وهناك عقدة أخرى، فهبها أقامت ولم تفر، فما موقفها بإزاء زوجها، والصلة الزوجية منقطعة بينها وبينه؟ أتظهره على هذا الحمل؟ وإذن فهي الفضيحة والطلاق وحرمانها أولادها وعشرتهم والإشراف على تربيتهم! أم تخفيه وتخادعه وتتقرب منه حتى تتجدد الصلة بينهما وحتى يخيل إليه أن الجنين ابنه؟ وإذن فهو النفاق والتضليل، وهو قبل كل شيء إنكار هذا الحب والتضحية به، وهل تملك التضحية بهذا الحب؟ أترى إلى العقدة وإلى أي حد انتهت من الإحكام؟ ومع ذلك فلا بد أن تحل، ولن يحلها إلا التفكير والتروية، فسيفكران وسيرويان وسيلتقيان غدا ليفضى كل منهما إلى صاحبه بنتيجة الروية والتفكير.
وقد أقبل القسيس يلقي درسه على الطفلين، وأقبل «موران» تاركا أصحابه في شيء من اللهو، ومضت «فلنتين» مع القسيس تشهد درس ابنيها، فخلا الصديقان وأخذا يتحدثان، وما أسرع ما انتهى بهما الحديث إلى هذا الموضوع! فليس «موران» بالرجل الغافل الذي يخفى عليه مثل هذا الحب، بل قد أحسه ثم استيقنه، وهو الآن يلوم صديقه على خيانته امرأته وصديقه، ثم لا يلبث أن يعذر هذا الصديق، فهو يعترف بأن امرأته لا تستطيع أن تسعده، وهو يعترف بأن «لمبير» لا يستطيع أن يسعد «فلنتين»، وهو يعترف بأن هذين العاشقين قد خلقا ليتحابا، وليكون كل منهما مصدر سعادة الآخر، وقد كان ما لم يكن بد من أن يكون؛ فما المخرج من هذا المأزق؟
يسأله صديقه هذا السؤال ويذكر له أنه قادر على أن يجد لهما مخرجا؛ فهو باحث ماهر، وهو فيلسوف ينشر الكتب ويدرس فيها أخلاق الناس وصلاتهم؛ فليفرض أنه يكتب كتابا، وأنه بإزاء معضلة فلسفية يجب أن تحل، ولكن صديقه يبتسم، فهو ليس بإزاء معضلة من هذه المعضلات التي تحل في الكتب، التي يستطيع العقل الإنساني أن يتخذها رياضة ونوعا من أنواع التمرين، وإنما هو بإزاء معضلة من معضلات الحياة التي لا تحلها إلا الحياة، وكيف يستطيع أن يحل هذه المعضلة دون أن يؤذي ناسا من حقهم ألا ينالهم الأذى؟! ثم يمضي في حديثه وتحليله وحوار صاحبه، فإذا استوثق أن هذا الحب الذي جمع بين هذين العاشقين ليس عبثا ولا لهوا، وإنما هو من هذا الحب النادر الذي لا نلقاه كثيرا في الحياة، تشجع ونصح لصاحبه بالفرار مع حبيبته، فليضح إذن بامرأته؛ فهي تستحق أن يضحى بها، وهي لا تفهم الحياة ولا تقدرها، وهي لا تفهم الواجب ولا تقدره. إنها تكره النسل، ولو رزقت زوجها ولدا لصرفته عن الحب إلى العناية بابنه، ثم هي لن يشقيها هذا الفرار فستسلو عن زوجها وستستأنف الحياة السعيدة في باريس. ولتضح «فلنتين» بزوجها؛ فهو يستحق أن يضحى به؛ فهو لا يفهم الحياة ولا الحب ولا الزواج، وإنما يرد هذا كله إلى مسألة مالية، ومن الحق لكل إنسان أن يسعد، وإذن فمن الحق لهذين العاشقين أن يسعدا بحبهما، فليلتمسا هذه السعادة حيث يجدانها. والطفلان، ماذا يصنع بهما؟ ثم يقبل القوم جميعا فيستأنفون حديثهم وعبثهم وكأن شيئا لم يكن. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن أمام بيت حقير، يسكنه رجل من العمال، ومعه امرأته المتقدمة في السن أيضا، وقد أوت إلى هذا البيت خادم كانت عند «فلنتين»، أغواها أحد العمال فحملت وأشرفت على الوضع وظهر أمرها فطردها «لمبير»، وأشفقت عليها «فلنتين» فآوتها إلى هذه العجوز، وأخذت تنفق عليها وتتعدها حتى يتم الوضع وتبرأ من آلامه. وقد أقبل القسيس يتعهد هذه الفتاة، ونفهم أن قد رزقت صبيا، وأنها بخير، وتقبل «فلنتين» تعود الفتاة، ثم تخلو إلى القسيس أمام البيت ويتحدثان، فنفهم أن «فلنتين» ذهبت إلى القسيس فاعترفت له بأمرها وطلبت إليه المشورة، هي إذن تستشير القسيس كما أن صاحبها يستشير الفيلسوف، والقسيس يشير عليها بعكس ما أشار به الفيلسوف على صاحبها؛ يشير عليها بأن تقطع الصلة بينها وبين حبيبها، وأن تستأنف الحياة الزوجية وأن تخادع زوجها حتى يخيل إليه أن الجنين ابنه، فإذا نفرت من هذه المذلة وكرهت هذا النفاق وأنكرته، أجابها القسيس في عنف ورفق معا أنه لا ينكر أن في هذا مذلة ونفاقا، ولكنه يعلم أنها قد اقترفت إثما عظيما حين خانت زوجها، وأن من الحق أن تحتمل الألم في سبيل هذه الخيانة، وأن تكفر بالذل والهوان عن هذه الخطيئة. ويشتد بينهما الحوار على هذا النحو؛ فإذا هي تنكر ما يدعوها إليه القسيس مخلصة، وإذا القسيس يلح عليها في ذلك مخلصا، فإذا ذكرت الفرار أو الطلاق أنكرهما القسيس إنكارا شديدا، فالكنيسة لا تبيح الطلاق، وهي تقبل دونه كل شيء؛ لأن الكنيسة تعلن أن الزواج عقدة أحكمها الله، وما أحكم الله فليس له انفصام. - وإذن فالكنيسة تضحي بسعادتي وحياتي وكرامتي وعرضي، وهي تبيح لي الفجور والإثم اجتنابا للطلاق ؟ - نعم! وذلك هو الخير للإنسانية، فنحن نشهد آثار العلم والحضارة الحديثة وعملها في تفكيك العرى وقطع الصلات حتى كادت الأسرة ألا توجد، فلو أبحنا الطلاق، فماذا عسى أن تكون النتيجة؟
لا يقنعها ولا تقنعه، وقد أقبل القوم جميعا وكانوا في الصيد، ثم كانت أحاديث لا تعنينا، وانصرفوا وتركوا «فلنتين» وحدها، فتتقدم قليلا فإذا هي مشرفة على السيل من مكان مرتفع شاهق، وهي مضطربة ذاهلة قد أخذها ما هي فيه من تفكير، وإذا عاشقها قد أقبل فيدعوها، فكأنها تفيق من نوم، وهي تلقي نفسها بين ذراعيه، ثم يتحدثان، فتقص عليه ما كان من مشورة القسيس، فيظهر أنه لا ينتظر من القسيس إلا هذه المشورة، فالكنيسة ورجالها لا يقدرون الفرد ولا شخصيته ولا سعادته ولا عواطفه، وإنما هم منصرفون إلى عقائدهم يضحون في سبيلها بكل شيء، وهم يعتقدون أن في ذلك الخير، وهو مشفق يخشى أن تكون متأثرة بمشورة القسيس، وفي الحق أنها ليست متأثرة بمشورة القسيس، فلن تستطيع أن تذعن لهذا النفاق، ولا أن ترضى هذه الذلة، وفي الحق أيضا أنها ليست مطمئنة للفرار، فلن تستطيع أن تترك ابنيها، فيذكر لها صاحبها هذا الجنين، وأنها قد تجد فيه سلوة، فتجيبه: كلا، فما كان أحد الأبناء ليسلي عن الآخرين. ويظهر الدهش، فهذا الجنين نتيجة الحب، وهذان الطفلان نتيجة القسوة والعنف، فمن المعقول أن تؤثره عليهما، ولكن الأمومة لا تفرق بين الأبناء إلى هذا الحد، وليس يعنيها أن يكون مصدرهم الحب أو غير الحب، وإنما يعنيها أن يكون هناك ابن خليق بالعطف والحنو؛ ولكن الحوار قد اشتد بينهما، وأخذ الحنان يغلب عليه قليلا قليلا حتى صار حنانا كله، وهو يضمها إليه ويستعطفها ويتلطف لها.
