للسياسة مشاقها ومتعها التي تمتحن الضمير وتمحص الروح، وللسياسة أعباؤها الكبيرة التي عليها أن تضطلع بها. غير أن العمل السياسي، شأنه شأن العمل التجاري والصناعي، هو في صميمه ضرب من الأشغال الشاقة والكدح العبودي والسخرة. وسدة الحكم (الدولة
State ) ليست هي الوجهة التي تقصدها إذا شئت سجلا حرا للخبرة البشرية؛ فالحكومات لا تنتج العلم أو الفلسفة أو الموسيقى أو الأدب أو الأبناء، أو هي لا تنتج على أية حال عينات مقنعة من أي شيء من هذه الأشياء. قد تحقق السياسة مناقبها الخاصة وأشكالها الخاصة من الامتياز، غير أن المناقب الإنسانية الأهم تتحقق في المجالات الأخرى غير السياسية. وإنما من هذه الجهة يجب، في رأيي، أن نتمعن الديمقراطية في نهاية المطاف.
ذلك أن الفكرة الديمقراطية تقوم على فرضية أن الغايات الهامة للحياة يحددها الأفراد كأفراد في مساعيهم الإرادية الخاصة. السياسة بالنسبة للديمقراطية الليبرالية هي مجرد جانب واحد من جوانب الحضارة، هي شرط من شروط الحضارة وليست كل شيء في مناخ الحضارة وبيئتها. ربما لذلك يحس المرء بأن الريح خفت عندما يسافر من مجتمعات متسلطة إلى مجتمعات حرة. إن المرء ليتلقى انطباعا بالحيوية؛ حيوية المارة الذين يمضون لشأنهم الخاص ويولدون زخمهم الخاص. لعلهم يضطربون في اتجاهات أكثر اختلافا مما يفعل أعضاء المجتمعات المنظمة مركزيا، غير أن الاتجاهات هي اتجاهاتهم هم. من هنا يكون أهم سبب لاختيار الديمقراطية هو تلك الكيفيات التي يتسنى للديمقراطية أن تجلبها إلى حياتنا اليومية، والطرائق التي تؤثث بها أذهاننا ومخيلاتنا وضمائرنا. هذه الكيفيات هي: الحرية، والتنوع، والوعي بالذات، والموقف الديمقراطي نفسه.
يقال إن الديمقراطية بطبيعتها تعادي التميز والبروز وتفضل «الوسطية »
mediocrity
وترعى الأنصاف. وهو رأي ليس بالجديد. ومن الحق أن الديمقراطية تورث التجانس بمعنى ما؛ فالديمقراطية تذيب الفوارق الشديدة بين الطبقات، وتحطم الرموز الجاهزة للوضع الاجتماعي بسرعة هائلة بحيث يغدو إنتاج رموز جديدة هو شغل جديد لصناعة كبرى. وأوضح مثال لذلك أن الديمقراطية تؤدي إلى زيادة الطلب على ما لا يحصى من خيرات الحياة بدءا من الأحذية حتى التعليم، ومع زيادة الطلب فإنها أيضا تجد نفسها مضطرة إلى الهبوط بمستوى المعروض.
