صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس

عادل مصطفى ت. 1450 هجري
210

صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس

تصانيف

يواجه الأنثروبولوجيون هذه الصعوبة حين يشرعون في العمل مع الثقافات، فالشيء الذي يفترض أن يكون الوسيلة لمقاربة هذه الثقافات، أي اللغة، يتكشف عن عقبة كئود. فإذا صح أن أنماط بناء المعنى هي ذات طبيعة اجتماعية صميمة، فلا فكاك من أن يترتب على ذلك أن الأنساق الثقافية هي «كيانات كلية»

wholes

مغلقة. وهو أمر يحبط أي محاولة لفهم أي ثقافة مختلفة عن ثقافتنا. وقد كان يهون الأمر بعض الشيء لو تيسر للمرء صنف ما من الترجمة بين تلك المعاني التي تقدمها الثقافات، غير أن الترجمة الدقيقة تبقى شيئا لا ضامن له ما دامت اللغات تعتمد على مخططات تصورية مختلفة تنجم عن الطرائق المختلفة التي تنشأ خلالها التقاليد والمؤسسات والنظم. وليس من سبيل إلى فهم ما سنصادفه في الثقافات الأخرى من مواقف واعتقادات ما لم يتيسر لنا سبيل إلى ترجمة دقيقة إلى لغتنا، ولكن نظرا لعدم وجود وقائع موضوعية للمعنى فليس ثمة، فيما يبدو، أي إمكانية للتحقق من أن الترجمة التي نعنيها صحيحة. كما أننا سنصادف إلى جانب ذلك صعوبة في أن نفهم كيف تتصور الثقافات الأخرى الواقع وكيف تقاربه. يطلق على هاتين الأطروحتين «عدم التحديد في الترجمة»

indeterminacy of translation

و«النسبية الأنطولوجية»

ontological relativism . (6-2) عدم التحديد في الترجمة

تفيد دعوى «عدم التحديد في الترجمة»، التي دفع بها كواين في كتابه «الكلمة والشيء»، أن من المحال علينا أن نعرف ما إذا كان المرء قد حقق ترجمة صحيحة بين لغتين مختلفتين. والمشكلة التي يريد كواين أن يبرزها في هذه الدعوى هي أن من غير المتاح لنا أن نكون على يقين من ذلك الشيء الذي يشير إليه محاورونا في أقوالهم؛ ومن ثم فمن غير المتاح لنا أن نحدد ما هو المخطط التصوري وما هي الأنطولوجيا التي يتبنونها. قد يكون مخططهم التصوري هو مخططنا ولكن لا سبيل إلى أن نعرف ذلك من خلال السلوك الملاحظ الذي يعد هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتحدث عنه بيقين علمي. فإذا خلصنا من ذلك إلى أن من المتعذر علينا أن ندخل سياقا آخر مختلفا عن سياقاتنا لترتب عليه أن الأنثروبولوجيا لا يمكن أن تكون علما.

والدعوى الأخرى التي يطرحها كواين هي «غموض الإشارة»

inscrutability of refernce (أي إلغازها واستغلاقها)، ذلك أن أي لفظ من الألفاظ يرتبط باللغة التي ينتمي إليها ويعتمد عليها في اكتساب المعنى. قد تكون الإشارة التي يعنيها محاورنا هي عين إشارتنا، ويكون الشيء الذي يقصده الشخص القبلي الذي يدرس الأنثروبولوجي لغته من الصفر هو نفس الشيء عند الأنثروبولوجي، إلا أن أيا منهما لا يمكن أن يعلم ذلك علم اليقين. وهذا ما حدا بكواين إلى القول بأن المترجم «يقحم بقدر ما يكتشف.» إنه يقحم الأنطولوجيا الخاصة به من أجل أن يستوعب سلوك محاوره (اللفظي وغير اللفظي). هناك أكثر من «كتيب إرشادي» للترجمة. كلها متساوقة بنفس الدرجة مع السلوك المشاهد. وليس ثمة أي مؤشر موضوعي يدلنا أي هذه الكتيبات الممكنة هو الكتيب الصحيح. ليست المشكلة هنا هي ما إذا كانت الترجمة ممكنة أم لا (فالحق أن جهود الأنثروبولوجي لوضع ترجمة تسير فيما يبدو دون أية مشكلات تذكر). غير أننا لن نحظى أبدا بتبرير مترابط ومحدد لصحة الترجمة يتخطى واقعة النجاح العملي. ومن شأن ذلك أن ينال من يقينية النتائج المحصلة، وأن يحبط أي محاولة لتبرير موضوعية الأنثروبولوجيا؛ وعليه فإن عدم قابلية الثقافات للمقايسات، بالإضافة إلى هذه الاعتبارات، تبدو مؤيدة للنسبية.

السلوكية اللغوية

صفحة غير معروفة