الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة
محقق
حسين بن عكاشة بن رمضان
الناشر
دار عطاءات العلم (الرياض)
رقم الإصدار
الأولى (لدار ابن حزم)
سنة النشر
١٤٤٢ هـ - ٢٠٢٠
مكان النشر
دار ابن حزم (بيروت)
آثار الإمام ابن قيم الجوزية وما لحقها من أعمال (٣٣)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب ابن قيم الجوزية
(٦٩١ هـ - ٧٥١ هـ)
تحقيق
حسين بن عكاشة بن رمضان
تخريج
حسين بن حسن باقر - كريم محمد عيد
وفق المنهج المعتمد من الشيخ العلامة
بكر بن عبد الله أبو زيد (رحمه الله تعالى)
دار عطاءات العلم - دار ابن حزم
المقدمة / 1
راجع هذا الجزء
محمد أجمل الإصلاحي
سعود بن عبد العزيز العريفي
المقدمة / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعد، فيعدّ الإمام شمس الدِّين ابن القيِّم (ت ٧٥١ هـ) - رحمه الله تعالى - أحد المصنِّفين الذين عمَّ النفع بكتبهم شرقًا وغربًا عجمًا وعربًا، ومصنَّفاته من أعظم الكتب التي انتفع بها المسلمون في العقائد والفقه والسِّيرة النبوية والزُّهد والرَّقائق والأذكار وفي الحديث والعلل والأصول والفرق والمذاهب.
وكتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة» أحد أنفس الكتب في الرد على الجهمية والمعطلة، وهو كتابٌ جليل الشأن، محكم البنيان، هدم فيه الإمام ابن القيِّم حصونهم من أساسها، وحشد لنقض مذاهبهم أدلة المنقول والمعقول، فلم يُبق لهم حجةً يتعلقون بها لا منقولًا صحيحًا ولا معقولًا صريحًا.
وهو من أكبر الكتب في الردِّ على الجهمية والمعطلة ونُصرة العقيدة السلفية، مع استطرادات كثيرة جدًّا، شحنه ابن القيِّم بفوائد: عقدية وتفسيرية وفقهية وحديثية ولغوية وغيرها، وطالع له كتبًا كثيرةً جدًّا.
ومن دواعي الأسى أننا لم نعثر إلَّا على نحو نصف الكتاب فقط، ولم نجد بقيته بعدُ، نسأل الله أن ييسر الحصول عليها بمنِّه وكرمه.
وهذا الكتاب حقيق أن تكثر به الطبعات ليعم النفع به، فإنه من أحسن الكتب في بابه وأقواها حجة.
المقدمة / 5
وقد قدمت بين يدي التحقيق تعريفًا بالكتاب قسمته على مباحث، هذا مسردها:
(١) توثيق نسبة الكتاب إلى ابن القيِّم.
(٢) عنوان الكتاب.
(٣) حجم الكتاب.
(٤) عرض موجز لموضوعات الكتاب.
(٥) منهج الكتاب.
(٦) مصادر الكتاب.
(٧) مكانة الكتاب.
(٨) مختصرات الكتاب.
(٩) طبعات الكتاب السابقة.
(١٠) مخطوطات الكتاب.
(١١) منهج التحقيق.
