في العصور المبكرة كانت الرحلات الاستكشافية في المجرة من نجم إلى نجم أمرا صعبا ونادرا ما تنجح، لكن في مرحلة متأخرة حين صارت السلالات الذكية تسكن بالفعل العديد من آلاف الكواكب، وتجاوزت المئات منها المرحلة الطوباوية، طرأ وضع خطير للغاية. كان السفر بين النجوم في ذلك الوقت قد أصبح فعالا للغاية؛ إذ استخدمت مواد صناعية فائقة الخفة والمتانة في بناء مركبات استكشاف ضخمة في الفضاء يبلغ قطرها عدة أميال. وكان يمكن قذف هذه المركبات بفعل الصواريخ والتسارع التراكمي إلى أن تبلغ سرعتها نصف سرعة الضوء تقريبا. ومع كل هذا، لم يكن من الممكن إتمام الرحلة من طرف المجرة حتى طرفها الآخر في أقل من مائتي ألف عام، غير أنه لم يكن هناك من سبب للقيام بمثل هذه الرحلة الطويلة. لقد استغرقت الرحلات القليلة التي انطلقت للبحث عن أنظمة ملائمة أكثر من عشر تلك المدة، وكان العديد منها أقصر من ذلك كثيرا. لم تكن السلالات التي بلغت مرحلة الوعي المشترك واستقرت فيها تتردد في إرسال عدد من مثل هذه الرحلات الاستكشافية. وفي نهاية المطاف، كان من الممكن أن تطلق كوكبها نفسه عبر محيط الفضاء لكي يستقر في نظام بعيد قد أوصى به الرواد.
لقد كانت مسألة السفر بين النجوم آسرة للغاية حتى إنها كانت تمثل في بعض الأحيان هوسا لأحد العوالم الطوباوية المتطورة نسبيا. ولم يكن من الممكن أن يحدث ذلك إلا في حالة وجود شيء كريه في تكوين ذلك العالم؛ شغف سري وغير مشبع يدفع هذه الكائنات. وفي هذه الحالة قد تصبح السلالة مجنونة بالسفر.
كان يتم إعادة صياغة تنظيم هذا العالم الاجتماعي وتوجيهه بصرامة إسبرطية نحو المشروع المشترك الجديد. وتدريجيا، يبدأ كل أفراده المغيبين بفعل الهوس المشترك في نسيان حياة الاتصال الشخصي القوي والنشاط الذهني الإبداعي التي كانت همهم الأساسي حتى ذلك الوقت. أما مغامرة الروح بأكملها واستكشاف الكون وطبيعته بذكاء ناقد وإحساس رقيق، فقد كانت تبطئ تدريجيا إلى أن تتوقف تماما. ويزيد التعتيم على أعمق جذور العواطف والإرادة، والتي كانت في العالم المتعقل المكتمل اليقظة تقع في النطاق الآمن للتأمل الذاتي. في مثل ذلك العالم، تقل قدرة العقل المشترك التعس على فهم نفسه أكثر فأكثر، ويزداد سعيه وراء هدفه الوهمي. كانت جميع المحاولات للاستكشاف التخاطري للمجرة تهجر في ذلك الوقت، ويتخذ الشغف بالاستكشاف المادي صورة الدين. كان العقل المشترك يقنع نفسه بأنه يجب أن ينشر تعاليم ثقافته في المجرة بأكملها مهما كلفه ذلك من ثمن. وبالرغم من أن الثقافة نفسها تكون في طريقها إلى التلاشي، فقد كان العقل يعتز بالمفهوم المبهم للثقافة ويستخدمه كتبرير للسياسة العالمية.
وهنا علي أن أراجع نفسي خشية تقديم انطباع خاطئ. من الضروري أن نميز تمييزا واضحا بين العوالم المجنونة ذات التطور العقلي المنخفض بعض الشيء وتلك التي بلغت أعلى مراتب التطور العقلي؛ فقد كان من الممكن أن تصبح الأنواع المتواضعة شديدة الهوس بالسيادة المطلقة أو السفر المطلق، وفقا لنطاقها من الشجاعة والالتزام. أما ذلك العدد القليل للغاية من العوالم الأكثر تيقظا والتي كان يبدو أن هوسها بالمجتمع نفسه والصفاء الذهني نفسه وزيادة ذلك النوع من المجتمعات ونمط الصفاء الذهني الذي كان يحوز على أعلى درجات إعجابهم، فقد كانت حالتها أكثر مأساوية. عندئذ، لم يعد السفر سوى وسيلة لإنشاء إمبراطورية ثقافية ودينية.
