وخرجنا معا .. وركبنا الترام .. لعل كثيرين يرمقوننا بعين الحسد، فهل يتصورون كيف نحيا معا؟! ألا ما أعجب العوالم التي تنطوي عليها النفوس! وأعجب من هذا أمر رباب، فكيف ترغب عن المعاشرة الزوجية بهذا الإصرار الغريب؟ لشد ما يشوقني أن أغوص في أعماقها. عند ذاك شعرت بحاجتي إلى مرشد أقص عليه وأصغي إليه. لم أشعر من قبل بمثل ما شعرت به وقتها من الوحدة والعزلة وقلة الحيلة. وكان طبيعيا أن أذكر مرشدي الوحيد في الحياة؛ أمي .. ولكن سرعان ما تملكني إحساس قوي بالخجل والغيظ، حتى لكأن نشر همومي على الملأ أهون علي من أن أسار أمي بها.
هل أستطيع أن أجلو السر بنفسي؟ أيكون الله قد خلقها خلقا طاهرا لا تطيب له الحياة إلا بالعفة؟! هذا فرض محتمل يؤيده الواقع. ولست آسى عليه، فلولاه لكنت في مأزق حرج. والحق أن اتصالي بها - حتى في أسعد أوقاته - لم يخل من قلق وخوف غامضين. وقد عاودني العجز في إبان جنوحها إلى النفور، ولكني كنت آبى إلا أن أصور نفسي في صورة الضحية لشذوذ حبيبتي، والفداء لسعادتها .. ولما بلغت هذا الحد من التفكير - وكنت أشارف الوزارة - اضطرب ذهني وشعرت بقلق طاغ لم أدركه. بدا لي الأمر وكأنه يستدعي الطمأنينة التامة، ومع ذلك لفتني حيرة معذبة فدخلت الوزارة ذاهلا .. من عسى أن يكون الوغد الذي كتب الخطاب؟ معقول جدا ألا يكون الرجل الوقور محمد جودت، فمن يكون؟ لماذا لا يكون الفتى الآخر ذا الجسم البدين والنظرة المتغطرسة؟ وليس هذا ببعيد؟ إنه في متناول يدي، وإني لأعرف موقفه الذي ينتظر به كل صباح .. ترى هل حقا جهلته أم كانت تتجاهله؟ على أنني تمنيت بقلبي ألا يكونه؛ إذ لم يخف عني لحظة أنه قادر على أن يبطش بي بضربة واحدة، وقلت لنفسي ساخطا: لو أنها أبقت على الخطاب لأمكنني كل شيء. أي شيء أعني؟ لا أدري على وجه التحقيق، لكني وجدت عليها مرة أخرى بعد أن عد الأمر منتهيا. والله ما مزقته إلا خوفا من اطلاعي عليه. رباه هل أتردى ثانية في الجحيم؟ حذار أن تتمادى! إن من يسمح لنفسه بالشك في رباب لا يستحق أن يكون إنسانا. ألا يحسن بي أن أسألها في التليفون عما إذا كانت تلقت خطابا جديدا؟ نازعتني إلى ذلك رغبة جامحة، ولكن حال دون تنفيذها الخوف .. ودعاني صوت من الأعماق إلى الهرب! ولكن ممن أهرب؟ وإلى أين؟ إما أن أكون مجنونا أو سخيفا. إننا زوجان سعيدان في الواقع، ولكن عقلي شقي، فآه لو أستطيع حذف الأمس من الأيام. آه لو تمحى ذكرى تمزيق الخطاب من خيالي. وإليك خاطرا جديدا؛ إذا كانت قرأت الخطاب في المدرسة فلماذا أعادت قراءته في حجرتنا؟ .. ألذها أن تعيد تلاوته أم كانت تستوثق من الميعاد؟ أوشك جبيني أن يتفجر من حمى الفكر!
ولما غادرت الوزارة أسعفني هواء الطريق اللطيف بروح من عنده، فتنفست تنفسا عميقا، وأحسست انتعاشا ردني إلى السكينة. وجعلت أردد: ما أحمقني! وفي البيت لاقتني رباب بابتسامة وضاءة، فانبسطت أساريري، وسألتها ضاحكا: هل من جديد؟ - أتعني خطابا جديدا؟
فقلت وما أزال ضاحكا: نعم.
