قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «مارسيل بانيول»
ليس هذا العنوان ترجمة دقيقة للعنوان الفرنسي، وربما لم يكن ترجمة مقاربة. فالعنوان الفرنسي يشير إلى نوع خاص من اللهو، هو هذا الضجيج الأمريكي الذي شاع في الحانات والملاهي الذي يسمونه الجازباند. وإذا كنت لم أعن بالترجمة الدقيقة لهذا العنوان، فذلك لأن هذا العنوان نفسه لا يدل على القصة ولا يختصرها، ولا يدل على جزء مهم من أجزائها. إنما يدل على شيء إضافي مر في القصة عرضا، ومن حقنا أن نتساءل: لم اتخذ الكاتب لقصته هذا العنوان؟ وما باله لم يلتمس لها عنوانا يلائم موضوعها أو أشخاصها ملاءمة صحيحة؟ على أن هذه الخصلة ليست وحدها الخصلة الغريبة في هذه القصة، فالقصة كلها غريبة في حقيقة الأمر: غريبة في تصورها، غريبة في عرضها، غريبة في نتيجتها ، ولكنها على ذلك قيمة لذيذة، أو قل إنها لذلك نفسه قيمة لذيذة.
والحق أنك في حاجة إلى أن تقرأ هذه القصة مرتين، وربما احتجت إلى أن تقرأها أكثر من مرتين، لا لتفهمها، ففهمها سهل يسير، ولا لتشعر بقيمتها الفنية، فأنت شاعر بهذه القيمة متى بدأت في القراءة؛ ولكن لتتبين الغرض الذي إليه قصد الكاتب حين وضع قصته. ولست أدري أمن اليسير بعد القراءة مرة أو مرتين أو ثلاثا أن تقطع بالغرض الذي قصد إليه الكاتب. ومن يدري؟! لعله لم يقصد إلى غرض بعينه، ولم يفكر إلا في أن يعرض عليك قصته كما تصورها، تاركا لك أن تستنبط منها ما تشاء.
ومهما يكن من شيء، فأنت مضطر إلى أن تلاحظ في هذه القصة أمرين: أحدهما نعي شديد على العلماء الذين يقفون حياتهم على العلم وحده وعلى العلوم التي تمس الآداب بنوع خاص.
فموضوع القصة رجل من هؤلاء العلماء وقف حياته على اللغة اليونانية. والكاتب لا يعرض علينا أمر هذا العالم وحده، ولكنه يعرض علينا من قريب أو بعيد أمر قوم آخرين يعملون في كلية من كليات الآداب، منهم الأستاذ ومنهم الطالب. والثاني صراع عنيف بين الحياة العلمية الجافة والحياة العملية التي لا تخلو من لذة ودعة ولين. فهل قصد الكاتب إلى أن يبغض إلى الناس هذه الحياة العلمية الخشنة التي يسرف فيها بعض العلماء حتى يجعلوها أشبه برهبانية الرهبان ونسك الناسكين، مزدرين في سبيلها عواطف النفس وأهواءها، وحاجات الجسم وما تستتبعه هذه الحاجات من لذة وألم؟ أم هل قصد الكاتب إلى أن يسخر من هذا اللون من ألوان البحث العلمي، ويبين أنه إذا كان هناك نوع من العلم خليق بأن يقف الإنسان عليه حياته، فليس هو هذا النوع الذي يفرغ له الباحثون عن اللغات، وعن اللغات القديمة بنوع خاص؟ أم هل قصد إلى أن يسخر من البحث العلمي بوجه عام؟ أخشى أن يكون قصد إلى هذا كله في وقت واحد، أخشى أن يكون قصد إلى ما يقصد إليه الشبان في هذا العصر الحديث، ولا سيما بعد انتهاء الحرب الكبرى، من تمجيد الحياة العملية والإعراض عن هذه الحياة العلمية الخالصة، بحجة أن هذه الحياة العملية هي وحدها المنتجة، وهي الملائمة لطبيعة الأشياء وحاجات الناس ومذهب المنفعة بعبارة موجزة.
ومهما يكن الغرض الذي قصد إليه الكاتب، فإن قصته لا تخلو من لذة قوية ونفع كثير. ولو لم يكن للكاتب إلا هؤلاء الأشخاص الذين قد صورهم فأحسن تصويرهم، لكانت قصته خليقة بالعناية، فكيف وقد وفق فوق هذا لطائفة أخرى من المعاني تبشر بأن سيكون له في فن التمثيل مستقبل لا بأس به.
