وهناك فتاة أخرى «مارت أوبري»، معلمة في المدينة، رائعة الجمال، طيبة النفس، مستقيمة الخلق، أدركها اليتم هي وأختها ولما يتم تعليمهما فمضتا حتى أتمتاه. فأما أختها فآثرت العاجلة وانطلقت مع أول رجل غني عرض عليها الترف والثروة، وأما هي فآثرت الاستقامة والحياة الشريفة، وقنعت بمنصب المعلمة في إحدى مدن الأقاليم. وهي تحب «فالنتين برينو» مدير المكتبة هذا الذي قدمته لك منذ حين، وهي تطمع في أن تقترن به، وهي تتردد على المكتبة في كل يوم تزعم أنها تريد البحث في دائرة المعارف، ولكنها لا تريد في حقيقة الأمر إلا أن ترى هذا الشاب يحبها ولا يكره أن يقترن بها، ولكنه يحب قبل كل شيء أن يظفر بمكانة تلائمه في باريس.
وهل تحب أن أتم هذه المقدمة، فأذكر لك هذا الشخص الأخير الذي سنراه في الفصلين الثالث والرابع، وهو «بلوك»، مدير مكتب للتخديم يعرف كل شيء، ويسعى في كل شيء، ويقدر على كل شيء، وإن كان في حقيقة الأمر لا يعرف شيئا ولا يكاد يقدر على شيء.
هؤلاء هم الأشخاص، وهم كما ترى، عاديون لا يمتاز أحدهم بشيء ما، ولا يمكن أن تكون القصة التي تقع بينهم إلا عادية لا أثر فيها للانفعال الحاد ولا للضحك العنيف. •••
فأما الفصل الأول من هذه القصة، فيقع كما قدمنا في مدينة من مدن الأقاليم. ونحن إذا رفع الستار في المكتبة، وأمامنا مساعد المدير كأنه يرتب كتبا. على أننا لا نلبث أن نشعر أن هذه المكتبة كغيرها من مكتبات المدن فقيرة كل الفقر، لا تكاد تشتمل إلا على دائرة المعارف وبعض الكتب أو المجلدات السياسية. وقد دخل خادم مأمور المركز، يطلب مدير المكتبة ليجيب سيده، وهو يعلن في ثرثرة ظريفة أن المأمور مغضب؛ لأن مدير المكتبة قد كتب في صحيفة المدينة فصلا سياسيا عضد فيه مرشحا في مجلس الشيوخ معاديا للحكومة وذم فيه مرشح الحكومة وهو قريب المأمور. ولا يكاد يخرج الخادم حتى يأتي مدير المكتبة، فإذا هو كما قدمنا فتى ظاهر الرشاقة واللباقة، ولكنه في حقيقة الأمر ليس شيئا لولا أنه شديد الطمع قوي الإرادة. فإذا أخبر بأن المأمور يدعوه وأنه مغضب منه لم يحفل بذلك، وإنما أخذ يحدث صاحبه عن الفصل الذي كتبه في صحيفة «المستقبل» وهاجم فيه قريب المأمور في قوة وعنف، ودافع فيه عن خصمه دفاعا شديدا، فإذا سأله صاحبه: فيم هذا الهجوم؟ أنبأه بأن قريب المأمور هذا قد ذكره بسوء فيما بلغه، وأنه لا يعرف خصمه، ولكنه مع ذلك يؤيده ويبذل في ترشيحه ما يملك من قوة. ويكون بين الرجلين حوار نفهم منه أن أحدهما - وهو المدير - يتحرق شوقا إلى باريس لعله يظفر فيها بما يريد من هذه المكانة العالية، وأنه واثق بالوصول إلى ما يحب، فكل شيء يدله على ذلك: انظر إلى هذا الجيل الذي يريد أن ينقضي كيف ضعف واضمحل، وكيف عجز وانحل، وكيف أخذ الفساد يعمل فيه من كل ناحية ، فلا خلق، ولا قوة، ولا إرادة، ولا مهارة، ولا استقامة في الأعمال. وهذا مأمور المركز: ما قيمته؟! وماذا عمل وهو يخدم الحكومة منذ خمس عشرة سنة؟ وهذا المدير أتظنه وصل إلى منصبه لولا أنه أصهر إلى سكرتير الوزير! والأمر كذلك، فهي جميع طبقات هذا الجيل وفي أنحاء الحياة الاجتماعية كلها: جيل يفنى، وجيل آخر ينهض. وهذا الجيل الناهض منتصر من غير شك؛ ففيه حب الحياة وطموح إلى الرقي، وفيه قوة على الجهاد وصبر على المكروه، وفيه نبوغ واستعداد للنبوغ. انظر إلى صاحب الصحيفة التي تصدر في هذه المدينة، لقد عرض على الفتى المدير 150 فرنكا في الشهر على أن يكتب لصحيفته فصلا في كل يوم. فهو إذن يستطيع أن يعيش خارج المكتبة، وهو يستطيع أن يغضب المأمور؛ هذا كله في الأقاليم، فكيف به لو ذهب إلى باريس!
