فشخصت ببصرها إلي، وأشارت بيدها إلى قلبها دون أن تنبس بكلمة، وانطلقت مغادرا الشقة إلى البدال في أسفل العمارة، وتلفنت إلى طبيبها أن يحضر، ثم صعدت إلى الشقة وجلست إلى جانبها في حال من الذعر والحزن لا توصف. لم تفارقها عيناي لحظة واحدة حتى استلت نظرة عينيها الغائمة دمعي الحبيس. شعرت بأنني أشقى إنسان في الوجود، وأفعمت نفسي كآبة وامتعاضا. ثم جاء الطبيب وفحصها، وقال: إنها نوبة قلبية تستلزم رقادا طويلا، وعناية كبيرة! ووصف الدواء كالعادة. وكنت قد قصصت على الطبيب كيف أغمي عليها عقب شجار مع الخادم! فقال لي: إن الشجار سبب طارئ ولكن الداء قديم، وقضينا ليلة عبوسا. أما رباب فقد توارت في حجرتنا في شقاء بالغ وقد ناءت بثقل تبعتها، وما زالت تبكي حتى انفطر قلبها من البكاء، فلم يسعني إلا أن أطيب خاطرها وأربت على منكبها قائلا: حسبك بكاء، هذا قضاء الله، وربنا يجعل العواقب سليمة.
58
وامتلأ البيت بالعواد، فزارتنا أسرة رباب وجمع من أقاربها، وجاءتنا أختي راضية وأسرتها، وعادت رباب المريضة وقبلت يدها واستوهبتها العفو بعين باكية حتى رجوت أن نبدأ - بسبب هذا الحادث - حياة جديدة خالية من كدر القلوب. وتحينت راضية فرصة خلو الحجرة من الأغراب وقالت لي: إني أستأذنك في أن آخذ أمي إلى بيتي حتى تسترد قواها؟
فهالني الاقتراح وقلت بارتياع: هذا مستحيل.
فابتسمت إلي متلطفة واستطردت قائلة: ألا ترى أنها تحتاج لخدمة وعناية في كل حين، فمن ذا الذي يقوم بخدمتها هنا؟ وأنت مشغول بعملك، وزوجك مشغولة بعملها، وصباح تقوم على خدمة المنزل، فإلى من تكل أمر أمنا؟
ولكني استفظعت اقتراحها، وثرت على ما قدمت من حجج قوية، وقلت بإصرار صادر من أعماق قلبي: لن يطول رقادها بإذن الله، ولن تحتاج إلى من يلازمها إلا في الأسبوع الأول كما قال لي الدكتور، ولأجدن خادما خاصة تتوفر للعناية بها.
وحاولت راضية أن تثنيني عن إصراري ولكن لم تجد محاولتها، وانتهى النقاش بأن قررت الإقامة في بيتي حتى أوفق لإيجاد خادم. وفي اليوم الثالث لمرض أمي حضر أخي مدحت - وكنت أخبرته بمرضها في خطاب مستعجل - وجاءت معه زوجه. وقد اشتدت وطأة المرض على أمي في الأيام الأولى لمرضها. لم تكن تبدي حراكا، ولا تكاد تنبس بكلمة. كانت إذا فتحت عينيها المتعبتين لاحت فيهما نظرة ذابلة غائمة تقلبها بيننا في صمت وتسليم فتمزق قلبي إربا. ولم نكن نفارقها، وكانت إذا عاودتها يقظة خفيفة تردد عينيها بيننا، وترسم على شفتيها الجافتين ابتسامة، أو تبسط راحتها وترفع بصرها إلى أعلى وتغمغم داعية لنا بصوت منخفض وان. ولكن لم تطل بها الغيبوبة، فتحسنت حالها قليلا في نهاية الأسبوع الأول من الأزمة، واستطاعت أن تدرك بوضوح أن أبناءها جميعا يحيطون بها، ولعلها رأتهم كذلك لأول مرة في حياتها. وقد جمعنا الفراش مرة فجلست راضية تنظر إلينا في صمت طويل، ثم طفح وجهها بالبشر، وهمست بصوت ضعيف: ما أسعدني بكم! الحمد لله والشكر له.
ولاحت في عينيها نظرة رقيقة تنم عن الحنان والتأثر، ثم استدركت قائلة: إذا كان المرض يجمعنا هكذا، فكم أتمنى ألا يزول!
وبدت - على مرضها - سعيدة، فانتقلت سعادتها إلى قلوبنا. التأمت أسرتنا التي قضى الله على عقدها بأن ينفرط منذ البداية؛ بتنا تحت سقف واحد، وأكلنا وشربنا معا، وانتظمت قلوبنا خفقة واحدة. يا لها من أيام رددت أنفاسنا فيها الإشفاق والحنان والسعادة! بيد أنها كانت أياما قلائل. فقد تقدمت صحة أمي تقدما حسنا، وزال الخطر عنها وإن حتم الطبيب عليها بألا تبرح الفراش شهرا كاملا على أقل تقدير. وعند ذاك ودعنا مدحت وعاد بأسرته إلى الفيوم واعدا بالزيارة من آن لآن. وعادت راضية كذلك إلى بيتها - وكنت قد وفقت إلى اختيار خادم لأمي - على أن تعود أمها كل يوم. انفض السامر، وتفرق الشمل، وعاد كل شيء إلى أصله. ولم يكد يمضي أسبوعان حتى أخذت أمي تسترد حيويتها ويقظتها، وأمكنها أن تجلس إلى الفراش مستندة إلى وسادة منكسرة. ولشد ما سرني أن تقوم رباب بواجبها نحو حماتها، ولن أنسى ما عانت من مرارة الألم والقهر في الأيام الأولى للمرض.
ولما عاودتنا الطمأنينة، ولم يعد أمام أمي إلا رقاد وإن يكن طويلا إلا أنه مأمون، عدنا إلى سيرتنا المألوفة في الحياة؛ عادت رباب تروح عن نفسها بزياراتها المسائية، وانطلقت على سبيلي القديم، وقد استأذنتها في الخروج بضع ساعات ترويحا عن النفس، فأذنت لي بحماس، وأفصحت لي عما كان يساورها من ألم لبقائي إلى جانبها كالسجين. وغادرت البيت متفكرا، متسائلا: ترى لو كنت أنا المريض أكانت تستأذن هي في مغادرة الحجرة ترويحا عن النفس؟ وبدا لي منطق الحياة قاسيا، ولكن لا حيلة لنا فيه!
صفحة غير معروفة