فقالت مبتسمة: كلا انقطع البريد!
وغادرت البيت عصرا وليس لي غاية، وما كدت أستقر بمكاني في الترام حتى نشأت في صدري رغبة جميلة، هي أن أزور «السيدة» طالما كانت ملجئي وملاذي، ولم أتردد عن تنفيذ هذه الرغبة التي ملكت نفسي. وعندما عبرت عتبة المسجد سرت إلى صدري نسمة ارتياح سعيدة، وطافت برأسي ذكريات محببة إلى قلبي. رأيتني بعين الخيال أسير ممسكا بيدي أمي إلى الضريح الطاهر. وذكرت يوم جاءت بي لأتوب عن الذنب الذي أكاد آلفه وأعتاده. يا لها من ذكرى أعقبت ندما وخجلا حتى شعرت برغبة في التواري والفرار! ولكنني واصلت السير، فطفت بالضريح قارئا الفاتحة، وتشجعت إدلالا بمنزلتي منذ الصغر عند صاحبته الطاهرة، فوضعت راحتي على الباب وغمغمت في ضراعة: «يا أم هاشم، أنت أعلم بقلبي وطيبته، وبأني لم أضمر في حياتي أذى لإنسان، فاجعلي جزائي من جنس عملي. هذا دعائي يا ست». وانتبذت ركنا وتربعت على الأرض. سطعت أنفي رائحة ذكية لعلها كانت رذاذا يرشه أحد المجذوبين، وتجاوبت في الأركان أصوات الدعاء يرددها الطائفون، على حين مضى شيخ غير بعيد يرتل بصوت مهموس آيات من الذكر الحكيم، وذكرت كيف انقطعت عن فرائض الدين حتى لم أعد أواظب إلا على الصوم في حينه، ألست حقيقا إذا عدت إلى هدي الصلاة أن يطمئن قلبي ويخف عن ظهري وقر القلق والمخاوف. وكان قلبي على ألمه يتفيأ ظل النبوة الظليل، ويعب من نمير صاف مثلوج، ويغمره سكون عميق يدعوني إلى الاستزادة من صفاء الساعة الهنيء. وفي نشوة من نشوات السلام تراءت لي آلامي كخيط رقيق من نسيج القضاء المهيمن على كل شيء، فنزعت إلى الرضى والتسليم. ودوم بنفسي صفاء روحي سما إلى ذروة من البهجة فوق المنى، فكأن القلب يعلو غصنا من أغصان الجنة تهدل عليه حمامة السلام. ولبثت في نشوتي زمنا لا أدري كم لبثت حتى اندس إلى خيالي على حين غرة صورة رباب وهي تمزق الخطاب وقد تملكها الهلع، فأفقت بقسوة وعنف كمن يفيق من نوم على زلزال عنيف، وتنهدت من قلب مكلوم، ثم نهضت قائما، وتلوت الفاتحة مرة أخرى وغادرت الجامع، وقد وقع بصري لدى خروجي من الباب على رمال ممن يستطلعون الغيب .. إني أومن بهؤلاء الناس إيمان أمي بهم. وقد انتظرت حتى انفض من حوله جماعة من السائلين واقتربت منه على حياء، وسألته أن يقرأ لي الطالع. وراح الرجل ينكت بإبهامه في نقرات الرمل وينقل فيما بينهما قواقعه. كان نحيلا كالمومياء، شاحب اللون، متلفعا بكساء أبيض، فقال من فم لم تبق فيه إلا ثنيتاه العلييان: كثير الهم والفكر.
فقلت لنفسي: لقد صدق، وأرهفت السمع بانتباه، فاستطرد قائلا: ولك عدو ماكر.
فخفق قلبي: أليس هو صاحب الخطاب؟! وواصل حديثه قائلا: إنه يمكر مكره وسيرد الله كيده إلى نحره!
ألا يعني هذا أن «رباب» بريئة؟ - وستجيئك ورقة تسر بها طويلا! - أتعني خطابا؟ - ربما، إني أرى أمامي ورقة.
ما معنى هذا؟! كان الأمر يزداد غموضا، وسألته: هل تأتي من قبل العدو؟ - كلا .. كلا .. ناحية أخرى فتنجلي بها همومك. - أية ناحية؟ - يأتيك الخبر من حيث لا تدري.
صفحة غير معروفة