أما صاحبه، فهادئ معتدل قانع فيلسوف، ينصح لرئيسه بالهدوء والدعة والرضا بما هو فيه، وينصح له بنوع خاص بألا يلتمس في الحياة إلا هذه السعادة الهادئة العادية، وما له لا يفكر في هذه الفتاة المعلمة التي تحبه وتتردد على المكتبة من أجله، وتتمنى أن تكون له زوجا! أليس هو يحبها أيضا؟! بلى! هو يحبها، ولكنه لا يتعجل هذه السعادة، وإنما يريد أن يصل إلى الثروة والمكانة قبل أن يفكر في الزواج.
فأما وقد تحدث الرجلان في الحب، فلم يكن بد لصاحبنا المساعد الفيلسوف من أن يذكر حبه أيضا؛ فهو أيضا يحب، ولكنه يحب من غير أمل، يحب امرأة لا يعرفها ولا ينتظر أن يعرفها، رآها مرة في باريس وقد كان يمشي الهوينا في الغابة، فإذا هي تنزل من عربتها، وإذا منديلها يسقط فيلتقطه هو ويدفعه إليها فتأخذه شاكرة، وهذا يكفي ليذكي في قلب صاحبنا للحب جذوة متوقدة. وصاحبنا فيلسوف يحتمل هذه الجذوة وما لها من لذع، ولكنه يعلن أنه إن رأى هاتين العينين السوداوين مرة أخرى فلن يستطيع أن يضبط نفسه، ولن يكون له على حبه سلطان.
وهذه الفتاة المعلمة قد أقبلت تكلف مساعد المكتبة أن يعد لها جزءا من «لاروس» لتنظر فيه بعد حين، ولكنها رأت المدير فتتحدث إليه، ويدعوها هو إلى مكتبه ليظهرها على بعض الصحف التي وصلت من باريس فتمتنع عليه، فإذا سألها: لماذا؟ أجابته: لأني إن تبعتك إلى المكتب حاولت أن تقبلني كما حاولت في المرة الماضية، فأمتنع عليك فنتغاضب، وفيم نتغاضب ونحن صديقان؟! على أني لا أكره أن تقبلني، بل قد أجد في ذلك سعادة، ولكن قبل أن أسمح لك بهذه اللذة ولنفسي بهذه السعادة، يجب أن تخطبني، ويجب أن أعرف متى نقترن، ولم لا نقترن؟
فإذا ذكر لها طمعه في الثروة والمكانة، دهشت وأعلنت إليه أنها راضية بمكانتها ومكانته، وأنها ترى أنهما يستطيعان أن يعيشا سعيدين. وأخذت ترغبه في الزواج وتذكر له أمورا من شأنها أن تشجعه عليه، ومن هذه الأمور أنها تحبه، ولكنه مصر على الثروة قبل كل شيء، فتدعه على أن تعود لتنظر في دائرة المعارف. وما تكاد تخرج حتى يأتي «جونيل» هذا الرجل الغني الذي يرشح نفسه لمجلس الشيوخ، يأتي لأنه قرأ الفصل الذي نشره الفتى في الصحيفة فجاء شاكرا. وما هي أن يرى الفتى ويتحدث إليه حتى يعجب به، فيعرض عليه أن يكون سكرتيره، وأن يرافقه إلى باريس. ولا يحتاج إلى الإلحاح على الفتى في ذلك، فقد قبل الفتى، وما له لا يقبل وهو سيذهب إلى باريس، وسيعمل في السياسة، وسيكون يد هذا الرجل اليمنى حتى يصل إلى مجلس الشيوخ ثم إلى الوزارة. ومن يدري؟! ماذا يجني هو في أثناء هذا كله؟! على أن صاحبنا الشيخ ينبئه بأنه يخوض غمار الانتخابات على كره من زوجه؛ فهي لا تحب السياسة، ولكنه واثق بالانتصار عليها، وهو يعلم أن امرأته ستغضب حين تعلم أنه قد اتخذ له سكرتيرا، ولكن غضبها لن يطول، فهو يوصي الفتى بالأناة والرفق. أما الفتى فقد قبل كل شيء وهو يترك صاحبه ليكتب الاستقالة. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى تأتي امرأته، فإذا هي، كما قدمنا، شديدة السخط على السياسة، شديدة البغض لاندفاع زوجها فيها. ولا يكاد زوجها ينبئها بأنه اتخذ له سكرتيرا حتى تثور، ولكن السكرتير قد أقبل وقد نظرت إليه فتحس أنه وقع من قلبها، وهي تتلقاه متكلفة بعض الفتور، وتدعوه إلى العشاء متكلفة بعض الفتور أيضا.
