89
وكمثال لذلك يسرد بارتلت وقائع جلسة تحقيق لم تستطع فيه الشاهدة أن تدلي بما حدث إلا بأن تسرد كل ما مر بها من أحداث منذ قيامها من النوم في الصباح وحتى وقوع الجريمة. ويخلص بارتلت من ذلك إلى أن بعض الثقافات تشجع التذكر التتابعي المفرط والذي أطلق عليه اسم «الصم».
وقد قام س. ف. نيدل بتجارب ميدانية وسط كل من اليوروبا والنيوب في نيجيريا، وهما شعبان يختلفان اختلافا صارخا في نواح عديدة على الرغم من أنهما يعيشان جنبا إلى جنب وتحت نفس الظروف العامة، ولديهما أنظمة اقتصادية وتنظيمات اجتماعية متشابهة ويتحدثان لغات متقاربة. يتميز دين اليوروبا بنسق تراتبي هرمي معقد من الآلهة، لكل إله فيه واجباته ووظائفه المحددة. وقد طور اليوروبا فنونا تشكيلية واقعية ومسرحا واقعيا. وعلى النقيض من ذلك كان دين النيوب يتمركز حول قوة غامضة مجردة غير شخصية. وكانت الأشكال الفنية لديهم متطورة جدا في الفنون الزخرفية، ولم يكن لديهم تراث مسرحي شبيه بما لدى اليوروبا.
قام نيدل بتأليف قصة يمكن استخدامها لاختبار التذكر في كلتا الجماعتين، وقد جاءت النتائج مؤكدة لتوقعاته؛ فقد تذكر اليوروبا البنية المنطقية للقصة والعبارات ذات الدلالة والأحداث الحاسمة في مجرى القصة ولم يأبهوا للكليشيهات غير الدالة؛ بينما تذكر النيوب الكليشيهات كما هي بالضبط وأقحموا على القصة عناصر من عندهم تخلق صورة ملموسة حية لوقائع القصة.
لم يتذكر أحد من أي من الثقافتين القصة بالضبط، على العكس من فكرة الذاكرة الخرافية للشعوب البدائية. غير أن أجدر شيء بالملاحظة في هذا المقام هو أن التجربة تتعلق بالفروق النوعية (المتوقفة على الثقافة) في الخبرة والمخططات
schemata
المرتبطة بها، الأمر هنا لا يتعلق ب «من فاق الآخر في التذكر: اليوروبا أم النيوب؟» وإنما بأن كليهما قد تذكر بطريقة متمايزة تنسجم مع الاهتمامات التي تشغل ثقافته، وهو ما تنبأ به بارتلت.
تم النظر كذلك إلى أفكار بارتلت عن التكرار الصم من خلال المعلومات التي أتاحتها الدراسات الأنثروبولوجية كجزء من دراسته للجوانب الإدراكية لدى شعب الإياتمول (شعب يعيش في غينيا الجديدة). وجد جريجوري باتيسون أن أهل العلم في هذا الشعب كانوا مستودعات للطواطم والأسماء المستخدمة في «أغاني الأسماء» والمستخدمة في المجادلات . وبالنظر إلى عدد «أغاني الأسماء» الموجودة لدى كل عشيرة وعدد الأسماء المستخدمة في كل أغنية، قدر جريجوري أن أهل العلم يحملون في رءوسهم عددا يتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألفا من الأسماء. قدمت هذه المادة فرصة رائعة لاختبار القدرة على الصم. قام باتيسون بتسجيل ترتيب الأسماء الذي استخدمه أهل العلم في مناسبات مختلفة. بين باتيسون أن أهل العلم كانوا يغيرون ترتيب الأسماء من مناسبة إلى أخرى، وأن أحدا لم ينتقدهم على هذا العمل على الإطلاق. وعندما كانوا يتعثرون عند نقطة ما في محاولتهم تذكر مجموعة معينة من الأسماء لم يكونوا يرتدون إلى بداية السلسلة كما هو متبع في التكرار الصم، ولا كانوا عندما يسألون عن حدث ما في الماضي يسترسلون في سلسلة من الأحداث المتصلة زمنيا بغية الوصول إلى الحدث المقصود. يبين باتيسون بوضوح أنه على الرغم من أننا واثقون كثيرا بأن الصم ليس العملية الرئيسية المستخدمة لدى أهل العلم من شعب الإياتمول، فإن من غير الممكن تحديد أي العمليات العقلية العليا هي التي تضطلع بالدور الرئيسي في ذلك.
90
بعد ثلاثة عقود من هذه الأعمال الرائدة قام مايكل كول وزملاؤه بسلسلة من الدراسات التي تتناول عملية التذكر لدى مزارعي الأرز من شعب الكبلي في وسط ليبيريا. وبعد عقد آخر أجريت دراسة وسط قبيلة الفاي الليبيرية تتناول مستوى ونمط التذكر لعدد من القصص تم استخدامها على نطاق واسع في الولايات المتحدة في مجال البحوث المتعلقة بنمو الذاكرة. تكمن أهمية الدراسات المتعلقة بالذاكرة في أنها تبين أن الفروق الثقافية تعود إلى تنظيم النشاط الحياتي اليومي: حيثما تتشابه بنيات النشاط بين الجماعات تقل الفروق الثقافية في عمليات التذكر، وحيثما كان بحوزة مجتمع ما ممارسات مؤسساتية هامة لها علاقة بالتذكر لا توجد بحوزة مجتمع آخر (مثل التعليم المدرسي) يمكننا توقع اختلافات ثقافية في عمليات التذكر في صورة أشكال محددة من التذكر تتلاءم مع هذا النشاط (مثل المقدرة على تذكر قوائم من الكلمات).
صفحة غير معروفة