كان الدافع الذي يعززنا في رحلتنا هو الشغف الذي دفع البشر على الأرض في الماضي إلى البحث عن الإله. أجل، لقد غادرنا جميعا كواكبنا الأصلية كي نستكشف ما إذا كانت، فيما يتعلق بالكون ككل، الروح التي نعرفها جميعا في قلوبنا على نحو غامض، ولا نجلها إلا على نحو متقطع متردد، الروح التي نصفها أحيانا على الأرض بالبشرية، هي «سيد الكون»، أم شيء شرير؛ تحظى بالإجلال أم معلقة على صليب؟! والآن قد أصبح من الجلي لنا أنه إذا كان للكون أي سيد على الإطلاق، فليس ذلك بالروح، بل شيء آخر لم تكن غايته في خلق ينبوع لا نهائي من العوالم تتسم بالأبوة والرعاية تجاه الكائنات التي صنعها، بل هي غاية غريبة وغير إنسانية وخبيثة.
بالرغم من ذلك، فبينما كنا نشعر بالإحباط، شعرنا أيضا بالرغبة الشديدة في معرفة تلك الروح التي تمثل بالفعل روح هذا الكون ومواجهتها بشجاعة. إننا بينما كنا نتابع رحلتنا مرورا مرة بعد أخرى من مأساة إلى مهزلة ومن مهزلة إلى مجد، ومن مجد إلى مأساة أخيرة في أغلب الأحوال، انتابنا الشعور بأن ثمة سرا رهيبا مقدسا، لكنه في الوقت ذاته غاشم على نحو لا يمكن تصوره وفتاك، يقبع خارج متناول أيدينا. ومرة تلو الأخرى، تمزقنا بين الرعب والإعجاب الشديدين، بين الغضب الأخلاقي ضد الكون (أو صانع النجوم) وبين العبادة المفرطة.
شهدنا هذا الصراع نفسه في جميع العوالم التي كانت لها نفس وضعنا الفكري. وإذ شاهدنا هذه العوالم ومراحل نموها في الماضي، ورأيناها وهي تتلمس طريقها للوصول إلى المستوى الأعلى من النمو الروحاني على أفضل نحو قد نفعله، تمكنا أخيرا من أن نرى بوضوح المراحل الأولى في رحلة أي عالم. حتى في العصور الأكثر بدائية في أي عالم ذكي معتاد، كانت بعض العقول لديها الدافع للبحث عن شيء كوني وتمجيده. في البداية، كان هذا الدافع مشوشا بالرغبة الشديدة لنيل الحماية من قوة عظيمة. ومثلما هو متوقع ، افترضت الكائنات أن الشيء الذي يستحق الإعجاب لا بد أن يكون هو «القوة»، وأن العبادة هي محض استرضاء؛ ومن ثم فقد بدءوا في تصور الطاغية العظيم في الكون، وتصوروا أنهم أبناؤه المفضلون. بالرغم من ذلك، ومع مرور الوقت، أصبح من الجلي لأنبيائهم أن «القوة» المحضة ليست هي الشيء الذي يعشقه القلب المسبح. بعد ذلك، صارت النظرية تتوج «الحكمة» أو «القانون» أو «الاستقامة». وبعد عصر من الطاعة لشبح مشرع أو القانون الإلهي ذاته، اكتشفت الكائنات أن هذه المفاهيم أيضا لا تفي لوصف التمجيد الفائق الذي يجده القلب في جميع الأشياء، ويعلي من قدره بصمت في جميع الأشياء.
أما الآن، ففي جميع العوالم التي زرناها، تفتحت طرق بديلة أمام العباد. رجا بعضهم أن يلاقوا إلههم المحتجب من خلال التأمل الساعي إلى البحث الداخلي فحسب. ومن خلال تطهير أنفسهم من جميع الرغبات الوضيعة والتافهة، والسعي من أجل رؤية جميع الأمور بموضوعية وبشعور التعاطف الكوني، قد أملوا في أن يتوحدوا مع روح الكون. كثيرا ما كانوا يسافرون بعيدا على طريق اليقظة وتحقيق الكمال في الذات، غير أن هذا الاستغراق الذاتي قد جعل الغالبية منهم لا يشعرون بمعاناة رفاقهم الأقل يقظة، ولا يعبئون بالمشروع المشترك لنوعهم. وقد كان هذا الطريق إلى الروح هو الذي احتشدت حوله جميع العقول الأكثر حيوية في الكثير من العوالم.
