ثم سأل بعد برهة: «ماذا تعني بقولك إن هذا لا طائل تحته؟»
ولم يستطع يوري أن يجيب عن هذا جوابا دقيقا فبقي صامتا.
وعاد نوفيكوف إلى الصورة يفحصها وجلس مرة ثانية ثم قال: «قرأت مقالك المنشور في جريدة «كراي» وأراه حار!»
فأجاب يوري مغضبا لغير سبب يعلمه وذكر كلام سمينوف: «إلى الشيطان بها! أي خير فيها؟ إنها لن تمنع الإعدام ولا السرقات ولا العنف. وستظل هذه كما كانت. إن المقالات لا تجدي. ما خيرها بالله؟ أن يقرأها اثنان أو ثلاثة من البلهاء؟ خير عظيم حقا! ومع ذلك فما شأني أنا بهذا؟ لماذا أنطح الجدار برأسي؟»
ونسرت الذكرى لعيني يوري مساعيه السياسية في صدر أيامه ومثلت له الاجتماعات السرية والدعوة التي كان يعمل على إذاعتها وبثها، والأخطار والإخفاق وحرارة حماسته وبلادة من كانت الرغبة تجمع به إلى إنقاذهم، فجعل يروح ويجيء في الغرفة مشيرا بيديه.
فقال نوفيكوف: «لا. إذن ليس ثم ما يستحق من المرء أن يفعل شيئا في سبيله.» وذكر سانين، فأضاف إلى ذلك: «أنانيون! هذا أنتم جميعا!»
فأجابه يوري بحدة وقد تأثر بذكريات ماضيه وبالغسق الذي أحال لون كل شيء في الغرفة: «كلا ليس هذا كذلك، إذا ذكرنا الإنسانية فأي خير في كل جهودنا المبذولة في سبيل الدساتير أو الثورات، إذا كان المرء يعجز عن تقدير ما تحتاج إليه الإنسانية حتى على وجه التقريب؟ وما يدرينا؟ لعل في هذه الحرية التي نحلم بها جرثومة الانحطاط في المستقبل، ولعل الإنسان بعد أن يتحقق مثله الأعلى يكر راجعا القهقرى ويمشي على أربع. وهكذا يكون علينا أن نبدأ كل شيء من جديد. وهبني لا أكترث إلا لنفسي فماذا إذن؟ ماذا أستفيد بذلك؟ إن أقصى ما يبلغني إياه طوقي هو أن أنال الشهرة بمواهبي وأعمالي، وأن يسكرني احترام من هم دوني أي احترام من لا أحترمهم، ومن ينبغي أن يكون احترامهم لا قيمة له عندي. ثم ماذا؟ أظل عائشا - عائشا إلى أبلغ القبر - ثم لا شيء بعد ذلك! ويعتدل إكليل الغار على جمجمتي ويبلغ من فرط إحكام لفه عليها أني لا ألبث أن أحس منه الضيق والكرب!»
قال نوفيكوف متهكما ولم يسمعه يوري لفرط سروره بفصاحته: «نفسه أبدا!»
وكان لكلامه سهوم لذيذ في نظره، وكان ما يقوله يشرفه ويزيد في احترامه لنفسه وعاد فقال: «وشر ما في الأمر أن أصير عبقريا يسيء الناس الحكم عليه، حالما مضحكا، ومدارا للأقاصيص الفكاهية وشخصا سخيفا لا خير فيه لأحد.»
فصاح نوفيكوف وهو ينبض: «آها. لا خير فيك لأحد؟ أوتقر بهذا إذن؟»
صفحة غير معروفة