وأتقدم بالشكر لكل من أعان على إتمام هذه الطبعة، وأسأل الله أن ينفع بها عموم المسلمين، إنه جواد كريم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
المقدمة / 6
(١) توثيق نسبة الكتاب إلى ابن القيِّم
كتاب «الصواعق» ثابت النسبة للإمام ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - وقد تضافرت على ذلك الأدلة، وقد قسمتها إلى أدلة داخلية من الكتاب، وأدلة خارجية:
أمَّا الأدلة الداخلية فمنها:
الأول: ما في ثنايا الكتاب من إحالة الإمام ابن القيِّم على كتبه المشهورة:
فقد أحال على ثلاثة من كتبه المشهورة، هي:
١ - «اجتماع الجيوش الإسلامية» في قوله (ص ٨٤٦): «وقد ذكرنا في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية» أضعاف أضعاف هذه النقول عن الصحابة والتابعين وتابعيهم والأئمة الأربعة نصًّا صريحًا عنهم، نقل أصحابهم وغيرهم، وأئمة التفسير، وأئمة اللغة، وأئمة النحو، وأئمة الفقه، وسادات الصوفية، وشعراء الجاهلية والإسلام، ممَّا في بعضه كفاية لمن أراد الله هدايته». وفي قوله (ص ٨٩٠): «وهذه النقول التي حكيناها قليلٌ من كثيرٍ، وقد ذكرنا أضعاف أضعافها في كتاب «اجتماع العساكر الإسلامية على غزو الفرقة الجهمية». وهذه الأقوال في «اجتماع الجيوش الإسلامية» (ص ١٦٢ - ٥١٠).
٢ - «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» في قوله (ص ٩١٥): «وقد ذكرنا في كتاب «صفة الجنة» أربعين دليلًا على مسألة الرُّؤية من الكتاب والسُّنَّة». وهي في «حادي الأرواح» (٢/ ٦٠٥ - ٧١٤).
٣ - «مفتاح دار السعادة» في قوله (ص ١٠٢٥ - ١٠٢٦): «وعلى هذا
المقدمة / 7
الأصل تنشأ مسألة التحسين والتقبيح، وقد ذكرناها مستوفاةً في كتاب «المفتاح» وذكرنا على صحتها فوق الخمسين دليلًا». وهي في «مفتاح دار السعادة» (٢/ ٨٧٥ - ٨٩١).
الثاني: ما في ثنايا الكتاب من نقل الإمام ابن القيِّم عن شيوخه المعروفين:
فقد ذكر ابن القيِّم في كتابه هذا اثنين من شيوخه المشهورين، هما:
١ - شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية (ت ٧٢٨ هـ).
ذكره في غير موضع وكان به حفيًّا.
٢ - الشيخ عبد الله بن عبد الحليم ابن تيمية (ت ٧٢٧ هـ) (^١).
ذكر ابن القيم (ص ١٣١) مناظرة وقال: «حدثني بمضمونها شيخُنا عبد الله ابن تيمية ﵀».
الثالث: اختيارات ابن القيِّم المشهورة وإحالاته على أبحاثه عنها، منها:
١ - مسألة دخول الكفّارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدةً، قال (ص ٣٣٥): «فالذي يَجزِم به أن دخول الكفارة في الحلف بالطلاق وكون الثلاث في كلمةٍ واحدةٍ واحدةً أحد الوجهين في مذهب أحمد، وهو مخرَّج على أصوله أصحَّ تخريج، والغرض نقض قول مَن ادعى الإجماع في ذلك، ولتقرير هذه المسألة موضع آخر». وينظر: «زاد المعاد» (٥/ ٣٤٤ - ٣٨٣) و«إغاثة اللهفان» (١/ ٤٩٩ - ٥٦٩) و«بدائع الفوائد» (٣/ ٣١ - ٣٨). ولقد نصر الإمام ابن القيم هذه المسألة وأُوذي بسببها كما
_________
(^١) ترجمته في: «المعجم المختص بالمحدثين» للذهبي (ص ١٢١) و«أعيان العصر» للصفدي (٢/ ٦٩٢) و«ذيل طبقات الحنابلة» لابن رجب (٤/ ٤٧٧).
المقدمة / 8
هو معلوم.
٢ - مسألة طلاق الحائض، لما ذكر حديث عبد الله بن عمر طلَّق امرأته وهي حائض، قال (ص ٣٤٠): «والكلام على هذا الحديث وعلى الحديث الآخر: «أَرَأَيْتَ إِنْ عَجَزَ وَاسْتَحْمَقَ» وبيان عدم التعارض بينهما له موضعٌ آخَرُ». وقد تكلم الإمام ابن القيم ﵀ على هذه المسألة بتوسُّع في «تهذيب السنن» (١/ ٤٨٣ - ٥١٦) وختمها بقوله: «وقد أفردت لهذه المسألة مصنَّفًا مستقلًّا، ذَكَرتُ فيه مذاهب الناس ومآخذهم، وترجيح القول الراجح، والجواب عمَّا احتجَّ به أصحاب القول الآخر».