وقد أخذت حجج الأمومة تضعف أمام حجج الحب، وإذا هي مستسلمة قد قبلت ما يدعوها إليه من الفرار. سيفران إذن إذا كان الغد، وسيلتقيان في المحطة إذا كانت الساعة التاسعة. •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن في بيت «لمبير» حيث كنا في الفصل الثاني، وقد أقبلت الخادم فأنبأت أن الطبيب يستأذن، فيأذن لمبير للطبيب، ويأمر الخادم أن تنبئ سيدتها بمكانه، وأنه صاعد ليراها. وقد دخل الطبيب وأخذ يتحدث إليه «لمبير»، ففهمنا أن «فلنتين» لم تنم ليلتها، وأنه يصف للطبيب مرضها واضطرابها وحزنها وهذا الإغماء الذي يعاودها، فيقول الطبيب: لعل من الحق أن تغتبط بهذا؛ فهو من إشارات الحمل. ولكن «لمبير» يجيبه بأنه واثق كل الثقة أن ليست هذه إشارات حمل؛ فلديه ما يحمله على هذه الثقة. وإذا «فلنتين» مقبلة، لم ترد أن يصعد إليها الطبيب؛ لأنها ليست في حاجة إلى الطبيب، ولأن زوجها دعا الطبيب دون أن يستشيرها. وقد انصرف الطبيب، ولم يفحصها، ولم يتبين من أمرها شيئا؛ لأنها أبت أن تنبئه بشيء، وتخلو إلى زوجها فيكون بينهما حديث آية في الأحاديث، تظهر فيه العواطف المختلفة، والميول المتباينة المتضاربة، يكون عتاب من «فلنتين» لزوجها فلا يفهم منه شيئا. تذكر له أنها لم تكن سعيدة، وأنها لم تلق منه ما كانت تأمل، وأنها لم تحببه، وأنه لم يحبها، فلا يفهم من هذا شيئا؛ لأنه لم يتزوج إلا وهو يعلم أنه لا يحب امرأته، وأن امرأته لا تحبه، وأن الزواج شركة الغرض منها تنمية الثروة وإيجاد الولد، وقد نمى الثروة وقد وجد الولد، ففيم تطمع امرأته؟ وماذا تريد؟ ومهما تذكر له من الحب واللين والحنان، فهو لا يجيبها إلا ساخرا مزدريا، ولكنها قد أنبأته أنها التمست عند رجل آخر ما لم تجد عند زوجها، وأنها أحبت رجلا وأحبها هذا الرجل، وكانت بينهما صلة! وإذا هو مغضب، ولكنه يملك نفسه. هو لا يحب إمرأته؛ فلا يعنيه أن تكون قد خانته، ولكنه يحتفظ بالقوانين والعادات الموروثة، فلا يستطيع أن يمسك هذه المرأة في بيته ولا سيما حين أنبأته أنها حامل، وقد عرف من تحب، وهم أن يذهب إليه ليخاصمه، فتنبئه بأنه لن يجده، وبأنهما كانا قد أزمعا الفرار. - وما يمنعكما منه؟ - لا أستطيع أن أترك ابني، وقد أتيت ذليلة ضارعة مستعطفة، أسألك ألا تتركني، وألا تفرق بيني وبين هذين الطفلين، وقد كنت أستطيع أن أخادعك وأكذب عليك وأخفي عليك كل شيء، ولكني أبيت هذا الخداع وصارحتك، فلا تفرق بيني وبين ابني، ولن يغير هذا من عيشتنا شيئا؛ فالصلة بيننا منقطعة منذ حين طويل، وستظل منقطعة أيضا، لا تفرق بين الأم وابنيها ...
ولكنه يأبى أشد الإباء؛ يأبى لأن هذه المرأة قد انحطت بهذه الخيانة، فهي ليست أهلا لأن تجاور ابنيه أو تعاشرهما. ثم هو لن يسمح بأن يكون هذا الجنين ابنا له أمام القانون وأمام الناس، ولا يسمح بأن يكد ويعمل ليرزق هذا الطفل الذي ليس له، ولا يسمح بأن يعتقد ابناه أن هذا الطفل أخوهما لأب وأم. يجب إذن أن ترحل، وهي إذا لم تفعل مختارة فستطرد من البيت طردا، وليس إلى تغيير رأيه من سبيل.
هي مذعنة لهذا الأمر تريد أن تذهب، وتريد أن تودع ابنيها، ولكنه يأبى أن تخلو إليهما فيأمر بالطفلين فتحضرهما الخادم، وتودعهما أمهما باكية وهما يبكيان، وتنصرف.
وقد خلا الطفلان إلى أبيهما، فأمرهما أن ينتحيا ناحية ويلهوا في هدوء، فهما ينظران في كتاب، وهو إلى مكتبه يكتب. وتمضي على ذلك دقائق، وإذا رجل من العمال يقبل مسرعا مضطربا كأن قد حدث حدث، وقد حدث حدث بالفعل، فأسرع «لمبير» وأمر بالطفلين فأقصيا عن البيت، وخلا المسرح لحظة، ثم يقبل القوم الذين رأيناهم في الفصول الماضية وكانوا على موعد مع أهل البيت، فإذا لم يجدوا أحدا أنكروا ذلك، وأخذوا يبحثون في أعلى البيت وأسفله، ثم يندبون من بينهم من يذهب ليستقصي الأمر، فيمضي «سان فوان» ويعود مضطربا مذعورا ينبئ بأن «فلنتين» قد سقطت في السيل حيث الأداة الكهربائية، فهي معلقة في العجلة من ثيابها بعد أن مزقتها تمزيقا، وسيحمل جسمها بعد حين.
صفحة غير معروفة