على أني لا أحب أن أبدأ في تحليل القصة وعرض أشخاصها عليك قبل أن ألاحظ أن الفصل الثاني من هذه القصة خليق أن يمحى، فليست إليه حاجة فنية، وربما كان من الإتقان الفني أن يترك الكاتب للقارئ أو للنظارة تقدير ما جاء فيه. على أن هذا الفصل نفسه لا يخلو من فكاهة رائقة وتفكير عميق. ولعل هذا هو الذي حمل الكاتب على أن يضحي بالفن التمثيلي في سبيل الفن الأدبي الخالص. •••
الأشخاص الذين يستحقون أن يعرضوا في هذه القصة أربعة: أولهم؛ «جان بليز» وهو رجل في السابعة والخمسين من عمره، أنفق حياته كلها في درس اللغة اليونانية، ووفق في هذا الدرس إلى حظ من الفوز فتن به الناس جميعا، فنال أوسمة الشرف كلها من حكومته الفرنسية، وهو يوشك أن ينتخب عضوا في المجمع العلمي وأن يختار أستاذا لليونانية في السوربون، وهو في سبيل هذا المجد العلمي قد أخذ نفسه بألوان من الشدة في حياته، فرفض الحب رفضا قاطعا وانصرف عن النساء وعن لذات الحياة كلها. ثم لم يكتف بهذا، بل خيل إليه أنه من هذه الطائفة المختارة التي خلقت لتقود الإنسانية وترقيها. وهو مطمئن إلى هذه المكانة مقتنع بأنه قد أصبح من الخالدين، وهو يزدري الحياة العملية والذين بضطربون فيها، لا يؤمن لهم إلا بأنهم خدم يهيئون للعلماء حاجاتهم فيعينونهم على تأدية ما يؤدونه من نفع هذا النوع الإنساني. وهو بهذا كله مؤمن ، مقتنع بإيمانه، لا يقبل فيه جدالا ولا نزاعا. ولكن نفسه على شدة اقتناعها بهذا كله لم تستطع أن تقهر حسه ولا أن تفله ولا أن تلطف من حدة شعوره، فهو في جهاد متصل بين العلم والهوى. وأكبر الظن أنه إنما أمعن في العناية بالعلم ووقف حياته عليه حين أحس الإخفاق في الحب وأشفق ألا يعجب النساء. وآية ذلك أن هذا الجهاد قد بلغ من العنف أن آذاه وأضناه وظهرت آثار هذا الأذى في مجموعته العصبية التي نشعر منذ الفصل الأول بأنها قد أخذت تضعف وتضطرب حتى أشفقت عليه خادمه أن يكون قد أصيب بأحد أمراض المعدة. وقد وفق الكاتب توفيقا غريبا لأن يعرض علينا شخصية هذا الرجل عرضا قويا، فقد ألف هذا الرجل من شخصين مختلفين: أحدهما؛ هو هذا العالم الذي عرضته عليك، والآخر؛ شاب يمثل هذا الرجل حين كان طالبا وحين كانت نفسه تنازعه إلى الحب والنساء، وجعل الصراع بين هذين الشخصين ماديا خارجيا يرى بالعين.
الشخص الثاني؛ عميد كلية الآداب، وهو رجل متقدم السن عالم، ولكن فيه عيوب أمثاله من العلماء الذين يشغلون المناصب ويحرصون على أن يرضى عنهم الجمهور والرؤساء، فهو حسود مسرف في الحسد، وهو منافق غال في النفاق، وهو إلى ذلك جبان عظيم الحظ من الجبن، وهو يتقن العلم ويظهر الإيمان به، ولكنه في حقيقة الأمر يزدريه ويشك فيه.
الشخص الثالث؛ فتاة في ريعان الشباب هي «سسيل بواسييه»، طالبة في الجامعة تدرس اللاتينية واليونانية، جميلة ولكنها فقيرة، تعنى بأن تعيش، ولا تكاد تفكر فيما يفكر فيه الفتيات من حب أو لهو، مستعدة كل الاستعداد للتضحية، ولكنها لا تكاد تحس الحب حتى تظهر فيها الأثرة ويظهر عجزها عن التضحية.
صفحة غير معروفة