٣ - مسألة نكاح المحلل، قال (ص ٢٩٩): «وغير ذلك من الوجوه التي أَفهَمَتْ منها الآية بطلانَ نكاح المحلِّل، وهي عشرة، قد ذكرناها في موضع آخر». وينظر عن نكاح المحلل «زاد المعاد» (٥/ ١٥٤ - ١٥٧) و«إغاثة اللهفان» (١/ ٤٧٣ - ٤٩٥).
الرابع: أسلوب الإمام ابن القيِّم الذي لا يخطئه من يعرفه.
أسلوب يمتاز بعذوبة اللفظ، وسلاسة العبارة، وحُسن التقسيم، مع الإحاطة بأطراف المسائل وكثرة الاستشهاد بالكتاب والسُّنة وآثار السلف، فتأتي كتبه في غاية القوة مع الإنصاف وحُسن العبارة؛ قال الشوكاني في «البدر الطالع» (٢/ ١٤٤ - ١٤٥): «وله من حُسن التَّصرف مع العذوبة الزَّائدة، وحُسن السِّياق ما لا يقدر عليه غالب المصنِّفين، بحيث تعشق الأفهام كلامه، وتميل إليه الأذهان، وتحبُّه القلوب، وليس له على غير الدَّليل معوَّل في الغالب ... وغالب أبحاثه الإنصاف والميل مع الدَّليل حيث مال، وعدم التَّعويل على القيل والقال، وإذا استوعب الكلام في بحثٍ وطوَّل ذيوله أتى
المقدمة / 9
بما لم يأت به غيره، وساق ما ينشرح له صدور الرَّاغبين في أخذ مذاهبهم عن الدَّليل».
وأمَّا الأدلة الخارجية فكثيرة، منها:
الأول: أن الإمام ابن القيِّم نفسه أحال عليه في عدة كتبٍ من كتبه المشهورة:
منها: قوله في «مدارج السالكين» (٤/ ٣٠٦): «وكذلك كان تأويل آيات الصفات وأحاديثها بما يخرجها عن حقائقها من جنس تأويل آيات المعاد وأخباره، بل أبعد منه لوجوهٍ كثيرةٍ، ذكرتها في كتاب «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة».
ومنها: قوله في «إغاثة اللهفان» (٢/ ٥٢٦): «وقد دل على هذا نسبة الله سبحانه ذلك الكيد إلى نفسه بقوله: ﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ اِلْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اَللَّهُ﴾ [يوسف: ٧٦] وهو سبحانه ينسب إلى نفسه أحسن هذه المعاني، وما هو منها حكمة وحق وصواب، وجزاء للمسيء، وذلك غاية العدل والحق ... كما قد بسطنا هذا المعنى واستوفينا عليه الكلام في كتاب «الصواعق».
ومنها: قوله في «الكافية الشافية» (ص ٥١٧):
عشرون وجهًا تبطل التأويل باسـ ... ـتولى ف لا تخرج عن القرآن
قد أفردت بمصنف هو عندنا ... تصنيف حبر عالم رباني
ولقد ذكرنا أربعين طريقة ... قد أبطلت هذا بحسن بيان
هي في «الصواعق» إن ترد تحقيقها ... لا تختفي إ لا على العميان
المقدمة / 10
الثاني: وجود «مختصر الصواعق» للإمام محمد الموصلي تلميذ مصنِّفه.
وهو مختصرٌ نافعٌ جدًّا، مشهور مطبوع عدة طبعات، وهو مختصر يحافظ على عبارة المصنِّف غالبًا، وسيأتي الكلام عليه.
