جعلت تصفر بفمها وهي تبسم إلي، ثم تناولت حقيبتها واستخرجت منها فرشاة بودرة ومسحت على وجهها وعنقها وصففت خصلات شعرها المبعثرة، وراحت تلقي نظرة على وجهها في مرآة صغيرة مثبتة في جانب السيارة وهي تسألني: متى تنتهي إجازتك؟ - بعد أيام قلائل.
فقالت بهدوء: سنلتقي كثيرا، كل يوم إن أمكن، ولنا في السيارة متسع حتى نجد مكانا صالحا.
واستوت جالسة أمام عجلة القيادة، ولكني أمسكت بمعصمها، ثم أحطت عنقها بذراعي، وضحكت ضحكة قصيرة، وضمتني إلى صدرها الرابي وهي تقول: لماذا تركتني أستعيد زينتي يا شاطر؟!
56
عدت إلى البيت في تمام العاشرة، ولم أسائل نفسي عما إذا كنت قد أخطأت؛ لأن ما استرددته من السعادة والثقة كان فوق الخطأ والصواب، وكانت أمي قد نامت، أما رباب فقد جلست في الفراش تطالع مجلة. ما إن رأيت وجهها الصبيح حتى أشرق بروحي نور بهيج وأحسست بأنني أنتقل من دنيا إلى دنيا أخرى. وآلمني تقزز مفاجئ لما صنعت بنفسي، ولكنه لم يتمكن مني، فأنسانيه ذلك الحجاب الكثيف الذي يحول بيني وبين زوجي .. واستقبلتني بابتسامة وأبلغتني سلام خالتها وعتابها، ثم أخبرتني بأن عشائي جاهز على السفرة، فمضيت إليه والتهمته بنهم متعب جائع. وعدت إلى مخدعنا وأنا أتساءل عما تفعل رباب لو علمت بذنبي؟! وأخبرتني بأنها دعيت إلى إعطاء درس خاص لابنة قاض كبير بالسنة الأولى الابتدائية، وسألتني عن رأيي. ومع أنني لم أقف منها على ما يريب إلا أنني لم أرتح للاقتراح، وقلت: حسبك ما تتجشمين من مشقة طول النهار!
فقالت بغير اكتراث: صدقت!
وسررت لموافقتها السريعة، وقلت لنفسي في شبة ندم: «هيهات أن أقع على شبه شك!» واضطجعت إلى جانبها، فنحت المجلة جانبا، وأطفأت النور واضطجعت بسلام. كان النوم حريا بأن يسارع إلى جفني، لكن حالت دونه يقظة غريبة في النفس، طار خيالي إلى عنايات، والسيارة في طريق الهرم، إني خائن! أعجب بها من حقيقة! فمن يصدق أن يتخذ الزوج العاجز عشيقة؟! تمنيت في تلك اللحظة لو تعلم زوجي بهذه الحقيقة العجيبة، على أنها لم تكن إلا لحظة عابرة، وسرعان ما تقبض قلبي خوفا وخجلا. لقد تعقبت زوجي وبي شك في خيانتها فعدت خائنا لا شك فيه، أما هي فما وقفت منها على غير الاستقامة والاحتشام. كيف كان نصيبي منها العجز والإخفاق على حين أنني نعمت بين يدي المرأة الغليظة بهذه السعادة الجنونية؟! لفتني حيرة شديدة، تلهفت نفسي على بصيص من النور.
وزاد من حيرتي أنني شعرت شعورا عميقا بأنني لا غنى لي عنهما معا. بل لم أجد سبيلا إلى المفاضلة بينهما، فهذه روحي وتلك جسدي، وما عذابي إلا عذاب من لا يستطيع أن يزاوج بين روحه وجسده. ماذا تكون قيمة الدنيا بغير هذا الوجه الجميل المتسم بالطهر والكمال؟ ولكن ماذا يبقى لي من لذة ورجولة إذا فقدت المرأة الأخرى؟ وأغرقت في التفكير إغراقا لم يدع للنوم سبيلا إلي، ومضت تتراءى لعيني رباب ثم عنايات، وانحرف الخيال بغتة إلى أمي بلا داع، فاتخذت مكانها في شريط هذه الصور المتلاحقة! وتناهت بي الحيرة حتى شملتني حال من الحزن والكآبة!
بيد أن أحاسيس الليل قل أن تعيش في ضوء النهار؛ إنها في الليل تندمج في تيار لحن غامض ينطلق في جو أثيري يكتنفه الضباب، فإذا طلع عليه النهار لم يبق منه إلا أصداء خفيفة لا تمنعنا من أن نلتمس سبيلها في الحياة. جاء صباح اليوم الخامس فانطلقت كالعادة إلى العباسية، ترى أقتفي أثر رباب حقا، أم ألبي ذاك النداء المطاع؟ إن سيرة زوجي لا تدع مجالا للشك، سرها كجهرها، فلا شك أنها صدقت فيما قالت عن الخطاب المشئوم، وإذا كان ثمة خائن فهو أنا.
وذهبت إلى قهوة النوبيين فما أوفقها رمزا لحبي الجديد، وانتظرت حتى فتحت النافذة فتبادلنا التحية بابتسامة لطيفة. وغابت برهة ثم بدت لي مرة أخرى وقد أخذت أهبتها للخروج، وأشارت إلي إشارة ذات معنى أن أنتظرها في مكان الأمس. لم أتوقع أن نتقابل صباحا، بيد أنني لم أتردد فناديت النادل ودفعت له الحساب ومضيت من فوري إلى الجسر، وخيل إلي - في طريقي القصير - أنني أدركت حقيقة من حقائق الحياة، هي أنه لا توجد ثمة حركة بين الرجال إلا ووراءها امرأة! المرأة تلعب في حياتنا الدور الذي تلعبه قوة الجاذبية بين الأجرام والنجوم. فما من رجل «حي» إلا وفي خياله امرأة، حاضرة أو غائبة، ممكنة أو مستحيلة، محبة أو كارهة، مخلصة أو خائنة. وفهمت فهما جديدا، كأنه لقوته بكر جديد، معنى قولهم: إن الحب الحياة والحياة الحب. لم تكن حياة ثم كان حب؛ ولكن كان حب فكانت حياة. وأقسمت في تلك اللحظة ألا أعرض عن الحب ما حييت!
صفحة غير معروفة