الشخص الرابع؛ فتى صربي هو «ستيبانوفيتش»، كان من جنود الحرب الكبرى، أبلى فيها بلاء الأبطال، فلما انتهت عاد إلى مهنة التعليم التي كان يعيش منها، ثم بدا له فجاء إلى فرنسا يتم درس اليونانية. وهو كبير النفس صبور محتمل للمكروه في سبيل العلم، لا يتردد في أن يتخذ صناعة الجمال في محطة السكة الحديدية ليتمكن من الدرس. وهو رقيق النفس قوي العاطفة، ولكنه يعرف كيف يكتم حبه، فإذا ظهر له أنه يستطيع أن يعلن هذا الحب دون أن يتجاوز الحق والعدل، مضى في ذلك غير مشفق ولا متردد ولا محجم عن أشنع أنواع القسوة.
هؤلاء هم أشخاص القصة، فلننظر كيف يضطربون فيها. •••
نحن في مدينة جامعية من مدن الأقاليم، في دار «جان بليز» آخر النهار، قد ذهب الأستاذ إلى الجامعة ليلقي درسه. فإذا رفع الستار رأينا خادمه يتحدث إلى صديق أقبل ليزوره ومعهما عميد كلية الآداب قد جاء وكأنه يحمل نذير سوء. ثم ينصرف هذا العميد منذرا بعودته، فإذا خلت الخادم إلى صديق سيدها أخبرته بأن سيدها متعب مضطرب الأعصاب قد يتحدث إلى نفسه إذا جنه الليل، وعللت ذلك باضطراب في المعدة، وعلل الصديق ذلك بالوحدة.
ثم يأتي الأستاذ، فإذا كانت بينه وبين صديقه التحية المألوفة وجلسا يتحدثان، فهمنا أن هذا الأستاذ قد ذهب مرة إلى مصر فوجد في بعض أديرتها نسخة قديمة كتب عليها الإنجيل باللغة اللاتينية، ثم تبين أنه قد كان مكتوبا قبل الإنجيل شيء باللغة اليونانية، فمحا الإنجيل وأخضع نسخته لعمل كيميائي مكنه من كشف الأصل لهذا النص اليوناني، فإذا هو كتاب من كتب أفلاطون يقال له «فايتون». ولكن هذا الأصل كان مضطربا قد عبث به الزمان، فلم تبق منه إلا كلمات وجمل منها التام ومنها المبتور، فجد في ذلك حتى أصلحه وأتمه. وقد أنفق في هذا العمل أعواما طوالا، ثم نشره فاضطرب له العلماء في أقطار الأرض، وكادوا يجمعون على أن هذا الأستاذ قد أخرج للناس أقوم أثر من آثار أفلاطون من الوجهة اللغوية والأدبية والفلسفية. وعرفت الحكومة الفرنسية لهذا الأستاذ حقه فكافأته بالأوسمة، وهي تريد أن تنقله إلى السوربون، وهو يوشك أن يكون عضوا في المجمع العلمي. ويحدث بهذا كله صديقه الذي لا يكاد يفهم منه شيئا لأنه يعمل في التجارة، فإذا ظهر منه عجزه عن الفهم كانت بينه وبين صاحبه مناقشة رأينا منها كبرياء الأستاذ بعلمه وازدراءه لغيره من الحياة والأحياء.
وبينما هما كذلك إذ تقبل «سسيل بواسييه» إحدى تلاميذ الأستاذ، تريد أن تستعير من أستاذها كتابا فيعيرها إياه. ولكنهما لا يكادان يتحدثان حتى نحس من الأستاذ ميلا خاصا إلى هذه الفتاة وعطفا عليها، ومن الفتاة إعجابا بالأستاذ. والفتاة لم تأت في حقيقة الأمر لتستعير الكتاب، إنما جاءت لتعرض على أستاذها أن رفيقا لها من الطلبة هو «ستيبانوفيتش» قد ضاقت به سبل الحياة، فهو مضطر إلى أن يعود إلى وطنه، وقد تعاون رفاقه فيما بينهم فجمعوا له مقدارا من المال. ولكنهم لا يعرفون كيف يدفعون إليه لأنه شديد الكبرياء، فهم يتوسلون بالأستاذ ليؤدي إليه هذا المقدار، فإذا سمع الأستاذ هذا، رد المقدار إلى الفتاة ووعدها بأن يصلح من أمر الفتى، ثم أخذ يلومها لأنها لم تحسن كتابة الموضوع الذي طلب إليها كتابته باليونانية. وتنصرف الفتاة، ويأتي الفتى الصربي مودعا الأستاذ، فلا يمكنه الأستاذ من أن يتكلم، بل يفجؤه بأن يعلن إليه أنه سيطبع كتابا من كتب «كسينوفون»، وقد أعد لهذا الكتاب شرحا وتعليقا، ولكن أوراقه في حاجة إلى الترتيب والنسخ، فهو يكلفه هذا العمل ويأجره عليه ويدفع إليه بعض هذا الأجر مقدما، والفتى مغتبط بهذا لأنه يمكنه من إتمام الدرس وتأدية الامتحان دون أن يؤذي كبرياءه.