وكذلك وجود «مختصر الصواعق» للشيخ محمد بن عبد الوهاب.
الثالث: نقل أهل العلم عن «الصواعق».
للأسف لم أقف على نقول كثيرة من «الصواعق»، وممَّن وقفت على نقله عنه: الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في «فتح المجيد» (ص ٥٦ - ٥٧) وفي «كشف ما ألقاه إبليس من البهرج والتلبيس على قلب داود بن جرجيس» (ص ١٤٤ - ١٤٦، ١٤٩ - ١٥٢) والشيخ سليمان بن سحمان في «إقامة الحجة والدليل وإيضاح المحجة والسبيل» (ص ٤٨ - ٤٩).
الرابع: نسب «الصواعق» إلى الإمام ابن القيِّم جماعةٌ كثيرةٌ من أهل العلم.
منهم: شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه» -كما في «المنتقى من معجم شيوخ ابن رجب» (ص ١٠١) - وابنه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥) وابن حجر في «الدُّرر الكامنة» (٣/ ٤٠٢) والعليمي في «الدُّر المنضد» (٢/ ٥٢٢) وفي «المنهج الأحمد» (٥/ ٩٤) والدَّاودي في «طبقات المفسرين» (٢/ ٩٦) وحاجي خليفة في «سلم الوصول» (٣/ ٦٢) وفي «كشف الظنون» (٢/ ١٠٨٣) وابن العماد في «شذرات الذهب» (٨/ ٢٩٠) والشَّوكاني في «البدر الطَّالع» (٢/ ١٤٤) وابن
المقدمة / 11
بدران في «منادمة الأطلال» (ص ٢٤١) وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص ٤١١) وفي «أبجد العلوم» (٣/ ١٤٠) وإسماعيل البغدادي في «هدية العارفين» (٢/ ١٥٨ - ١٥٩) والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (٦٩) والآلوسي في «جلاء العينينِ» (ص ٤٩ - ٥١) والزِّركلي في «الأعلام» (٦/ ٥٦) وكحالة في «معجم المؤلفين» (٣/ ١٦٥) وغيرهم.
كل هذا يجعلنا لا نرتاب في صحة نسبة «الصواعق المرسلة» إلى الإمام ابن القيِّم.
* * * * *
المقدمة / 12
(٢) عنوان الكتاب
اختلف عنوان الكتاب في المخطوطات والمصادر اختلافًا يسيرًا، بيانه أن العنوان قد ذُكر على أوجه:
الأول: «الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة».
كذا سمَّاه الإمام ابن القيِّم نفسه في «مدارج السالكين» (٤/ ٣٠٦).
وكذا سمَّاه محمد بن الموصلي في أول «مختصره» (١/ ٣).
وكذا سمَّاه ابن حجر في «الدُّرر الكامنة» (٣/ ٤٠٣) وابن العماد في «شذرات الذهب» (٨/ ٢٩٠) وحاجي خليفة في «كشف الظنون» (٢/ ١٠٨٣) والشَّوكاني في «البدر الطَّالع» (٢/ ١٤٤) وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص ٤١١) والآلوسي في «جلاء العينينِ» (ص ٤٩ - ٥١) والزِّركلي في «الأعلام» (٦/ ٥٦) وغيرهم.
ووقع في «هدية العارفين» (٢/ ١٥٩): «الصَّواعق المرسلة على الجهميَّة المعطِّلة». بغير واو.
الثاني: «الصَّواعق المرسلة على المعطِّلة».
كذا سمَّاه شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه»، كما في «المنتقى منه (ص ١٠١).
الثالث: «الصَّواعق المنزلة على الجهمية والمعطِّلة».
كذا سمَّاه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥): والعليمي في «الدُّر المنضد» (٢/ ٥٢٢) و«المنهج الأحمد» (٥/ ٩٤)
المقدمة / 13
والدَّاودي في «طبقات المفسرين» (٢/ ٩٦) وابن بدران في «منادمة الأطلال» (ص ٢٤١) وصدِّيق حسن خان في «أبجد العلوم» (٣/ ١٤٠) والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (٦٩) وكحالة في «معجم المؤلفين» (٣/ ١٦٥).
