ثم يعلن الشيخ إلى الفتاة أن في القصر غرفا كهذه الغرف، فيها متاع أقدم من هذا المتاع وأجمل. فترغب الفتاة في أن ترى، ويقبل الشيخ على أن يظهرها على هذا المتاع. وينصرفون جميعا إلا الخطيبين، تخلفا فيما يظهر ليختلسا كلمة أو قبلة، والفتاة تدعو صاحبها إلى أن يتبعها إلى حيث ترى المتاع، وهو يأبى ويتعلل، وما هي إلا أن تفهم من تعلله أنه لا يريد أن يرافق أباه، وأنه ضيق الذرع بأبيه وطبقة أبيه وما لهذه الطبقة من عادة وما فيها من عيب، وأنه شديد الإعجاب بأمه وطبقة أمه وما فيها من ترف ولين ورقة. وانظر إليه وقد استكشف هذا المتاع القديم الذي كان يسمى «سعادة اليوم»، فهو يظهر الفتاة على محاسنه وما فيه من رشاقة فنية، وهو يوازن لها بين هذه الأداة الرشيقة التي تمثل ذوق أمه وأسرتها الشريفة، وبين تلك الأدوات الغليظة التي يمتلئ بها القصر والتي تمثل ذوق هذه الطبقة الوسطى التي سادت بعد الثورة.
وقد تركته الفتاة، فعمد إلى هذا المتاع، وأخذ ينظر في أدراجه ويستنشق رائحتها في شغف وفتنة؛ لأن هذا المتاع قد كانت أمه تستخدمه في شبابها، فهو إنما يتنسم شباب أمه. وقد جذب إليه درجا فتنسمه، ثم حاول أن يرده فيستعصي عليه كأن شيئا يعترض دونه، فينظر فإذا حزمة من الورق، فيسرع إليها متلهفا ويتردد ثم يفضها، فإذا رسائل تنتثر، فيسرع إلى هذه الرسائل يجمعها ويخفيها في جيبه، ولكنه يسمع صوتا فيبالغ في السرعة، ثم ينهض فينصرف وقد أقبل أبوه فرآه موليا، ونظر فإذا رسالتان على الأرض قد أخطأهما فيسرع إليهما فيدسهما في جيبه. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فقد مضت أيام على ما قدمت لك، والقوم مجتمعون في غرفة المائدة بعد العشاء ومعهم الخدم جميعا كأنهم في حفل منزلي، والشيخ قائم أمام نار الموقد المتأججة يشوي فيها بنفسه «الشاه بلوط» أو (الكاستينا كما يسمونه الآن). وهو يقص على الفتاة وأمها من عادات الإقليم وأحاديثه ما يضحكهما ويلذهما. وهم جميعا مبتهجون إلا الشاب، فقد تنحى وانصرف إلى كتاب كأنه ينظر فيه، وإلا أم الفتى فهي قلقة لما تشاهد من ضيق ابنها وسوء الحال بينه وبين أبيه. وقد انتهى عبث الجماعة إلى آخره، وأعلن الشيخ أن ستجمع طائفة من هذا «الشاه بلوط» الذي يشوى، تخرج من الجمر ثم يوضع عليها غطاء ما، ثم تجلس عليها أصغر الحاضرين سنا. وقد قبلت الفتاة، والخدم مبتهجون، وأمها مترددة متكلفة. ولكن الفتى يترك كتابه وينهى خطيبته عن هذا العبث فتأبى، فيلح فتزداد إباء، فيبالغ في الإلحاح فتغضب. ويفسد الأمر بينهما بعض الشيء، وتنصرف غير حافلة بأمها ونذيرها، وقد أعلنت أن خطيبها يجب أن يعرفها حق المعرفة، وأن يعلم قبل أن يتخذها له زوجا أن لها إرادة، وأنها قد تغلو في هذه الإرادة أحيانا، وقد فسد الحفل وانقلب السرور شيئا يشبه الحزن.
ومضى كل إلى مضجعه، ويظل المسرح خاليا حينا، ثم إذا الشاب قد أقبل إلى المكتبة يتلمس فيها شيئا، فيستخرج مجمعا للصور وينظر فيه كأنه يبحث عن صورة بعينها، حتى إذا انتهى إليها اختلسها ودسها في جيبه. وما يكاد يفرغ من هذا حتى يحس صوتا، فيرد مجمع الصور ويظهر أنه يأخذ كتابا. وقد أقبل أبوه، فيسأله ماذا يصنع؟ فيجيب الفتى أنه قد امتنع عليه النوم، فأقبل يلتمس كتابا يستعين به على الأرق. يجيب الشيخ: وهذه حالي، فلنتحدث قليلا.
وما يكادان يبتدئان الحديث حتى يصل الشيخ إلى ما كان يريد، فهو يريد أن يتعرف من شأن ابنه مصدر هذا الضيق الذي ظهر عليه منذ أيام، والذي أقلق أمه ونغص عليها الحياة، أو قل إن الشيخ يعرف مصدر هذا الضيق ولكنه يريد أن يتحدث فيه إلى الفتى. أما الفتى فيتكلف الجواب ويحتال في اتقاء الشيخ، ويعلن إليه أنه ضيق الذرع بهذه الحياة التي يحياها بعد الحرب والتي لا عمل فيها، وأنه يريد أن يعمل وأن يكسب وألا يكون مدينا بحياته لأحد.
أما الشيخ فلا تخدعه هذه المحاولة، وما هي إلا أن يصل إلى غرضه في صراحة فيعلن إلى الفتى أنه قد عثر بطائفة من الرسائل، ولكنه نسي منها اثنتين ويدفعهما إليه، وأنه قد قرأ هذه الرسائل وعرف ما عرف من أمرها، وأن هذه الرسائل هي التي تنغص عليه حياته. فإذا أظهر الفتى شيئا من الدهش أنبأه الشيخ في هدوء وألم مبتسما بأنه يعرف ما في هذه الرسائل منذ ثلاثين سنة، ثم يقص على الفتى القصص.
