عندما كنت في طريق العودة، كانت جميع الأغاني التي تصدر من مسجل الصوت في السيارة غاية في الرومانسية، بت أتخيل نفسي عروسا أزف له، سرحت في تفكيري كثيرا، ثم بدأت أضحك! كم كان هذا غبيا! كم أنا حمقاء! شعرت بعطش شديد، فركنت سيارتي في أحد المواقف العامة على الطريق السريع وبينما كنت أنتظر كوب قهوتي من الماكينة، شعرت بأحدهم يلاحقني من خلفي بهدوء، كانت سيارتي بعيدة وكانت أمامي دورة المياه، ركضت مسرعة فدخلت إحداها وأقفلت الباب، من حسن الحظ أن هاتفي النقال كان بيدي. كدت أتصل بالشرطة لكني تراجعت لعدة أسباب، أولا أني لست متأكدة من أن أحدهم يلاحقني حقا، ثانيا كانت فرصة ذهبية لأطلب المساعدة من هيروكي. أريد أن أراه، أريد أن أرى كيف ستكون ردة فعله حين أطلب منه المساعدة، مدى شهامته ومدى تجاوبه، فالموقع الذي أنا فيه الآن أقرب إلى المركز من بلدتي، فهو ليس بعيدا ويحتاج إلى ربع ساعة فقط. كم أنا شقية! فقد اتصلت به وأخبرته أن يحضر حالا: هيروكي أحتاج مساعدتك أرجوك. - ساي! أخبريني حالا ما بك؟ وكيف أستطيع مساعدتك؟ - سأرسل لك المكان الذي أنا فيه الآن، وسأشرح لك التفاصيل فيما بعد. لكن باختصار أشعر أن أحدهم يلاحقني وأنا عالقة الآن في إحدى دورات المياه على الطريق السريع ولا أجرؤ على الخروج منها لأنني أعتقد أنه ما زال في الخارج. المكان موحش جدا وبدأت أطرافي تتجمد. - ساي! لا عليك سآتي حالا، أرسلي لي العنوان مباشرة، لا تقلقي وابقي حيث أنت. - بانتظارك.
هيروكي
عندما رن هاتفي الخاص تلك الليلة كان آخر من كنت أتوقع رؤية اسمه هو ساي! كان صوتها مضطربا للغاية، ذهبت حالا أنا وسائقي الخاص إلى تلك المنطقة. لقد كان الظلام دامسا والبرد شديدا، وقد كانت على حق، فقد رأيت أحدهم ينتظر في سيارته في هذا الموقف العام على الطريق السريع، ما إن رآنا حتى أسرع بالهروب في الظلام، فلم نستطع تمييز رقم سيارته أو نوعها. على أي حال ركضت مسرعا خارج سيارتي واتصلت بها لأعلمها أني هنا وبأنها تستطيع الخروج بأمان. خرجت ساي وكانت فعلا على وشك التجمد، فملابسها لم تكن دافئة، أعطيتها وشاحي ومعطفي وسألتها فيما إن كانت تفضل أن يقلها السائق إلى منزلها أم أنها تفضل الذهاب في سيارتها وقيادتها بنفسها، فأجابتني: هيروكي، أرجوك أتستطيع أن توصلني أنت إلى منزلي؟ - بالطبع!
مضينا بسيارتها وقمت أنا بقيادتها، ولحق سائقي بنا كي يقلني معه حين عودتنا إلى المركز. جلست ساي في المقعد المجاور لي، هذه المرة الثانية التي أقود بها سيارتها، ما زالت كما هي منذ أشهر، ما زالت تلك الأشكال الصغيرة تتراقص على المرآة، وما زالت أغراض ساي متراكمة على المقاعد الخلفية للسيارة. حاولت ألا أحرجها وألا أنظر إليها بشكل مباشر، إلا أن ضوء القمر كان يعكس كل جميل في عينيها. كانت ساي متعبة جدا، ولم يكن طريقنا بهذا الطول، ولم أتحدث معها كثيرا. عندما وصلنا أوصلتها إلى باب شقتها، ودعتها وقبل أن أمضي قالت لي: هيروكي! أشكرك كثيرا لمساعدتك لي، وأنا آسفة جدا لأني اعتمدت على مشاعرك كي أضمن مجيئك، أشعر أني قد قمت باستغلال ذلك كي أجعلك تساعدني في هذه الساعة المتأخرة من الليل. - ساي! لا تقولي هذا الكلام، فأنا لا يمكن أن أتخاذل عن مساعدة أي أحد، فكيف إذا كان أنت! لا تفكري بهذه الطريقة أرجوك! - شكرا مجددا هيروكي، تصبح على خير.
