قصة تمثيلية للكاتبين الفرنسيين «بول جيرالدي وروبير سبتيزر»
بول جيرالدي كاتب يفتن به المترفون في شعورهم وعواطفهم من الفرنسيين؛ لأنه مترف في شعوره وعواطفه، ومترف بنوع خاص حين يحلل العواطف والشعور. تناول طائفة من الموضوعات في قصصه التمثيلي، فاستطاع أن يبلغ من دقة التحليل ولطف المدخل إلى القلوب ما أسرع به إلى بيت موليير وأنزله منه منزلة رفيعة.
ولست أدري أيذكر القارئ أني تحدثت إليه في غير هذا الموضع عن قصة من قصصه التمثيلية سماها الحب، وحلل فيها الصلة بين زوجين متحابين يعرض لهما من أسباب الفتنة ما يصرف المرأة عن زوجها حينا، ثم تتكشف الخبرة لهذه المرأة عن حقيقة الأمر فتتبين أنها كانت مفتونة لا عاشقة ، وأن حبها إنما كان مقصورا على زوجها حتى في أشد أوقات الفتنة؛ ذلك لأن الحب شيء غير الشغف وغير الهيام وغير هذه الشهوات التي تملك النفس فتفسد عليها الأمر حينا. فيه ثقة تمكن المتحابين من أن يطمئن كل منهما إلى صاحبه، فلا يسمح لنفسه بالشك فيه ولا يتخيل هذا الشك، وتمكنهما من أن يعتمد كل منهما على صاحبه اعتمادا لا حد له. فيه هذه الثقة التي تمكن الزوج من أن يجيب امرأته حين أنبأته بأن فلانا يتبعها بحبه، وطلبت إليه أن يحميها من هذا الحب: «مثلك لا يحتاج إلى حماية ولا حراسة، ولا خير في حب يتكلف صاحبه أن يقوم دونه يدفع عنه المغيرين.» ثم فيه إلى جانب هذه الثقة ألوان من الذكرى يسيرة ضئيلة في نفسها، ولكن الحب يتألف منها، أو قل: إنها هي التي تؤلف حياة المتحابين.
وقد وفق «بول جيرالدي» في هذه القصة توفيقا عظيما دون أن يحتاج إلى حركة أو مشقة في تدبير هذه الحركة، وإنما هي كلها حوار بين الزوجين، أو بين المرأة وذلك الذي أراد أن يفتنها. ثم لم يقف توفيق «بول جيرالدي» عند هذه القصة، بل تجاوزها إلى قصة أخرى فتنت الباريسيين في السنة الماضية، وهي قصة «روبير وماريان»، وهو على هذه الإجادة في التمثيل شاعر مجيد دقيق، يحبه الفتيان والفتيات، ويقرءون له بنوع خاص ديوانا صغيرا عنوانه «أنت وأنا»، تناول فيه العلاقة بين العاشقين من نواحي الحياة المنزلية اليومية في لطف ودعة وخفة روح.
ولكن «بول جيرالدي» على هذا كله صاحب جد، وحظه من الهزل قليل. هو مترف في جده، خفيف الروح، يحاول الدعابة والفكاهة، ولكنه لا يبلغ منهما ما يريد، أو هو لا يريد أن يبلغ منهما شيئا. وكأنه كان محتاجا إلى أن يعينه زميله الذي اشترك معه في وضع هذه القصة التي أتحدث إليك فيها اليوم. كان محتاجا إلى هذه المعونة ليلائم بين جده وفلسفته المترفة وبين ما يحتاج إليه الباريسيون في هذه الأيام من الفكاهة واللهو حتى في أوقات الجد والتفكير العميق. وقد ظفر «بول جيرالدي» من معونة زميله بما أحب وبما أحب الباريسيون، فجاءت هذه القصة الأخيرة آية في الجد والفكاهة معا. فأنت لا تستطيع أن تمضي في قراءتها دون أن ترى نفسك مغرقا في الضحك، ولكنك في الوقت نفسه مغرق في التفكير والتأمل؛ ذلك لأن الموضوع كله جد، ولكن الصورة كلها هزل، لفظ رشيق فيه عبث كثير، ولكن من دون هذه الرشاقة والعبث حقيقة من هذه الحقائق التي يجب على كل إنسان أن يفكر فيها وأن يلائم بينها وبين سيرته مع زوجه.
وفي الحق أن روحي هذين الكاتبين قد التأما في هذه القصة التئاما بديعا. وحسبك أنهما استطاعا أن يحملاك على أن تفكر في أشد الموضوعات خطرا دون أن تجد في ذلك مشقة أو عنفا، بل على أن تجد في ذلك لذة لا تعدلها لذة. ولكن هذه المشقة التي لا تجدها أنت حين تقرأ القصة أجدها أنا حين أحاول أن ألخصها لك؛ ذلك لأني أستطيع أن ألخص لك موضوعها وغرضها، ولكني لن أستطيع أن ألخص لك شكلها وصورتها وحوارها وما فيه من رشاقة وخفة وسرعة، فكل ذلك لا سبيل إلى نقله إلا في ترجمة دقيقة ليست من السهولة واليسر بحيث تظن.