الرابع: «الصَّواعق المرسلة على فرق المعتزلة والجهميَّة المعطِّلة».
كذا جاء عنوان الكتاب في مخطوطة برلين، وكتب على حاشيته: ويقال: «الصواعق المرسلة على فرق البدع المتأولة».
الخامس: «الصَّواعق المنزلة على الطائفة الجهمية والمعطِّلة».
كذا جاء عنوان الكتاب في مخطوطة حلب، وكذا سمَّاه كحالة في «معجم المؤلفين» (٣/ ١٦٥).
وقد رأيت أن العنوان الأول أوثق وأشهر وأكثر ورودًا في المصادر؛ فأثبته.
* * * * *
المقدمة / 14
(٣) حجم الكتاب
اختلفت المصادر في تحديد حجم الكتاب، وعدد مجلداته، على أوجهٍ:
الأول: أنه في مجلدات.
كذا قال كلٌّ من: شهاب الدِّين ابن رجب في «معجم شيوخه» - كما في «المنتقى منه» (ص ١٠١) - وابنه زين الدِّين ابن رجب في «ذيل طبقات الحنابلة» (٥/ ١٧٥)، والعليمي في «الدُّر المنضد» (٢/ ٥٢٢)، وفي «المنهج الأحمد» (٥/ ٩٤)، وصدِّيق حسن خان في «التَّاج المكلَّل» (ص ٤١١) و«أبجد العلوم» (٣/ ١٤٠)، والشَّطي في «مختصر طبقات الحنابلة» (٦٩).
الثاني: أنه في مجلدين.
كذا قال ابن العماد في «شذرات الذهب» (٨/ ٢٩٠)، وابن بدران في «منادمة الأطلال» (ص ٢٤١).
الثالث: أنه في مجلد.
كذا قال الدَّاودي في «طبقات المفسرين» (٢/ ٩٦).
وحجم المجلدات يختلف باختلاف عدد أوراقها وعدد الأسطر ومقاس الورق وحجم الخط وطريقة الكتابة، فمثلًا «صحيح البخاري» مخطوطاته لا تُحصى، فنجد نسخةً تامةً في مجلدٍ واحدٍ، ونسخة في مجلدين، وثلاثة، إلى ثلاثين مجلدًا.
ولا شك أن كتاب «الصواعق المرسلة» كبير الحجم، فهو أكبر من مجلدٍ بالحجم المعتاد، فربما يقع في مجلدين كبار أو في مجلدات، فالقدر الذي وقفنا عليه يقع في نسخة حلب في ١٣٧ ورقة مسطرتها ٣٥ سطرًا، وقد
المقدمة / 15
تبين أن أصلها كان في مجلدين، فقد وجدت على حاشية الورقة ٩٢ من هذه النسخة: «مطلب أول الجزء الثاني».
ووجدت المؤرخ إبراهيم بن صالح بن عيسى النجدي يقول في رسالة للشيخ عبد الله بن خلف الدحيان: «ومن طرف المجلد الذي ذكرنا لجنابكم عنه أنه خرج من أيدينا، الذي هو من «الصواعق»، فهو مجلد قطع الربع لطيف، وخطه وسط، ولا عليه تصحيحات، وهو المجلد الأول، ولا بعد وقفت على «الصواعق» بكاملها، ولا رأيت غير المجلد المذكور منها، ولا أدري كم هي من مجلد؟ والتراجم التي عندي لابن القيم إذا ذُكرت فيها مصنَّفاته قالوا: وله كتاب «الصواعق» مجلدات» (^١).
* * * * *
_________
(^١) «مجموع رسائل وإجازات ونظم الشيخ المؤرخ النسابة إبراهيم بن صالح بن عيسى» (ص ١٦).
