لأنها تعلم مواقع الرؤية علما لا خطأ فيه، وربما وقفت في المكان المكشوف والنوافذ مطلة عليه من جوانب شتى، ثم لا تبالي أن تمازح صاحبها وتغريه بمزاحها وتجميشها، فإذا أحجم وتردد ضحكت منه ساخرة، وأولعت بتعييره والتهكم عليه؛ لأنه لم يفهم لأول وهلة كما فهمت هي أن الأشعة المردودة عن زجاج النوافذ هناك تحجب النظر من ورائها!
تعلمت وهامت بأوروبا، فأوروبا عندها نبي معصوم؛ كل شيء فيها خير من كل شيء في غيرها، وهذه التي تغفل عن الأديان حتى يخيل إليك أنها لم تسمع قط بمكة وبيت المقدس وطور سيناء، هذه الوثنية في عالم الدين تراها في عالم الأزياء، فتعلم لأول وهلة أنها لا تغفل لحظة واحدة عن وحي باريس ومناسك الأزياء في العالم الأوروبي بأسره؛ لأنها تتحرج من وضع شريط في غير موضعه أو لبس زي في غير موعده تحرج الزاهد الصالح من ذنب ينفيه عن رحمة الله ويخلده في جحيم عذابه.
وكان صاحبها همام على نقيضها؛ يهزأ بالعرف وقد يتعمد الخروج عليه ولو في المجامع العامة، لحق بها ليلة بدار الأوبرا وهو في ملابسه الصباحية فكادت حين رأته إلى جانبها تجن من الغيظ وتتجاهل معرفتها به ومصاحبتها إياه، وجعلت تنظر إليه نظرات فيها من الاستغراب والاستهوال والإكبار لهذه الجرأة أو لهذا التهور بمقدار ما فيها من الأسف والحنق والاستنكار، ومالت إليه تقول: ماذا يظن هؤلاء الناس؟ إنهم لن يقولوا إلا أن هذه الفتاة مسكينة مع هذا الرجل! قال متظاهرا بالاعتذار وقد علم أن المعابثة أنفع أساليب الاعتذار معها في هذه الحالة: لا عليك أيتها الفتاة المسكينة، في المرة التالية سأحمل في يدي كسوة السهرة لأدفع عنك هذه المسبة ... إلا أنهما - حين خرجا من الدار - غلب عليها حب التحدي على الرغم من رغبتها في التستر والمداراة، فخرجت وهي آخذة بذراعه كأنما تغيظه هو أو تغيظ المتفرجين!
وتقرأ أوروبا كما تعبد أزياءها، ولكن ماذا تقرأ؟ إن شئت فلا مانع من بيرون وشوبنهور، على شريطة أن يوصيها بقراءتهما رجل يفهمها وتفهمه، وأن تقرأ في ديوان بيرون قصة دون جوان، وأن تقرأ في القصة أنباء خلاعته وعيثه بين مخادع الجواري الحسان في قصر السلطان، أما شوبنهور فيجب أن يكون كله على وتيرة مقاله في الحب والشهوة بين الذكر والأنثى وليتشاءم بعد ذلك ما استطاع!
عاطفتها حية غير أنها مشغولة بشاغل واحد، فلا تهمها الشفقة على المظلومين والمنكوبين ولا تهمها المظالم والنكبات، لا لأنها قاسية ولا لأنها مغلقة جاسية، ولكن لأن مكان الشفقة مشغول مستغرق، فلو خلا جانب منه برهة لما استعصى على الشفقة أن تنفذ إليه أو تطغى عليه.
وكأنها الطيارة المحلقة، وكأن نزواتها هي القوة الدافعة لها في الفضاء، فإذا دفعتها فهي ناهيك من حركة وصعود وهبوط، وإن وقفت لحظة فهي حجر ملقى على التراب، ولسان حالها في العواطف الإنسانية أن تقول لرجلها: أشفق أنت وتمرد على الظالم واعن بما تشاء، وأنا وراءك إلى حيث تقودك قدماك.
وهي وثنية في مقاييس الأخلاق كما هي وثنية في التدين، لا تؤمن بالعصمة الإنسانية في أحد ولا في صفة، وشديدة الإيمان بضعف الإنسان مع أضعف المغريات ... استطرد الحديث يوما إلى جان دارك فقالت هازئة: كم رجلا يا ترى عرف أنها عذراء؟!
فقال لها همام: إنها عذراء بشهادة الطب وشهادة الخواتين الموقرات.
فقالت: لقد شهد لها أضعاف هؤلاء بالمعجزات، فهل تصدق معجزاتها؟
وكان من دأبها أن تحب الغلبة في المناقشة على طريقة كل أنثى مع تنوع الأسلوب والعبارة، فإذا عز عليها الجواب راغت منه وغيرت مجرى الحديث، أو تقول حينا: أسكتني وما أقنعتني! وحينا آخر: ناقشني يا أخي ناقشني ولكن بحق السماء والأرض عليك لا تكتفني، دع لي يا أخي حرية الكلام! ... فهي تريد جوابا يروقها ويترك لها باب الكلام مفتوحا بغير انتهاء.
صفحة غير معروفة