وهذه «جيزيل» مقبلة. ولست ألخص لك محاولة الشيخة إقصاءها وإخفاء الأمر عليها في حوار بديع وحركات مضحكة، ولكنها قد دخلت على كل حال وخنت إلى أختها، وهي تذكر ما كان بينهما من عهد أمس، وقد سمعت «مكسيم» وهو يحدث أمها بالقصة، فأقبلت تؤاسي أختها وتظهر لها العطف والنصح والمودة. واسمع لها تهنئ أختها بأنها قد اتخذت لها خليلا وخانت هذا الزوج الذي لا يستحق إلا أن يخان، وإذن فهي أيضا تتهم أختها وتصدق فيها الفاحشة! فلا يزيد ذلك «جاكلين» إلا ألما ويأسا، ولكنها تملك نفسها وتأخذ الأمر في سخرية وعبث من دونهما ألم شديد.
وهن في ذلك وإذا بالخادم يستأذن لمورو، فأما الشيخة فيحنقها ذلك، وأما «جاكلين» فتستقبله، وهي تستقبله باسمة وهو يقص عليها أمره وأنه خرج من عندها أمس متأثرا مفتونا، فلم يملك نفسه فذهب إلى أهل الفتاة وجلس إليها، ثم لم يلبث أن تحقق أنها لا ترضي مثله الأعلى، فانصرف عنها وعدل عن اتخاذها زوجا. وهذا كله يلهي «جاكلين» ويلذها ويسليها بعض الشيء، ولكن الفتى يمضي في حديثه فيخبرها بأنه وإن كان قد انصرف عن هذه الفتاة وعرف أنه لا يحبها، يشعر مع ذلك بأنه يحب، وآية ذلك أنه لم ينم الليل، وأنه يرى الحياة قد تغيرت كلها، فهو إذن يحب، ولكن من يحب؟ وهو يفكر ويسأل نفسه. وانظر إليه وقد كشف الحقيقة فجأة وأعلنها فجأة: فهو يحب «جاكلين» ويعلن إليها ذلك في لهجة مضحكة مؤثرة معا، وهي تدهش لذلك أول الأمر، ثم تغضب ثم تثور. ولكن هذا كله لا يزيد صاحبنا إلا اقتناعا بأنه يحبها وإلحاحا في إعلان هذا الحب، وهي تنهره وتطرده وتقصيه، ولكنه لا يزيد إلا إلحاحا وإصرارا. ثم يستكشف أنها هي لا تكرهه وقد لا تحبه، ولكنها تميل إليه بعض الميل. ويستدل على ذلك بأنسها إليه لأول ما لقيته واطمئنانها إليه في المرة الثانية. وهي تدفع عن نفسها مغضبة ثائرة وقد زاد ذلك في إيذائها، فزوجها يتهمها، وأمها وأختها يصدقان هذه التهمة، وهذا الفتى لا يستبعد التهمة أيضا. وقد انتهت إلى إخراج هذا الفتى ولكنها عذرت زوجها وأخذت تلوم نفسها على هذا الكبر الذي وضعها هذا الموضع السيئ، وقبلت أو رغبت في أن ترى زوجها وتستعطفه وتظهره على جلية الأمر. ويقبل زوجها فتتلقاه باسمة واثقة مطمئنة وتترضاه، ولكنها كلما حاولت أن تبسط له حقيقة الأمر مضى هو في الاتهام، ثم انتقل منه إلى العطف ثم إلى العفو. فهو إذن يأبى إلا أن تكون زوجة آثمة، وكبرياؤها تأبى أن تصرح له بجلية الأمر. وقد وقع بينهما ما لم يكن بد من وقوعه، وظهر أنهما مختلفان اختلافا أساسيا، فهو لا يؤمن بها ولا يقدسها بل يراها كغيرها من النساء، وهي تألم لذلك ولكنها تقبله وتخفي الألم وتشكر زوجها على العفو إذا طلب إليها هذا الشكر. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن حيث كنا في الفصلين الأولين من الغد، ولكننا نرى «مكسيم» ضيق الصدر ينتظر امرأته التي خرجت فأبطأت في العودة، وقد جاء ميعاد الغداء وهو جائع يتضور، ويطلب إلى الخادم ما يتبلغ به. وهذه «جاكلين» مقبلة، فهو يلقاها ساخطا لائما، يعنفها لأنها بعد الذي كان أمس قد أسرفت في عدم الاكتراث به. أما هي فتجيبه في سخرية مؤلمة بأن هذا اللون من التشديد لا يليق به بعد هذا العفو الذي أصدره أمس، على أنها قد تناولت غداءها في باريس في أحد المطاعم، وعلى أنها لا تعرف أين تتعشى، وعلى أنها قد تريد أن تذهب إلى أحد المراقص. وكل هذه الأحاديث يدهش لها «مكسيم» ثم يغضب، ثم يحاول أن يستعمل سلطته وأن يقهر امرأته على أن تحيا حياة ملائمة. ولكنها تنكر عليه ذلك في سخرية. أليس قد عرف أنها آثمة ثم عفا عنها، فهو إذن يبيح لها الإثم! فليبح لها الحرية. وهما في هذا الحوار وإذا أمها مقبلة، فينصرف الرجل إلى غدائه، وتعلن الفتاة إلى أمها في شيء من الإبهام والسخرية أنها لا تحب زوجها، وأنها قد عرفته وكشفت أمره وقد كانت تجهله، فهو رجل كغيره من الناس، وأمها لا تفهم من هذا الحديث شيئا. ويفرغ الرجل من غدائه، ويعود فيسأل امرأته كيف تريد أن تقضي بقية النهار، فلا تجيبه بشيء مقنع، ثم تنصرف عنه مع أمها إلى غرفتها. وتقبل «جيزيل»، فإذا لقيها تنكر لها وتنكرت له، ثم كان بينهما حوار لذيذ يفهم منه «مكسيم» أن امرأته بريئة، وأنها لم تأثم، ونفهم نحن أن هذه الفتاة نادمة لأنها أساءت الظن بأختها وآذتها في شرفها. والرجل لا يعرف كيف يحتال في إرضاء امرأته، فهو يقترح ألوانا من الترضية، يريد أن يستعطفها، ويريد أن يهدي إليها هدية، ويريد أن يقبلها، ثم يبدو له فيرى أن الحل الملائم إنما هو أن ينصرف، وكذلك يفعل. وتأتي «جاكلين» فإذا رأت أختها كان بينهما حوار جاف، نفهم منه ألم «جاكلين» وندم الفتاة وحنانها وكبرياءها أيضا.