المقدمة / 16
(٤) عرض موجز لموضوعات الكتاب
بدأه الإمام ابن القيِّم بمقدمةٍ رائقةٍ حمد الله تعالى فيها، وشهد لله تعالى بالوحدانية، وأنه موصوف بصفات الجلال، ومنعوت بنعوت الكمال، وشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، وحُجته على عباده، بعثه اللهُ وأهلُ الأرض أحوجُ إلى رسالته من غيث السماء، ومن نور الشمس الذي يُذهِب عنهم حَنَادِسَ الظَّلماء، فحاجتهم إلى رسالته فوق جميع الحاجات، وضرورتهم إليها مقدَّمة على جميع الضرورات؛ فإنه لا حياةَ للقلوب ولا نعيم ولا لذة ولا سرور ولا أمان ولا طمأنينة إلَّا بأن تَعْرِفَ ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون أحبَّ إليها ممَّا سواه، ويكون سعيُها في ما يقرِّبها إليه ويُدنِيها من مرضاته، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل؛ فأساسُ دعوة الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم- معرفةُ الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله.
ثم ختمها بسؤال نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو: «كيف يكون هؤلاء المحجوبون المنقوصون الحيارى المتهوِّكون أعلمَ بالله وصفاته وأسمائه وآياته من السابقين الأوَّلِين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، ورثةِ الأنبياء وخلفاءِ الرُّسل، ومصابيح الدُّجى وأعلام الهُدى، الذين بهم قام الكتابُ وبه قاموا، وبهم نطق الكتابُ وبه نطقوا، الذين وهبهم الله من العلم والحكمة ما برزوا به على سائر أتباع الأنبياء، وأحاطوا من حقائق المعارف بما لو جُمعت حكمةُ مَن عداهم وعلومهم إليه لاستحى مَن يطلب المقابلة! ثم كيف يكون أفراخُ المتفلسفة وأتباع الهند واليونان
المقدمة / 17
وورثة المجوس والمشركين وضُلَّال الصابئين وأشباههم وأشكالهم أعلمَ بالله من ورثة الأنبياء وأهل القرآن والإيمان!».
وجعل ابنُ القيِّم الكتابَ كلَّه جوابًا على هذا السؤال، فقال: «إنما يتبيَّنُ حقيقةُ الجواب بفصول».
ثم ذكر فصول الكتاب، وعددها أربعة وعشرون فصلًا، متفاوتة الحجم، فيقع بعضها في صفحتين أو صفحات قليلة، ويقع بعضها في عشرات الصفحات، ويقع الفصل الرابع والعشرون منها في مئات الصفحات.
وهذا عرضٌ موجزٌ لفصول الكتاب وموضوعاتها الرئيسة:
الفصل الأول: في معرفة حقيقة التأويل ومسمَّاه لغةً واصطلاحًا.
التأويل هو تفسيرُ ما يؤولُ إليه الشيءُ، ثم تُسمَّى العاقبة تأويلًا، وتُسمَّى حقيقة الشيء المخبَر به تأويلًا، ويُسمَّى تعبيرُ الرؤيا تأويلًا بالاعتبارين؛ فإنه تفسيرٌ لها، وهو عاقبتها وما تؤول إليه، وتُسمَّى العِلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلًا؛ لأنها بيانٌ لمقصود الفاعل وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضَه به.
والتأويل في اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث مرادهم به معنى التفسير والبيان، وأمَّا المعتزلة والجهمية وغيرهم من فرق المتكلمين فمرادهم بالتأويل: صرف اللفظ عن ظاهره وحقيقته إلى مجازه وما يخالف ظاهرَه.
الفصل الثاني: وهو انقسام التأويل إلى صحيح وباطل.
التأويل الصحيح هو الذي يُوافق ما دلَّت عليه النصوص، وجاءت به
المقدمة / 18
السُّنَّة ويطابقها. والتأويل الفاسد هو الذي يُخالف ما دلَّت عليه النصوصُ وجاءت به السُّنَّة، ولا فرقَ بين باب الخبر والأمر في ذلك. وكل تأويلٍ وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول، وما خالفه فهو المردود.