لقد تحدثت كما لو أنني أثق بأن هذه العوالم الجبارة مجنونة بالفعل، وقد انحرفت عن طريق النمو العقلي والروحاني. غير أن مأساة هذه العوالم تكمن في رؤيتها لنفسها على أنها في منتهى التعقل والعملية والفضيلة، بينما كانت تبدو لأعدائها على أنها إما مجنونة أو شريرة بشدة. وقد مرت أوقات كدنا أن نقتنع فيها نحن - المستكشفين المذهولين - بأن هذه هي الحقيقة. لقد كان اتصالنا الحميمي مع هذه العوالم يمنحنا، إذا صح التعبير، البصيرة لرؤية التعقل الكامن في جنونها، أو أصل الفضيلة في شرها . لا بد لي من وصف هذا الجنون أو الشر بمصطلحات الجنون أو الرذيلة البشرية البسيطة، لكن الحقيقة أنه كان يفوق الطبيعة البشرية من ناحية ما؛ إذ كان يتضمن انحراف قدرات تفوق النطاق البشري للتعقل والفضيلة.
حين كان أحد هذه العوالم «المجنونة» يصادف أحد العوالم العاقلة، فإنه لم يكن يعبر بإخلاص إلا عن أكثر النوايا تعقلا وعطفا. إنه لم يكن يرغب إلا في الاتصال الثقافي، وربما التعاون الاقتصادي. وشيئا فشيئا، كان يحظى باحترام العالم الآخر لعطفه ونظامه الاجتماعي الرائع وغايته الديناميكية. كان كل عالم ينظر إلى الآخر على أنه مناصر للروح يتمتع بالنبل، وإن كان غريبا وغير مفهوم بعض الشيء. بالرغم من ذلك، كان يبدأ العالم العادي في أن يدرك تدريجيا أن ثقافة العالم «المجنون» تتضمن بديهيات خفية واسعة النطاق تبدو في منتهى الزيف والقسوة والعدائية والمعاداة للروح، وهي الدوافع التي تتحكم في علاقاته الخارجية. في هذه الأثناء، كان يتوصل العالم «المجنون» مع الأسف إلى استنتاج أن العالم الآخر يفتقر إلى التعقل بشدة وأنه كليل في القيم العليا ومعظم الفضائل البطولية، وأن حياته بأكملها فاسدة في حقيقة الأمر ولا بد من تغييرها لمصلحته، وإلا فتدميرها. وبهذا كان يدين كل واحد منهما الآخر مع الأسف، وإن استمر الاحترام والعاطفة متبادلين بينهما. غير أن العالم المجنون ما كان ليقنع بترك الأمور مثلما هي، بل كان يهاجم في نهاية المطاف بحماس مقدس سعيا إلى تدمير حضارة الآخر الخبيثة، وإبادة شعبه كذلك. من السهل علي الآن بعد وقوع الحدث وما اختبرته هذه العوالم المجنونة من سقوط روحاني أخير أن أدينهم كما يليق بالمنحرفين، لكن في المراحل المبكرة من هذه الأحداث المثيرة، كنا في حيرة تامة من أمرنا لا ندري لدى أي الجانبين يكمن التعقل.
