ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يدخل عليه أحد أعوانه ، وكان قد ضرب له موعدا في هذا البيت، فينبئه هذا الرجل بأن الثورة قد تم تدبيرها، وأن الثائرين قد ضربوا بينهم يوم العيد موعدا للظهور وعلى رأسهم الأمير الشاب، فإذا أعلن الشيخ إلى صاحبه أن ابنه يرفض العرش لأنه يحب امرأة، غضب هذا الرجل وألح على الأمير أن يجتهد في حمل ابنه على القبول ضنا بدماء الأبرياء أن تراق، وبنفوسهم أن تزهق في غير منفعة، وهما يتحدثان وإذا الخادم تنبئ أن الأمير الشاب مقبل تتبعه امرأة، فيأمرها الشيخ أن تستخفي وألا تتحرك مهما تسمع حتى يدعوها. ثم يستخفي مع صاحبه في حجرة مجاورة، وقد أقبل الأمير الفتى تتبعه «تريز»، وهو سعيد مغتبط وهي والهة مضطربة، فإذا ذكر لها حبه ذكرت له ذعرها وإشفاقها، وأنها الآن غنيمة بين يديه قد أسلمت نفسها لتحول بينه وبين الموت، وهي قد خرجت من بيتها على ألا تعود إليه، فلن ترى زوجها، ولن ترى ابنتها بعد هذه الخيانة؛ وإذن فيجب أن يحتفظ بها وأن يتركا باريس، وما الذي يمنعهما من ذلك ولم يكن يطمع إلا في هذا، ولم يكن يسمو إلا إليه؟!
ولكنهما يسمعان حركة في الحجرة المجاورة، فيريد الفتى أن يتبين الأمر فلا يكاد يدخل الحجرة حتى يغلق بابها ويرتج إرتاجا، وإذا المرأة تسمع جهادا وصراعا، وهي تهجم على الباب فلا يطيعها، وإذا هي تسمع صيحة وجسما قد خر على الأرض، وإذا هي تصيح مستعينة، وإذا الباب قد فتح وخرج صاحب الأمير فأمر المرأة أن تنصرف، وأعلن إليها أن صاحبها قد قتل وأنه جاسوس كان يتتبع الأمير؛ لأن الدولة علمت بأنه يدبر الثورة، وقد ظفر هو وأصحابه بالفتى فقتلوه وأراحوا الدولة منه ومن ثورته، والمرأة ذاهلة تستغيث وتطلب أن ترى صاحبها ولو قتيلا، وتطلب أن تقتل، ولكن الرجل يأبى عليها إلا أن تنصرف، ولم يقتلونها وليس لهم عندها ثأر؟ ومنفعتهم تقضي ألا يفعلوا، فهي إذا خرجت لم تستطع أن تدل عليهم ضنا بشرفها وسمعة أسرتها، والمرأة مترددة في الخروج، فيدنو الرجل منها يريد أن يحملها ليخرجها، وإذا هي جزعة تأخذ معطفها وقلنسوتها وتنصرف متثاقلة يكاد يصرعها الدوار، وقد أقبل الأمير الشيخ فدعا الخادمة وأمرها أن تتبع هذه المرأة حتى تبلغ مأمنها، وأن تحول بينها وبين ما قد يخطر لها من التعرض للموت، ثم يأمر بفك ابنه فيدخل عليه ابنه وقد بلغ منه الجهد وأصابه الإعياء، فلا يكادان يتحدثان حتى يعلم الفتى أن صاحبته قد اقتنعت بموته وحتى يأخذه جزع شديد؛ لأنه يشفق عليها أن تقتل نفسها، فهو يريد أن يخرج ليلحق بها، ولكنه لا يستطيع لأن الباب قد أخذ عليه، والخصومة شديدة عنيفة بينه وبين أبيه، وقد يئس الشيخ من إقناع ابنه واستعطافه، وإذا هو يلعنه ويستنزل السخط عليه، ثم يأمر صاحبه فيخلي بينه وبين الباب، ليمضي إلى هذا الحب الدنيء الذي آثره على مجد الأسرة وشرف الملك. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في القصر حيث كنا في الفصل الأول، نرى صاحب القصر قلقا مذعورا، وأمه تهدئه وترفه عليه؛ ذلك أنه عاد مع ابنته من النزهة فعلم أن زوجته قد خرجت، وهي قد تأخرت وقد أمسى المساء وأقبل الليل وليس أحد يعرف أين هي، وهو يخشى عليها كل شيء. أليست مريضة مضطربة الأعصاب؟! وأمه تجتهد في تهوين الأمر عليه، ولكنها ليست أقل منه اضطرابا، وهو يحس ذلك وينبئها به فلا تمانع فيه، بل تنصرف إلى حفيدتها حتى لا يصل إليها الخبر فيزعجها، والفتاة في غرفتها تهيئ نفسها للعشاء عند خطيبها، فإذا انصرفت هذه المرأة بقي ابنها مضطربا بين النوافذ ينصرف من إحداها إلى الأخرى، ولكن الخادم قد دخلت وهي تنبئه بأن السيدة قد أقبلت وليس عليها بأس، ولكنها متعبة جدا؛ فقد أغمي عليها في الطريق حين كانت تمشي في الغابة. وانظر إلى «تريز» وقد دخلت متثاقلة ذاهلة، فيلقاها زوجها شديد الإشفاق عليها، فلا تكاد تعرفه، وهي مع ذلك تتكلف القوة وصدق الرأي، وهي تنبئ زوجها بأن دوارا قد أخذها، وأنها رأت كأن الأرض تنشق أمامها، وزوجها يريد أن يدعو الطبيب فتأبى، فقد انتهى هذا الدوار ولم يترك لها إلا تعبا شديدا، فهي تريد أن تأوي إلى سريرها وأن تستريح.