ثم قسم التأويل الباطل إلى عشرة أنواعٍ، ثم قال: «فهذه بعض الوجوه التي يُفَرَّقُ بها بين التأويل الصحيح والباطل».
الفصل الثالث: في أنَّ التأويل إخبارٌ عن مراد المتكلم لا إنشاء.
المقصود فَهْمُ مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخبارًا بالذي عَنَاه المتكلم، فإن لم يكن هذا الخبرُ مطابقًا كان كذبًا على المتكلم، فالحملُ إمَّا إخبارٌ عن المتكلم بأنه أراد ذلك المعنى، فهذا الخبر إمَّا صادقٌ إن كان ذلك المعنى هو المفهوم من لفظ المتكلم، وإمَّا كاذبٌ إن كان لفظُه لم يدلَّ عليه، وإمَّا إنشاءٌ لاستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى، وهذا إنما يكون في كلام تُنشِئه أنت، لا في كلام الغير.
الفصل الرابع: في الفرق بين تأويل الخبر وتأويل الطلب.
المقصود من تأويل الخبر هو تصديق مُخبِره، ومن تأويل الطلب هو امتثاله، وكل تأويلٍ يعود على المخبر بالتعطيل وعلى الطلب بالمخالفة تأويل باطل.
الفصل الخامس: في الفرق بين تأويل التحريف وتأويل التفسير وأن الأول ممتنعٌ وقوعُه في الخبر والطلب والثاني يقع فيهما.
التفسير هو: إبانة المعنى وإيضاحه، والتحريف: العدول بالكلام عن وجهه وصوابِه إلى غيره. وهو نوعان: تحريفُ لفظه، وتحريفُ معناه.
المقدمة / 19
والتأويل يتجاذبه أصلانِ: التفسير والتحريف، فتأويل التفسير هو الحق، وتأويل التحريف هو الباطل. فالتأويل الباطل هو إلحادٌ وتحريفٌ، وإن سمَّاه أصحابُه تحقيقًا وعرفانًا وتأويلًا.
الفصل السادس: في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويلُه من آيات الصِّفات وأحاديثها وما لا يسوغ.
حقيقة الأمر أن كل طائفةٍ تتأوَّل ما يخالف نِحْلتَها ومذهبَها، فالعيارُ على ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل هو المذهبُ الذي ذهبتْ إليه والقواعد التي أصَّلَتْها، فما وافقها أقرُّوه ولم يتأوَّلوه، وما خالفها فإن أمكنهم دفعُه، وإلَّا تأوَّلوه.
وكلٌّ مِن هؤلاء يتأول دليلًا سمعيًّا، ويُقِرُّ على ظاهره نظيرَه أو ما هو أشد قبولًا للتأويل منه؛ لأنه ليس عندهم في نفس الأمر ضابطٌ كُلي مطَّرِد منعكس، يُفرَّق به بين ما يُتأوَّل وما لا يُتأوَّل، إن هو إلَّا المذهب وقواعده وما قاله الشيوخ. وهؤلاء لا يمكن أحدًا منهم أن يحتج على مبطِلٍ بحُجةٍ سمعيةٍ؛ لأنه يسلك في تأويلها نظير ما سلكَه هو في تأويل ما خالف مذهبَه.
الفصل السابع: في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلًا نظير ما فروا منه.
هذا فصلٌ بديعٌ لمن تأمله، يعلم به أن المتأوِّلين لم يستفيدوا بتأويلهم إلَّا تعطيلَ حقائق النصوص والتلاعب بها وانتهاك حرمتها، وأنهم لم يتخلصوا ممَّا ظنُّوه محذورًا، بل هو لازمٌ لهم فيما فرُّوا إليه كلزومه فيما فرُّوا منه. بل قد يقعون فيما هو أعظمُ محذورًا، والمقصود أن المتأول يفر من أمرٍ، فيقع في نظيره.
