صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس

عادل مصطفى ت. 1450 هجري
195

صوت الأعماق: قراءات ودراسات في الفلسفة والنفس

تصانيف

وهو ثالثا يقدم تمثيلا للعالم الاجتماعي في علاقته بالمصالح الإنسانية العمومية. بينما يقتصر منظور الفئات القامعة على تمثيل الظواهر الاجتماعية في علاقتها بمصالح الطبقة المسيطرة ويقدم تمثيلا خاطئا لهذه المصالح على أنها مطابقة للمصلحة البشرية في عمومها.

تقدم الماركسية نموذجا كلاسيكيا لنظرية نقطة الاستشراف، وتسبغ على منظور رؤية البروليتاريا امتيازا إبستمولوجيا فيما يتعلق بالمسائل الأساسية للاقتصاد والاجتماع والتاريخ. وترى الماركسية أن العمال لا يملكون هذا المنظور بداية، وإنما يملكونه حين يكتسبون الوعي الجمعي بدورهم في النسق الرأسمالي وفي التاريخ. ثمة جوانب كثيرة للوضع الاجتماعي للعمال تمنحهم منظورا أفضل إلى المجتمع من الوجهة المعرفية؛ فالعمال مقموعون، والعمال هم العنصر الأساسي في أسلوب الإنتاج الرأسمالي، وهم مزودون بأسلوب معرفي قائم على التفاعل المادي الإنتاجي العملي مع الطبيعة، وهم على وعي ذاتي جمعي بأنفسهم كأعضاء طبقة يمكن أن تكون عالمية. أما الظلم فيمنحهم مصلحة موضوعية في معرفة الحقيقة بخصوص أي الفئات يحقق النظام الرأسمالي رغباتها ويخدم مصلحتها في واقع الأمر. وأما كونهم العنصر الأساسي في أسلوب الإنتاج فيمنحهم منفذا خبرويا إلى العلاقات الأساسية للإنتاج الرأسمالي. ولأن وضع جميع الطبقات الأخرى في النظام الرأسمالي يتم تحديده في علاقته بهم، فإنهم حين يشرعون في معرفة أنفسهم ومعرفة وضعهم الطبقي يكونون قد شرعوا في معرفة مجتمعهم ككل. وأما التفاعل الإنتاجي العملي مع العالم فهو الطريقة الأساسية لمعرفته من وجهة نظر الإبستمولوجيا المادية، وهو يفضي بهم إلى تمثيل عالمهم في حدود «قيم الاستعمال»، بينما يمثله الرأسماليون في حدود «قيم التبادل ». إن تمثيل العمال للعالم هو التمثيل الأكثر جوهرية؛ لأن قوانين الاقتصاد والتاريخ الأساسية يعبر عنها في حدود الصراع من أجل تملك فائض القيمة (قيمة الاستعمال) وليس في حدود قيم التبادل السطحي للنقود. وأما العالمية فيلزم عنها أن العمال يمثلون العالم الاجتماعي في علاقته بالمصالح الإنسانية العمومية وليس بالمصالح الخاصة بالطبقة، الأمر الذي يمنح تصورهم للمجتمع موضوعية أكبر من تصور الرأسماليين. وأخيرا فإن للوعي الذاتي الجمعي خاصية النبوءة المحققة لذاتها؛ ذلك أن استبصارهم الجمعي بمأزقهم العام وحاجتهم إلى الخروج من هذا المأزق من خلال الفعل الثوري الجمعي يتولد عنه فهم ذاتي يتحول إلى حقيقة عندما يتصرفون وفقا له. هنالك يتحولون إلى طبقة عالمية ويكونون هم المحرك الأساسي للتاريخ.

ثمة مماثلة بين الأفضلية الإبستيمية لوضع المرأة الاجتماعي وبين الأفضلية الإبستيمية للبروليتاريا؛ فالمرأة مقموعة، والمرأة هي العنصر الأساسي في نسق التكاثر وتنشئة الأطفال ورعاية الأجساد مثلما أن العمال هم العنصر الأساسي لنسق الإنتاج السلعي، ولأن المرأة مسئولة عن تلبية احتياجات كل فرد من أهل البيت فهي في وضع أفضل من الرجل لرؤية فشل النظام الأبوي (البطريركي) في الإيفاء بحاجات الأشخاص. يعمى الرجال، بحكم وضعهم المسيطر، عن أن يروا كيف يدوسون مصالح من هم دونهم، أما النساء كطبقة فإن لديهن منفذا أفضل لمعرفة عيوب النظام البطريركي ومعرفة الأطراف التي يخدم هذا النظام مصالحها أكثر من غيرها.

وصفوة القول إن المقموعين (النساء، العمال، الملونين ... إلخ) لديهم فرصة أعظم لمعرفة الحقيقة، وأن أفضليتهم المعرفية تستند إلى منظورهم الأعرض والأشمل إلى الأمور. ويطلق دوبوي

W. E. B. DuBois

على هذه الميزة اسم «الوعي المتشعب»

bifurcated consciousness : أي القدرة على رؤية الأشياء من منظور كل من المسيطر والمقموع، والقدرة، من ثم، على التقييم المقارن لكلا المنظورين. هكذا يتبين أن الإبستمولوجيا النسوية تلفت الأنظار إلى ضرب من النسبية الوصفية مفاده أن الوضع الاجتماعي (والجنسي والعرقي والزماني والمكاني ... إلخ) للعارف يؤثر تأثيرا حاسما في معرفته المحصلة. غير أن هذا لا يعني بحال أن الإبستمولوجيا النسوية تدعم النسبية المعيارية. إنها، على العكس، تؤكد أن هناك منظورا أفضل من منظور، ومعرفة أقوم من معرفة، وتتخطى ذلك إلى المناداة بإقصاء المنظور البطريركي، والدعوة إلى الفعل التحريري الذي ينطلق من وعي جمعي واستبصار معرفي؛ وعي بما ينطوي عليه الوضع القائم من اختلال ناجم عن القصور المعرفي للفئات المسيطرة، واستبصار بما يسم المنظور الذكوري من ضيق متأصل وكفيل بأن يعطل التقدم الحقيقي للفلسفة والعلم، وحقيق أن يقود البشرية إلى مزيد من الصراع والبؤس واستنفاد ثروات الأرض وتخريب البيئة.

الفرد

Individual

ربما تكون جميع صيغ النسبية التي أسهب دعاتها في الدفاع عنها تعامل ظاهر النسبية على أنها ظاهرة اجتماعية. غير أن بإمكاننا أيضا طرح صيغة ذاتية من النسبية ترى إليها على أنها حالة تضييق فطري تجعل كل شخص حبيس تصوراته الخاصة ومعاييره الإبستمولوجية ومبادئه الخلقية ... إلخ. وقد أشار فرنسيس بيكون في «الأورجانون الجديد»، بمعرض حديثه عن أوهام العقل الأربعة، إلى ما أسماه «أوهام الكهف»

صفحة غير معروفة