فلأعرض عليك ما أستطيع من هذه القصة معترفا منذ الآن بأنه تلخيص للموضوع لا أكثر ولا أقل. ولأسلك في هذا العرض الطريق التي تعودت أن أسلكها في غير هذه القصة، فأضع أمامك الأشخاص كما أراد صاحب القصة أن يكونوا.
والقصة تعتمد قبل كل شيء على التناقض بين شخصين متباينين تباينا تاما في الطبيعة والذوق والمزاج، ولكنهما يخدعان عن نفسيهما، ويخيل إليهما أنهما متفقان مؤتلفان لا تباين بينهما ولا تناقض.
فأما أحد هذين الشخصين فالزوج، واسمه «مكسيم مينار»، رجل من أغنياء باريس وأصحاب الأعمال فيها، رجل كغيره من الناس، عادي في ذوقه ومزاجه، وربما كان إلى الطبقة السفلى أقرب منه إلى الطبقة العليا. فإن امتاز بشيء فهو يمتاز بجده في العمل ومهارته في تصريف الأمور المالية، وهو لذلك كثير الصمت قليل الكلام قليل الحركة أيضا، لا يكاد يتصور الحياة إلا على أنها انهماك في العمل حين يكون في مكتبه، وأكل ونوم حين يأوي إلى بيته. وهو على ذلك قانع بهذه الحياة، يرى فيها المثل الأعلى للسعادة. وهو لا يفهم من الزوجية إلا أن يرى امرأته في البيت زينة له وأداة للهوه الذي لا يصيب منه إلا قليلا من حين إلى حين. وهو يفهم الأمانة الزوجية كما يفهمها غيره من الناس، لا يخون زوجه ولا يريد أن تخونه زوجه. يكره العبث، ويسيء الظن بكل لون من ألوان المجون والمزاح، ولكنه مع هذا كله ضعيف طيب القلب، مستعد للعفو إن وقع له ما من شأنه أن يحفظ الرجال. هو رجل طيب، ولكنه يعيش في الأرض، وليس له جناحان يستطيع أن يرتفع بهما في الجو ولو قليلا.
أما امرأته «جاكلين» فجميلة خلابة ككل نساء القصص، ولكنها تناقض زوجها أشد المناقضة؛ فهي قوية الخيال تعيش في السماء لا في الأرض، لا ترى الناس كما هم، وإنما تراهم كما تحب أن يكونوا، تصوغهم صوغا خاصا، وتسبغ عليهم صورتها الخاصة، ثم تعيش معهم بعد ذلك عيشة راضية ملؤها الصفاء والطهر والثقة والإيمان؛ ذلك أن نفسها تتصف بهذه الصفات كلها، فهي راقية تتنزه عن الدنيات، وهي طاهرة لا يكاد يخطر لها الإثم على بال، وهي مطمئنة على نفسها، فيبعثها ذلك على أن تطمئن إلى الناس وتثق بهم ثقة لا حد لها، وهي على هذا كله مترفة في تفكيرها وشعورها، رقيقة العاطفة، رقيقة المزاج قوية الحس، تألم لكل شيء وتسر لكل شيء، وتنتقل من الألم إلى السرور ومن السرور إلى الألم في سرعة غريبة، تعيش في حلم مستمر. وهي بعد هذا كله قد صاغت زوجها في صورة ملائمة لصورتها، فاستيقنت أنه أجل الناس، وأكرمهم، وأرقهم طبعا، وأصفاهم مزاجا، وأبعدهم نظرا، وأصدقهم حكما على الأشياء والناس أيضا، حتى إذا أسبغت عليه هذه الصورة الجميلة الخلابة أحبته وفتنت به، واندفعت في هذا الحب والفتنة إلى أقصى أمد ممكن ، وأخذت تؤول عيوبه على أنها محاسن ومزايا. هو كثير الصمت، لا يتحدث إليها في الحب والغزل؛ ذلك لأنه رقيق دقيق، ولأن الحب أجل من أن يتناوله الكلام، ولأن الكلام يفسد الحب إذا تناوله. وما حاجتها إلى الكلام؟! أليس يكفي أن ينظر إليها زوجها، فترى في هذه النظرات ما تشاء من حب وشغف وولاء وإخلاص؟! وهو لا يحب اللهو ولا السمر، وما حاجتها إلى اللهو والسمر؟! أليس ذلك دليلا على أنه رجل جد وعمل؟! وما حاجتها تراه وقد عاد إلى البيت فنظر في رسائله ثم قال بصوت مغضب: ما لنا لا نذهب إلى المائدة؟! إن في هذا كله لحبا وفتنة. وعلى هذا النحو أحبت زوجها وسعدت بحبه ثلاثة أعوام كاملة، واتخذت نفسها وزوجها مثالا أعلى للأسرة السعيدة المتحابة. ولكنها كانت تجهل زوجها، وكانت تجهل نفسها أيضا، وكانت في حاجة إلى حادثة من الحوادث تظهرها على حقيقة نفسها، وتعرض عليها زوجها كما هو، وتنزلها من السحاب الذي كانت تعيش فيه إلى الأرض، لترى الناس والأشياء كما أراد الله أن يكونوا لا كما صورهم الخيال.
صفحة غير معروفة