فإذا خرج الفتى وهم الأستاذ أن يستأنف حديثه مع صديقه، أقبل عميد الكلية، فيتلقاه الأستاذ عابسا منقبضا، ويسرع العميد فينبئه بأنه جاء يحمل إليه نبأ سيئا ويأخذ في تعزيته وتشجيعه. فإذا ألح عليه ليعرف هذا النبأ، أعلن إليه أن العالم الإنجليزي «كولسون» قد ذهب إلى مصر واستكشف فيها نسخة من كتابه «فايتون»، وكانت نسخة صحيحة واضحة لا عيب فيها، وظهر من قراءة هذه النسخة أولا: أن الكتاب ليس لأفلاطون، وإنما هو لنحوي من أهل الإسكندرية كان يقلد أفلاطون في القرن الأول للمسيح؛ أي بعد أفلاطون بأربعة قرون، ثانيا: أن كل ما اقترحه الأستاذ لإصلاح النص وتكميل جمله وألفاظه وتصحيحها خطأ. وهذا العالم الإنجليزي ينشر نسخته التي استكشفها، ولكنه يرسل منها مسودة ليقرأها الأستاذ قبل أن تظهر للناس. ثم يدفع العميد هذه المسودة إلى الأستاذ، ويأخذ هذا في قراءتها والاضطراب يملكه شيئا فشيئا، وقد ظهر ذلك عليه، فنهض صديقه، وخرج العميد ليتركا الرجل منفردا إلى مسودته.
وفي أثناء ذلك يظهر فتى كأنما انشق عنه الحائط وهو رث شاحب، فيقف خلف الأستاذ وينظر محزونا كأنه يقرأ المسودة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أيام على هذه القصة وظهر أمرها للناس، وافتضح الأستاذ فضيحة منكرة، وانقسم فيه العلماء الذين كانوا يعجبون به، فمنهم من يتهمه بالجهل المنكر، ومنهم من يتهمه بالتدليس القبيح. وقد كانت هذه الفضيحة صدمة للرجل حالت بينه وبين الذهاب إلى الجامعة أياما، وكأنه قد استرد قوته فعزم أن يستأنف دروسه. وأقبل الطلبة مضطربين يريدون أن يروه وأن يسمعوه وهم في أمره مختلفون اختلاف العلماء والجمهور، ولكن العميد يحاول أن يؤخر استئناف هذا الدرس، فيغري أحد الخدم بأن يصد الطلبة عن قاعة الدرس، ويعلن إليهم أن الأستاذ قد أجل درسه، ولكن بعض الطلبة يأبون إلا أن يقتحموا غرفة الدرس. وهم جلوس وقد رأى العميد أن لا بد من استئناف الدرس، فأقبل يخطب الطلبة يعيب أستاذهم وكأنه يرثي له، ويغريهم به وكأنه يعطفهم عليه.
