نعم هي قصة فكاهية ولكنها لا تخلو من الجد، أو قل هي قصة فكاهية ولكن كلها جد. فلن تخطئ إذا قلت هذا، ولن تخطئ إذا قلت إن الفكاهة في هذه القصة مع أنها روح القصة وغايتها لم تتخذ في حقيقة الأمر إلا وسيلة إلى الجد، وسيلة إلى هذا الجد الذي يحسن ألا يقصد إليه مباشرة، وألا يعمد إليه الكاتب في غير احتيال وتكلف للطرق المعوجة؛ إما لأن الكلام قد كثر فيه حتى أصبح حديثا معادا مملولا، فلا بد من عرضه في صور جديدة لم يألفها الناس، وإما لأنه من هذا الجد الذي تأبى الأخلاق العامة والأوضاع الاجتماعية أن يهجم عليه الكاتب في غير احتياط ولا تلطف بالنظارة والقراء، فهو مضطر إلى أن يحتال ويفتن في الحيلة ليسمعك ما يريبك دون أن يروعك أو يسوءك أو يشق عليك.
والجد الذي يقصد إليه كاتبنا في هذه القصة ويتخذ الفكاهة وسيلة إلى إدخاله في نفوس القراء والنظارة، لا يخلو من هذين الأمرين جميعا، فقد كثر الكلام فيه حتى سئمه الناس أو كادوا يسأمونه، وهو مع ذلك دقيق لا يخلو مما شأنه أن ينفر الحريصين على الأخلاق والمألوف من الأوضاع الاجتماعية. ولكنه على كثرة الكلام فيه حتى مل، وعلى دقته ومخالفته لما ألف الناس من خلق وعادة، خليق بالعناية حري بالتفكير، لم يصل فيه الناس بعد إلى رأي قاطع مقبول. وأنت تعلم حق العلم أن القصاص، سواء منهم الممثل وغير الممثل، قد عالجوا أمر هذه المرأة اللعوب التي تخون زوجها، فتسرف في خيانته حتى تتمثل كأنها الرذيلة مجسمة، ولكن لها من دون ذلك العبث والفجور طبيعة خيرة قابلة للصلاح والطهر. وأنت تعلم أيضا أن هذه المرأة على كثرة ما أدافع عنها القصاص والأدباء والفلاسفة لا تزال بغيضة إلى سواد الناس، ممقوتة أمام ما اتفق الناس على أنه الأخلاق والعادات الموروثة. وأحب أن تطمئن، فما أريد أن أدافع عن هذه المرأة، وما أريد أن أغير في الأخلاق، ولا أن أمس هذه العادات بخير ولا بشر، فلست أنا من هذا كله في شيء، وما أنا بالذي يفكر في نقد النظام الاجتماعي وتغييره قليلا أو كثيرا. إنما هي قصة أعجبتني، وأظن أنها ستعجبك، بل أتمنى أن تعجبك، ولهذا ألخصها لك، وأعرضها عليك في غير حكم ولا تأييد.
في هذه القصة خفة ورشاقة، وفيها مجون ودعابة . ولكن من الذي حظر على الناس أن يعمدوا إلى القصص الخفيف الرشيق الذي تزيده الدعابة خفة ويزيده المجون رشاقة، فيقرءوه ويشهدوه؟ ومن الذي يستطيع أن يزعم أن الأدب لا يكون أدبا إلا إذا كان جدا كله؟ ومن الذي يستطيع أن ينكر أن الدعابة والفكاهة قد تبلغان من التأثير في النفس ومن إذاعة الخير وتحبيبه إلى النفوس ما لا يبلغه أشد الجد حموضة وعبوسا؟
على أن قصتنا ليست من هذه الدعابة الممقوتة، ولا من هذه الفكاهة التي تضيق بها نفس الرجل الخير المتشدد في حب الخير. فهي تقارب العبث وتدنو منه فتسرف في الدنو، حتى يخيل إليك أنها ستتورط فيه، ولكن الكاتب ماهر حريص على الخلق، حريص قبل كل شيء على حس الجمهور، وعلى حسه من ناحية الخير، فهو لا يريد أن يؤذيه، فهو يدنيك من هذا العبث حتى تكاد تلمسه. ثم ما هي إلا حركة يدفع بها قلمه، فإذا أنت بعيد من الإثم كل البعد، وإذا أنت لم تشهد منه إلا هذه الناحية التي تضحكك من الشر وترغبك عنه.