ولكنها رأت زوجها ولم تستطع إلا أن تتبين جزعه واضطرابه، ولم تكد تسمع صوته وتحس ألمه حتى أخذت تفيق من ذلك الحلم المنكر الآثم، وإذا هي تتبين إثمها وتشعر بالألم يلذع ضميرها. واسمع لها تحدث زوجها بصوت رفيق فيه ألم وندم، وزوجها سعيد لا يكاد يقدر سعادته؛ لأنه يجد امرأته عاطفة عليه مطمئنة إليه، وكان قد فقد عطفها واطمئنانها، وهو ينبئها بذلك ويشكره لها، فلا يزيدها ذلك إلا تنبها وإفاقة، وقد وضح الأمر وانجلت الغشاوة، ورأت المرأة نفسها على حافة الهوة، وقد أراد القضاء ألا تتردى فيها. ولقد أنبأها زوجها أنه سيعتذر عن حضور العشاء الذي كانوا مدعوين إليه، فتلح عليه في أن يذهب مع الفتاة وفي أن يعتذر عنها وحدها، فيقبل ويذهب ليتهيأ، وإذا الشيخة قد أقبلت، وإذا بينها وبين هذه المرأة التعسة حديث يزيل عنها الغشاوة إزالة تامة، ويرد إليها ضميرها واضحا وعقلها موفورا وشعورها بالكرامة قويا؛ تنبئها الشيخة بأنها تعرف كل شيء، وأنها تلح عليها مع ذلك في ألا تتأخر عن هذا العشاء؛ فإن تأخرها سيطلق ألسنة الناس بما لا ينبغي، وسيعرض شرف الأسرة للخطر، والمرأة تجاهد لأنها متعبة لا تستطيع أن تحضر هذا العشاء، ولكن انظر إلى ابنتها قد أقبلت باكية تجثو بين يدي أمها وترفع إليها كتابا تنظر فيه، فإذا هو إلى الفتاة من خطيبها ينبئها بسفره غدا، وبأن أبويه يمانعان في الزواج، وأن مصدر هذه الممانعة إنما هي أمها.
لا تكاد المرأة تقرأ هذا حتى يتغير في نفسها كل شيء، فليست هي امرأة، وليست عاشقة، وليست زوجا، وإنما هي أم، وأم ليس غير. ترى ابنتها محزونة باكية، فيجب أن تزيل حزنها وتجفف دموعها. ليست مريضة فستحضر هذا العشاء، وستجتهد في إصلاح الأمر، وفي أن تحول بين الفتى وبين السفر. يجب إذن أن تمضي الفتاة مع أبيها إلى بيت خطيبها فستلحقها بعد حين، وقد انصرفوا جميعا. وخلت الشيخة إلى نفسها ، فهي سعيدة متأثرة تبكي سعادة وحزنا، ولكن انظر هذا الأمير الفتى قد أقبل يتلمس أخبار صاحبته، وهو يريد أن يراها ويلح في ذلك، والشيخة تمانعه وتأبى عليه حتى يكاد يقتنع. وهما في هذا الجدال إذ يدخل الخادم فينبئ بمقدم الأمير الشيخ، فتنصرف المرأة للقائه ويبقى الفتى، وهو يريد أن يخرج ولكنه مبهوت ... ماذا يرى؟ إنه يرى صاحبته مقبلة وقد اتخذت زينتها، فهي جميلة رائعة، كأنها لم تشهد ما شهدت ولم تسمع ما سمعت، ولم تعلم بأنه قد قتل، وهو يائس محزون، ولكنه لا يكاد يتحدث إليها في ذلك حتى يعلم أنها كانت صادقة في حبها، وأنها الآن صادقة في إقلاعها عن هذا الحب.
كانت في حلم عميق قوي منكر ثم تنبهت من هذا الحلم وأفاقت من هذا النوم، وهي ترى زوجها الوفي المظلوم، وترى ابنتها البريئة الطاهرة، وترى حبا نقيا بريئا ناشئا كاد يضحى به في سبيل ذلك الحب الآثم، وقد أفاقت وأراد العدل أن يكون هذا الحب الآثم ضحية لهذا الحب البريء.
يجب إذن أن يفترقا، وهما يفترقان في أناة ودعة ولين، فإذا خلا الفتى إلى نفسه جلس وإذا رأسه بين يديه، وإذا هو يبكي بكاء حارا، وقد دخل أبوه فرق له وأخذ يناجيه مناجاة الأب البر الشفيق، والفتى يلقى أباه في عنف ولوم، ولكنه لا يلبث أن يعترف لأبيه بأن حبه قد مات. وانظر إلى هذا الشيخ سعيدا مبتهجا يرى أن العقبة قد زالت، وأن الفضيلة قد رضيت، وأن ابنه قد أصبح ملكا، فهو يسرع إليه فيخضع له خضوع الرعية، ويأخذ يده فيقبلها قائلا: يا بني الملك.
ديسمبر سنة 1924
المحصنات
قصة تمثيلية بقلم الكاتب الفرنسي «هنري بيك»
صفحة غير معروفة