ومنهم هذا الصحفي الذي حملته صناعته على أن يتتبع مثالب الناس ويلم بدخائلهم، حتى أصبح صاحب الفتوى في هذا النوع من الغيبة، يلجأ إليه المغتابون ليجدوا عنده ما يحتاجون إليه من ألوان الطعن والتشنيع. وهو على هذا كله يحاول أن يكون رجل جد وصدق ووفاء بالمودة، فإذا سئل عن مثالب «أنتوانيت» أعلن في حزم أنه لا يعرف عنها إلا خيرا. ولكنه لا يكاد يتبين الإغراء في عين محدثه حتى ينسى الجد والصدق والوفاء ويقع في «أنتوانيت» بما تشاء صاحبته من الطعن والثلب.
ومنهم هذه الصديقة الوفية التي تخلص لصديقتها الحب والمودة وتنصح لها جادة رفيقة، ولكنها أضعف من أن تنصر الواجب وتمضي في نصره إلى النهاية، فهي لا تكاد ترى صديقتها مبتهجة سعيدة بهذا الحب الآثم حتى تدعها وما تريد طالبة إليها ألا يصرفها الحب عن مودتها.
ومنهم هذا الشخص الأخير الذي نلم به إلمامة قصيرة لأنه شائع بين الناس في جميع أطوارهم وبيئاتهم، هذا الذي يحبك ويقدم إليك ما تحتاج إليه من معونة وتأييد؛ لأن له عندك حاجة، فإذا لم يظفر منك بما يريد تخلى عنك في سهولة وقسوة لا يحفل من أمرك بشيء، وربما استحال عدوا لك لا يرضيه إلا أن تنزل بك النازلة، لا يتأثر في شيء من ذلك بخلق ولا واجب ولا رحمة ولا شيء من هذه العواطف التي يتأثر بها أخيار الناس.
هؤلاء هم أشخاص القصة أو هم كثرة هؤلاء الأشخاص، وأحسبني أستطيع بعد ذلك أن ألخص لك. وأحسبك تستطيع أن تفهم هذا التلخيص الموجز في غير مشقة. •••
نحن في ضاحية من ضواحي باريس، في قصر فخم، قد استأجره الزوجان ليقضيا فيه الصيف. وهما يحتفلان هذا اليوم بعض الاحتفالات التي يقيمها الأغنياء، وقد دعي إلى هذا الاحتفال سراة باريس وأصحاب المكانة فيها، ومعهم النساء الحسان يفتن الناس بجمالهن ودعابتهن وتنطلق ألسنتهن بما فيه لذة وسحر.
ولا يكاد يرفع الستار عن هذا الفصل حتى نرى هذه المرأة الباريسية بين زوجها وصديقه، تتحدث إليهما في أمر الزوجين، فتقع في الرجل بأنه موفق في حياته المالية وأنها تكره الموفقين وتشبههم باللصوص، وتقع في المرأة بأنها آثمة تعين زوجها بالإثم على ما يسعى إليه من ثروة، فينكر عليها الرجلان هذا. ويأتي الصحفي فيستفتونه جميعا في أمر «أنتوانيت» فيجيبهم بالخير، ولكنه لا يكاد ينظر في عين صاحبته حتى يرى الإغراء والإطماع، فيتحول عن الوفاء ويقع في «أنتوانيت»، وبعد أن كان يريد أن ينصرف إلى صحيفته لأداء عمله نراه يؤثر البقاء ويكتفي بالتليفون.
ونحن نرى المدعوين يترددون في القصر وحديقته يقف كل فريق منهم وقفته على المسرح، يتحدثون أمام النظارة وقتا قصيرا ليبينوا فيه بعض ما قدمت لك من نفسية هؤلاء الأشخاص جميعا.