هناك رغم ذلك حقائق معينة علينا أن نضعها بمقابل هذه الاتجاهات التي تغذيها الديمقراطية؛ أولا أن المجتمعات الديمقراطية توفر لمواطنيها بعامة كما أكبر من خبرات الحياة، وثانيا أن توأم المساواة هو روح الإنجاز وخلق التحصيل. ثمة توتر بين ارتياب الديمقراطية في الإنسان المعتزل وإعجابها بالإنسان المشارك، ولكن عداءها للتمييزات الاجتماعية المتباهية متأصل عادة في الإيمان بأن كل إنسان يجب أن يعطى الفرصة، دون عون خارجي؛ لكي يظهر ما يستطيع أن يفعل. وأخيرا فإن الضغوط تجاه التجانس كبيرة في كل المجتمعات، فهل الارتياب في الشواذ في أمريكا الميتروبوليتانية المساواتية أكبر مما كان عليه في ريف القرن الثامن عشر؟ صعب أن نقول ذلك. وقد بين برتراند رسل أن «مغالطة الأرستقراطي» هي في الحكم على مجتمع ما من خلال صنف الحياة التي يقدمها لقلة متميزة منه. إن التفرد يتطلب شجاعة في كل مكان، ويتطلب مالا أيضا في المعتاد، ويتطلب دائما ضمانا بأن يبقى الفرد محتفظا بحقوقه الأساسية. ومن هذه النواحي فإن الديمقراطية الليبرالية الحديثة، برغم ما تتهم به من تعزيز التجانس، قد يسرت للإنسان العادي غير المتمتع بامتيازات أن يتفرد ويبرز إذا شاء، وأتاحت له في ذلك ما لم يتحه أي نوع آخر من المجتمعات عرفها التاريخ.
ذلك أنه مهما يكن من التباس بعض الحقائق فإن الالتزام الرسمي للديمقراطية هو للرأي القائل بأن لكل إنسان بنيته ومزاجه الخاص، وأن هذه الخصوصيات الشخصية تستوجب الاحترام، وأنه إذا كان الفرد لا يعرف مصلحته فمن المستبعد أن تعرفها له صفوة جاثمة لا تتبدل. وليس هذا مجرد التزام رسمي بل إن المؤسسات في النظام الديمقراطي لتجسده تجسيدا عيانيا إلى أبعد حد. وعلى افتراض أن أعضاء المجتمع الديمقراطي لا يتمتعون من الضمانات الاقتصادية إلا بأقل القليل، فإن وضعهم يتمتع بمرونة لا يحظى بها كثير من الأفراد العاديين في الماضي، فإذا لم ينالوا الحظوة مع إحدى الجماعات الحاكمة فما يزال بإمكانهم أن يتحولوا عنها ويلتمسوا السبيل في جهة أخرى.
ليس ثمة أدنى شك في أن هناك تركيزا للسلطة في المجتمعات الديمقراطية، يتمثل في مجموعات كبيرة من مراكز القوى، ومن المتيقن بنفس الدرجة أن هناك شيئا من الحرية في أي مجتمع من المجتمعات، أما عن تركيز السلطة فهو يحدث لأن الأذكياء من الناس، أينما كانوا، يعرفون كيف يلعبون أدوارا محورية. غير أن المجتمع الديمقراطي يشتمل على عدد أكبر من الأدوار المحورية لكي تلعب. وأما عن الحرية فيجب أن ندرك أن حرية الاختيار الفردية ليست قيمة مطلقة، وأنه ينبغي على كل مجتمع أن يحد منها. فحقيقة الأمر أن حرية شخص ما كثيرا ما تقوم على تقييد حرية شخص آخر. ولكن في حين أن حرية الاختيار ليست قيمة مطلقة، فإن النظام الديمقراطي، إذ يذهب إلى أن لكل إنسان حقوقا أساسية معينة، فهو يقيض لحرية هذا الإنسان قيمة جوهرية صميمة، بحيث نشعر كلما اضطررنا إلى تقييدها بأن قيمة كبرى قد أهدرت وشيئا ثمينا قد تمت التضحية به؛ لهذا السبب يختلف التخطيط الاجتماعي في النظام الديمقراطي اختلافا أساسيا عن التخطيط في البيئات غير الديمقراطية. من هنا فإن التعبير الغامض «المصلحة العامة» حين يرد في السياق الديمقراطي فإنه يحمل ضمنا قيمة حرية الاختيار، حرية كل فرد من أفراد المجتمع، كعنصر من عناصره.
ولكن أي فرق ينتج عن هذا؟
صفحة غير معروفة