معي فيما يتعلق بنا أبدا، أعلم أنه لا يود إزعاجي، ويريدني أن أعيد ثقتي بنفسي، وأن أبني ثقتي به بهدوء وبشكل تدريجي، وهذا ما حدث، بدأت أشتاق إليه أكثر فأكثر، أفكر فيه طيلة الوقت، وأحب رؤيته. أما المكتبة، فكانت ملاذي الآمن، كي أراه وهو مبتسم، لم نكن نتحدث كثيرا في المكتبة، فلم تعد كما كانت من قبل، فقد صار الطلاب يترددون عليها صباحا ومساء وفي أيام العطل، وفي وجود الطلاب لا فرصة لي حتى أن أجلس في مكان قريب منه، فمن عادة الطلاب أن يتقربوا منه كثيرا وينتهزوا الفرصة لرؤية ما يقرؤه، وما يفعله، وما يقوله. هيروكي يمثل قدوة مثالية لهم، هم يحبونه كثيرا، وعلاقتهم به ليست علاقة مدير بموظفيه، بل علاقة معلم حنون، لم أشعر أبدا أن ذلك يزعجني، على العكس، كان يعطيني شعورا جميلا وأنا أرى الجميع ملتفين حوله، ونظرات الود والاحترام والمحبة كانت نابعة من قلوبهم جميعا تجاهه. كل ذلك كان رائعا وكان يزيد من مشاعر الأمان لدي لكن ليس حينما أرى نظرات واضحة من الحب من امرأة تجاهه!
الدكتورة بريجيت، دكتورة في علم الاقتصاد، التحقت بالعمل هنا منذ عدة أشهر أي في أثناء غيابي. لم أكن قد تنبهت لوجودها إلا عندما أصبحت تبالغ بوجودها معه في كل الأماكن: في المكتبة، وفي مكتبه، وفي المطعم، وفي الحديقة، وفي ساعات الفراغ، لم تكن نظرات تلك المرأة نظرات إعجاب واحترام وتقدير وحسب، بل تجاوزت ذلك. إنها جريئة جدا، لا تهتم أن تلتصق به حيثما يكون متذرعة بعملها وأبحاثها. لا أعلم مدى أهمية أن يتابع معها كل تفاصيل بحثها. أفكر بتلك الرسالة التي أنبني بها حينما أرسلت له تفاصيل ورقتي البحثية، ثم أراها وهي تستشيره في كل صغيرة وكبيرة فيزداد غيظي. أنا ساي لا يسمح لي أن أشاركه أمور البحوث وهي تستطيع! أنا التي يحبها وينتظر جوابها لطلبه منذ أكثر من ستة شهور، وهي تسمح لنفسها أن تقتحم عليه حياته في كل لحظة من أجل ذلك البحث المشئوم! من تظن نفسها؟ ثم لا أفهم لم لا يخبرها أنه مشغول ولا يتدخل بكل تفاصيل العمل ومراحله؟ هنا بدأت الوساوس تصل إلى قلبي، فعلا لم لا يضع لها حدا كما كان يفعل مع كل الموظفين؟ هل تعجبه نظراتها وملاحقتها له؟ طبعا فقد فتح قلبه للحب وبات يستسيغه، فما المانع أن يتناسى مشاعره الحقيقية التي هي أصلا لي ويغطيها بمشاعر لتلك المرأة؟ كم أشعر بالغيظ! كما لو أن أحدهم يسرق أشياء هي من حقي وملكي أنا! اهتمامه ووقته ليس من حقها! كيف ستفهم ذلك! بقيت أراقبهما معا وبدأت النيران تشتعل في قلبي، ماذا لو أحبها بالفعل؟ نعم، فهو لم يعد يحدثني بموضوعنا بتاتا! أهذا جزائي لأني أتحت له المجال وصارحته بحيرتي؟ أهكذا هم الرجال، حين يشعر أن المرأة ستصبح ملكا له، يسأم منها؟ أكان شعوره ضحلا إلى هذه الدرجة؟ بدأ الحزن يتسلل إلى قلبي مرة أخرى، هذا تماما ما كنت أخشاه، أن أفتح قلبي مجددا للحب وأن يخذل ذاك القلب! لم فعلت هذا بنفسي؟ كم أنا ضعيفة! حمقاء وغبية! كيف سأعود مجددا فارغة القلب، كيف سأرتاح من غير التفكير بمشاعري الغبية تلك؟ علي أن أسيطر على مشاعري قدر الإمكان. كنت أحاول جاهدة ألا أدخل بدوامة الحزن والألم، لكن مهما حاولت السيطرة على نفسي، فأنا لا أستطع أن أكون لطيفة معه أبدا، بدأت أعامله بطريقة غليظة، أتحدث معه بأسلوب جاف هذا إن تحدثت. كنت أراه وهو مستغرب مني، وكنت أدعه في حيرته تلك، أريده أن يشعر بتأنيب الضمير نتيجة تصرفاته تلك، كنت أعلم بداخلي أني أتوهم كثيرا لكن لا شيء كان يثبت لي العكس. فما زالت نظرات الدكتورة بريجيت له واضحة جدا، وهو إلى الآن لم يوقفها عند حدها، كما لم يعد يريد الحديث معي أو سؤالي عن أخباري، أو عن وضعي، ولم أتعامل معه بتلك الطريقة؟ مضت عدة أسابيع على هذه الحال، وأنا لم أعد أحتمل بريجيت تلك إطلاقا.