ولأن الكائنات كانت تولي أفضل الاهتمام للحياة الداخلية بالكامل، فقد تعرقل التقدم المادي والاجتماعي، ولم تتطور علوم الحياة والطبيعة المادية على الإطلاق. ولم يتوصلوا على الإطلاق إلى القوة الميكانيكية ولا إلى القوة الطبية والبيولوجية. ونتيجة لهذا، فقد تعرضت هذه العوالم للكساد، وبعد فترة، طالت أم قصرت، استسلمت إلى حوادث كان من الممكن جدا تجنبها.
كان هناك طريق ثان للتفاني قد تبنته الكائنات التي تتمتع بعقلية عملية أكثر. كانت هذه الكائنات، في جميع العوالم، تولي الانتباه إلى الكون من حولها بسرور. وبصفة أساسية، وجدت ما تعبده في رفاقهم من الكائنات، وفي الرابطة المشتركة المتمثلة في الرؤى المتبادلة والحب المتبادل بين الأشخاص. وقد كانت هذه الكائنات تعلي من قيمة الحب في أنفسها وفي بعضها بعضا قبل كل شيء آخر.
وقد أخبرهم أنبياؤهم أن هذا الشيء الذي كانوا يعشقونه على الدوام، الروح الكونية، «الخالق»، «المجيد»، «الحكيم»، هو «المحب» أيضا. فليمارسوا إذن عبادتهم على وجه عملي في حب أحدهم للآخر، وفي خدمة «إله الحب». وعلى مدار عصر طال أو قصر، كانوا يسعون سعيا واهنا إلى أن يحب بعضهم بعضا وأن يصبح كل منهم فردا ينتمي للآخر. راحوا ينسجون النظريات التي تؤيد نظرية «إله الحب،» وأقاموا جماعات الكهنوت والمعابد في خدمة الحب، ولأنهم كانوا يتوقون إلى الخلود، فقد أخبروا أن الحب هو الطريق الوحيد لنيل الحياة الأبدية. ولهذا، أسيء فهم الحب المجرد الذي لا يوجد فائدة مباشرة منه.
في معظم العوالم، سادت هذه العقول العملية على العقول المتأملة. وبعد وقت طال أو قصر، أنتج الفضول العملي والحاجة الاقتصادية العلوم المادية. وإذ راحت هذه الكائنات تسبر أغوار كل نطاق بهذه العلوم، لم تجد أي إشارة ل «إله الحب» في أي مكان، لا في الذرة ولا في المجرة ولا في قلب الإنسان أيضا. ومع حمى الميكنة واستغلال الأسياد للعبيد والأهواء التي تميل إلى الحروب بين القبائل، والإهمال المتزايد لجميع الأنشطة التي تتطلب قدرا أكبر من يقظة الروح أو التقليل من قدرها، خبا لهب التمجيد الضئيل في قلوبهم بأكثر مما خبا في أي عصر سابق؛ لقد خبا إلى القاع حتى إنهم لم يعودوا يرونه. أما لهب الحب فقد ذرا به التيار القسري للعقيدة منذ فترة طويلة، لكنه الآن قد اختنق من أثر البلادة الشديدة للكائنات تجاه أحدهم الآخر، وتقلص ليصبح محض دفء محترق كثيرا ما كان يساء فهمه على أنه شهوة فحسب. وبضحك وغضب مريرين، أطاحت الكائنات المعذبة الآن بصورة «إله الحب» من قلوبها.
لذا، فمن دون الحب والعبادة، واجهت الكائنات التعيسة مشكلات عالمها الآلي الذي أضنته الكراهية، والتي كانت تزداد باستمرار.
كانت تلك هي الأزمة التي عرفناها جيدا في عوالمنا، ولم تتمكن العديد من العوالم في مختلف أنحاء المجرة من التغلب عليها. بالرغم من ذلك، ففي بضعة منها، حدثت معجزة لم نكن قد تمكنا بعد من أن نتخيلها بوضوح، وارتقت بمستوى العقول المتوسطة في هذه العوالم إلى مستوى ذهني أرقى. وسوف أتحدث عن هذا لاحقا، أما الآن، فسوف أكتفي بأن أذكر أننا لاحظنا في هذا العدد القليل من العوالم التي حدث فيها ذلك الأمر قبل أن تصبح هذه العقول خارج متناولنا، شعورا جديدا بشأن الكون، شعورا كان من الصعب علينا للغاية أن نتشاركه معهم. ولم نتمكن من متابعة مصائر هذه العوالم إلى أن تعلمنا أن نستحضر في أنفسنا شيئا من هذا الشعور.
صفحة غير معروفة