وهي فوق هذا كله تعرض لطائفة من الموضوعات الاجتماعية القيمة التي لن يوفق الناس لأن يتخذوا لهم فيها رأيا قاطعا. تعرض لموضوع الطلاق مثلا، فمما لا شك فيه أن الناس سيظلون مختلفين في الطلاق، يراه بعضهم خيرا لأنه يرفه على الناس ويفصل بين الزوجين اللذين لا سبيل إلى أن يعيشا مؤتلفين، ويمكنهم بذلك من حماية كرامتهم وشرفهم وآدابهم. ويراه بعضهم شرا لأنه يفصم عروة قد أحكمها الدين كما يقول المسيحيون، ولأنه أبغض الحلال إلى الله كما يقول المسلمون. وسيظل أولئك وهؤلاء في خلاف وجدال ما احتاج الناس إلى أن يكون بينهم الزواج والطلاق. ولكن هناك وجها من وجوه الطلاق لا يفكر فيه الناس كثيرا، وربما لم يفكروا فيه بوجه من الوجوه، وهم مع ذلك يحسونه ويجدون فيه اللذة حينا والألم حينا آخر؛ ذلك أن الطلاق في حقيقة الأمر وسيلة قانونية للفصل بين شخصين لا يستطيعان الحياة مؤتلفين، كما أن الزواج وسيلة قانونية للجمع بين شخصين يحبان أن يعيشا مجتمعين. ولكن المسألة هي أن نعرف أيستطيع الطلاق بعد أن يحقق هذا الفصل القانوني أن يحقق فرقة أخرى صحيحة فيقطع الصلة قطعا باتا بين الزوجين كأن لم يعرف أحدهما الآخر؟ كما أن هذه المسألة نفسها تعرض بالقياس إلى الزواج، فالزواج يجمع الزوجين جمعا قانونيا، ولكنه قد يعجز في كثير من الأحيان عن أن يؤلف بينهما تأليفا صحيحا قويا. ولعلك تذكر أني قد حدثتك منذ حين عن قصة لهذا الكاتب نفسه، عرض فيها للطلاق وعجزه عن أن يفرق بين الزوجين إذا جمع بينهما الحب الصحيح. وهذه القصة هي قصة «المذهبين» التي رأيت فيها رجلا خان امرأته، فأسرف في خيانتها حتى طلبت الطلاق وظفرت به وهمت أن تتخذ لها زوجا آخر. ومضى زوجها الأول في إثمه وعبثه، ثم التقيا فظهر أن الطلاق لم يفرق بين قلبيهما وإن فرق بين جسميهما، وظهر أنهما مضطران إلى أن يستأنفا حياتهما الأولى.