هيروكي
منذ أن عادت ساي إلى المركز، عادت الألوان إلى حياتي، ألوان تفوق ألوان الطيف كلها. عاهدت نفسي ألا أفاتحها بالموضوع أبدا، فأنا أخشى أن تترك المركز مجددا، وهذا ما لن يحتمله قلبي من الآن فصاعدا.
في الأسابيع الأولى التي قضتها في المركز كانت تماما كما هي، ساي النشيطة، المرحة، ابتسامتها لا تفارق وجهها الحسن، أسمع ضحكتها في كل زاوية في المركز، فأشعر كما لو أني أسمع لحنا بل أغنية حب، لكن لم يطل حالها كذلك، فقد مرت عدة أسابيع لم تكن فيها ساي على طبيعتها أبدا، فسلامها وكلامها كانا جافين جدا، لم أعلم ما بها، خشيت أنها كانت تتخذ قرارها، وأن تعاملها الجاف هذا مؤشر سيئ، أنا فعلا انجرفت بحبي لها ولا أستطيع أن أتخيل أن تخبرني بقرار الرفض، لكن لم أكن أود أن أسألها فأعجل سماعي لهذا النبأ، فتغاضيت تماما عما أراه من تصرفاتها تجاهي. حين صادفتها ذات يوم في مطعم المركز، لم أستطع أن أمنع نفسي من مناداتها ودعوتها للجلوس معي على الطاولة نفسها، لقد اشتقت إليها وقلبي لم يعد يقوى على بعدها عني أكثر، جلست وحيتني ثم قالت لي وهي مغتاظة وتتصنع عكس ذلك: شكرا بروفيسور، لكن أخشى أن ذلك سيزعج حبيبتك! - أنا لا أملك حبيبة بعد، فالتي أحبها ما زلت أنتظر جوابها منذ أشهر وهي ما زالت تفكر، لا أعلم ربما نسيت طلبي، ربما نسيت أمري، أو حتى اسمي. هي وحدها من أفكر فيها ليلا نهارا، مع كل يوم يمضي أزداد تعلقا بها، وهي لا تبادلني شيئا من تلك المشاعر؛ لذا لا أعتقد أني أستطيع أن أسميها حبيبتي بعد!
لقد فهمت مباشرة من تقصد، إنها بريجيت، لم أكن أتخيل أن تشعر ساي بالغيرة منها، لكن يبدو أن ذلك قد حصل بالفعل، تظاهرت بعدم اكتراثي وفهمي لما ترمي إليه وأدرت الحديث لصالحي وعبرت لها عن بعض الكلمات التي في قلبي، علي أخفف عنه حمل هذا الحب. لم تستطع أن تخفي ابتسامتها حين سمعت كلماتي، كانت تجاهد ظهورها لكني رأيتها. أعلم أني أحبها وأن قلبي متعلق بها كثيرا، لكن لم أكن مدركا مدى هذا الحب، فأنا لم أتصور يوما في حياتي أني سأخلط بين مشاعري الخاصة وقرارتي في العمل. فبحث الدكتورة بريجيت مرتبط باختصاصي، ومن عادتي أن أشرف على هذه البحوث بكل تفاصيلها بنفسي لأني الأكثر خبرة بها، لكن يبدو أن غاليتي ساي تشعر بالغيرة من وجودي مع الدكتورة بريجيت. هل علي أن أشكر الدكتورة بريجيت على ذلك؟ لأنها جعلت مشاعر ساي تتحرك باتجاهي؟ أعتقد أن بعد مشاعر الغيرة تلك لم يعد الطريق طويلا لسرقة قلبها بالكامل.
بعد حديثي المقتضب مع ساي في المطعم ذلك اليوم، عدت إلى مكتبي واستدعيت البروفيسور هاندا والدكتورة بريجيت وأخبرتهما أنه من اليوم فصاعدا سيكون البروفيسور هاندا المشرف الأساسي لبحث الدكتورة بريجيت أما أنا فيتم إعلامي فقط في المراحل الأخيرة وفي الحالات الخاصة. لم أتردد إن كنت سأفعل هذا أم لا، فأنا طبعا سأفعل، نعم أريد أن أرضيها، لا أريدها أن تجرح أو تتضايق مني أو من غيري. أريد أن أراها وهي مرتاحة، تلك الشقية، لا تكترث بي بينما أنا أغير مسار العمل لأجل مشاعر قد لا تكون غيرة حقيقية، لكن مع كل هذا وذاك، أنا أشعر بالسعادة لأني أود أن أرضيها، أشعر بالسعادة لأنه أصبح لدي أولوية جديدة غير العمل، أمن الضروري أن تكون كل قراراتنا منصبة على مصلحة واحدة فقط! أليس من حقي أن تكون لي أولوية أخرى! على أي حال، حلت تلك المشكلة لمدة بسيطة لكن الدكتورة بريجيت بقيت على تواصل معي. أعتقد فعلا أنها تمتلك مشاعر خاصة تجاهي، وربما هذا ما رأته ساي قبلي وأدركته؛ لذا اشتعلت نار الغيرة في قلبها. لكن ماذا علي أن أفعل؟
صفحة غير معروفة