ولكن هذا الخادم يستأذن لمورو، فترفض استقباله، ثم يعود الخادم فيلح وينبئ بأن مورو قد جلس وأعلن أنه لن ينصرف، فتأذن له مغضبة وتستقبله منتهرة زاجرة. ولكنه الآن هادئ مطمئن رزين يطلب إليها في صوت كله دعة وطمأنينة أن تتفضل بتناول العشاء عنده مع زوجها. أما هي فترفض مغضبة، ويلح هو متطلفا فتأبى. وقد أخذت تدهش لأنه لا يتحدث إليها في حبه، وهي لا تملك نفسها أن تسأله: أثاب إلى الرشد منذ أمس؟ فيعتذر في دعة وهدوء. وكأنها تألم لتغير لهجته، وكأنها كانت تريد أن تراه مشغوفا مفتونا، فتنهره وتزجره، فأخذها شيء من الحزن حين رأته هادئا يعتذر، فهي تلومه في لطف وحزن على ما كان منه أمس. وانظر إليه وقد انفجر وترك ما كان فيه من دعة وهدوء وأخذ يعلن إليها أنه يحبها ويحبها ويحبها، وأنه إنما تكلف هذا العشاء وهذا الهدوء ليستطيع أن يراها، وأنه كان يريد أن يعتدل ويهدأ ويزورها من وقت لآخر زيارة هادئة محتشمة مكتفيا بذلك، فأما وقد أبت إلا أن يتكلم فهو يتكلم، وهو يحبها ويحبها ويحبها. ونحس نحن أنها تجد شيئا من اللذة في أن تسمع هذا الحديث، ولكنها مع ذلك مغضبة ثائرة تنهره وتزجره وتزعم له أنه لا يعرف من أمرها شيئا، ولا يستطيع أن يحبها. ويأخذ هو في وصفها، حتى إذا انتهى إلى أنها سعيدة في حياتها المنزلية، أنكرت عليه ذلك وألحت في الإنكار، فإذا هو سعيد مغتبط، يرى أنه قد هان كل شيء في سبيل حبه، فهو يقبل عليها يأخذ بيدها ويدعوها إلى أن تمضي معه، وهو يهم بتقبيلها وهي تدافعه عن نفسها في قوة شديدة وضعف شديد معا. وهي قد اضطرت إلى أن تستخدم آخر سلاح، فتعلن إليه أنها عاشقة وأن لها خليلا ... يصدق ذلك أول الأمر، ثم لا يلبث أن يفطن فينكر وينكر في عنف، ويعلن إليها أنها تكذب لتدافع عن نفسها، وأنه لن يصدق شيئا من هذا، وأنه لو رآها بين ذراعي رجل لما صدق أنها عاشقة، وهو كلما مضى في هذا الحديث صادف منها قبولا ورضا.
وانظر إليها الآن مطمئنة هادئة، ولكنها تبكي في صمت وتشكر له إيمانه بها وحسن رأيه فيها، ثم تطلب إليه أن ينصرف الآن، فإذا أبى ألحت عليه في رفق وفهمته أنها تحبه، وأنها تعترف بهذا الحب. ولم لا؟ فهو الشخص الوحيد الذي آمن بها وبرأها من هذه التهمة، وهو يقبل أن ينصرف، ولكن على أن يعود إذا عجز عن المضي في طريقه. وما يكاد يخرج حتى يعود زوجها باسما مبتهجا، فينبئها بأنه قد استأجر لها مكانا في الأوبرا حيث الرقص هذا المساء، ولكنها تعتذر . وإذن فسيصحبها زوجها للعشاء في أحد المطاعم، ولكنها تعتذر. وإذن فسيبقيان في البيت، ولكنها تستدنيه وتنبئه بأنها لا تحبه وقد انصرفت عنه. أما هو فمغرور مفتون بنفسه واثق بسلطانه، فهو لا يحفل بهذا الإعلان، ولكنه يمضي في حديثه مداعبا هازئا، وهي تطلب إليه حريتها، فيجيبها في دعابة وهزء، وقد أقبل الخادم يستأذن مرة أخرى لمورو، فيأذن له مبتهجا بلقائه، ويعتذر إليه بأنه أساء لقاءه في المرة الأولى؛ فقد كان متعبا من آثار السفر، وهو يدعوه إلى العشاء معهما هذه الليلة، فيعتذر الفتى محرجا، ويعلن «مكسيم» أسفه ويلح في أن يتعشى معهما في إحدى ليالي الأسبوع، ثم يعتذر ببعض العمل وينصرف عمدا تاركا لزوجه ترتيب أمر العشاء.
فإذا انصرف نظر كل من العاشقين إلى صاحبه في شيء من الحرج والضيق، ثم جلس الفتى وطال الصمت حينا، ثم أعلن إليها في هدوء أن اسمه الخاص أندريه ...
يوليو سنة 1927
صفحة غير معروفة