المقدمة / 20
فهلَّا أقرَّ النصوص على ما هي عليه، ولم ينتهك حُرمتَها؛ إذ كان التأويل لا يُخرِجه ممَّا فرَّ منه، فإن المتأول إمَّا أن يذكر معنًى ثبوتيًّا، أو يتأوَّل اللفظ بما هو عدمٌ محضٌ، فإنْ تأوَّله بمعنى ثبوتي كائنًا ما كان لزمه فيه نظيرُ ما فرَّ منه. فهو في تأويله بين التعطيل والتشبيه مع جِنايته على النَّص وانتهاكه حُرمته، فهلَّا عظَّم قَدْره، وحفظ حرمتَه، وأقرّه وأمرّه مع نفي التشبيه والتخلص من التعطيل!
الفصل الثامن: في بيان خطئهم في فهمهم من النصوص المعانيَ الباطلةَ التي تأوَّلوها لأجلها فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
هذا الفصل في الكشف عن عجيب أمر المتأوِّلين، فإنهم فهموا من النصوص الباطلَ الذي لا يجوز إرادتُه، ثم أخرجوها عن معناها الحقِّ المراد منها، فأساؤوا الظنَّ بها وبالمتكلِّم بها، وعطَّلوها عن حقائقها التي هي عين كمال الموصوف بها.
فانظر إلى أقبح التشبيه والتمثيل الذي ادَّعوا أنه ظاهر النصوص، وإلى التعطيل الذي سطَوْا به عليها وسمَّوْه تأويلًا! فصحَّ أنهم جمعوا بين فَهْم التشبيه منها، واعتقاد التعطيل، ونسبة قائلها إلى قصد ما يضاد البيان والإرشاد.
الفصل التاسع: في الوظائف الواجبة على المتأوِّل التي لا يُقبل منه تأويله إلَّا بها.
عليه أربعة أمورٍ لا يتم له دعواه إلَّا بها:
الأمر الأول: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوَّله في ذلك التركيب الذي وقع فيه، وإلَّا كان كاذبًا على اللغة مُنشِئًا وضعًا مِن عنده.
المقدمة / 21
الثاني: بيان تعيين ذلك المعنى؛ فإنه إذا أُخرج عن حقيقته قد يكون له معانٍ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل.
الثالث: إقامة الدليل الصارِف للفظ عن حقيقته وظاهره، فلا يجوز العدول عنه إلَّا بدليلٍ صارفٍ يكون أقوى منه.
الرابع: الجواب عن المعارض، فإن مُدَّعي الحقيقة قد أقام الدليل العقلي والسمعي على إرادة الحقيقة.
الفصل العاشر في أن التأويل شرٌّ من التعطيل فإنه يتضمن التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص وإساءة الظن بها.
فإن المُعطِّل والمؤوِّل قد اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصِّفات، وامتاز المُؤوِّل بتلاعبه بالنصوص وانتهاكه لحُرمتها وإساءة الظن بها، ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهرُه الضلال والإضلال، فجمعوا بين أربعة محاذير:
المحذور الأول: اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله المُحال الباطل، ففهموا التشبيه أولًا.
ثم انتقلوا عنه إلى المحذور الثاني وهو: التعطيل، فعطلوا حقائقها بناءً منهم على ذلك الفهم الذي يليق بهم، ولا يليق بالرَّبِّ ﷻ.
المحذور الثالث: نسبة المتكلِّم، الكاملِ العلمِ، الكاملِ البيانِ، التامِّ النصحِ إلى ضد البيان والهدى والإرشاد، وأن المتحيِّرين المتهوِّكين أجادوا العبارة في هذا الباب، وعبَّرُوا بعبارةٍ لا تُوهِم من الباطل ما أوهمتْه عبارة المتكلم بتلك النصوص. ولا ريب عند كل عاقلٍ أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلمَ منه أو أفصحَ أو أنصحَ للناس.
المقدمة / 22