وينصرف الزوجان وتعود الفتاة المعلمة، فلا تكاد تتحدث إلى صاحبها وتعلم باستقالته واعتزامه السفر إلى باريس، حتى يأخذها الحزن والجزع والاضطراب، وهو يهدئها ويخطبها ويعدها، ولكنها لا تحفل بذلك ولا تكاد تصدق منه شيئا. وهي تدع صاحبها وتنصرف إلى الكتاب تريد أن تنظر فيه فلا تستطيع. وأنى لها ذلك وقد ملكها الاضطراب، فهي لا ترى إلا صاحبها، ولا تفكر إلا في سفره. وهي في ذلك وإذا امرأة تدخل وتسعى في خفة حتى تصل إليها فتقبلها، فإذا التفتت رأت أختها «بوليت» وهي لم ترها منذ سنتين، منذ انقطعت هي إلى التعليم ومضت الأخرى مع أول رجل غني لقيها. وأختها تنبئها بأنها كانت مسافرة معه إلى نيس، حتى إذا وصلا إلى ديجون ذكرت أختها فقالت له: يجب أن نفترق هنا لأرى أختي وسألقاك آخر النهار. فإذا سألت أختها: من هو؟ أجابت: هو! هو الذي تعرفينه، هو جوستاف! على أني سألقاه آخر النهار، ولم أشأ أن أصطحبه حتى لا أعرضك لسوء القالة، فإذا سألك عني أحد فقولي إني معلمة في باريس، وأنت تذكرين أني كدت أكون معلمة في باريس لولا أن وصل جوستاف. كلا! لم يكن جوستاف، وإنما كان إدوار. ثم تمضي في هذا الحديث السريع حتى تسأل أختها عن حالها، فما أسرع ما تتبين أنها محزونة! وما أسرع ما تفهم سبب هذا الحزن، وما أسرع ما يظهر حبها لأختها وحماستها في الدفاع عنها! وبينما أختها تجذبها للخروج من المكتبة؛ إذ يقبل مدير المكتبة، فما أسرع ما تعرف هذه المرأة أنه هو الذي تحبه أختها، فتأخذ في لومه وتعنيفه وترغيبه عن باريس. •••
وإذا كان الفصل الثاني، فنحن نراه جالسا إلى المنضدة وفي يده القلم، وصاحبه الشيخ يملي عليه بدء منشور انتخابي. ولكن الرجل لا يكاد يقيم الجملة الأولى من المنشور؛ فهو يتردد ويضطرب ويستأنف القول ثم يعيده ثم يستأنفه دون أن يستطيع التقدم، فيعرض عليه كاتبه أن يفعلا كما فعلا في المرة الماضية، فما أسرع ما يقبل مسرورا، وإذا هو قد جلس إلى المنضدة وأخذ القلم، ونهض الكاتب فأخذ يمشي في الحجرة ممليا، وإذا الكلام متصل مستقيم، والجمل يتبع بعضها بعضا في غير تردد ولا اضطراب، والشيخ راض مبتهج يعلن في سذاجة أنه لا يحسن الكتابة إلا إذا جلس هو وأخذ القلم ومشى كاتبه وأملى.
صفحة غير معروفة