كانت مضطربة للغاية ويبدو أنها خشيت أن أعبر لها عما يجول في خاطري في لحظة شاعرية كهذه، أو أن أتهور بتصرف ما؛ فقد كان من الواضح أن ساي لا تود أن أقترب منها، فقامت بتبديد اندفاعي نحوها ونظراتي إليها بنبرة صوتها الذي كانت تتصنع به حالة الاستقرار، لكنني كنت متأكدا من اضطرابها وضعفها.
وبينما كانت تودعني وتذكرني بأن السائق بانتظاري وأن علي ألا أتأخر عليه، أعادت لي معطفي فارتديته حالا، أردت أن يلتصق المعطف بجسدي مباشرة بعد أن كانت ترتديه. هممت أن أقترب منها، لكنها ابتعدت عني بسرعة وتوجهت إلى باب شقتها، لم تدخل إنما استدارت لتنظر إلي، كنت ما أزال واقفا أنتظر منها أن تودعني بشكل لائق، لكننا لم نفعل، ولم نتكلم، بقينا ربما عشر دقائق ونحن على هذه الحال، كانت نظراتها غامضة لم أستطع أن أقرأ منها شيئا، إلا أنها تشعر بالوحدة فقد كان هذا الشعور واضحا، لم أشأ أن أستغل شعورها ذلك بأي تصرف مني؛ إذ يبدو أن روحها متعبة جدا. لم تشح بوجهها عني، بل بقيت نظراتها مصوبة نحو عيني، كادت تعود باتجاهي، لكنها ترددت، ثم قالت لي: «هيروكي، أود أن أقابلك غدا، تصبح على خير.» ودخلت شقتها وأغلقت الباب.
عدت إلى السيارة، وأنا أفكر مليا بما حدث، ساي طلبت أن تراني، ترى ماذا تريد أن تقول؟ ماذا تشعر الآن؟ وهل تطورت مشاعرها نحوي؟ هل تحرك قلبها تجاهي؟ أم العكس تماما؟ هل ستطلب مني ألا أراها ثانية؟ لكن ثقتها بي، وطلبها المساعدة مني أنا بالتحديد، وشعورها بالاطمئنان حيال ذلك، ولد في قلبي كثيرا من الأمل الذي كنت على وشك فقده. لم أستطع أن أنام في تلك الليلة، كانت نظرات ساي الغامضة نحوي تؤرق قلبي، فلست متأكدا، أهي علامة إيجابية أم سلبية! فساي ليست كبقية النساء اللواتي تعاملت معهن، وأنا لا أستطيع قراءة وفهم ردود أفعالها الحالية.
ساي
حين رن هاتفي وأخبرني هيروكي أن باستطاعتي الخروج الآن، لأنه وسائقه أمام سيارتي وينتظرانني، خرجت ورأيته، كنت سعيدة جدا، يا لي من ماكرة! حققت حلمي بأن يراني بفستاني الجميل ومظهري اللائق، لم أظهر له اهتمامي بشيء، رأيت على وجهه علامات الإعجاب لكنه لم يعلق أبدا. طلبت منه أن يقود سيارتي بنفسه، فأنا حقا لا أقوى على قيادتها فقد تجمدت أطرافي تماما. كانت مشاعري مضطربة وقلبي يخفق بقوة خاصة أنه أعطاني معطفه لأتدفأ به. كان هادئا وصامتا طيلة الطريق، أجمل ما في هيروكي أن مشاعره ثابتة، فهو لا ينفعل كثيرا في المواقف الحرجة، ولا يخمد حبه في المواقف العادية، هو لا يستغل المواقف ليرمي بالكلمات هنا وهناك. هذا الثبات كان يعطيني مع الوقت الكثير من الأمان، شعرت بدفء شديد لم أشعر به منذ زمن بعيد. لكن عندما وصلت إلى منزلي اختلف الوضع قليلا، فقد شعرت أن مشاعره ستغلبه، تهربت منه وابتعدت عنه، واضعة مسافة أمان بيننا، فوقفت أمام باب شقتي محتمية به، لكنني لم أستطع ألا أراقب نظراته التي كانت تستجدي بقائي معه، كنت مترددة بين أن أتوجه نحوه مرة أخرى أو أن أودعه وأغلق باب شقتي. أنهيت ذاك التردد وتلك النظرات بطلب غريب مني: هيروكي، أود أن أقابلك غدا، تصبح على خير. - حسنا، أرسلي لي الزمان والمكان، تصبحين على خير.
لم يجادلني عن المكان أو الزمان، فقط قال حسنا، كأنني أملك حرية العبث بوقته كما أشاء، وجلبه من مكان إلى آخر. كم أنا لئيمة، لم أطلب أن أراه أصلا؟ لا أعلم، لقد تفوهت بهذا الطلب وأنا مضطربة، ماذا أود أن أقول له، لا أدري حقا!
صفحة غير معروفة