ويقبل الأستاذ ويقبل البارون ويتحدثان، فنفهم من حديثهما أن البارون لم يكد يرى «ليونتين» حتى فتن بها واعتزم أن يتخذها له زوجا، تردد في ذلك أياما ثم صحت عزيمته فتزوجها، لم يحفل بأحد ولم يدع أحدا، وهو سعيد بهذا الزواج منذ ثلاثة أشهر، وامرأته سعيدة أيضا ... وهو يلتمس لها العذر فيما اقترفت من إثم قبل أن يتزوجها، فذنب ذلك على زوجها الأول، ذلك الرجل المجرم الذي كان يشرب حتى إذا سكر عاد إلى بيته فأذاق امرأته ألوان العذاب. وآية ذلك أن المحكمة حكمت عليه بالطلاق لا على زوجه. هو إذن راض عن حظه مغتبط به، وصاحبه الأستاذ يهنئه ويغبطه، وهو يعلم زوجه اصطناع البسكليت، وهو معجب بجمالها فيما تتخذ لهذا الغرض من زي، معجب بذكائها وسرعة إتقانها لهذا الفن.
ثم نفهم من حديثهما أنه ساع لصديقه الأستاذ في أن ينال أحد الأوسمة، وأنه لا بد لذلك من عريضة يوقعها أعيان الإقليم. والأستاذ قد هيأ هذه العريضة وسيمضيها البارون ويحمل عمته على إمضائها، فسيكون لذلك أثره، وإن كانت عمته ساخطة عليه مغاضبة له. وقد أقبلت «ليونتين» في زي البسكليت جميلة خلابة مبتسمة للحياة، راضية عن كل شيء، حلوة الحديث، لذيذة الفكاهة، فتتحدث حينا، ونفهم من الحديث أن زوجها مضطر إلى أن يغيب عنها ساعات تقضيها هي في دروس البسكليت. ثم ينصرف الزوج حينا، فإذا بين الأستاذ وبين «ليونتين» إثم قديم العهد لأنها أحبته منذ رأته وأحبها هو أيضا ولكنه خائف، أما هي فلا يعرف الخوف إلى نفسها سبيلا. وانظر إليها قد أخذت تداعبه، وهو يجيبها كارها، ثم تدنو منه وما تزال تدنو حتى تكون بين ذراعيه، وهو يقبلها وهي تقبله، وهي تكرهه على أن يضرب لها موعدا إذا انصرف زوجها، وهو يتأبى، ولكنها تكرهه وتلح عليه وتقول له في قبلة: «إلى اللقاء بعد حين.»
وفي أثناء ذلك يفتح الباب وتظهر الشيخة، فإذا رأت هذا المنظر انصرفت مغضبة وافترق العاشقان ولم يحسا شيئا.
ثم يعود البارون وتنصرف امرأته إلى البسكليت. وبينما هو في حديث مع الأستاذ إذ تستأذن الشيخة فتدخل في جد وحشمة، وتطلب إلى الأستاذ أن يزور زراعتها غدا أو بعد غد وتهم بالانصراف. ولكن ابن أخيها يستوقفها ويريد أن يتقرب إليها، فيتركهما الأستاذ حينا فيتحدثان، ونفهم من حديثهما أنها لا تعترف بزواجه، وإنما ترى أنه اتخذ له خليلة وليس في ذلك بأس. غير أن الشاب يطلب إليها توقيع العريضة، فتأبى في غضب لأنها تزدري هذا الأستاذ، وكيف لا تزدريه وقد رأت بين ذراعيه منذ حين امرأة جميلة في زي البسكليت ما ترى إلا أنها من مومسات باريس! يدهش الشاب لأنه كان يرى صديقه الأستاذ أبعد الناس عن العبث واللهو. فإذا ألح في هذا الدهش وألحت عمته في الوصف والتفصيل، تطرق الشك إليه فيستوصف عمته، فتفصل الوصف، فيستحيل الشك يقينا، وإذا هو مصعوق، وإذا عمته تقول في سخرية: أخشى أن أكون قد أسأت إليك عن غير عمد. ولكن صاحبنا يريد أن ينتقم وهو يريد البينة قبل الانتقام، وقد أخبرته عمته أن العاشقين تواعدا على أن يلتقيا بعد حين، فيخرج وتخرج عمته للاستعانة بصاحب الشرطة، وقد عاد الأستاذ إلى غرفته، وهو يحدث نفسه كارها لهذا الموعد، معلنا أن الدرس والمرأة لا يجتمعان.