ويأتي الأستاذ فيتخذ ثوبه الرسمي ويجلس إلى مائدته، وإذا الفتى الذي رأيناه في آخر الفصل الأول قد ظهر ووقف في آخر الغرفة تجاه الأستاذ. وبدأ الأستاذ يتكلم فإذا هو يعترف بأنه قد أخطأ في كل شيء؛ فليس الكتاب لأفلاطون، وليس تصحيحه لهذا الكتاب حقا ولا مقاربا، وإنما يشتمل على أكثر من ثمانمائة غلطة. ولكن هذا الكتاب حقا ولا مقاربا، بالخطأ قد خدع الذين يعنون باليونانية جميعا سواء منهم اللغويون والأدباء والفلاسفة، كلهم قبله، وكلهم أظهر الإعجاب به. وينتقل الأستاذ من هذا إلى أن العلم ليس شيئا، وإنما هو وهم في وهم وضلال في ضلال، وأن العالم أشبه الناس بالرجل الذي اهتدى إلى كنز في مكان مظلم فاتخذ المصباح ليصل إليه، ولكنه شغل بالمصباح عن الكنز، فأخذ يرفع ذبالته حينا ويخفضها حينا آخر. وليس العقل الإنساني إلا هذا المصباح الذي يشغل العلماء عن الحياة وما فيها من لذة ومتاع، وإذا الأستاذ يحث تلاميذه على الإعراض عن العلم والاستمتاع بلذات الحياة، ويمضي في ذم العلم ومدح اللهو إلى حيث يوشك أن يكون متصوفا، ثم ينهض فيلقي عنه ثوب الأستاذية، ويعلن إلى تلاميذه أنه مستقيل. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت الأستاذ مساء هذا اليوم، وقد تغيرت غرفته من الكتب خلوا تاما. وهو جالس إلى مكتبه ينظر في أوراق ثم يمزقها، وقد جاء العميد يسأله عن كلمات زعموا أنه قالها في درسه وهي لا تليق بالعالم ولا بالأستاذ، فلا ينكرها بل يزيد عليها ويرفع إلى العميد استقالته من الأستاذية، ويلح العميد عليه مخلصا في أن يسترد هذه الاستقالة فيأبى. وهنا تنكشف لنا نفس العميد، فهو يتخذ العلم ورياسة كلية الآداب صناعة لا أكثر ولا أقل، وهو لا يؤمن بعلم ولا يؤمن بجامعة، وإنما يؤمن بالحياة: بامرأته وولده. وهو يشبه العلماء حين يظفرون بالحق فيفرحون، أو يردون عنه فيحزنون، بالأطفال الذين يتحاربون لاعبين، فيخيل إليهم أنهم يجدون وإذا هم يطلبون الفوز ويفرحون به حقا ويكرهون الهزيمة ويحزنون لها حقا. ولكن الأستاذ مصر على استقالته، فينصرف عنه العميد. ويخلو الرجل إلى نفسه حينا، وإذا الشاب الذي رأينا في الفصلين الماضيين قد مثل أمامه، فيكون بينه وبين الأستاذ حوار بديع مؤثر حقا. فليس هذا الشاب في حقيقة الأمر إلا الأستاذ حين كان طالبا وحين كان يكره نفسه على العلم ويصرفها عن الحب واللهو. وقد تمثل هذا الشاب القوي الفتى المحروم في شخص هذا الفتى، وأقبل يعرض على الشيخ ذكرى هذا الحرمان، والشيخ يدافعه، ثم لا يلبث أن يمضي معه في الذكرى. فانظر إليه حين كان يستيقظ قبل آخر الليل، فيقبل على اليونانية يقرأ ويكتب ويستظهر. وانظر إليه كيف كان يغدو مع الصبح فيسلك إلى الجامعة أبعد الطرق عن الفتنة منصرفا عن ضوء الشمس وجمال الربيع وابتهاج المدينة . وانظر إليه كيف كان يلوي وجهه عن هذه الفتاة الحسناء تمر إلى جانبه. وانظر إليه كيف أحب وعبث الحب بقلبه، ولكنه مع ذلك أبى أن يعلن حبه، وأخذ يخادع نفسه عن هذا الحب، وأخذ يتجاهل ميل صاحبته إليه، فلا يحييها ولا يظهر الميل إليها. وانظر إليه مع ذلك كيف أهوى مرة إلى زهرة ألقتها هذه الفتاة، فاحتفظ بها منذ عشرين سنة، فهي الآن جافة ذابلة، ولكنه لا يكاد يلمسها حتى تتفتح وتسترد نضارتها. ثم انظر إليه كيف يعتذر إلى شبابه فيزعم أنه لم يكن جميلا ولا وسيما ولا جذابا للنساء، ولكن حركة يأتيها الفتى فإذا هو جميل وسيم حسن الطلعة مقتنع بأنه كان يستطيع أن يظفر بحب النساء. يعرض الفتى على الشيخ شبابه وما صنع فيه من لذة وما أهمل فيه من فرصة، والشيخ يضطرب عليه شيئا فشيئا حتى يدنو من الجنون، وإذا هو يستغيث، فتقبل الخادم فلا ترى أحدا ويستخزي الشيخ.
صفحة غير معروفة