استسلمت العديد من العوالم المجنونة إلى طيشها في السفر. وأما غيرها فقد سقط تحت وطأة البحث الممتد على مدار عصور طويلة في هوة الأمراض العصبية الاجتماعية والصراعات المدنية. بالرغم من ذلك، فقد نجحت قلة منها في نيل غايتها، وبعد أسفار امتدت لآلاف الأعوام تمكنت من الوصول إلى نظام كوكبي مجاور. غالبا ما كان الغزاة يعانون من محنة قاسية؛ فعادة ما تكون الحال أنهم قد استهلكوا القدر الأكبر من مادة شمسهم الاصطناعية الصغيرة، وأرغمهم الاقتصاد على تقليل حصتهم من الحرارة والضوء حتى إنهم حينما كانوا يعثرون في نهاية المطاف على نظام كوكبي ملائم يكون عالمهم الأصلي كاد أن يصير قطبيا بالكامل. عند الوصول، كانوا يتخذون موقعهم في البداية في مدار مناسب، وربما يقضون عدة قرون في التعافي. بعد ذلك، كانوا يستكشفون العوالم المجاورة بحثا عن أكثرها ملاءمة للحياة ويبدءون في تكييف أنفسهم أو نسلهم على الحياة عليه. وإذا حدث، مثلما كان يحدث في معظم الأحيان، وكان أي من هذه الكواكب قد سكنته بالفعل كائنات ذكية، فعاجلا أو آجلا كان يشتبك الغزاة معهم في نهاية المطاف؛ فإما أن يكون الصراع بدائيا على الحق في استغلال موارد الكوكب وإما أن يكون بشأن هوس الغزاة بنشر ثقافتهم الخاصة. فبحلول ذلك الوقت، تكون مهمة نشر الحضارة، وهي الدافع الظاهر لجميع مغامراتهم البطولية، قد أصبحت هوسا متصلبا. لم يكونوا ليتصوروا أن الحضارة الأصلية قد تكون أكثر ملاءمة للسكان الأصليين وإن كانت أقل تطورا من حضارتهم. ولم يكونوا ليتصوروا أيضا أن ثقافتهم، التي كانت فيما سبق تعبيرا عن عالم يقظ رائع، ربما تسقط بالرغم من قواهم الآلية وحميتهم الدينية المجنونة، أمام الثقافة الأبسط للسكان الأصليين، فيما يتعلق بجميع المتطلبات الجوهرية للحياة الذهنية.
رأينا العديد من أمثلة الدفاع المستميت التي قامت بها بعض العوالم البشرية الأدنى مرتبة ضد إحدى سلالات البشر الفائقين المجانين، والذين لم يكونوا مسلحين بما لديهم من الطاقة دون الذرية المنيعة فحسب، بل بأقصى درجات الذكاء والمعرفة والتفاني، وعلاوة على ذلك، كانوا يتمتعون بميزة عظيمة وهي أن جميع الأفراد يشاركون في العقل الموحد للسلالة. بالرغم من أننا كنا نعلي من قيمة تطور العقل أكثر من كل شيء؛ ومن ثم انحزنا إلى جانب الغزاة اليقظين وإن كانوا منحرفين، فسرعان ما انقسمت مشاعر التعاطف لدينا، ثم تحولت بالكامل تقريبا إلى السكان الأصليين بالرغم من ثقافتهم البدائية. وبالرغم من غبائهم وجهلهم وخرافاتهم وصراعاتهم الداخلية التي لا تنتهي ووهنهم الروحي وفظاعتهم، أدركنا أن فيهم قدرة قد فقدها الآخرون، وهي الحكمة الساذجة لكن المتزنة، والمكر الحيواني والوعد الروحاني. أما الغزاة بالرغم من براعتهم، فكانوا منحرفين بالفعل. وشيئا فشيئا، صرنا ننظر إلى الصراع كصراع بين قنفذ غير مدرب لكنه مبشر قد هاجمه مسلح مهووس بالدين.
بعد أن يستغل الغزاة جميع العوالم في النظام الكوكبي المكتشف حديثا، كانوا يشعرون بشهوة التبشير مرة أخرى. ومع إقناعهم لأنفسهم بأن واجبهم هو التقدم بإمبراطوريتهم الدينية في المجرة بأكملها، كانوا يفصلون بضعة كواكب ويرسلونها في الفضاء مع طاقم من الرواد، أو يقسمون النظام الكوكبي بأكمله ويبعثرونه في الخارج بحماس تبشيري. في بعض الأحيان، كانت أسفارهم تجمعهم بسلالة أخرى من العوالم الفائقة المجنونة؛ فتنتج عن ذلك حرب يفنى فيها أحد الجانبين أو حتى كلاهما.
وفي بعض الأحيان، كان المغامرون يأتون على عوالم من رتبتهم لكنها لم تخضع لهوس الإمبراطورية الدينية. عندئذ يبدأ السكان الأصليون تدريجيا في إدراك أنهم في مواجهة مع مجموعة من المخبولين، بالرغم من أنهم كانوا يلاقون الغزاة بالكياسة والمنطق في البداية؛ فيسرعون في تسخير حضارتهم في الحرب. يتوقف الأمر على تفوق الأسلحة والمكر العسكري، لكن إذا كان الصراع طويلا ومريرا، فقد يعاني السكان الأصليون من تلف عقلي بسبب فترة الحرب حتى وإن انتصروا، حتى إنهم لا يستعيدون تعقلهم أبدا.
صفحة غير معروفة