ولكن المرأة قد أقبلت، فتداعب وتعبث حتى تصرف الرجل عن درسه، ثم تنسل في لطف إلى غرفة النوم وقد تجردت من ثيابها، وهي تدعو إليها صاحبها في دعابة ورشاقة، وصاحبها يقبل عليها كارها، ولكنه يسمع وقع أقدام، ثم يحس طرق الباب، ثم يستيقن أنه الزوج قد أقبل ومعه صاحب الشرطة، فيضطرب ويشتد اضطرابه، ويحاول أن يحمل صاحبته على الفرار، ولكن كيف تفر وهي عريانة؟! أما هي فهادئة مطمئنة، تأمر صاحبها أن يفتح الباب، وقد فتح الباب، ودخل الزوج ودخل صاحب الشرطة ومعه كاتبه، ولكننا لا نكاد نرى صاحب الشرطة حتى يأخذنا الدهش ثم الإغراق في الضحك، ذلك أن صاحب الشرطة هو «أدولف ديبوا» الزوج الأول لليونتين، أرادت المصادفة أن يكون مدير الشرطة في هذه المدينة منذ أيام.
يأخذ صاحب الشرطة في كتابة المحضر مستعينا بكاتبه، حتى إذا أراد أن يرى المرأة الخائنة أنبئ أنها لا تستطيع أن تظهر له فيسجل ذلك في المحضر. وبعد حين يفتح باب الغرفة وتخرج «ليونتين» ... فقدر دهشها، وقدر بنوع خاص دهش صاحب الشرطة وقد رأى امرأته في هذا الموقف. ولكنهما يجتهدان في إخفاء هذا الدهش، ويحاول الرجل أن يمضي في عمله فيأخذ في سؤال «ليونتين»، فتطلب إليه «ليونتين» أن يأذن لها في توجيه الكلام لحظة إلى هذين الرجلين زوجها وعاشقها. فتسأل الزوج ماذا يريد؟ يجيبها: الطلاق في أسرع وقت، وتسأل الأستاذ ماذا يريد أن يصنع؟ فيجيب: إنه لا يريد شيئا فهو رجل درس، وكل ما يعنيه أن ينصرف إلى عمله. هو إذن متخل عنها ... هو إذن رجل لا شرف له ولا مروءة، وقد كانت أحبته لأنها كانت ترى فيه جدا واستقامة. أما زوجها فيسألها ماذا تريد أن تصنع هي؟ تجيبه: وما يعنيك من هذا؟ فيقول: إنك ستظلين زوجي حتى يفرق الطلاق بيننا، فمن الحق أن أعرف إلام تصيرين، عجيب! سأذهب إلى حيث كنت، إلى بيت عمي فهو خير كريم. ولا يكاد صاحب الشرطة يسمع هذا حتى يملكه غضب لا حد له، فهو يحس أن «ليونتين» ستعود إليه، وهو إنما ترك باريس فرارا من «ليونتين » وهو يريد أن يتقيها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. وانظر إليه يأبى أن يمضي في كتابة المحضر على وجهه، ويعلن أنه لم ير إثما وإنما رأى سيدة محتشمة عند الأستاذ. فلا تسل عن سخط الزوج وحنقه، ولكن صاحب الشرطة ملح، ثم ينتهي الأمر بأن يطلب صاحب الشرطة إلى الزوج أن يتحدثا لحظة على خلوة، فيتفرق عنهما الناس، ويأخذ «أدولف» في النصح لهذا الشاب بأن يعدل عن الطلاق، وما يزال به يبغض إليه الطلاق ويحبب إليه العفو والمغفرة حتى بلغ منه ما أراد، وقد عادت المرأة، فيتركهما لحظة يتم فيها الوفاق بينهما، ويعود وقد استقام له الأمر كما كان يحب، فلن يكون طلاق ولا خصومة، ولن تلجأ إليه «ليونتين». ولكن الزوجين قد أحباه لأنه أصلح بينهما وأحبه الزوج بنوع خاص، فهو يدعوه إلى العشاء، وامرأته تلح في الدعوة. وإذن فقد كان يريد أن يفلت من «ليونتين» فأصبح مكرها على عشرة «ليونتين». •••
فإذا كان الفصل الثالث فقد مضت أيام على هذه الحادثة، ونحن في قصر البارون نرى «ليونتين» تؤنب خدمها في رفق وفكاهة، وقد أقبل «أدولف» مدعوا إلى الغداء، فتلقاه «ليونتين» مبتهجة بلقائه وهو ضيق الصدر بهذه المودة، ضيق الصدر خاصة بمكانه من البارون الذي يجهل كل شيء مما كان بين «أدولف» و«ليونتين»، وهو ينبئ «ليونتين» بأنه قد غير اسمه الخاص عندما سأله عنه البارون، وبأنه يلتمس طريقا للانتقال من هذه المدينة حتى لا يضطر إلى معاشرة الزوجين. ولكن «ليونتين» لا تريد أن يفارقهما، وهي لا ترى في شيء مما كان بأسا، ونحن نحس في كل أحاديثها أن قد تغيرت حقا منذ تلك الحادثة التي رأيتها في الفصل الثاني، تغيرت فأصبحت خيرة طيبة النفس، طاهرة الطبع شديدة البغض للإثم والخيانة، محبة لزوجها شديدة الحرص على الوفاء له، عافية عن الآثمين متجاوزة عن آثامهم، وقد أقبل الزوج فإذا هو أشد من امرأته حبا لأدولف ووفاء له واعترافا بجميله. والرجل مضطرب ضيق الصدر بين هذين الزوجين، ولكن حب البارون لأدولف لا حد له ، فهو يريد أن يلتمس له زوجا ويضن به على هذه الحياة التي تنغصها الوحدة، وامرأته تشاركه في هذا الرأي. وما هي إلا لحظة حتى يهتدي الزوجان إلى القرينة الملائمة. وما الذي يمنع «أدولف» من أن يتزوج ابنة عم البارون «أورتنس»، فهي جميلة غنية خيرة؟! أما أدولف فلا يرى في هذا إلا نوعا من المزاح.