فليس الفتى ابنه، وإن كان ابنه أمام القانون وأمام الناس وأمامه هو أيضا؛ ذلك أنه قد كان تزوج من امرأته دون أن تحبه، كما يتزوج أصحاب الثروة من الفقيرات في غير حب ولا كلف. فلما لم يجد من امرأته حبا ولا حنانا ولا هياما زهد فيها وانصرف عنها إلى اللهو والعبث، وفرحت هي بهذا الزهد والانصراف. وفي ذات ليلة لقي صديقا له كان رفيقه في المدرسة، وكان من الأشراف، وكان قد أحب امرأته وكانت قد أحبته، وكانا يريدان الزواج، ولكن الفقر حال بينها وبينه. فلأمر ما حرص صاحبنا على أن يستأنف الصلة بينه وبين صديقه القديم. وانظر إليه يتهم نفسه أشنع التهم في لطف ورقة وكرم أيضا. انظر إليه يحدث الفتى بأنه اجتهد في أن يتردد صديقه على بيته وتتجدد الصلة بينه وبين حبيبته القديمة لأمر لا يكاد يتبينه، وربما كان منه أنه أحب أن يثير في نفس امرأته حبها القديم لهذا الرجل لعلها تتورط في شيء من الإثم فيتخذ ذلك حجة عليها وعذرا لنفسه من آثامه الكثيرة. ومهما يكن من شيء فقد كان ما لم يكن منه بد، وأثمت المرأة، وكان الفتى نتيجة هذا الإثم، فأما أبوه فقد ندم وألح عليه الندم حتى التحق بجيش من جيوش المستعمرات الأفريقية، وجاهد حتى اشترى خطيئته بالموت. وأما أمه فقد لقيت في الحمل آلاما ثقالا وتعرضت في الوضع لخطر الموت، ووقف زوجها بين الأمانة لمهنته كطبيب يجب أن ينقذ المريضة، والانتقام لنفسه كزوج يريد أن يقتل الخائنة، فوفى لمهنته وأنقذ المريضة حتى إذا تم لها الشفاء لم يجد في نفسه القدرة على استئناف الانتقام فصفح وعفا. وندمت زوجه وتابت، وكانت بينهما مودة استحالت حبا قويا شريفا استفاد منه الطفل، فنشأ بين قلبين يحبانه ويعطفان عليه.
وقد سمع الفتى هذا القصص، ولكنه بطل من أبطال الحرب، قد تعود الهول وتجشمه، وتعود المكروه وصبر نفسه عليه، فهو يألم ولكنه يكظم ألمه، وهو بين أمرين يتنازعان قلبه ونفسه: السخط على أمه وأبيه؛ لأنهما وضعاه في هذه المنزلة الكريهة، والبر بهذه الأم التي لقيت في سبيله ما لقيت من ألم، وتعرضت في سبيله لما تعرضت له من خطر. وهذا الشيخ الذي كان يظنه أباه والذي كان ينكره ويضيق به والذي ظهر الآن أنه ليس منه في شيء: أيحبه لأنه نشأه ورباه كما ينشئ الأب ابنه في مودة وحنان وحب؟ أم يبغضه لأنه ليس منه في شيء، ولأنه هو الذي عرض أمه للإثم والخطيئة، وهو الذي اضطر أمه إلى أن تلده في غير رضا الأخلاق والقانون؟ وأبوه! أيحبه لأنه أبوه؟ أم يبغضه لأنه ورط أمه في الإثم وجنى عليه هذا الوجود المنكر؟ وخطيبته! ماذا يصنع بها؟ أيمضي في حبها ويكتم عليها ما عرف من أمره، فهو إذن يغشها ويدلس عليها؟ أم يظهرها على كل شيء؟ وإذن فإلى أي حال ينتهي حبه وكبرياؤه وكرامته؟
وهذه الثروة الضخمة التي يكلها إليه الشيخ، أيقبلها وليست له؟ أم يردها؟ وإذن ماذا يصنع؟ فأنت ترى إلى هذا الموقف المعقد وإلى ما فيه من حرج.
وموقف الشيخ! أتظنه يخلو من الحرج؟ كلا، فقد عفا عن امرأته، وقد استطاعت امرأته أن تمحو ما في نفسه من موجدة. وهو يحب امرأته ويريد أن يحميها من كل مكروه، وقد كان هذا يسيرا ما خفيت القصة على الفتى. ولكن الفتى قد عرف القصة، ووقف الشيخ منه في صراحة موقف الغريب، فماذا يصنع؟ وكيف يعصم امرأته من احتقار ابنها وسخطه؟ وهو كان أحب الفتى واتخذه ابنا حقا، وقد ظهرت خبيئة الأمر، فما له بشيء هذا الفتى؟ ومع ذلك فلم يأثم الرجل ولم يقترف خطيئة ، وإنما تكلف اتهام نفسه ليخفف عن امرأته وليعطف الشاب على أمه. ما خانها ولا تعمد إغراءها وتوريطها في الإثم. ومهما يكن من شيء فهو لا يطلب الآن إلا أن تجهل امرأته أن ابنها قد ظهر على جلية الأمر، وهو يائس - أو كاليائس - من حب هذا الفتى، وقد ضحى بنفسه مرة أخرى. على أنه قد لقي من حب امرأته ما عزاه عن تضحيته الأولى، فلعله يلقى من إحسانه إلى الناس ومن حب الفتاة ما يعزيه عن التضحية الثانية. •••
صفحة غير معروفة