وكاتبنا في هذه القصة التي نحن بصددها يعرض للطلاق من هذه الناحية، وإن كان لا ينتهي إلى مثل النتيجة التي انتهى إليها في القصة الأخرى، بل ينتهي إلى نتيجة مناقضة من وجه ما لتلك النتيجة. فسنرى زوجين لم يستطيعا أن يعيشا مؤتلفين؛ لأن المرأة خانت زوجها، فأسرفت في الخيانة حتى طلب الزوج الطلاق فظفر به. ولكن هذا الرجل طيب القلب، خير الطبع، فهو يعطف على زوجه بعد الطلاق، ويمدها بما تحتاج إليه من معونة. وهو ينالها بالبر والمودة أكثر مما كان يفعل قبل الطلاق، وهو يحس أن هذا العطف وهذه المودة يناقضان أشد المناقضة ما ألف الناس من عادة وقانون، فهو مضطرب بين إرضاء طبعه وعاطفته وإرضاء العرف. وهو يذعن في كثير من الأحيان للطبع والعاطفة، ولكنه يذعن مرة للعرف فيفر من امرأته المطلقة، ويخيل إليه أنه بهذا الفرار سيريح نفسه من هذا الجهاد العنيف. ولكنك تعلم أن «ألفريد كابو» صديق للمصادفة، فهو يرى أن لها أعظم الأثر في تدبير حياة الأفراد والجماعات، وقد بينت لك هذا في كل ما حللت من قصصه. وهو هنا يعرف للمصادفة هذا السلطان ويسخرها في قصته، وإذن فيستطيع صاحبنا أن يفر من زوجه المطلقة، فالمصادفة كفيلة بأن تكرههما على اللقاء، وإذن فسيظل الجهاد متصلا بين هذه العاطفة التي تعطف الرجل على زوجه بعد الطلاق، وهذا العرف الذي ينكر ذلك ويراه إثما أو شيئا يشبه الإثم، ولا بد من تدخل المصادفة موقف هذا الجهاد عند حد ما.
فأنت ترى أن هذا الوجه من وجوه الطلاق خليق في نفسه بالعناية بالدرس، وأن الكاتب مهما يصطنع من الفكاهة والمجون لدرس هذا الموضوع وتقريبه إلى الناس، فليس مسرفا ولا غاليا في العبث. ذلك إلى أن الأمر نفسه حقيقة من الحقائق الاجتماعية التي لا تقبل الشك. فكلنا يعلم أن الطلاق كثيرا ما يعقب الندم والحسرة، وكلنا يعلم أن قد كان لهذا أثره في آداب الأمم المختلفة، في آدابنا العربية وفي الآداب الأجنبية على كثرتها واختلافها. وإذن فهي حقيقة من الحقائق الاجتماعية يجب أن تدرس، وأن يتخذ الأدباء إليها الوسائل المختلفة: قصصا حينا وتمثيلا حينا آخر، جدا مرة، وفكاهة مرة أخرى. ذلك إلى أن هناك أشخاصا من حق الأديب أو من الحق على الأديب أن يصورهم للناس، فقد يكون في تصويرهم، إلى جانب النفع الفني، نفع خلقي واجتماعي. قد يكون هؤلاء الأشخاص أخيارا، ففي تصويرهم ما يدعو إلى القدوة، أو أشرارا ففي تصويرهم ما ينفر منهم.
والحق أن الأشخاص الذين صورهم الكاتب فأحسن تصويرهم في هذه القصة قليلون، هم أربعة ليس غير، ومن حولهم أشخاص آخرون لا يمتازون بشيء، وهؤلاء الأشخاص الأربعة قد أحسن الكاتب تصويرهم حتى أصبح من اليسير جدا أن ننقل إليك صورهم في غير إطناب ولا إطالة.
فأما أولهم فهو «أدولف ديبوا» رجل من أوساط الناس، له ثروة ولكنها ضئيلة، يعمل في ديوان من دواوين الحكومة، خير الطبع، رضي النفس، مستقيم الخلق، ضعيف الإرادة، يكره الشر ولكنه لا يستطيع مقاومته في يسر، ويحب الخير ولكنه يحب نفسه أيضا، فهو لا يستطيع أن يعتمد على نفسه في شيء وإنما هو محتاج إلى من يعينه ويرشده ويوجهه إلى سبيل الخير، وهذا الرجل هو الزوج الأول.
وأما الشخص الثاني فهو البارون «إدوار دي لاجامبيير» شاب من الأشراف، ضخم الثروة، ولكنه كصاحبه خير ضعيف الإرادة، لا يستطيع المقاومة ولا يقوى على الجهاد إلا في ناحية واحدة، وهي الناحية المضادة لميول الأشراف وما توارثوا من عادة وسنة، فهو يكره عادات الأشراف، ولا يحرص على تقاليدهم ولا يحفل بها.
صفحة غير معروفة