فلنمر بهذا الفصل لا نقف منه إلا عند منظرين أو ثلاثة لا بد من الوقوف عندها حينا. نقف عند هذا المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت»، قد أقبلت على صديقها «دوراي» مضطربة كأنها تلتمسه لتشكو إليه بعض الأمر، فيسألها فتتردد، ثم تخبره في استحياء بأن «جاماني» هذا المالي العظيم الذي لا بد لزوجها من معونته قد أرادها على السوء فامتنعت عليه في رفق، فانصرف مغيظا محنقا. ونقف عند هذا المنظر الذي يمثل لنا «دوراي» وهو يقدم صديقه «رينه دانجين» إلى صاحب القصر، ويمثل لنا صاحب القصر وهو يعرض على هذا الرجل الاشتراك معه في بعض الأعمال المالية فيعتذر إليه. ثم نمر مسرعين بهذا المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت» وقد لقيت هذه المرأة الباريسية التي رأيناها في أول القصة ومعها صاحبها الصحفي قد استسلم لها استسلاما، فيقع بين المرأتين حوار فيه الحسد والتعريض المر، وفيه من ناحية «أنتوانيت» الدفاع عن النفس في رشاقة وترفع. ثم تخلو «أنتوانيت» إلى صديقتها فتتحدثان، فنفهم من هذا الحديث أنها لا تحب زوجها ولا تظفر عنده بما تريد. ولكنها مع ذلك حريصة على الوفاء له، لم تخنه ولن تستطيع أن تخونه، وهي تعاشره وتشاطره الحياة، وإذا قدر لها أن تظفر بالحب فلن تذوق لذته حتى تقطع الصلة بينها وبين زوجها. ثم نقف آخر الأمر عند هذ المنظر الذي يمثل لنا «أنتوانيت» وقد لقيت «رينه دانجين»، فلم يكادا يتحدثان حتى وقع من نفسها ووقعت من نفسه، وكان بينهما هذا الحب الفجائي الذي يسميه الفرنسيون «وقع الصاعقة» وإذا هما مضطربان أشد الاضطراب، يقع بينهما حوار قصير يريدان أن يتناولا به كل شيء فلا يتناولان فيه إلا أنفسهما وسوء حظهما فيما مضى من حياتهما، وينتهيان وقد تواعدا على المودة. •••
وتمضي ثلاثة أشهر، ويرفع الستار عن الفصل الثاني. فإذا نحن في القصر نفسه آخر النهار، وقد جلست «أنتوانيت» إلى منضدة ترتب طائفة من الأوراق، ودخلت عليها صديقتها التي رأيناها في الفصل الأول، فتسأل «أنتوانيت» فيم كتبت إليها تدعوها لزيارتها، وتجيبها «أنتوانيت» بما كنا نتوقعه في آخر الفصل الأول من أنها قد أحبت صاحبها حبا لا تجد إلى مقاومته سبيلا، وأحبها هو كذلك، وانتهى هذا الحب إلى نتيجته الطبيعية، وهي أنهما قد اعتزما السفر من فرنسا إلى حيث يجدان الحرية، وهي لم تخن زوجها بعد، وما ينبغي لها أن تخونه، وهي تعاشره وتعيش في بيته، فإذا ذكرت لها صديقتها أن هذا لا يعفيها من الإثم، فهي مدينة لزوجها بالوفاء حتى يطلقها، وزوجها يحبها وهو لم يسئ إليها، وليس من حقها أن تؤذيه أو تسوءه، أجابت بلسان هذا الحب القوي الآثم أن زوجها لن يطلقها إن طلبت إليه ذلك، وأنها هي لا تحبه، وهي تحب هذا الرجل، ولها حقها في الحياة ولذاتها، فما ينبغي لها أن تضحي بنفسها وصاحبها في سبيل هذا الزوج الذي لا تحبه.
وفي الحق أن الحب قد فتن هذه المرأة، وانتهى بها إلى هذه الأثرة التي ينتهي إليها العشاق عادة، فهي تضحي بزوجها وصديقها «دوراي» وأخته «إيلين» التي تحب هذا الرجل، ولا عذر لها في ذلك إلا أنها تحب، وأن صاحبها يحبها، وأنها كانت تنتظر هذا الحب، فما ينبغي أن تمتنع عليه وقد أتيح لها. وصديقتها تسمع هذا فلا تقتنع به، ولكنها مترددة بين الدفاع عن الواجب والاحتفاظ بمودة صديقتها، فتستسلم وتتمنى لصديقتها التوفيق.
صفحة غير معروفة