ولكن «أورنتس» قد أقبلت، فلا تكاد ترى «أدولف» حتى تدهش، فهو الذي أنقذها من الموت. وما يكاد ابن عمها يخلو إليها ويحدثها في هذا الزواج حتى تظهر الرضا والاطمئنان، فالقوم جميعا سعداء، ولا سيما بعد أن أقبل النائب «بلانتين» يزور البارون فيلقى صديقه «أدولف» وصاحبته «ليونتين» ويكون في هذا كله اضطراب غريب مصدره حرص «أدولف» على ألا يظهر اسمه الحقيقي، وحرصه أيضا على ألا تظهر المعرفة و«ليونتين». وتكلف هؤلاء القوم جميعا الحيلة في إخفاء الأمر على البارون، هم ينجحون في هذا التكلف، وهم كما قلت لك سعداء ينتظرون الدعوة إلى المائدة. ولكن المصادفة لم تفرغ بعد من عملها، فقد أقبلت عمة البارون الشيخة، فخلت إلى ابن أخيها لحظة تسأله عن أمر الطلاق، فلا يستطيع أن يخبرها بأن قد تم الصلح بينه وبين امرأته، فيزعم لها أن القضية تجري مجراها. ولكن الشيخة قلقة لأن ابنة أخيها «أورتنس» مشغوفة بحب هذا الرجل الشرطي الذي أنقذها من الموت، وهي تخشى أن ينتهي هذا الحب إلى الزواج. فإذا سألها ابن أخيها: وأي بأس في ذلك؟ أجابت: إنها الفضيحة؛ فإن هذا الرجل قد طلق امرأته. فيدهش الشاب لأنه كان يقدر أن صاحبه لم يتزوج. فتؤكد له عمته ذلك، وتخرج له وثيقة استخلصتها من المحكمة في باريس، وفيها أن هذا الرجل - واسمه «أدولف ديبوا» - قد كان سكيرا يضرب امرأته، فطلقت امرأته عليه، ثم أثبتت لابن أخيها أن هذا الرجل هو بعينه الذي عين منذ أيام مديرا للشرطة. فقدر أنت دهش الشاب واضطرابه حين يعلم أن صاحب الشرطة هو الزوج الأول لامرأته، واسمع لعمته تقول له الآن كما قالت له في الفصل الثاني: أخشى أن أكون قد أسأت إليك عن غير عمد يا ابن أخي! وقد انصرفت عنه وتركته في هياج واضطراب. فانظر إليه وقد دخل عليه «أدولف» ومعه «ليونتين»، كيف يستقبل صاحبه مضطربا ساخطا صاخبا، يعلن إليه اسمه وصناعته الأولى في باريس وقضيته مع امرأته ... والرجل يعترف بكل شيء في وجوم ودهش، حتى إذا فرغ من هذا أعلنت «ليونتين» أن «أدولف» لم يكن في يوم من أيام حياته سكيرا ولا شريرا، لم يضربها ولم يسئ إليها، وإنما هي التي خانته فأراد الطلاق، وكره أن يكون الحكم عليها، فقبل أن يتهم نفسه وأن يقع الطلاق عليه هو. ثم تتبع امرأته بعد الطلاق بالبر والعطف، حتى كان هذا الحادث الأخير. وانظر إليها ترفق بزوجها وتترضاه في خفة ودعابة وطهر، حتى تأخذ يده فتضعها في يد زوجها الأول. وتدخل «أورتنس» ومعها النائب يستعجلان الغداء، فيضع البارون ذراع «أدولف» في ذراع «أورتنس» وقد سماه باسمه هذه المرة. فإذا سمع النائب ذلك أظهر الدهش، فينبئه صاحبه أن قد عرف الرجل كل شيء، وهم يتقدمون إلى المائدة والخادم مقبلة وفي يدها زهر تقدمه إلى سيدتها كأنما تهدي هذا الزهر إلى هذين الخطيبين.
مايو سنة 1927
الملهى
صفحة غير معروفة